العقائد الإسلاميّة - ج ١

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية

العقائد الإسلاميّة - ج ١

المؤلف:

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز المصطفى للدراسات الإسلامية
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-118-4
ISBN الدورة:
964-319-117-6

الصفحات: ٣٧٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

فلا تغتر حينئذ بمن قصر استعداده أو همته عن تحصيل مقدمات استنباط المطالب الإعتقادية الأصولية والعلمية عن الأدلة العقلية والنقلية ، فيتركها مبغضاً لها لأن الناس أعداء ما جهلوا ، ويشتغل بمعرفة صفات الرب جل ذكره وأوصاف حججه صلوات الله عليهم بنظر في الأخبار لا يعرف به من ألفاظها الفاعل من المفعول ، فضلاً عن معرفة الخاص من العام . وبنظر في المطالب العقلية لا يعرف به البديهيات منها ، ويشتغل في خلال ذلك بالتشنيع على حملة الشريعة العملية واستهزائهم بقصور الفهم وسوء النية ، فيسأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون . هذا كله حال وجوب المعرفة مستقلاً .

وأما اعتبار ذلك في الإسلام أو الإيمان فلا دليل عليه ، بل يدل على خلافه الأخبار الكثيرة المفسرة لمعنى الإسلام والإيمان .

ففي رواية محمد بن سالم عن أبي جعفر عليه‌السلام المروية في الكافي : إن الله عز وجل بعث محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو بمكة عشر سنين ، ولم يمت بمكة في تلك العشر سنين أحد يشهد أن لا إلۤه إلا الله وأن محمداً رسول الله ، إلا أدخله الله الجنة بإقراره وهو إيمان التصديق .

فإن الظاهر أن حقيقة الإيمان التي يخرج الإنسان بها عن حد الكفر الموجب للخلود في النار لم تتغير بعد انتشار الشريعة . نعم ظهر في الشريعة أمور صارت ضرورية الثبوت من النبي صلی الله عليه وسلم ، فيعتبر في الإسلام عدم إنكارها .

لكن هذا لا يوجب التغيير ، فإن المقصود أنه لم يعتبر في الإيمان أزيد من التوحيد والتصديق بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبكونه رسولاً صادقاً فيما يبلغ . وليس المراد معرفة تفاصيل ذلك ، وإلا لم يكن من آمن بمكة من أهل الجنة أو كان حقيقة الإيمان بعد انتشار الشريعة غيرها في صدر الإسلام .

وفي رواية سليم بن قيس عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : إن أدنى ما يكون به العبد مؤمناً

٢٠١
 &

أن يعرفه الله تبارك وتعالى إياه فيقر له بالطاعة ، ويعرفه نبيه فيقر له بالطاعة ، ويعرفه إمامه وحجته في أرضه وشاهده على خلقه فيقر له بالطاعة .

فقلت له : يا أمير المؤمنين ! وإن جهل جميع الأشياء إلا ما وصفت قال : نعم . وهي صريحة في المدعى .

وفي رواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : جعلت فداك ، أخبرني عن الدين الذي افترضه الله تعالى على العباد ما لا يسعهم جهله ولا يقبل منهم غيره ، ما هو ؟ فقال : أعده علي ، فأعاد عليه ، فقال : شهادة أن لا إلۤه إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً ، وصوم شهر رمضان ، ثم سكت قليلاً ، ثم قال : والولاية والولاية ، مرتين ثم قال : هذا الذي فرض الله عز وجل على العباد ، لا يسأل الرب العباد يوم القيامة ، فيقول : ألا زدتني على ما افترضت عليك ، ولكن من زاد زاده الله . إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سن سنة حسنة ينبغي للناس الأخذ بها .

ونحوها رواية عيسى بن السري ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : حدثني عما بنيت عليه دعائم الإسلام التي إذا أخذت بها زكى عملي . . . .

وفي رواية أبي اليسع قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أخبرني عن دعائم الإسلام التي لا يسع أحداً التقصير عن معرفة شئ منها . . . . ( وقد أوردنا الروايتين في بحث معرفة الإمام )

وفي رواية إسماعيل : قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الدين الذي لا يسع العباد جهله فقال : الدين واسع ، وإن الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهلهم .

فقلت : جعلت فداك أما أحدثك بديني الذي أنا عليه . فقال : بلى . قلت : أشهد أن لا إلۤه إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، والإقرار بما جاء به من عند الله ، وأتولاكم وأبرأ من عدوكم ومن ركب رقابكم وتأمر عليكم وظلمكم حقكم . فقال : ما جهلت شيئاً . فقال : هو والله الذي نحن عليه . فقلت : فهل يسلم أحد لا يعرف هذا الأمر .

٢٠٢
 &

قال : لا إلا المستضعفين . قلت : من هم قال : نساؤكم وأولادكم . قال : أرأيت أم أيمن ! فإني أشهد أنها من أهل الجنة ، وما كانت تعرف ما أنتم عليه .

فإن في قوله ( ما جهلت شيئاً ) دلالة واضحة على عدم اعتبار الزائد في أصل الدين . والمستفاد من الأخبار المصرحة بعدم اعتبار معرفة أزيد مما ذكر فيها في الدين ، وهو الظاهر أيضاً من جماعة من علمائنا الأخيار كالشهيدين في الألفية وشرحها ، والمحقق الثاني في الجعفرية ، وشارحها وغيرهم ، وهو أنه يكفي في معرفة الرب التصديق بكونه موجوداً وواجب الوجود لذاته والتصديق بصفاته الثبوتية الراجعة إلى صفتي العلم والقدرة ونفي الصفات الراجعة إلى الحاجة والحدوث ، وأنه لا يصدر منه القبيح فعلاً أو تركاً .

والمراد بمعرفة هذه الأمور ركوزها في اعتقاد المكلف ، بحيث إذا سألته عن شئ مما ذكر أجاب بما هو الحق فيه ، وإن لم يعرف التعبير عنه بالعبارات المتعارفة على ألسنة الخواص .

ويكفي في معرفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معرفة شخصه بالنسب المعروف المختص به ، والتصديق بنبوته وصدقه ، فلا يعتبر في ذلك الإعتقاد بعصمته ، أعني كونه معصوماً بالملكة من أول عمره إلى آخره . قال في المقاصد العلية : ويمكن اعتبار ذلك ، لأن الغرض المقصود من الرسالة لا يتم إلا به ، فينتفي بالفائدة التي باعتبارها وجب إرسال الرسل . وهو ظاهر بعض كتب العقائد المصدرة بأن من جهل ما ذكروه فيها فليس مؤمناً مع ذكرهم ذلك ، والأول غير بعيد عن الصواب . انتهى .

أقول : والظاهر أن مراده ببعض كتب العقائد هو الباب الحادي عشر للعلامة قدس‌سره حيث ذكر تلك العبارة ، بل ظاهره دعوى إجماع العلماء عليه .

نعم يمكن أن يقال : إن معرفة ما عدا النبوة واجبة بالإستقلال على من هو متمكن منه بحسب الإستعداد وعدم الموانع ، لما ذكرنا من عمومات وجوب التفقه وكون المعرفة أفضل من الصلوات الواجبة ، وأن الجهل بمراتب سفراء الله جل ذكره مع

٢٠٣
 &

تيسر العلم بها تقصير في حقهم وتفريط في حبهم ونقص يجب بحكم العقل رفعه ، بل من أعظم النقائص .

وقد أومأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ذلك حيث قال مشيراً إلى بعض العلوم الخارجة من العلوم الشرعية : إن ذلك علم لا يضر جهله . ثم قال : إنما العلوم ثلاثة ، آية محكمة وفريضة عادلة وسنة قائمة ، وما سواهن فهو فضل .

وقد أشار إلى ذلك رئيس المحدثين في ديباجة الكافي ، حيث قسم الناس إلى أهل الصحة والسلامة وأهل المرض والزمانة ، وذكر وضع التكليف عن الفرقة الأخيرة .

ويكفي في معرفة الأئمة صلوات الله عليهم ، معرفتهم بنسبهم المعروف والتصديق بأنهم أئمة يهدون بالحق ويجب الإنقياد إليهم والأخذ منهم . وفي وجوب الزائد على ما ذكر من عصمتهم الوجهان . وقد ورد في بعض الأخبار تفسير معرفة حق الإمام بمعرفة كونه إماماً مفترض الطاعة .

ويكفي في التصديق بما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التصديق بما علم مجيؤه به متواتراً من أحوال المبدأ والمعاد ، كالتكليف بالعبادات والسؤال في القبر وعذابه والمعاد الجسماني والحساب والصراط والميزان والجنة والنار إجمالاً ، مع تأمل في اعتبار معرفة ما عدا المعاد الجسماني من تلك الأمور في الإيمان المقابل للكفر الموجب للخلود في النار ، للأخبار المتقدمة المستفيضة والسيرة المستمرة ، فإنا نعلم بالوجدان جهل كثير من الناس بها من أول البعثة إلى يومنا هذا . ويمكن أن يقال : إن المعتبر هو عدم إنكار هذه الأمور وغيرها من الضروريات ، لا وجوب الإعتقاد بها ، على ما يظهر من بعض الأخبار ، من أن الشاك إذا لم يكن جاحداً فليس بكافر . ففي رواية زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام : لو أن العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا . ونحوها غيرها . ويؤيدها ما عن كتاب الغيبة للشيخ قدس‌سره بإسناده عن الصادق عليه‌السلام : إن

٢٠٤
 &

جماعة يقال لهم الحقية ، وهم الذين يقسمون بحق علي ولا يعرفون حقه وفضله ، وهم يدخلون الجنة .

وبالجملة ، فالقول بأنه يكفي في الإيمان الإعتقاد بوجود الواجب الجامع للكمالات المنزه عن النقائص وبنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبإمامة الأئمة عليهم‌السلام والبراءة من أعدائهم ، والإعتقاد بالمعاد الجسماني الذي لا ينفك غالباً عن الإعتقادات السابقة غير بعيد ، بالنظر إلى الأخبار والسيرة المستمرة .

وأما التدين بسائر الضروريات ففي اشتراطه ، أو كفاية عدم إنكارها ، أو عدم اشتراطه أيضاً ، فلا يضر إنكارها إلا مع العلم بكونها من الدين وجوه ، أقواها الأخير ثم الأوسط . وما استقربناه في ما يعتبر في الإيمان وجدته بعد ذلك في كلام محكي عن المحقق الورع الأردبيلي في شرح الإرشاد .

ـ كفاية الأصول ص ٣٢٩

نعم يجب تحصيل العلم في بعض الإعتقادات لو أمكن ، من باب وجوب المعرفة لنفسها كمعرفة الواجب تعالى وصفاته ، أداء لشكر بعض نعمائه ، ومعرفة أنبيائه فإنهم وسائط نعمه وآلائه ، بل وكذا معرفة الإمام عليه‌السلام على وجه صحيح ، فالعقل يستقل بوجوب معرفة النبي ووصيه لذلك ، ولاحتمال الضرر في تركه .

ولا يجب عقلاً معرفة غير ما ذكر ، إلا ما وجب شرعاً معرفته كمعرفة الإمام عليه‌السلام على وجه آخر غير صحيح ، أو أمر آخر مما دل الشرع على وجوب معرفته ، وما لا دلالة على وجوب معرفته بالخصوص ، لا من العقل ولا من النقل ، كان أصالة البراءة من وجوب معرفته محكمة . ولا دلالة لمثل قوله تعالى : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ . . الآية ، ولا لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلوات الخمس . ولا لما دل على وجوب التفقه وطلب العلم من الآيات والروايات على وجوب معرفته بالعموم ، ضرورة أن المراد من ( ليعبدون ) هو خصوص عبادة الله ومعرفته ، والنبوي إنما هو بصدد بيان فضيلة الصلوات لا بيان حكم المعرفة ، فلا إطلاق فيه

٢٠٥
 &

أصلاً . ومثل آية النفر ، إنما هو بصدد بيان الطريق المتوسل به إلى التفقه الواجب ، لا بيان ما يجب فقهه ومعرفته ، كما لا يخفى . وكذا ما دل على وجوب طلب العلم إنما هو بصدد الحث على طلبه لا بصدد بيان ما يجب العلم به .

ثم إنه لا يجوز الإكتفاء بالظن فيما يجب معرفته عقلاً أو شرعاً حيث أنه ليس بمعرفة قطعاً ، فلا بد من تحصيل العلم لو أمكن ، ومع العجز عنه كان معذوراً إن كان عن قصور لغفلة أو لغموضة المطلب مع قلة الإستعداد ، كما هو المشاهد في كثير من النساء بل الرجال ، بخلاف ما إذا كان عن تقصير في الإجتهاد ، ولو لأجل حب طريقة الآباء والأجداد واتباع سيرة السلف ، فإنه كالجبلي للخلف ، وقلما عنه تخلف . ولا يصغى إلى ما ربما قيل : بعدم وجود القاصر فيها ، لكنه إنما يكون معذوراً غير معاقب على عدم معرفة الحق ، إذا لم يكن يعانده بل كان ينقاد له على إجماله لو احتمله .

ـ حاشية السيد البروجردي على كفاية الأصول ج ٢ ص ١٩٣

فصل . إنما الثابت بمقدمات دليل الإنسداد في الأحكام هو حجية الظن فيها ، لا حجيته في تطبيق المأتي به في الخارج معها ، فيتبع مثلاً في وجوب صلاة الجمعة يومها ، لا في إتيانها ، بل لا بد من علم أو علمي بإتيانها ، كما لا يخفى . نعم ربما يجري نظير مقدمة الإنسداد في الأحكام في بعض الموضوعات الخارجية ، من انسداد باب العلم به غالباً ، واهتمام الشارع به بحيث علم بعدم الرضا بمخالفة الواقع بإجراء الأصول فيه مهما أمكن ، وعدم وجوب الإحتياط شرعاً أو عدم إمكانه عقلاً ، كما في موارد الضرر المردد أمره بين الوجوب والحرمة مثلاً ، فلا محيص عن اتباع الظن حينئذ أيضاً ، فافهم .

خاتمة : يذكر فيها أمران استطراداً :

الأول : هل الظن كما يتبع عند الإنسداد عقلاً في الفروع العملية ، المطلوب فيها أولاً العمل بالجوارح ، يتبع في الأصول الإعتقادية المطلوب فيها عمل الجوانح من الإعتقاد به وعقد القلب عليه وتحمله والإنقياد له ، أو لا . الظاهر لا ، فإن الأمر

٢٠٦
 &

الإعتقادي وإن أنسد باب القطع به ، إلا أن باب الإعتقاد إجمالاً ـ بما هو واقعه والإنقياد له وتحمله ـ غير منسد ، بخلاف العمل بالجوارح فإنه لا يكاد يعلم مطابقته مع ما هو واقعه إلا بالإحتياط ، والمفروض عدم وجوبه شرعاً ، أو عدم جوازه عقلاً ، ولا أقرب من العمل على وفق الظن . وبالجملة : لا موجب مع إنسداد باب العلم في الإعتقاديات لترتيب الأعمال الجوانحية على الظن فيها ، مع إمكان ترتيبها على ما هو الواقع فيها ، فلا يتحمل إلا لما هو الواقع ، ولا ينقاد إلا له ، لا لما هو مظنونه ، وهذا بخلاف العلميات ، فإنه لا محيص عن العمل بالظن فيها مع مقدمات الإنسداد .

نعم يجب تحصيل العلم في بعض الإعتقادات لو أمكن ، من باب وجوب المعرفة لنفسها ، كمعرفة الواجب تعالى وصفاته أداء لشكر بعض نعمائه ، ومعرفة أنبيائه ، فإنهم وسائط نعمه وآلائه ، بل وكذا معرفة الإمام عليه‌السلام على وجه صحيح ، فالعقل يستقل بوجوب معرفة النبي ووصيه لذلك ، ولإحتمال الضرر في تركه ، ولا يجب عقلاً معرفة غير ما ذكر ، إلا ما وجب شرعاً معرفته ، كمعرفة الإمام عليه‌السلام على وجه آخر غير صحيح ، أو أمر آخر مما دل الشرع على وجوب معرفته ، وما لا دلالة على وجوب معرفته بالخصوص ، لا من العقل ولا من النقل ، كان أصالة البراءة من وجوب معرفته محكمة .

ولا دلالة لمثل قوله تعالى : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ . . الآية ، ولا لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلوات الخمس ، ولا لما دل على وجوب التفقه وطلب العلم من الآيات والروايات على وجوب معرفته بالعموم ، ضرورة أن المراد من ( ليعبدون ) هو خصوص عبادة الله ومعرفته ، والنبوي إنما هو بصدد بيان فضيلة الصلوات لا بيان حكم المعرفة ، فلا إطلاق فيه أصلاً ، ومثل آية النفر إنما هو بصدد بيان الطريق المتوسل به إلى التفقه الواجب ، لا بيان ما يجب فقهه ومعرفته كما لا يخفى ، وكذا ما دل على وجوب طلب العلم إنما هو بصدد الحث على طلبه ، لا بصدد بيان ما يجب العلم به .

٢٠٧
 &

ثم إنه لا يجوز الإكتفاء بالظن فيما يجب معرفته عقلاً أو شرعاً ، حيث أنه ليس بمعرفة قطعاً ، فلا بد من تحصيل العلم لو أمكن ، ومع العجز عنه كان معذوراً إن كان عن قصور لغفلة أو لغموضة المطلب مع قلة الإستعداد ، كما هو المشاهد في كثير من النساء بل الرجال ، بخلاف ما إذا كان عن تقصير في الإجتهاد ، ولو لأجل حب طريقة الآباء والأجداد واتباع سيرة السلف ، فإنه كالجبلي ، وقلما عنه تخلف .

والمراد من المجاهدة في قوله تعالى : وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ، هو المجاهدة مع النفس ، بتخليتها عن الرذائل وتحليتها بالفضائل ، وهي التي كانت أكبر من الجهاد ، لا النظر والإجتهاد ، وإلا لأدى إلى الهداية ، مع أنه يؤدي إلى الجهالة والضلالة ، إلا إذا كانت هناك منه تعالى عناية ، فإنه غالباً بصدد إثبات أن ما وجد آباءه عليه هو الحق ، لا بصدد الحق ، فيكون مقصراً مع اجتهاده ومؤاخذ إذا أخطأ على قطعه واعتقاده .

ثم لا استقلال للعقل بوجوب تحصيل الظن مع اليأس عن تحصيل العلم ، فيما يجب تحصيله عقلا لو أمكن ، لو لم نقل باستقلاله بعدم وجوبه بل بعدم جوازه ، لما أشرنا إليه من أن الأمور الإعتقادية مع عدم القطع بها أمكن الإعتقاد بما هو واقعها والإنقياد لها ، فلا إلجاء فيها أصلاً إلى التنزل إلى الظن فيما انسد فيه باب العلم ، بخلاف الفروع العملية كما لا يخفى .

وكذلك لا دلالة من النقل على وجوبه فيما يجب معرفته مع الإمكان شرعاً ، بل الأدلة الدالة على النهي عن اتباع الظن ، دليل على عدم جوازه أيضاً .

وقد انقدح من مطاوي ما ذكرنا أن القاصر يكون في الإعتقاديات للغفلة ، أو عدم الإستعداد للإجتهاد فيها ، لعدم وضوح الأمر فيها بمثابة لا يكون الجهل بها إلا عن نقص ٍ كما لا يخفى ، فيكون معذوراً عقلاً .

ولا يصغى إلى ما ربما قيل بعدم وجود القاصر فيها ، لكنه إنما يكون معذوراً غير معاقب على عدم معرفة الحق ، إذا لم يكن يعانده ، بل كان ينقاد له على إجماله لو احتمله .

٢٠٨
 &

ـ حقائق الأصول ج ٢ ص ٢١١

قوله : فإن الأمر الإعتقادي ، يعني أن العمل على الظن في الأصول الإعتقادية يتوقف على تتميم مقدمات الإنسداد فيها وهو غير ممكن إذ منها عدم إمكان الإحتياط الموجب للدوران بين الأخذ بالطرف المظنون والموهوم ، وبقاعدة قبح ترجيح المرجوح يتعين الأول ، وفي المقام لا مجال للدوران المذكور لإمكان الإعتقاد بها إجمالاً على ما هي عليه واقعاً ، إلا أن يدعى وجوب الإعتقاد بها تفصيلاً حتى في حال الجهل ، فإنه حيث لا يمكن العلم بها لا بد من سلوك الظن لأنه أقرب إلى الواقع ، لكن لا بد من الإلتزام بالكشف إذ لو لم تكشف المقدمات عن كون الظن حجة شرعاً كان الإعتقاد المطابق له تشريعاً محرماً عقلاً ، فتأمل جيداً .

إلا أن دعوى وجوب الإعتقاد تفصيلاً مطلقاً لا دليل عليها من عقل أو شرع فلاحظ .

قوله : كمعرفة الواجب تعالى ، لا ريب ظاهراً في وجوب هذه المعارف وإنما الخلاف في وجوبها عقلاً أو شرعاً ، فالمحكي عن العدلية الأول ، وعن الأشاعرة الثاني ، والخلاف في ذلك منهم مبني على الخلاف في ثبوت قاعدة التحسين والتقبيح العقليين ، فعلى القول بها ـ كما هو مذهب الأولين ـ تكون واجبة عقلاً لأن شكر المنعم ودفع الخوف عن النفس واجبان وهما يتوقفان على المعرفة وما يتوقف عليه الواجب واجب ، وظاهر تقرير هذا الدليل كون وجوب المعرفة غيري ، والمصنف رحمه‌الله جعل وجوبها نفسياً بناء منه على كون المعرفة بنفسها شكراً ، فإذا كان الشكر واجباً عقلاً لكونه حسناً بنفسه كانت المعرفة بنفسها واجبة لا أنها مقدمة لواجب ، ولذا قال في تعليل وجوبها : أداء لشكر بعض . . . . الخ .

نعم لو كان الشكر واجباً من باب وجوب دفع الضرر كان وجوبه غيرياً فيكون وجوب المعرفة حينئذ غيرياً ، بل لو قلنا حينئذ بأن وجوب دفع الضرر ليس عقلياً بل فطرياً كان وجوبها فطرياً غيرياً لا عقلياً لا نفسياً ولا غيرياً .

٢٠٩
 &

والإنصاف يقتضي التأمل في وجوب الشكر لنفسه وإن كان حسناً لأن حسنه لا يلازم وجوبه ، نعم هو واجب من باب وجوب دفع الضرر المحتمل ، فيكون وجوب المعرفة غيرياً لا نفسياً . وأما كونه عقلياً أو فطرياً فقد عرفت فيما سبق تحقيقه . فلاحظ .

ثم إنه قد يتوهم كون وجوب المعرفة غيرياً من جهة توقف الإعتقاد عليها ، لكنه إنما يتم لو كان الإعتقاد واجباً تفصيلاً مطلقاً غير مشروط بالمعرفة مع توقفه على المعرفة ، وقد عرفت الإشكال في الأول ، كما يمكن منع الثاني لإمكان تحقق الإعتقاد بلا معرفة غاية الأمر أنه تشريع محرم عقلاً لكن تحريمه كذلك لا يقتضي وجوب المعرفة . نعم لو كان الواجب عقلاً هو الإعتقاد عن معرفة كانت واجبة لغيرها لكنه أول الكلام .

قوله : فإنهم وسائط ، يعني فتكون معرفتهم أداء للشكر الواجب وكذا معرفة الإمام عليه‌السلام على وجه صحيح ( هامش : وهو كون الإمامة كالنبوة منصباً إلۤهياً يحتاج إلى تعيينه تعالى ونصبه لا أنها من الفروع المتعلقة بأفعال المكلفين وهو الوجه الآخر منه قدس‌سره ) فالعقل يستقل بوجوب معرفة النبي ووصيه لذلك ولإحتمال الضرر في تركه ولا يجب عقلاً معرفة غير ما ذكر إلا ما وجب شرعاً معرفته ـ كمعرفة الإمام عليه‌السلام ـ على وجه آخر غير صحيح أو أمر آخر مما دل الشرع على وجوب معرفته وما لا دلالة على وجوب معرفته بالخصوص لا من العقل ولا من النقل كان أصالة البراءة من وجوب معرفته محكمة ولا دلالة لمثل قوله تعالى : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ ، الآية ولا لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلوات الخمس ، ولا لما دل على وجوب التفقه وطلب العلم من الآيات والروايات على وجوب معرفته بالعموم أن المراد من : ليعبدون ، هو خصوص عبادة الله ومعرفته والنبوي إنما هو بصدد بيان فضيلة الصلوات لا بيان حكم المعرفة فتجب .

قوله : وكذا معرفة الإمام عليه‌السلام ، يعني واجبة لنفسها لأن الإمامة كالنبوة من المناصب

٢١٠
 &

الإلۤهية فيكون الإمام عليه‌السلام من وسائط النعم فتجب معرفته كمعرفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهذا هو الوجه الصحيح . . . .

ـ نهاية الأفكار ج ٢ ص ١٨٨

أما المقام الأول ، فلا ينبغي الإشكال في وجوب تحصيل معرفة الواجب تعالى ومعرفة ما يرجع إليه من صفات الجمال والجلال ، ككونه واحداً قادراً عالماً مريداً حياً غنياً لم يكن له نظير ولا شبيه ، ولم يكن بجسم ولا مرئي ولا له حيز ونحو ذلك . . كما لا إشكال أيضاً في كون الوجوب المزبور نفسياً ، لأن المعرفة بالمبدأ سبحانه هي الغاية القصوى والغرض الأصلي من خلق العباد وبعث الرسل كما ينبئ عنه قوله سبحانه : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ، حيث أن حقيقة العبودية هي المعرفة ولا ينافي ذلك مقدميتها لواجب آخر عقلي أو شرعي كالتدين والإنقياد ونحوه . ثم إن عمدة الدليل على وجوب المعرفة إنما هو حكم العقل الفطري واستقلاله بوجوب تحصيل المعرفة بالمبدأ تعالى على كل مكلف بمناط شكر المنعم باعتبار كونها من مراتب أداء شكره فيجب بحكم العقل تحصيل المعرفة به سبحانه ، وبما يرجع إليه من صفات الجمال والجلال ، بل ويجب أيضاً معرفة أنبيائه ورسله وحججه الذين هم وسائط نعمه وفيضه .

وإلا فمع الإغماض عن هذا الحكم العقلي الفطري لا تجدي الأدلة السمعية كتاباً وسنة من نحو قوله سبحانه : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ، لعدم تمامية مثل هذه الإستدلالات للجاهل بهما لا إلزاماً ولا إقناعاً ، لأن دليليتهما فرع الإعتقاد بهما وبكلامهما ، وحينئذ فالعمدة في الدليل على الوجوب هو حكم العقل الفطري .

نعم بعد تحصيل المعرفة بالمبدأ ووسائط نعمه بحكم العقل ، لا بأس بالاستدلال بالكتاب والسنة لإثبات وجوب المعرفة لما عداهما في فرض تمامية إطلاق تلك الأدلة من حيث متعلق المعرفة ، وإلا فبناء على عدم إطلاقها من هذه الجهة فلا مجال للتمسك بها أيضاً .

٢١١
 &

ثم إنه مما ذكرنا ظهر الحال في المقام الثاني حيث أنه بعد ما وجب تحصيل المعرفة بالواجب تعالى وبوسائط نعمه يجب بحكم العقل الإعتقاد وعقد القلب والإنقياد له سبحانه لكون مثله أيضاً من مراتب أداء شكره الواجب عليه . بل الظاهر أن وجوب ذلك أيضاً كوجوب أصل المعرفة مطلق غير مشروط بحصول العلم من الخارج ، فيجب عليه حينئذ تحصيل العلم مقدمة للإنقياد الواجب .

هذا كله بالنسبة إلى أصل وجوب المعرفة ، وأما المقدار الواجب منها فإنما هو المعرفة بالمبدأ جل شأنه وبوحدانيته وبما يرجع إليه من صفات الجمال والجلال ، وكذا معرفة أنبيائه ورسله وحججه الذين هم وسائط نعمه وفيضه ، وكذلك الحشر والنشر ولو بنحو الإجمال .

وأما ما عدا ذلك كتفاصيل التوحيد وكيفية علمه وإرادته سبحانه ، وتفاصيل المحشر وخصوصياته ، وأن الميزان والصراط بأي كيفية ، ونحو ذلك فلا يجب تحصيل العلم ولا الإعتقاد بها بتلك الخصوصيات .

نعم في فرض حصول العلم بها من الخارج يجب الإعتقاد وعقد القلب بها . فوجوب الإعتقاد بخصوصيات الأمور المزبورة إنما كان مشروطاً بحصول العلم بها من باب الإتفاق ، لا أن وجوبها مطلق حتى يجب تحصيل العلم بها من باب المقدمة . نعم الواجب على المكلف هو الإعتقاد الإجمالي بما هو الواقع ونفس الأمر فيعتقد وينقاد بتلك الأمور على ما هي عليها في الواقع ونفس الأمر .

ومن هذا البيان ظهر الحال في المقام الثالث أيضاً ، فإن مقتضى الأصل فيما عدا المقدار المزبور هو عدم وجوب تحصيل المعرفة زائداً على المقدار الذي يستقل العقل بوجوب تحصيله ، إلا ما ثبت من الخارج وجوب الإعتقاد به من ضرورة ونحوه كالمعاد الجسماني .

وأما الإستدلال على وجوب المعرفة بتفاصيل الأمور المزبورة بما ورد من الأدلة النقلية كتاباً وسنة كقوله سبحانه : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ، وعموم آية

٢١٢
 &

النفر وقوله عليه‌السلام : لا أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من الصلوات الخمس ، وقوله : طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة ، فيدفعه مضافاً إلى قضاء العادة بامتناع حصول المعرفة بما ذكر إلا للاوحدي من الناس ، أنه لا إطلاق لها من حيث متعلق المعرفة لأنها بين ما كان في مقام بيان فضيلة الصلاة والحث والترغيب إليها لا في مقام بيان حكم المعرفة ، وبين ما كان بصدد إثبات أصل وجوب المعرفة بالمبدأ ورسله وحججه لا في مقام وجوبها على الإطلاق ، حتى بالنسبة إلى التفاصيل المزبورة . وعليه فعند الشك لا بد من الرجوع إلى الأصل المقتضى لعدم وجوبها .

نعم حيث قلنا بعدم وجوب تحصيل المعرفة في الزائد عن المقدار المعلوم فليس له إنكاره والحجد به ، إذ لا يستلزم عدم وجوب المعرفة بشئ جواز إنكاره ، بل ربما يكون إنكاره حراماً عليه ، بل موجباً لكفره إذا كان من الضروريات ، لما يظهر منهم من التسالم على كفر منكر ضروري الدين كالمعراج والمعاد الجسماني ونحوهما . فلا بد لمثل هذا الشخص حينئذ من الإعتقاد إجمالاً بما هو الواقع .

شرح المواقف للجرجاني ج ٨ ص ١٠٥

. . . والجواب منع التكليف بكمال معرفته إذ هو أي التكليف بقدر وسعنا فنحن مكلفون بأن نعرف من صفاته ما يتوقف تصديق النبي عليه‌السلام على العلم به لا بمعرفة صفات أخرى . أو بأن نقول سلمنا تكليفنا بكمال معرفته لكن لا يلزم من التكليف به حصوله من جميع المكلفين بل ربما يعرفه معرفة كاملة بعض منهم كالأنبياء والكاملين من أتباعهم . . . .

فإن قلت : مرادهم أنا مكلفون بكمال معرفة ممكنة ، وقد لا يسلمون كون معرفته تعالى بالكنه ممكنة .

قلت : لو سلم فلعل له تعالى صفة لا يمكن لنا معرفتها أيضاً فلا يتجه لهم بما ذكروه نفي صفة غير السمع بالكلية فتأمل .

قوله فنحن مكلفون إلى آخره . . هذا مترتب على منة التكليف بكمال المعرفة ثم

٢١٣
 &

الترتب باعتبار الأخبار نظيره الفاء في قوله تعالى : وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ، أي إذا كان التكليف بكمال المعرفة ممنوعاً فأخبركم أنا مكلفون بكذا لا بكذا ، وحينئذ لا يرد أن مثل السمع والبصر والكلام داخل تحت الوسع ، فيقتضي قوله إذ هو بقدر وسعنا أن نكون مكلفين بمعرفته أيضاً مع أن التفريع يقتضي عدم التكليف بها ، إذ لا يتوقف تصديق النبي عليه‌السلام على شئ منها ، فتدبر .

المعرفة لا تتوقف على علم الكلام

ـ مستدرك الوسائل ج ١ ص ١٦١

فقه الرضا عليه‌السلام : إياك والخصومة فإنها تورث الشك وتحبط العمل ، وتردي صاحبها ، وعسى أن يتكلم بشئ لا يغفر له .

ونروي : إنه كان فيما مضى قوم انتهى بهم الكلام إلى الله عز وجل فتحيروا ، فإن كان الرجل ليدعى من بين يديه فيجيب من خلفه .

وأروي : تكلموا فيما دون العرش ، فإن قوماً تكلموا في الله عز وجل فتاهوا .

وأروي عن العالم : وسألته عن شئ من الصفات فقال : لا تتجاوز ما في القرآن .

وأروي : إنه قرئ بين يدي العالم عليه‌السلام قوله : لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ، فقال : إنما عنى أبصار القلوب وهي الأوهام ، فقال : لا تدرك الأوهام كيفيته ، وهو يدرك كل وهم ، وأما عيون البشر فلا تلحقه ، لأنه لا يحل فلا يوصف . هذا ما نحن عليه كلنا .

ـ رسائل الشهيد الثاني ج ٢ ص ١٧٤

التوحيد على ثلاثة أقسام : الأول : توحيد الذات ونفي الشريك في واجب الوجود .

الثاني : بحسب الصفات هو نفي الصفة الموجودة القائمة بذاته تعالى .

الثالث : توحيده تعالى بحسب العبودية وتخصيص العبادة له جل جلاله .

٢١٤
 &

والعمدة في الإستدلال على الأول قوله تعالى : لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا . والدليل على الثاني والثالث قوله تعالى : وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ، وقول مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام : إن أول الدين معرفته ، وكمال معرفته التصديق به ، وكمال التصديق به توحيده ، وكمال توحيده الإخلاص له ، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ، بشهادة كل صفة أنها غير الموصوف وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة ، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثناه ومن ثناه فقد جزأه ، ومن جزأه فقد جهله . صدق ولي الله عليه‌السلام . وروى محمد بن أبي عمير عن الكاظم عليه‌السلام حين سأله عن التوحيد ؟ فقال : يا أبا أحمد لا تجاوز في التوحيد عما ذكره الله تعالى في كتابه فتهلك .

وسائر صفاته الثبوتية مذكورة في القرآن ، مصرحة بواجب الوجود ، وهو دليل على نفي الصفات السلبية ، لاستلزامها الإمكان المضاد للوجوب . وباقي الأصول من النبوة والإمامة والمعاد الجسماني مستفاد من الكتاب العزيز والسنة النبوية والإمامية ، بحيث لا مزيد عليها .

فظهر أن تحصيل الإيمان لا يتوقف على تعلم علم الكلام ولا المنطق ، ولا غيرها من العلوم المدونة ، بل يكفي مجرد الفطرة الإنسانية على اختلاف مراتبها ، والتنبيهات الشرعية من الكتاب والسنة المتواترة أو الشائعة المشهورة ، بحيث يحصل من العلم بها العلم بالمسائل المذكورة . وكل ممكن برهان ، وكل آية حجة ، وكل حديث دليل ، وفهم المقصود استدلال ، وكل عاقل مستدل ، وإن لم يعلم الصغرى ولا الكبرى ولا التالي ولا المقدم ، بهذه العبارات والقانونات والإصطلاحات .

ـ رسائل الشهيد الثاني ج ٢ ص ١٧٦

الباب السادس ، في الكلام على تعلم علم الكلام ، واعلم أنه علم إسلامي وضعه المتكلمون لمعرفة الصانع وصفاته العليا ، وزعموا أن الطريق منحصر فيه وهو أقرب الطرق . والحق أنه أبعدها وأصعبها وأكثرها خوفاً وخطراً ، ولذلك نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن

٢١٥
 &

الغور فيه ، حيث روي أنه مر على شخصين متباحثين على مسألة ، كالقضاء والقدر ، فغضب صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى احمرت وجنتاه .

وروى هارون بن موسى التلعكبري أستاد شيخنا المفيد قدس سرهما عن عبد الله ابن سنان قال : أردت الدخول على أبي عبد الله عليه‌السلام فقال لي مؤمن الطاق استأذن لي على أبي عبد الله عليه‌السلام فقلت : نعم ، فدخلت عليه فاعلمته مكانه ، فقال عليه‌السلام : يا بن سنان لا تأذن له علي ، فإن الكلام والخصومات يفسدان النية وتمحق الدين .

وعن عاصم بن حميد الحناط عن أبي عبيدة الحذاء قال قال لي أبو جعفر عليه‌السلام وأنا عنده : إياك وأصحاب الكلام والخصومات ومجالستهم ، فإنهم تركوا ما أمروا بعلمه وتكلفوا ما لم يؤمروا بعلمه حين تكلفوا أهل أبناء السماء . يا أبا عبيدة خالط الناس بأخلاقهم وزائلهم في أعمالهم ، يا أبا عبيدة إنا لا نعد الرجل فقيهاً عالماً حتى يعرف لحن القول ، وهو قوله تعالى : وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ .

وعن جميل بن دراج قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : متكلموا هذه الأمة من شرار أمتي ومن هم منهم .

وعنه عليه‌السلام : يهلك أهل الكلام وينجو المسلمون .

وورد في موضع آخر : إن شر هذه الأمة المتكلمون .

وروي أن يونس قال للصادق عليه‌السلام : جعلت فداك إني سمعت أنك تنهى عن الكلام تقول : ويل لأصحاب الكلام . فقال عليه‌السلام : إنما قلت ويل لهم إن تركوا ما أقول وذهبوا إلى ما يقولون .

أقول : يمكن أن يكون هذا إشارة إلى أنهم تركوا التشبيهات كما عرفت الواردة في القرآن والآثار النبوية والإمامية صلوات الله عليهم ، وعدلوا عنها إلى خيالاتهم الفاسدة وحكاياتهم الباردة ، المذكورة في الكتب الكلامية .

قال سيد المحققين رضي الدين علي بن طاووس قدس‌سره : مثل مشائخ المعتزلة في تعليمهم معرفة الصانع ، كمثل شخص أراد أن يعرف غيره النار ، فقال : يا هذا

٢١٦
 &

معرفتها تحتاج إلى أسباب : أحدها الحجر ولا يوجد إلا طريق مكة . والثاني الحديد وصفته كذا وكذا . والثالث حراق على هذه الصفة . والرابع مكان خال عن شدة الهواء فأخذ المسكين في تحصيل هذه الأسباب .

ولو قال له في أول الحال : إن هذا الجسم المضئ الذي تشاهده هو النار التي تطلبها لأراح واستراح .

فمثل هذا العالم حقيق أن يقال إنه قد أضل ، ولا يقال إنه قد هدى ، أو عدل بالخلائق ( في معرفة الخالق ) إلى تلك الطرائق الضيقة البعيدة ، وضيق عليهم سبيل الحقيقة ، كما عدل من أراد تعريف النار المعلومة بالإضطرار إلى استخراجها من الأخبار .

أقول : هذا حال الكلام الذي كان في أول الإسلام ، ولا شك أنه ما كان بهذه المثابة من البحث والخصومة ، فما ظنك بهذه المباحثات والخصومات الشائعة في زماننا . وليت شعري أن هؤلاء الجماعة هل لهم دليل عقلي ونقلي على وجوبه واستحبابه ؟ أو مجرد تقليد آبائهم وأسلافهم ، وأنهم على آثارهم لمقتدون . وأنهم هل يقرون بإيمان السابقين أو ينكرونه ؟ وهل يعترفون بإيمان العوام الغافلين عنه أو لا يعترفون ؟ فإن أقروا واعترفوا فما فائدته ؟ وإلا فكيف يعاشرونهم بالرطوبات ؟ مع اعتقادهم بأن عدم المعرفة بالأصول كفر والكافر نجس . وكيف يجوز الإشتغال بالواجب مع استلزامه ترك ما هو أوجب ؟ فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي كانوا يوعدون .

ويكفي الدليل الإجمالي في المعرفة

ـ الإقتصاد للشيخ الطوسي ص ١١

فإن قيل : قد ذكرتم أنه يخرج الإنسان عن حد التقليد بعلم الجملة ، ما حد ذلك بينوه لنقف عليه ؟

قلنا : أحوال الناس تختلف في ذلك : فمنهم من يكفيه الشئ اليسير ، ومنهم من

٢١٧
 &

يحتاج إلى أكثر منه بحسب ذكائه وفطنته وخاطره ، حتى يزيد بعضهم على بعض إلى أن يبلغ إلى حد لا يجوز له الإقتصار على علم الجملة بل يلزمه على التفصيل لكثرة خواطره وتواتر شبهاته . وليس يمكن حصر ذلك لشئ لا يمكن الزيادة عليه ولا النقصان عنه .

فإن قيل : فعلى كل حال بينوا لذلك مثالاً على وجه التقريب .

قلنا : أما على وجه التقريب فإنا نقول : من فكر في نفسه فعلم أنه لم يكن موجوداً ثم وجد نطفة ثم صار علقة ثم مضغة ثم عظماً ثم جنيناً في بطن أمه ميتاً ثم صار حياً فبقي مدة ثم ولد صغيراً ، فتتقلب به الأحوال من صغر إلى كبر ومن طفولة إلى رجولة ومن عدم عقل إلى عقل كامل ثم إلى الشيخوخة وإلى الهرم ثم الموت ، وغير ذلك من أحواله ، عَلِمَ أن هنا من يصرفه هذا التصريف ويفعل به هذا الفعل ، لأنه يعجز عن فعل ذلك بنفسه ، وحال غيره من أمثاله حاله من العجز عن مثل ذلك . فعلم بذلك أنه لا بد من أن يكون هناك من هو قادر على ذلك مخالف له ، لأنه لو كان مثله لكان حكمه حكمه . ويعلم أنه لا بد أن يكون عالماً من حيث أن ذلك في غاية الحكمة والإتساق ، مع علمه الحاصل بأن بعض ذلك لا يصدر ممن ليس بعالم ، وبهذا القدر يكون عالماً بالله تعالى على الجملة .

وهكذا إذا نظر في بذر يبذر فينبت منه أنواع الزرع والغرس ويصعد إلى منتهاه ، فمنه ما يصير شجراً عظيماً يخرج منه أنواع الفواكه والملاذ ، ومنه ما يصير زرعاً يخرج منه أنواع الأقوات ، ومنه ما يخرج منه أنواع المشمومات الطيبة الروائح ، ومنه ما يكون خشبه في غاية الطيب كالعود الرطب وغير ذلك ، وكالمسك الذي يخرج من بعض الظباء والعنبر الذي يخرج من البحر ، فيعلم بذلك أن مصرف ذلك وصانعه قادر عالم لتأتي ذلك وإتساقه ، ولعجزه وعجز أمثاله عن ذلك ، فيعلم بذلك أنه مخالف لجميع أمثاله ، فيكون عارفاً بالله على الجملة .

وكذلك إذا نظر إلى السماء صاحية فتهب الرياح وينشأ السحاب ويصعد ولا يزال يتكاثف ويظهر فيه الرعد والبرق والصواعق ، ثم ينزل منه من المياه والبحار العظيمة

٢١٨
 &

التي تجري منها الأنهار العظيمة والأودية الوسيعة ، وربما كان فيه من البرد مثل الجبال ، كل ذلك في ساعة واحدة ثم تنقشع السماء وتبدو الكواكب وتطلع الشمس أو القمر كأن ما كان لم يكن من غير تراخ ولا زمان بعيد ، فيعلم ببديهة أنه لا بد أن يكون من صح ذلك منه قادراً عليه ممكن منه ، وأنه مخالف له ولأمثاله ، فيكون عند ذلك عارفاً بالله . وأمثال ذلك كثيرة لا نطول بذكره .

فمتى عرف الإنسان هذه الجملة وفكر فيها هذا الفكر واعتقد هذا الإعتقاد ، فإن مضى على ذلك ولم يشعثه خاطر ولا طرقته شبهة فهو ناج متخلص .

وأكثر من أشرتم إليه يجوز أن يكون هذه صفته ، وإن بحث عن ذلك وعن علل ذلك فطرقته شبهات وخطرت له خطرات وأدخل عليه قوم ملحدون ما حيره وبلبله فحينئذ يلزمه التفتيش ولا تكفيه هذه الجملة ، ويجب عليه أن يتكلف البحث والنظر على ما سنبينه ليسلم من ذلك ويحصل له العلم على التفصيل .

ونحن نبين ذلك في الفصل الذي يلي هذا الفصل على ما وعدنا به إنشاء الله .

فإن قيل : أصحاب الجُمَل ( بضم الجيم أي أصحاب المعرفة الإجمالية ) على ما ذكرتم لا يمكنهم أن يعرفوا صفات الله تعالى وما يجوز عليه وما لا يجوز عليه منها على طريق الجملة ، وإذا لم يمكنهم ذلك لم يمكنهم أن يعلموا أن أفعاله كلها حكمة ولا حسن التكليف ولا النبوات ولا الشرعيات ، لأن معرفة هذه الأشياء لا يمكن إلا بعد معرفة الله تعالى على طريق التفصيل .

قلنا : يمكن معرفة جميع ذلك على وجه الجملة ، لأنه إذا علم بما قدمناه من الأفعال ووجوب كونه قادراً عالماً ، وعلم أنه لا يجوز أن يكون قادراً بقدرة محدثة لأنها كانت تجب أن تكون من فعله ، وقد تقرر أن المحدث لا بد له من محدث ، وفاعلها يجب أن يكون قادراً أولاً ، فلولا تقدم كونه قادراً قبل ذلك لما صح منه تعالى فعل القدرة ، فيعلم أنه لم يكن قادراً بقدرة محدثة ، ولأجله علم أنه كذلك لأمر لا اختصاص له بمقدور دون مقدور ، فيعلم أنه يجب أن يكون قادراً على جميع الأجناس ومن كل جنس على ما لا يتناهى لفقد التخصيص .

٢١٩
 &

وكذلك إذا علم بالمحكم من أفعاله كونه عالماً علم أن ما لأجله علم ما علمه لا اختصاص له بمعلوم دون معلوم ، إذ المخصص هو العلم المحدث والعلم لا يقع إلا من عالم ، فلا بد أن يتقدم كونه عالماً لا بعلم محدث ، وما لأجله علم لا اختصاص له بمعلوم دون معلوم ، فيعلم أنه عالم بما لا يتناهى وبكل ما يصح أن يكون معلوماً لفقد الإختصاص . فيعلم أنه لا يشبه الأشياء ، لأنه لو أشبهها لكان مثلها في كونها محدثة ، لأن المثلين لا يكون أحدهما قديماً والآخر محدثاً . ويعلم أنه غير محتاج ، لأن الحاجة من صفات الأجسام ، لأنها تكون إلى جلب المنافع ودفع المضار وهما من صفات الأجسام ، فيعلم عند ذلك أنه غني . ويعلم أنه لا تجوز عليه الرؤية والإدراكات ، لأنه لا يصح أن يدرك إلا ما يكون هو أو محله في جهة ، وذلك يقتضي كونه جسماً أو حالاً في جسم ، وهكذا يقتضي حدوثه وقد علم أنه قديم . وإذا علم أنه عالم بجميع المعلومات ، وعلم كونه غنياً ، علم أن جميع أفعاله حكمة وصواب ولها وجه حسن وأن لم يعلمه مفصلاً ، لأن القبيح لا يفعله إلا من هو جاهل بقبحه أو محتاج إليه وكلاهما منتفيان عنه ، فيقطع عند ذلك على حسن جميع أفعاله من خلق الخلق والتكليف وفعل الآلام وخلق المؤذيات من الهوام والسباع وغير ذلك .

ويعلم أيضاً عند ذلك صحة النبوات ، لأن النبي إذا ادعى النبوة وظهر على يده علم معجز يعجز عن فعله جميع المحدثين علم أنه من فعل الله ، ولولا صدقه لما فعله ، لأن تصديق الكذاب لا يحسن ، وقد أمن ذلك بكونه عالماً غنياً . فإذا علم صدق الأنبياء بذلك علم صحة ما أتوا به من الشرعيات والعبادات ، لكونهم صادقين على الله ، وأنه لا يتعبد الخلق إلا بما فيه مصلحتهم .

وإذا ثبت له هذه العلوم فتشاغل بالعبادة أو بالمعيشة ولم تخطر له شبهة ولا أورد عليه ما يقدح فيما علمه ، ولا فكر هو في فروع ذلك ، لم يلزمه أكثر من ذلك . ومتى أورد عليه شبهة فإن تصورها قادحة فيما علمه يلزمه حينئذ النظر فيها حتى يحلها ليسلم له ما علمه ، وإن لم يتصورها قادحة ولا اعتقد أنها تؤثر فيما علمه لم يلزمه النظر فيها ولا التشاغل بها .

٢٢٠