العقائد الإسلاميّة - ج ١

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية

العقائد الإسلاميّة - ج ١

المؤلف:

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز المصطفى للدراسات الإسلامية
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-118-4
ISBN الدورة:
964-319-117-6

الصفحات: ٣٧٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ . وقال : وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ . وقال : قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ . مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ . مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ . الآية . وقال : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ . إلى قوله : إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ . وقال : فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ، ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا ، إلى قوله : مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ . وقال : وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ . ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ . إلى قوله فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ . وقال : إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ، و لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ، و لِأُولِي الْأَلْبَابِ ، و لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ، يعني عقل . وغير ذلك من الآيات التي تعدادها يطول .

وكيف يحث تعالى على النظر وينبه على الأدلة وينصبها ويدعو إلى النظر فيها ، ومع ذلك يحرمها . إن هذا لا يتصوره إلا غبيٌّ جاهل . فأما من أومي إليه من الصحابة والتابعين وأهل الأعصار من الفقهاء والفضلاء والتجار والعوام ، فأول ما فيه أنه غير مسلم ، بل كلام الصحابة والتابعين مملو من ذلك .

. . . وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه . وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام في خطبته المعروفة : أول عبادة الله معرفته ، وأصل معرفته توحيده ، ونظام توحيده نفي الصفات عنه ، لشهادة العقول إن من حلته الصفات فهو مخلوق ، وشهادتها أنه خالق ليس بمخلوق ثم قال : بصنع الله يستدل عليه ، وبالعقول يعتقد معرفته ، وبالنظر يثبت حجته ، معلوم بالدلالات ، مشهور بالبينات ، إلى آخر الخطبة . وخطبه في هذا المعنى أكثر من أن تحصى .

وقال الحسن عليه‌السلام : والله ما يعبد الله إلا من عرفه ، فأما من لم يعرفه فإنما يعبده هكذا ضلالاً ، وأشار بيده .

وقال الصادق عليه‌السلام : وجدت علم الناس في أربع : أولها أن تعرف ربك ، والثاني أن تعرف ما صنع بك ، والثالث أن تعرف ما أراد منك ، والرابع أن تعرف ما يخرجك من دينك . . . .

١٨١
 &

فإن قالوا : أكثر من أومأتم إليه إذا سألته عن ذلك لا يحسن الجواب عنه .

قلنا : وذلك أيضاً لا يلزم ، لأنه لا يمتنع أن يكون عارفاً على الجملة وإن تعذرت عليه العبارة عما يعتقده ، فتعذر العبارة عما في النفس لا يدل على بطلان ذلك ولا ارتفاعه .

ـ الرسالة السعدية للعلامة الحلي ص ٣ ـ ٩

وقد حرم الله تعالى على جميع العبيد سلوك طريق التقليد ، بل أوجب البحث في أصول العقايد اليقينية وتحصيلها باستعمال البراهين القطعية . . . . المقدمة الثانية في تحريم التقليد . طلب الله تعالى من المكلف اعتقاداً جازماً يقينياً مأخوذاً من الحجج والأدلة ، وذلك في المسائل الأصولية ، واعتقاداً مستفاداً إما من الحجة ، أو من التقليد في المسائل الفروعية .

ـ رسائل المحقق الكركي ج ١ ص ٥٩

يجب على كل مكلف حرّ وعبد ذكر وأنثى أن يعرف الأصول الخمسة التي هي أركان الإيمان ، وهي : التوحيد ، والعدل ، والنبوة ، والإمامة ، والمعاد ، بالدليل لا بالتقليد . ومن جهل شيئاً من ذلك لم ينتظم في سلك المؤمنين ، واستحق العقاب الدائم مع الكافرين .

ـ رسائل المحقق الكركي ج ١ ص ٨٠ وج ٣ ص ١٧٣

ويجب أمام فعلها معرفة الله تعالى ، وصفاته الثبوتية والسلبية ، وعدله وحكمته ، ونبوة نبينا محمد صلوات الله عليه وآله ، وإمامة الأئمة عليهم‌السلام والإقرار بكل ما جاء به النبي صلوات الله عليه وآله من أحوال المعاد ، بالدليل لا بالتقليد .

قوله : بالدليل لا بالتقليد ، الدليل هو ما يلزم من العلم به العلم بشئ آخر إثباتاً أو نفياً . والتقليد هو الأخذ بقول الغير من غير حجة ملزمة ، مأخوذ من تقليده بالقلادة

١٨٢
 &

وجعلها عنقه كأن المقلد يجعل ما يعتقده من قول الغير من حق أو باطل قلادة في عنق من قلده .

ـ رسائل الشهيد الثاني ج ٢ ص ٥٦

إعلم أن العلماء أطبقوا على وجوب معرفة الله تعالى بالنظر وأنها لا تحصل بالتقليد ، إلا من شذ منهم كعبد الله بن الحسن العنبري والحشوية والتعليمية ، حيث ذهبوا إلى جواز التقليد في العقائد الأصولية ، كوجود الصانع وما يجب له ويمتنع ، والنبوة ، والعدل وغيرها ، بل ذهب إلى وجوبه .

لكن اختلف القائلون بوجوب المعرفة في أنه عقلي أو سمعي ، فالإمامية والمعتزلة على الأول والأشعرية على الثاني ، ولا غرض لنا هنا ببيان ذلك ، بل ببيان أصل الوجوب المتفق عليه .

من ذلك : أن لله تعالى على عبده نعماً ظاهرة وباطنة لا تحصى ، يعلم ذلك كل عاقل ، ويعلم أنها ليست منه ولا من مخلوق مثله . ويعلم أيضاً أنه إذا لم يعترف بإنعام ذلك المنعم ولم يذعن بكونه هو المنعم لا غيره ولم يسع في تحصيل مرضاته ، ذمه العقلاء ، ورأوا سلب تلك النعم عنه حسناً ، وحينئذ فتحكم ضرورة العقل بوجوب شكر ذلك المنعم . ومن المعلوم أن شكره على وجه يليق بكمال ذاته يتوقف على معرفته ، وهي لا تحصل بالظنيات كالتقليد وغيره ، لاحتمال كذب المخبر وخطأ الإمارة ، فلا بد من النظر المفيد للعلم .

وهذا الدليل إنما يستقيم على قاعدة الحسن والقبح ، والأشاعرة ينكرون ذلك ، لكنه كما يدل على وجوب المعرفة بالدليل ، يدل أيضاً على كون الوجوب عقلياً .

واعترض أيضاً بأنه مبني على وجوب ما لا يتم الواجب المطلق الآبه ، وفيه أيضاً منع للأشاعرة . ومن ذلك أن الأمة اجتمعت على وجوب المعرفة ، والتقليد وما في حكمه لا يوجب العلم ، إذ لو أوجبه لزم اجتماع الضدين في مثل تقليد من يعتقد حدوث العالم ويعتقد قدمه .

١٨٣
 &

وقد اعترض على هذا بمنع الإجماع ، كيف والمخالف معروف ، بل عورض بوقوع الإجماع على خلافه ، وذلك لتقرير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه العوام على إيمانهم وهم الأكثرون في كل عصر ، مع عدم الإستفسار عن الدلائل الدالة على الصانع وصفاته ، مع أنهم كانوا لا يعلمونها ، وإنما كانوا مقرين باللسان ومقلدين في المعارف ، ولو كانت المعرفة واجبة لما جاز تقريرهم على ذلك مع الحكم بإيمانهم .

وأجيب عن هذا : بأنهم كانوا يعلمون الأدلة إجمالاً ، كدليل الإعرابي حيث قال : البعرة تدل على البعير ، وأثر الأقدام على المسير ، أفسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج لا تدلان على اللطيف الخبير ؟ ! فلذا أقروا ولم يسألوا عن اعتقاداتهم ، أو أنهم كان يقبل منهم ذلك للتمرين ، ثم يبين لهم ما يجب عليهم من المعارف بعد حين .

ومن ذلك : الإجماع أنه لا يجوز تقليد غير المحق ، وإنما يعلم المحق من غيره بالنظر في أن ما يقوله حق أم لا ، وحينئذ فلا يجوز له التقليد إلا بعد النظر والإستدلال ، وإذا صار مستدلاً امتنع كونه مقلداً ، فامتنع التقليد في المعارف الإلۤهية .

ونقض ذلك بلزوم مثله في الشرعيات ، فإنه لا يجوز تقليد المفتي إلا إذا كانت فتياه عن دليل شرعي ، فإن اكتفى في الإطلاع على ذلك بالظن وإن كان مخطئاً في نفس الأمر لحط ذلك عنه ، فليجز مثله في مسائل الأصول .

وأجيب بالفرق بأن الخطأ في مسائل الأصول يقتضي الكفر بخلافه في الفروع ، فساغ في الثانية ما لم يسغ في الأولى .

إحتج من أوجب التقليد في مسائل الأصول بأن العلم بأمر الله غير ممكن ، لأن المكلف به إن لم يكن عالماً به تعالى إمتنع أن يكون عالماً بأمره ، وحال امتناع كونه عالماً بأمره يمتنع كونه مأموراً من قبله ، وإلا لزم تكليف ما لا يطاق ، وإن كان عالماً به استحال أيضاً أمره بالعلم به لاستحالة تحصيل الحاصل .

والجواب عن ذلك على قواعد الإمامية والمعتزلة ظاهر ، فإن وجوب النظر والمعرفة عندهم عقلي لا سمعي . نعم يلزم ذلك على قواعد الأشاعرة ، إذ الوجوب عندهم سمعي .

١٨٤
 &

أقول : ويجاب أيضاً معارضةً ، بأن هذا الدليل كما يدل على امتناع العلم بالمعارف الأصولية ، يدل على امتناع التقليد فيها أيضاً ، فينسد باب المعرفة بالله تعالى ، وكل من يرجع إليه في التقليد لا بد وأن يكون عالماً بالمسائل الأصولية ليصح تقليده ، ثم يجرى الدليل فيه فيقال : علم هذا الشخص بالله تعالى غير ممكن ، لأنه حين كلف به إن لم يكن عالماً به تعالى استحال أن يكون عالماً بأمره بالمقدمات ، وكل ما أجابوا به فهو جوابنا ، ولا مخلص لهم إلا أن يعترفوا بأن وجوب المعرفة عقلي ، فيبطل ما ادعوه من أن العلم بالله تعالى غير ممكن ، أو سمعي فكذلك .

فإن قيل : ربما حصل العلم لبعض الناس بتصفية النفس أو إلهام إلى غير ذلك فيقلده الباقون .

قلنا : هذا أيضاً يبطل قولكم أن العلم بالله تعالى غير ممكن ، نعم ما ذكروه يصلح أن يكون دليلاً على امتناع المعرفة بالسمع ، فيكون حجة على الأشاعرة ، لا دليلاً على وجوب التقليد .

واحتجوا أيضاً بأن النهي عن النظر قد ورد في قوله تعالى : مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا . والنظر يفتح باب الجدال فيحرم . ولأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله رأى الصحابة يتكلمون في مسألة القدر ، فنهى عن الكلام فيها وقال : إنما هلك من كان قبلكم بخوضهم هذا ، ولقوله عليه‌السلام : عليكم بدين العجائز ، والمراد ترك النظر ، فلو كان واجباً لم يكن منهياً عنه .

وأجيب عن الأول : إن المراد الجدال بالباطل ، كما في قوله تعالى : وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ، لا الجدال بالحق لقوله تعالى : وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، والأمر بذلك يدل على أن الجدال مطلقاً ليس منهياً عنه .

وعن الثاني : بأن نهيهم عن الكلام في مسألة القدر على تقدير تسليمه لا يدل على النهي عن مطلق النظر ، بل عنه في مسألة القدر ، كيف وقد ورد الإنكار على تارك النظر في قوله تعالى : أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللَّهُ ، وقد أثنى على فاعله في قوله تعالى : وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ .

١٨٥
 &

على أن نهيهم عن الخوض في القدر لعله لكونه أمراً غيبياً وبحراً عميقاً ، كما أشار إليه علي عليه‌السلام بقوله : بحر عميق فلا تلجه . بل كان مراد النبي تفويض مثل ذلك إلى الله تعالى ، لأن ذلك ليس من الأصول التي يجب اعتقادها ، والبحث عنها مفصلة .

وهاهنا جواب آخر عنهما معاً ، وهو أن النهي في الآية والحديث مع قطع النظر عما ذكرناه إنما يدل على النهي عن الجدال الذي لا يكون إلا عن متعدد ، بخلاف النظر فإنه يكون من واحد ، فهو نصب الدليل على غير المدعى .

وعن الثالث : بالمنع من صحة نسبته إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فإن بعضهم ذكر أنه من مصنوعات سفيان الثوري ، فإنه روى أن عمر بن عبد الله المعتزلي قال : إن بين الكفر والإيمان منزلة بين منزلتين ، فقالت عجوز ، قال الله تعالى : هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ ، فلم يجعل من عباده إلا الكافر والمؤمن ، فسمع سفيان كلامها ، فقال : عليكم بدين العجائز .

على أنه لو سلم فالمراد به التفويض إلى الله تعالى في قضائه وحكمه والإنقياد له في أمره ونهيه .

واحتج من جوز التقليد : بأنه لو وجب النظر في المعارف الإلۤهية لوجد من الصحابة ، إذ هم أولى به من غيرهم ، ولم يوجد وإلا لنقل كما نقل عنهم النظر والمناظرة في المسائل الفقهية ، فحيث لم ينقل لم يقع ، فلم يجب .

وأجيب : بالتزام كونهم أولى به لكنهم نظروا ، وإلا لزم نسبتهم إلى الجهل بمعرفة الله تعالى ، وكون الواحد منا أفضل منهم ، وهو باطل إجماعاً ، وإذا كانوا عالمين وليس بالضرورة فهو بالنظر والإستدلال . وأما إنه لم ينقل النظر والمناظرة ، فلإتفاقهم على العقائد الحقة ، لوضوح الأمر عندهم ، حيث كانوا ينقلون عقائدهم عمن لا ينطق عن الهوى ، فلم يحتاجوا إلى كثرة البحث والنظر ، بخلاف الأخلاف بعدهم فإنهم لما كثرت شبه الضالين ، واختلفت أنظار طالبي اليقين لتفاوت أذهانهم في إصابة الحق ، احتاجوا إلى النظر والمناظرة ، ليدفعوا بذلك شبه المضلين ويقفوا على اليقين .

١٨٦
 &

أما المسائل الفروع ، فإنها لما كانت أموراً ظنية اجتهادية خفية ، لكثرة تعارض الإمارات فيها ، وقع بينهم الخلاف فيها والمناظرة والتخطئة لبعضهم من بعض ، فلذا نقل .

واحتجوا أيضاً : بأن النظر مظنة الوقوع في الشبهات والتورط في الضلالات بخلاف التقليد فإنه أبعد عن ذلك وأقرب إلى السلامة فيكون أولى ، ولأن الأصول أغمض أدلة من الفروع وأخفى ، فإذا جاز التقليد في الأسهل جاز في الأصعب بطريق أولى ، ولأنهما سواء في التكليف بهما ، فإذا جاز في الفروع فليجز في الأصول .

وأجيب عن الأول : بأن اعتقاد المعتقد إن كان عن تقليد ، لزم إما التسلسل ، أو الإنتهاء إلى من يعتقد عن نظر لانتفاء الضرورة ، فيلزم ما ذكرتم من المحذور مع زيادة وهي احتمال كذب المخبر ، بخلاف الناظر مع نفسه ، فإنه لا يكابر نفسه فيما أدى إليه نظره .

على أنه لو اتفق الإنتهاء إلى من اتفق له العلم بغير النظر كتصفية الباطن كما ذهب إليه بعضهم ، أو بالإلهام ، أو بخلق العلم فيه ضرورة ، فهو إنما يكون لأفراد نادرة ، لأنه على خلاف العادة ، فلا يتيسر لكل أحد الوصول إليه مشافهة بل بالوسائط ، فيكثر احتمال الكذب ، بخلاف الناظر فإنه لا يكابر نفسه ، ولأنه أقرب إلى الوقوع في الصواب .

إن قلت : ما ذكرت من الجواب إنما يدل على كون النظر أولى من التقليد ، ولا يدل على عدم جوازه ، فجواز التقليد باق لم يندفع ، على أن ما ذكرته من احتمال الكذب جار في الفروع ، فلو منع من التقليد فيها لمنع في الأصول .

قلت : متى سلمت الأولوية وجب العمل بها ، وإلا لزم العمل بالمرجوح مع تيسر العمل بالراجح ، وهو باطل بالإجماع ، لا سيما في الإعتقاديات .

وأما الجواب عن العلاوة ، فلأنه لما كان الطريق إلى العمل بالفروع إنما هو النقل ساغ لنا التقليد فيها ، ولم يقدح احتمال كذب المخبر ، وإلا لانسد باب العمل فيها ،

١٨٧
 &

بخلاف الإعتقادات فإن الطريق إليها بالنظر ميسر ، فاعتبر قدح الإحتمال في التقليد فيها .

وأما احتمال الخطأ في النظر ، فإنه وإن أمكن إلا أنه نادر جداً بالقياس إلى الخطأ في النقل ، فكان النظر أرجح ، وقد بينا أن العمل بالأرجح واجب .

وأجيب عن الثاني : أولاً بالمنع من كونها أغمض أدلة ، بل الأمر بالعكس لتوقف الشرعيات على العقليات عملاً وعلماً .

وثانياً بالمنع من الملازمة ، فإن كونها أغمض أدلة لا يستلزم جواز التقليد فيها فضلاً عن كونه أولى ، لأن المطلوب فيها اليقين ، بخلاف الشرعيات فإن المطلوب فيها الظن اتفاقاً . ومن هذا ظهر الجواب عن الثالث .

واحتجوا أيضاً : بأن هذه العلوم إنما تحصل بعد الممارسة الكثيرة والبحث الطويل ، وأكثر الصحابة لم يمارسوا شيئاً منها ، فكان اعتقادهم عن تقليد .

وأجيب : بأنهم لمشاهدتهم المعجزات وقوة معارفهم بكثرة البينات من صاحب الوحي عليه‌السلام لم يحتاجوا في تيقن تلك المعارف إلى بحث كثير في طلب الأدلة عليها .

أقول : ومما يبطل به مذهب القائلين بالتقليد أنه إما أن يفيد العلم أولاً ، فإن أفاده لزم اجتماع الضدين فيما لو قلد واحداً في قدم العالم وآخر في حدوثه ، وهو ظاهر . وإن لم يفده وجب ترجيح النظر عليه ، إذ من المعلوم ضرورة أن النظر الصحيح يفيد العلم ، فإذا ترجح النظر عليه وجب اعتباره وترك المرجوح اجماعاً .

وأقول : مما يدل على اعتبار اليقين في الإيمان أن الأمة فيه على قولين : قول باعتبار اليقين فيما يتحقق به الإيمان . وقول بالإكتفاء بالتقليد أو ما في حكمه فإذا انتفى الثاني بما ذكرناه من الأدلة ثبت الأول .

وأقول أيضاً مما يصلح شاهداً على ذلك قوله تعالى : قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ، فنفى ما زعموه إيماناً ، وهو التصديق القولي ، بل ما سوى التصديق الجازم ، حيث لم يثبت لهم من الإيمان

١٨٨
 &

إلا ما دخل القلب . ولا ريب أن ما دخل القلب يحصل به الإطمئنان ، ولا اطمئنان في الظن وشبهه لتجويز النقيض معه ، فيكون الثبات والجزم معتبراً في الإيمان .

فإن قلت : قوله تعالى حكاية عن إبراهيم : أو لم تؤمن ؟ قال بلى ، ولكن ليطمئن قلبي ، يدل على أن الجزم والثبات غير معتبر في الإيمان ، وإلا لما أخبر عليه‌السلام عن نفسه بالإيمان ، بقوله بلى مع أن قوله ( وَلَـٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) يدل على أنه لم يكن مطمئناً فلم يكن جازماً .

قلت : يمكن الجواب بأنه عليه‌السلام طلب العلم بطريق المشاهدة ، ليكون العلم بإحياء الموتى حاصلاً له من طريق الأبصار والمشاهدة ، ويكون المراد من اطمئنان قلبه عليه‌السلام استقراره وعدم طلبه لشئ آخر بعد المشاهدة ، مع كونه موقناً بإحياء الموتى قبل المشاهدة . أيضاً وليس المراد أنه لم يكن متيقناً قبل الإرائة ، فلم يكن مطمئناً ليلزم تحقق الإيمان مع الظن فقط .

وأيضاً إنما طلب عليه‌السلام كيفية الإحياء ، فخوطب بالإستفهام التقريري على الإيمان بالكيف الذي هو نفس الإحياء ، لأن التصديق به مقدم على التصديق بالكيفية فأجاب عليه‌السلام بلى آمنت بقدرة الله تعالى على الإحياء ، لكني أريد الإطلاع على كيفية الإحياء ، ليطمئن قلبي بمعرفة تلك الكيفية الغريبة ، البديعة ، ولا ريب أن الجهل بمعرفة تلك الكيفية لا يضر بالإيمان ، ولا يتوقف على معرفتها . وأما سؤال الله سبحانه عن ذلك مع كونه عالماً بالسرائر ، فهو من قبيل خطاب المحب لحبيبه .

إن قلت : فما الجواب أيضاً عن قوله تعالى : وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ ، فإنه يفهم من الآية الكريمة وصف الكافر المشرك بالإيمان حال شركه ، إذ الجملة الإسمية حالية ، فضلاً عن الإكتفاء بالظن وما في حكمه في الإيمان ، وهو ينافي اعتبار اليقين .

قلت : لا ، فإن الآية الكريمة إنما دلت على إخباره تعالى عنهم بالإيمان بالصانع والتصديق بوجوده ، لكنهم لم يوحدوه في حالة تصديقهم به ، بل اعتقدوا له شريكاً

١٨٩
 &

تعالى الله عما يشركون . وحينئذ فيجوز كونهم جازمين بوجود الصانع تعالى مع كونهم غير موحدين ، فإن التوحيد مطلب آخر ، فكفرهم كان كذلك ، فلم يتحقق لهم الإيمان الشرعي بل الإيمان جزء منه ، وهو غير كاف .

على أنه يجوز أن يكون المراد من الإيمان المنسوب إليهم في الآية الكريمة التصديق اللغوي ، وقد بينا سابقاً أنه أعم من الشرعي ، وليس النزاع فيه بل في الشرعي . ويكون المعنى والله أعلم : وما يؤمن أكثرهم بلسانه إلا وهو مشرك بقلبه ، أي حال إشراكه بقلبه ، نعوذ بالله من الضلالة . ونسأله حسن الهداية . هذا ما تيسر لنا من المقال في هذا المقام .

ـ شرح المقاصد للتفتازاني ج ١ ص ٢٦٦

. . . . الثالث : أنا لا نسلم أن المعرفة الكاملة لا تحصل إلا بالنظر ، بل قد تحصل بالتعليم على ما يراه الملاحدة . . أو بقول المعصوم على ما يراه الشيعة . . . .

المعرفة والعمل

اشتراط كل منهما بالآخر

ـ نهج البلاغة ج ٤ ص ٥٠

وسئل عليه‌السلام عن الإيمان فقال : الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان .

ـ نهج البلاغة ج ٢ ص ٣٢

. . . وأنه لا ينبغي لمن عرف عظمة الله أن يتعظم ، فإن رفعة الذين يعلمون ما عظمته أن يتواضعوا له ، وسلامة الذين يعلمون ما قدرته أن يستسلموا له .

ـ الكافي ج ١ ص ٤٤

محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن سنان ، عن ابن

١٩٠
 &

مسكان ، عن حسين الصيقل قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : لا يقبل الله عملاً إلا بمعرفة ولا معرفة إلا بعمل ، فمن عرف دلته المعرفة على العمل ، ومن لم يعمل فلا معرفة له . ألا إن الإيمان بعضه من بعض .

ـ الكافي ج ٢ ص ٣٣ ـ ٣٧

علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن بكر بن صالح ، عن القاسم بن بريد قال : حدثنا أبو عمرو الزبيري ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت له : أيها العالم أخبرني أي الأعمال أفضل عند الله ؟ قال : ما لا يقبل الله شيئاً إلا به ، قلت : وما هو ؟ قال : الإيمان بالله الذي لا إلا هو ، أعلى الأعمال درجة وأشرفها منزلة وأسناها حظاً ، قال : قلت ألا تخبرني عن الإيمان أقَوْلٌ هو وعمل أم قولٌ بلا عمل ؟ فقال : الإيمان عمل كله والقول بعض ذلك العمل ، بفرض من الله ، بين في كتابه ، واضح نوره ، ثابتة حجته ، يشهد له به الكتاب ويدعوه إليه .

قال : قلت : صفه لي جعلت فداك حتى أفهمه .

قال : الإيمان حالات ودرجات وطبقات ومنازل ، فمنه التام المنتهى تمامه ومنه الناقص البين نقصانه ومنه الراحج الزائد رجحانه .

قلت : إن الإيمان ليتم وينقص ويزيد ؟

قال : نعم .

قلت : كيف ذلك ؟

قال : لأن الله تبارك وتعالى فرض الإيمان على جوارح ابن آدم وقسمه عليها وفرقه فيها ، فليس من جوارحه جارحة إلا وقد وكلت من الإيمان بغير ما وكلت به أختها ، فمنها قلبه الذي به يعقل ويفقه ويفهم وهو أمير بدنه الذي لا ترد الجوارح ولا تصدر إلا عن رأيه وأمره ، ومنها عيناه اللتان يبصر بهما ، وأذناه اللتان يسمع بهما ، ويداه اللتان يبطش بهما ، ورجلاه اللتان يمشي بهما ، وفرجه الذي الباه من قبله ، ولسانه الذي ينطق به ، ورأسه الذي فيه وجهه . فليس من هذه جارحة إلا وقد وكلت من

١٩١
 &

الإيمان بغير ما وكلت به أختها بفرض من الله تبارك اسمه ، ينطق به الكتاب لها ويشهد به عليها .

ففرض على القلب غير ما فرض على السمع ، وفرض على السمع غير ما فرض على العينين ، وفرض على العينين غير ما فرض على اللسان ، وفرض على اللسان غير ما فرض على اليدين ، وفرض على اليدين غير ما فرض على الرجلين ، وفرض على الرجلين غير ما فرض على الفرج ، وفرض على الفرج غير ما فرض على الوجه .

فأما ما فرض على القلب من الإيمان فالإقرار والمعرفة والعقد والرضا والتسليم بأن لا إلۤه إلا الله وحده لا شريك له ، إلۤهاً واحداً ، لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً ، وأن محمداً عبده ورسوله صلوات الله عليه وآله ، والإقرار بما جاء من عند الله من نبي أو كتاب ، فذلك ما فرض الله على القلب من الإقرار والمعرفة وهو عمله ، وهو قول الله عز وجل : إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ، وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا .

وقال : أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ .

وقال : الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم .

وقال : إِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ . . فذلك ما فرض الله عز وجل على القلب من الإقرار والمعرفة وهو عمله وهو رأس الإيمان .

وفرض الله على اللسان القول التعبير عن القلب بما عقد عليه وأقر به ، قال الله تبارك وتعالى : وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ، وقال : قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم وإلۤهنا وإلۤهكم واحد ونحن له مسلمون . فهذا ما فرض الله على اللسان ، وهو عمله .

وفرض على السمع أن يتنزه عن الإستماع إلى ما حرم الله وأن يعرض عما لا يحل له مما نهى الله عز وجل عنه والإصغاء إلى ما أسخط الله عز وجل ، فقال في ذلك : وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ، ثم استثنى الله عز وجل موضع النسيان فقال :

١٩٢
 &

وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين . وقال : فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب .

وقال عز وجل : قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ .

وقال : وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم .

وقال : وإذا مروا باللغو مروا كراماً . فهذا ما فرض الله على السمع من الإيمان أن لا يصغي إلى ما لا يحل له ، وهو عمله وهو من الإيمان .

وفرض على البصر أن لا ينظر إلى ما حرم الله عليه ، وأن يعرض عما نهى الله عنه مما لا يحل له ، وهو عمله وهو من الإيمان ، فقال تبارك وتعالى : قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ، فنهاهم أن ينظروا إلى عوراتهم وأن ينظر المرء إلى فرج أخيه ويحفظ فرجه أن ينظر إليه . وقال : وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ، من أن تنظر إحداهن إلى فرج أختها وتحفظ فرجها من أن ينظر إليها .

وقال : كل شئ في القرآن من حفظ الفرج فهو من الزنا ، إلا هذه الآية فإنها من النظر .

ثم نظم ما فرض على القلب واللسان والسمع والبصر في آية أخرى فقال : وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ ، يعني بالجلود : الفروج والأفخاذ .

وقال : ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً . فهذا ما فرض الله على العينين من غض البصر عما حرم الله عز وجل ، وهو عملهما وهو من الإيمان .

وفرض الله على اليدين أن لا يبطش بهما إلى ما حرم الله ، وأن يبطش بهما إلى ما أمر الله عز وجل ، وفرض عليهما من الصدقة وصلة الرحم والجهاد في سبيل الله

١٩٣
 &

والطهور للصلاة ، فقال : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ . وقال : فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا . فهذا ما فرض الله على اليدين لأن الضرب من علاجهما .

وفرض على الرجلين أن لا يمشي بهما إلى شئ من معاصي الله ، وفرض عليهما المشي إلى ما يرضي الله عز وجل فقال : وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا ، وقال : وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ، وقال فيما شهدت الأيدي والأرجل على أنفسهما وعلى أربابهما من تضييعهما لما أمر الله عز وجل به وفرضه عليهما : الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ .

فهذا أيضاً مما فرض الله على اليدين وعلى الرجلين وهو عملهما وهو من الإيمان .

وفرض على الوجه السجود له بالليل والنهار في مواقيت الصلاة فقال : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . فهذه فريضة جامعة على الوجه واليدين والرجلين ، وقال في موضع آخر : وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا .

وقال فيما فرض على الجوارح من الطهور والصلاة بها وذلك أن الله عز وجل لما صرف نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الكعبة عن البيت المقدس فأنزل الله عز وجل : وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ، فسمى الصلاة إيماناً فمن لقي الله عز وجل حافظاً لجوارحه موفياً كل جارحة من جوارحه ما فرض الله عز وجل عليها لقي الله عز وجل مستكملاً لإيمانه ، وهو من أهل الجنة . ومن خان في شئ منها أو تعدى ما أمر الله عز وجل فيها لقي الله عز وجل ناقص الإيمان .

قلت : قد فهمت نقصان الإيمان وتمامه ، فمن أين جاءت زيادته .

فقال : قول الله عز وجل : وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ

١٩٤
 &

إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ . وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ . وقال : نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ، ولو كان كله واحداً لا زيادة فيه ولا نقصان لم يكن لأحد منهم فضل على الآخر ، ولاستوت النعم فيه ولاستوى الناس وبطل التفضيل . ولكن بتمام الإيمان دخل المؤمنون الجنة وبالزيادة في الإيمان تفاضل المؤمنون بالدرجات عند الله ، وبالنقصان دخل المفرطون النار .

ـ الكافي ج ٢ ص ٥٥٣

عنه ، عن أبي إبراهيم عليه‌السلام دعاء في الرزق : يا الله يا الله يا الله ، أسألك بحق من حقه عليك عظيم أن تصلي على محمد وآل محمد ، وأن ترزقني العمل بما علمتني من معرفة حقك ، وأن تبسط على ما حظرت من رزقك .

ـ دعائم الإسلام ج ١ ص ٥٢

. . . ثم قال أبو عبد الله جعفر بن محمد صلى الله عليه : . . . . وإنما يقبل الله عز وجل العمل من العباد بالفرائض التي افترضها عليهم بعد معرفة من جاء بها من عنده ودعاهم إليه ، فأول ذلك معرفة من دعا إليه ، وهو الله الذي لا إله إلا هو وحده ، والإقرار بربوبيته ، ومعرفة الرسول الذي بلغ عنه ، وقبول ما جاء به ، ثم معرفة الوصي ثم معرفة الأئمة بعد الرسل الذين افترض الله طاعتهم في كل عصر وزمان على أهله ، والإيمان والتصديق بأول الرسل والأئمة وآخرهم . ثم العمل بما افترض الله عز وجل على العباد من الطاعات ظاهراً وباطناً ، واجتناب ما حرم الله عز وجل عليهم ظاهره وباطنه ، وإنما حرم الظاهر بالباطن ، والباطن بالظاهر معاً جميعاً ، والأصل والفرع ، فباطن الحرام حرام كظاهره ، ولا يسع تحليل أحدهما ، ولا يجوز ولا يحل إباحة شيء منه ، وكذلك الطاعات مفروض على العباد إقامتها ، ظاهرها وباطنها ، لا يجزي إقامة ظاهر منها دون باطن ولا باطن دون ظاهر ، ولا تجوز صلاة الظاهر مع ترك صلاة

١٩٥
 &

الباطن ، ولا صلاة الباطن مع ترك صلاة الظاهر . وكذلك الزكاة ، والصوم والحج والعمرة ، وجميع فرائض الله افترضها على عباده ، وحرماته وشعائره .

ـ وسائل الشيعة ج ١١ ص ٢٦٠

وفي عيون الأخبار بأسانيده عن الفضل بن شاذان ، عن الرضا عليه‌السلام في كتابه إلى المأمون قال : الإيمان هو أداء الأمانة ، واجتناب جميع الكبائر ، وهو معرفة بالقلب ، وإقرار باللسان ، وعمل بالأركان . إلى أن قال : واجتناب الكبائر وهي : قتل النفس التي حرم الله تعالى ، والزنا ، والسرقة ، وشرب الخمر ، وعقوق الوالدين ، والفرار من الزحف ، وأكل مال اليتيم ظلماً ، وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به من غير ضرورة ، وأكل الربا بعد البينة ، والسحت ، والميسر وهو القمار ، والبخس في المكيال والميزان ، وقذف المحصنات ، والزنا ، واللواط ، واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله ، والقنوط من رحمة الله ، ومعونة الظالمين ، والركون اليهم ، واليمين الغموس ، وحبس الحقوق من غير عسر ، والكذب والكبر ، والإسراف والتبذير ، والخيانة ، والإستخفاف بالحج ، والمحاربة لأولياء الله ، والإشتغال بالملاهي ، والإصرار على الذنوب . ورواه ابن شعبة في ( تحف العقول ) مرسلاً نحوه .

ـ وروت مصادر إخواننا السنة اقتران المعرفة والعمل عن علي عليه السلام ، ففي كنز العمال ج ١ ص ٢٧٣ عن علي قال : سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الإيمان ما هو ؟ قال : معرفة بالقلب ، وإقرار باللسان ، وعمل بالأركان ـ أبو عمرو بن حمدان في فوائده .

ـ وفي سنن ابن ماجة ج ١ ص ٢٥

حدثنا سهل بن أبي سهل ومحمد بن إسماعيل قالا ثنا عبد السلام بن صالح أبو الصلت الهروي ، ثنا علي بن موسى الرضا ، عن أبيه ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن علي بن أبي طالب قال قال رسول الله صلی الله عليه وسلم : الإيمان معرفة بالقلب وقول باللسان وعمل بالأركان . قال أبو الصلت :

١٩٦
 &

لو قرئ هذا الإسناد على مجنون لبرأ . انتهى ورواه البيهقى في شعب الإيمان ج١ ص ٤٧ ورواه في كنز العمال ج ١ ص ٢٧٣ ، بعدة روايات عن علي عليه‌السلام . ونحوه الجزري في أسنى المطالب ج ١ ص ١٢٥

ـ وفي مروج الذهب للمسعودي ج ٤ ص ١٧١

قال علي بن محمد بن علي بن موسى عن أبيه عن أجداده عن علي رضي‌الله‌عنه قال رسول الله ( ص ) : أكتب يا علي ، قلت وما أكتب ؟

قال لي : أكتب : بسم الله الرحمن الرحيم . الإيمان ما وقرته القلوب ، وصدقته الأعمال ، والإسلام ما جرى به اللسان ، به المناكحة .

ـ وفي إرشاد الساري ج ١ ص ٨٦ ـ ٨٧

الإيمان قول وفعل . . وهو موافق لقول السلف اعتقاد بالقلب ونطق اللسان . وقال المتأخرون منهم الأشعرية ، ووافقهم ابن الراوندي من المعتزلة : هو تصديق الرسول ( ص ) بما علم مجيئه به . . . .

إذا تقرر هذا فاعلم أن الايمان ( يزيد ) بالطاعة ( وينقص ) بالمعصيه كما عند المؤلف وغيره وأخرجه أبو نعيم . . . . بل قال به من الصحابه عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب . . . . ومن التابعين كعب الأحبار . . . . وعمر بن عبد العزيز . . . . أما توقف مالك رحمه‌الله عن القول بنقصانه فخشية أن يتأول عليه موافقة الخوارج .

أفضل الأعمال بعد معرفة العقائد

ـ الكافي ج ٢ ص ١٣٠ و ٣١٧

محمد بن مسلم بن عبيد الله قال سئل علي بن الحسين عليهما‌السلام أي الأعمال أفضل عند الله ؟ قال : ما من عمل بعد معرفة الله عز وجل ومعرفة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل من بغض الدنيا فإن لذلك لشعباً كثيرة ، وللمعاصي شعب فأول ما عصي الله به الكبر ، معصية إبليس حين أبى واستكبر وكان من الكافرين ، ثم الحرص وهي معصية آدم

١٩٧
 &

وحواء عليهما‌السلام حين قال الله عز وجل لهما : فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ . فأخذا ما لا حاجة بهما إليه ، فدخل ذلك على ذريتهما إلى يوم القيامة ، وذلك أن أكثر ما يطلب ابن آدم ما لا حاجة به إليه ، ثم الحسد وهي معصية ابن آدم حيث حسد أخاه فقتله ، فتشعب من ذلك حب النساء وحب الدنيا وحب الرئاسة وحب الراحة وحب الكلام وحب العلو والثروة ، فصرن سبع خصال فاجتمعن كلهن في حب الدنيا ، فقال الأنبياء والعلماء بعد معرفة ذلك : حب الدنيا رأس كل خطيئة ، والدنيا دنيا آن : دنيا بلاغ ، ودنيا ملعونة . انتهى . ورواه في وسائل الشيعة ج ١١ ص ٣٠٨

ـ الكافي ج ٣ ص ٢٦٤

ـ حدثني محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسن بن محبوب ، عن معاوية بن وهب قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن أفضل ما يتقرب به العباد إلى ربهم وأحب ذلك إلى الله عز وجل ما هو ؟ فقال : ما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة ، ألا ترى أن العبد الصالح عيسى ابن مريم عليه‌السلام قال : وأوصاني بالصلاة والزكوة ما دمت حياً . انتهى . ورواه في وسائل الشيعة ج ١ ص ١٧ وج ١١ ص ٣٠٨

أقل ما يجب ، وأقصى ما يمكن ، من المعرفة

ـ الكافي ج ١ ص ٩١

محمد بن أبي عبد الله رفعه ، عن عبد العزيز بن المهتدي قال : سألت الرضا عليه‌السلام عن التوحيد فقال : كل من قرأ قل هو الله احد وآمن بها فقد عرف التوحيد ، قلت : كيف يقرؤها ؟ قال : كما يقرؤها الناس وزاد فيه كذلك الله ربي ، كذلك الله ربي .

ـ الكافي ج ١ ص ٩١

أحمد بن ادريس ، عن محمد بن عبد الجبار ، عن صفوان بن يحيى ، عن أبي أيوب ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إن اليهود سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

١٩٨
 &

فقالوا : أنسب لنا ربك ، فلبث ثلاثاً لا يجيبهم ثم نزل : قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ، إلى آخرها .

ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، ومحمد بن الحسين ، عن ابن محبوب ، عن حماد بن عمرو النصيبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألت أبا عبد الله عن قل هو الله أحد فقال : نسبة الله إلى خلقه أحداً صمداً أزلياً صمدياً لا ظل له يمسكه وهو يمسك الأشياء بأظلتها ، عارف بالمجهول ، معروف عند كل جاهل ، فردانياً ، لا خلقه فيه ولا هو خلقه ، غير محسوس ولا محسوس ، لا تدركه الأبصار ، علا فقرب ودنا فبعد ، وعصي فغفر وأطيع فشكر ، لا تحويه أرضه ولا تقله سماواته ، حامل الأشياء بقدرته ديمومي أزلي لا ينسى ولا يلهو ولا يغلط ولا يلعب ، ولا لإرادته فصل وفصله جزاء وأمره واقع ، لم يلد فيورث ولم يولد فيشارك ، ولم يكن له كفواً أحد .

ـ دعائم الإسلام ج ١ ص ١٣

وعنه صلوات الله عليه أنه قيل له : يا أمير المؤمنين ما أدنى ما يكون به العبد مؤمناً ، وما أدنى ما يكون به كافراً ، وما أدنى ما يكون به ضالاً ؟

قال : أدنى ما يكون به مؤمناً أن يعرفه الله نفسه فيقر له بالطاعة ، وأن يعرفه الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله فيقر له بالطاعة ، وأن يعرفه الله حجته في أرضه وشاهده على خلقه فيعتقد إمامته فيقر له بالطاعة .

قيل : وإن جهل غير ذلك ؟ قال : نعم ولكن إذا أمر أطاع وإذا نهي انتهى .

وأدنى ما يصير به مشركاً أن يتدين بشئ مما نهى الله عنه فيزعم أن الله أمر به ، ثم ينصبه ديناً ويزعم أنه يعبد الذي أمر به وهو غير الله عز وجل . وأدنى ما يكون به ضالاً أن لا يعرف حجة الله في أرضه وشاهده على خلقه فيأتم به .

ـ الرسائل للشيخ الأنصاري ج ١ ص ٢٧٥

وقد ذكر العلامة في الباب الحادي عشر فيما يجب معرفته على كل مكلف ، من تفاصيل التوحيد والنبوة والإمامة والمعاد ، أموراً لا دليل على وجوبها كذلك ، مدعياً

١٩٩
 &

أن الجاهل بها عن نظر واستدلال خارج عن ربقة الإيمان مستحق للعذاب الدائم . وهو في غاية الإشكال .

نعم يمكن أن يقال : إن مقتضى عموم وجوب المعرفة ، مثل قوله تعالى : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ، أي ليعرفون . وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وما أعلم بعد المعرفة أفضل من هذه الصلوات الخمس ، بناء على أن الأفضلية من الواجب ، خصوصاً مثل الصلاة ، تستلزم الوجوب .

وكذا عمومات وجوب التفقه في الدين الشامل للمعارف بقرينة استشهاد الإمام عليه‌السلام بها ، لوجوب النفر لمعرفة الإمام بعد موت الإمام السابق عليه‌السلام وعمومات طلب العلم هو وجوب معرفة الله جل ذكره ومعرفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام عليه‌السلام ومعرفة ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على كل قادر يتمكن من تحصيل العلم ، فيجب الفحص حتى يحصل اليأس ، فإن حصل العلم بشئ من هذه التفاصيل اعتقد وتدين به ، وإلا توقف ولم يتدين بالظن لو حصل له .

ومن هنا قد يقال : إن الإشتغال بالعلم المتكفل لمعرفة الله ومعرفة أوليائه صلوات الله عليهم أهم من الإشتغال بعلم المسائل العلمية بل هو المتعين ، لأن العمل يصح عن تقليد ، فلا يكون الإشتغال بعلمه إلا كفائياً بخلاف المعرفة .

هذا ، ولكن الإنصاف ممن جانب الإعتساف يقتضي الإذعان بعدم التمكن من ذلك إلا للأوحدي من الناس ، لأن المعرفة المذكورة لا تحصل إلا بعد تحصيل قوة استنباط المطالب من الأخبار وقوة نظرية أخرى لئلا يأخذ بالأخبار المخالفة للبراهين العقلية ، ومثل هذا الشخص مجتهد في الفروع قطعاً ، فيحرم عليه التقليد . ودعوى جوازه له للضرورة ليس بأولى من دعوى جواز ترك الإشتغال بالمعرفة التي لا تحصل غالباً بالأعمال المبتنية على التقليد .

هذا إذا لم يتعين عليه الإفتاء والمرافعة لأجل قلة المجتهدين . وأما في مثل زماننا فالأمر واضح .

٢٠٠