موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

لأنّه مأمور واقعاً بالتيمّم هناك بخلاف ما نحن فيه.

______________________________________________________

مبغوض والمبغوض لا يمكن التقرب به ولا يقع مصداقاً للواجب.

وأما إذا كان ناسياً فيحكم على وضوئه بالصحّة ، لأن حديث رفع النسيان حاكم على أدلّة الأحكام وموجب لارتفاعها عند النسيان ، فالوضوء حينئذ غير محرم في حق الناسي واقعاً وليس رفعه رفعاً ظاهرياً كما في « ما لا يعلمون » ، وحيث إن المفروض أنه مكلف بالوضوء لقدرته على التوضؤ بأقل ما يجزئ في غسله ، وهو كما إذا فرضنا ماءين أحدهما مضر في حقه لشدّة حرارته أو برودته والآخر غير مضر وقد توضأ ممّا يضرّه فهو مكلّف بالوضوء ، ولا مانع في الفرد المأتي به لعدم حرمته واقعاً فلا محالة تنطبق عليه الطبيعة المأمور بها ويكون الإتيان به مجزياً في مقام الامتثال. وتوهم أن حديث نفي الضرر يوجب تقييد الطبيعة المأمور بها بغير ذلك الفرد المضر ، مندفع بأن شأن قاعدة نفي الضرر هو رفع الأحكام لا إثباتها ولو مقيّدة ، ولا مورد للنفي في المقام ، حيث إن الفرد غير محكوم بحكم حتى ترفعه القاعدة ، لأنّ الحكم مترتب على الطبيعة دون الفرد. هذا كله في موارد النسيان.

وأمّا إذا كان جاهلاً بالضرر فلا يمكن الحكم بصحّة الوضوء حينئذ ، لما ذكرناه غير مرّة من أن الجهل بالحرمة والمبغوضية لا يرفع الحرمة ولا يجعل ما ليس بمقرّب مقرّباً ، وبعبارة اخرى : أن النهي في العبادة يوجب الفساد مطلقاً كان عالماً بالحرمة أم جاهلاً بها ، نعم الجهل عذر في ارتكابه الحرام ؛ وأما الصحّة فلا ، لأنه مبغوض واقعي والمبغوض لا يكون مقرّبا.

ومن جملة فروع المسألة : ما إذا كان أصل استعمال الماء مضراً في حقه ولو بأقل مما يجزئ في الوضوء ، فقد حكم في المتن ببطلان الوضوء حينئذ في صورة العلم وقال : إنه يمكن الحكم ببطلانه في صورة الجهل والنسيان أيضاً نظراً إلى أنه غير مكلف بالوضوء واقعاً وإنما هو مأمور بالتيمم ، فلو توضأ وقع وضوءه باطلاً لا محالة‌

٦١

هذا وقد تقدّمت هذه المسألة في شرائط الوضوء وحكم قدس‌سره هناك بصحّة الوضوء في صورة الجهل والنسيان (١) ، إلاّ أنه في المقام ذكر أنه يمكن الحكم ببطلانه في كلتا الصورتين ، والصحيح هو ما أفاده هناك.

وذلك أمّا في صورة النسيان فلما مرّ من أن النسيان يرفع الحرمة الواقعية ، ومع إباحة الفرد وعدم حرمته لا مانع من أن تنطبق عليه الطبيعة المأمور بها. ودعوى أنه غير مأمور بالوضوء حينئذ بل مأمور بالتيمم فاسدة ، لأنه مأمور بالوضوء لتمكنه من استعمال الماء عقلاً وهو ظاهر وشرعاً ، لعدم حرمته عليه واقعاً لأجل نسيانه. ودعوى أنه وإن لم يكن محرماً عليه إلاّ أن مقتضى حديث نفي الضرر تقيد الأمر بالوضوء بغير ما كان موجباً للضرر ، فالوضوء المضر مما لا يتعلق به أمر ، غير مسموعة لأنه إنما يجري مع الامتنان ، وأي امتنان في الحكم بفساد الوضوء الذي أتى به الناسي بعد نسيانه.

نعم يجري الحديث في صورة العلم بالضرر وإن قلنا بعدم حرمته ويوجب تقييد الأمر بالوضوء بغير صورة الضرر لأنه على وفق الامتنان ، لوضوح أن رفع الإلزام والتكليف والحكم بأنك غير مكلف بالوضوء موافق مع الامتنان ، ومع شمول الحديث والحكم بعدم وجوب الوضوء لو أتى به يقع فاسداً ، إذ لا مسوغ في عمله ولا أمر له فهو فاسد.

وأمّا في صورة الجهل فإن كان الضرر من القسم المحرّم فلا إشكال في الحكم ببطلان الوضوء ، لأنه عمل محرم مبغوض واقعاً والمبغوض لا يقع مقرباً ومصداقاً للواجب فيفسد. وقد عرفت أن الجهل عذر وغير رافع للحرمة والمبغوضية الواقعية وأمّا إذا لم يكن من القسم المحرّم فإن قلنا بمقالة المشهور وحكمنا بحرمة مطلق الضرر فأيضاً لا بدّ من الحكم بالفساد ، لأنه مبغوض واقعي والمحرّم والمبغوض لا يكون مقرّباً ولا يقع مصداقاً للواجب ، ومن هنا قلنا إن النهي في العبادة يقتضي الفساد‌

__________________

(١) السابع من شرائط الوضوء. بعد المسألة [٥٥٩].

٦٢

[٥٧٤] مسألة ٣٥ : إذا توضأ ثمّ ارتدّ لا يبطل وضوءه (١) فإذا عاد إلى الإسلام لا يجب عليه الإعادة ، وإن ارتد في أثنائه ثمّ تاب قبل فوات الموالاة لا يجب عليه الاستئناف ، نعم الأحوط أن يغسل بدنه من جهة الرطوبة التي كانت عليه حين الكفر ، وعلى هذا إذا كان ارتداده بعد غسل اليسرى وقبل المسح ثمّ تاب يشكل المسح لنجاسة الرطوبة التي على يديه.

______________________________________________________

مطلقاً علم بحرمته أم جهل بها. وأما إذا أنكرنا حرمته كما هو الصحيح فلا بدّ من الحكم بصحّته لأنه عمل مباح ، والمكلّف متمكن من الوضوء شرعاً وعقلاً فتنطبق عليه الطبيعة المأمور بها فيصح ، ومن هنا يظهر أنه لا فرق بين كون أصل الاستعمال مضراً وبين ما إذا كان الزائد على أقل ما يجزئ في الوضوء مضرّاً ، لأنه في صورة النسيان محكوم بالصحّة في كلتا الصورتين ، وفي صورة الجهل مبني على الخلاف من حرمته وعدمها ، وفي صورة العلم محكوم بالفساد لحديث نفي الضرر في الصورة الأخيرة ولحرمة الفرد ومبغوضيّته في الصورة الأُولى بناءً على مسلك المشهور من حرمة الإضرار مطلقاً ، وأمّا على ما ذكرناه من عدم حرمة الإضرار على وجه الإطلاق فلا مانع من الحكم بالصحّة في صورة العلم عند كون الزائد مضرّا.

عدم مبطليّة الارتداد‌

(١) لعدم الدليل على مبطليّة الارتداد ، بل الدليل على عدم المبطليّة موجود وهو إطلاقات أوامر الغسل والمسح ، سواء تحقق الكفر والارتداد في أثنائها أم لم يتحقق مضافاً إلى أن النواقض محصورة وليس منها الارتداد. وأما استمرار النيّة فالمرتد وإن انصرف عن نيّته في أثناء الوضوء لا محالة إلاّ أنك عرفت أن الاستمرار إنما يعتبر في الأجزاء دون الآنات المتخللة بينها فلا يبطل وضوءه من حيث الارتداد ، فلو تاب بعد ذلك بحيث لم تفته الموالاة صحّ وضوءه ، فيشرع من الأجزاء الباقية ولا يجب عليه الاستئناف.

نعم إذا قلنا بعدم كون رطوبة ماء الوضوء في أعضائه من الرطوبات التبعيّة كريق‌

٦٣

[٥٧٥] مسألة ٣٦ : إذا نهى المولى عبده عن الوضوء في سعة الوقت إذا كان مفوّتاً لحقه فتوضأ يشكل الحكم بصحّته (١)

______________________________________________________

فم الكافر والمرتد أو عرقه ونحوهما ، وحكمنا بنجاستها لنجاسة بدنه بالارتداد فلا بدّ من أن يطهر أعضاءه السابقة بماء آخر ثمّ يشرع في الباقي من أجزاء وضوئه إذا لم تفته الموالاة بذلك ، لئلاّ تتنجّس يده اليسرى باليمنى لتنجّس ماء الوضوء فيبطل. ومن هنا يظهر أنه إذا ارتد بعد غسل يده اليسرى قبل مسحه ثمّ تاب لا طريق إلى أن يصحح وضوءه ، لأنه حينئذ لا بدّ من أن يطهر جميع أعضائه ليكون مسحه بالماء الطاهر ومع إزالة البلّة الوضوئية بغسلها لا يتمكّن من المسح الصحيح لأنه يعتبر أن يكون بالبلة الباقية في اليد من ماء الوضوء ولا يجوز بالماء الجديد ، إلاّ أن البطلان حينئذ من جهة فقد شرط المسح لا من جهة ناقضية الارتداد.

التوضؤ مع نهي المولى أو الزوج ونحوهما‌

(١) أما في العبد وسيِّده فالأمر كما أفاده ، وهذا لا لأن الأمر بإطاعة السيِّد يقتضي النهي عن ضدّه وهو الوضوء ، لأنا ذكرنا في محلِّه أن الأمر بالشي‌ء لا يقتضي النهي عن ضدّه (١) بل صحّحنا ضدّه العبادي بالترتب على ما قررناه في محلِّه (٢) ، بل من جهة أن جميع أفعال العبد ومنافعه كنفسه مملوكة لسيِّده ، فإذا وقع الوضوء الذي هو من جملة أفعاله بغير رضاه حيث إنه أمره بشي‌ء آخر ، فقد وقع محرّماً لأنه تصرّف في سلطان الغير بغير إذنه ، والمحرّم لا يقرب ولا محالة يقع فاسداً. نعم الحركات والأفعال اليسيرة كحك البدن وغسل اليدين والوجه ونحوهما لا يتوقف على إذن السيِّد للسيرة المستمرة الجارية على عدم استئذان العبد سيِّده في حكّ بدنه بحيث لولاه وقع محرماً ، إلاّ أن السيرة مختصّة بما إذا لم ينه عنه المولى وأما مع نهيه فلا بدّ من الحكم‌

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٣ : ٨ وما بعدها.

(٢) محاضرات في أُصول الفقه ٣ : ١٠٢ ١٣٣.

٦٤

وكذا الزوجة (*) إذا كان وضوءها مفوتاً لحق الزوج والأجير مع منع المستأجر وأمثال ذلك (١).

[٥٧٦] مسألة ٣٧ : إذا شكّ في الحدث بعد الوضوء (٢) بنى على بقاء الوضوء‌

______________________________________________________

بحرمته ومبغوضيته ولا سيرة فيه على الجواز ، ومع الحرمة يقع فاسدا.

(١) وأما في الزوج والزوجة فالصحيح الحكم بالصحّة لأن المحرّم على الزوجة حينئذ تفويت حق زوجها ، وأما عملها فهو مملوك لها ولا يحرم من جهة استلزامه التفويت ، لأن الأمر بالشي‌ء لا يقتضي النهي عن ضدّه ، بل هذه العبادة ضد عبادي محكوم بالصحّة بالترتب كما سبق.

وأمّا الأجير والمستأجر فالحق فيه التفصيل ، لأنه إن استأجره في أفعال خاصّة وأشغال مشخّصة كخياطة ثوب وكنس دار ونحوهما ، فالمملوك للمستأجر إنما هو هذا العمل فيجب على الأجير تسليم ملك المالك إليه ، فإذا اشتغل بشغل آخر في أثناء الخياطة فهو مملوك لنفسه وإن كان موجباً للعصيان لعدم تسليم مال المالك إليه ، فإذا كان ملك نفسه فهو حلال لأن الأمر بالشي‌ء لا يقتضي النهي عن ضدّه فيحكم بصحّته كما عرفت في الزوج والزوجة. وأما إذا كان أجيراً مطلقاً له فجميع أعماله ومنافعه مملوكة للمستأجر فالوضوء الذي هو من أحد أفعاله مملوك للمستأجر ، ومع عدم إذنه يقع محرماً لأنه تصرف في سلطان الغير من غير إذنه فيحرم ، ومعه يحكم ببطلانه لا محالة.

صور الشك في الحدث بعد الوضوء الصورة الأُولى :

(٢) قد يشك في الحدث بسبب خروج رطوبة مشتبهة بين البول والمذي ونحوه‌

__________________

(*) الظاهر صحّة وضوئها وإن أثمت بتفويتها حق الزوج ، وكذلك الحال في الأجير الخاص.

٦٥

إلاّ إذا كان سبب شكّه خروج رطوبة مشتبهة بالبول ولم يكن مستبرئاً فإنّه حينئذ يبني على أنّها بول وأنّه محدث ، وإذا شكّ في الوضوء بعد الحدث يبني على بقاء الحدث ، والظن غير المعتبر كالشك في المقامين. وإن علم الأمرين وشكّ في‌

______________________________________________________

قبل الاستبراء ، فلا بدّ حينئذ من أن يبني على أنه بول وأنه محدث فيجب عليه الوضوء ، وهذا للروايات الواردة في البلل المردد قبل الاستبراء (١).

الصورة الثانية :

وأُخرى يشك في الحدث من جهة تحقق الحدث وعدمه ، أو من جهة أن الموجود حدث أو لا بعد الاستبراء كما في البلل المشتبه ، فحينئذ يبني على طهارته وبقاء وضوئه. وهذه المسألة مضافاً إلى أنها متسالم عليها بين أصحابنا بل بين المسلمين قاطبة ولم ينسب الخلاف فيها إلاّ لبعض العامّة وهم المالكية فحسب (٢) مما يدل عليها صحيحة زرارة في « الرجل ينام وهو على وضوء أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال : يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والأُذن فإذا نامت العين والأُذن والقلب وجب الوضوء ، قلت : فإن حرك على جنبه شي‌ء ولم يعلم به؟ قال عليه‌السلام : لا ، حتى يستيقن أنه قد نام ، حتى يجي‌ء من ذلك أمر بيِّن ، وإلاّ فإنه على يقين من وضوئه ، ولا تنقض اليقين أبداً بالشك » (٣) لأنها وإن كانت واردة في الشك في النوم إلاّ أن ذيلها يدلّ على أن اليقين لا ينقض بالشك مطلقاً ، بلا فرق في ذلك بين‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٨٢ / أبواب نواقض الوضوء ب ١٣.

(٢) ففي الفقه على المذاهب الأربعة ١ : ٨٧ عند قولهم : ولا ينتقض بالشك في الحدث. المالكية قالوا ينتقض الوضوء بالشك في الحدث أو سببه ، كأن يشك بعد تحقق الوضوء هل خرج منه ريح أو مسّ ذكره مثلاً أو لا ، أو شك بعد تحقق الناقض هل توضأ أو لا ، أو شك بعد تحقق الناقض والوضوء هل السابق الناقض أو الوضوء ، فكل ذلك ينقض الوضوء لأن الذمّة لا تبرأ إلاّ باليقين ، والشاك لا يقين عنده.

(٣) الوسائل ١ : ٢٤٥ / أبواب نواقض الوضوء ب ١ ح ١.

٦٦

المتأخِّر منهما بنى على أنه محدث إذا جهل تأريخهما أو جهل تأريخ الوضوء ، وأمّا إذا جهل تأريخ الحدث وعلم تأريخ الوضوء بنى على بقائه (*) ، ولا يجري استصحاب الحدث حينئذ حتى يعارضه ، لعدم اتصال الشكّ باليقين به حتى يحكم ببقائه‌

______________________________________________________

الشك من جهة النوم أو البول أو غيرهما من الأحداث.

وموثقة بكير : « إذا استيقنت أنك قد أحدثت فتوضأ ، وإياك أن تحدث وضوءاً أبداً حتى تستيقن أنك قد أحدثت » (٢) حيث نهت عن الوضوء مع الشك في الحدث وأنه ما دام لم يتيقن بالحدث لا يجوز له الوضوء ، اللهمّ إلاّ أن يتوضأ بنيّة التجديد لأنه خارج عن الموثقة بدليله ، وبه تحمل الموثقة على الوضوء الواجب ، لأنّ الإتيان به بنيّة الوجوب مع عدم العلم بالحدث تشريع محرم.

وصحيحة عبد الرحمن « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أجد الريح في بطني حتى أظن أنها قد خرجت ، فقال عليه‌السلام : ليس عليك وضوء حتى تسمع الصوت أو تجد الريح » (٣) نعم هي تختص بالشك من جهة الريح ، وإنما يتعدى عنها إلى غيرها بالقطع بعدم الفرق. وعلى الجملة إذا شك في الحدث يبني على طهارته السابقة حتى يقطع بحدثه ، وهذا مما لا إشكال فيه هذا.

وقد نقل صاحب الحدائق قدس‌سره في هذه المسألة قولين وتفصيلين آخرين.

تفصيلان نقلهما في الحدائق (٤)

أحدهما : ما نسبه إلى بعض المحقِّقين من المتأخِّرين من اختصاص جريان الاستصحاب‌

__________________

(*) بل بنى على الحدث ، فيجب عليه تحصيل الطهارة لما هو مشروط بها كما في الصورتين الأُوليين.

(١) الوسائل ١ : ٢٤٧ / أبواب نواقض الوضوء ب ١ ح ٧.

(٢) الوسائل ١ : ٢٤٦ / أبواب نواقض الوضوء ب ١ ح ٥.

(٣) الحدائق ٢ : ٣٩٨ ٣٩٩.

٦٧

والأمر في صورة جهلهما أو جهل تأريخ الوضوء (*) وإن كان كذلك إلاّ أن مقتضى شرطية الوضوء وجوب إحرازه ، ولكن الأحوط الوضوء في هذه الصورة أيضاً.

______________________________________________________

بما إذا لم يظن بالخلاف وأنه لا يجري معه ، وهذه الدعوى مبنيّة على حمل الشك في روايات الاستصحاب على معناه المصطلح عليه ، أعني تساوي الطرفين المقابل للظن والوهم واليقين كما هو اصطلاح الفلاسفة ، وعليه يختص الاستصحاب بصورة الشك المصطلح عليه وتعم صورة الظن بالوفاق ، لأنه إذا جرى عند الشك يجري عند الظن ببقاء الحالة السابقة بطريق أولى ، فلا يجري مع الظن بالخلاف.

إلاّ أنه ممّا لا وجه له ، وذلك لأن الشك مضافاً إلى أنه في اللغة بمعنى عدم العلم وخلاف اليقين ظنا كان أو غيره ، لأن تخصيصه بما يقابل الظن والوهم واليقين اصطلاح جديد بمعنى خلاف اليقين في أخبار الاستصحاب ، وذلك لقرينتين في نفس صحيحة زرارة :

الأُولى : قوله عليه‌السلام : « لا ، حتى يستيقن أنه قد نام ، ويجي‌ء من ذلك أمر بين ، وإلاّ فإنه على يقين من وضوئه » إلخ وفي ذيل هذه الصحيحة « وإنما تنقضه بيقين آخر » حيث حكم ببقاء الوضوء حتى يتيقن بالنوم وما دام لم يتيقن به فهو محكوم بالطّهارة ، سواء ظنّ بالنوم أم شكّ فيه.

والثانية : قول السائل : « فإن حرك على جنبه شي‌ء ولم يعلم به ، قال : لا » لأنّ التحريك في جنبه مع عدم علمه به ولو لم يكن ملازماً دائماً مع الظن بالنوم فلا أقل من أنه يلازمه كثيراً ، ولا أقل من أن استلزامه الظن بالنوم ليس من الأفراد النادرة ومع كونه كذلك يكون ترك تفصيل الإمام عليه‌السلام في الجواب دليلاً على جريان استصحاب الطّهارة مطلقاً ، سواء ظنّ بالنوم أم شكّ فيه. وهاتان القرينتان تدلاّن على‌

__________________

(*) لا يبعد أن يكون هذا من سهو القلم.

٦٨

أنّ الشك المأخوذ في روايات الاستصحاب إنما هو بمعنى عدم اليقين على وفق معناه لغة هذا.

مضافاً إلى إطلاق الموثقة والصحيحة الأخيرة حيث لم يستفصلا في الحكم بعدم جواز الوضوء بين الظنّ بالحدث وبين الشك فيه ، بل الأخيرة صريحة في جريان الاستصحاب مع الظن بالحدث ، إلاّ أنها مختصة بخصوص الشك في الطّهارة من جهة الريح ، وإنما نتعدى عنها إلى غيرها بالقطع بعدم الفرق ، فما نسب إلى بعض المحققين من المتأخرين مما لا دليل عليه.

وثانيهما : ما حكاه عن شيخنا البهائي قدس‌سره في الحبل المتين من أن المكلّف تختلف حالاته ببعده عن زمان اليقين وقربه منه ، لأنه أوّلاً يظنّ ببقاء الحالة السابقة ثمّ بمرور الزمان يضعف ظنّه هذا حتى يتبدل بالشك ، بل إلى الظن بالخلاف والاعتبار بالظن بالوفاق وببقاء الحالة السابقة وإن ضعف (١) ، ثمّ نقل عن العلاّمة عدم الفرق في الاستصحاب بين الظنّ بالبقاء وعدمه وردّه.

وهذا الذي ذهب إليه شيخنا البهائي مما لا دليل عليه أصلاً ، بل هو أضعف من التفصيل الأوّل ، لأن له وجهاً لا محالة وإن أبطلناه كما مر ، وأما هذا التفصيل فهو مما لا وجه لو بوجه ، وذلك لأن الشك مأخوذ في روايات الاستصحاب بلا ريب ، وهو إما بمعنى الشك المصطلح عليه وإما بمعنى خلاف اليقين ، وعلى أي حال يشمل الشك المصطلح عليه قطعاً ، وكيف يمكن تخصيصه بالظن بالبقاء فقط هذا. مضافاً إلى إطلاق الموثقة وصحيحة عبد الرحمن المتقدِّمتين ، لأنهما مطلقتان ولم تقيدا الاستصحاب إلاّ باليقين بالخلاف فتشملان صورة الظن بالبقاء والشك والظن بالخلاف والارتفاع ، هذا كله فيما إذا شك في الحدث بعد العلم بالطّهارة.

ومنه يظهر الحال في عكسه وهو ما إذا شك في الطهارة بعد علمه بالحدث ، لأنه يبني على بقاء حدثه ، وذلك لأنه وإن لم يكن منصوصاً كما في الصورة الأُولى إلاّ أنا‌

__________________

(١) حبل المتين : ٣٧.

٦٩

بيّنا في محلِّه عدم اختصاص روايات الاستصحاب بمورد دون مورد ، وأنه قاعدة كبروية تجري مع الشك في البقاء بلا فرق في ذلك بين الطّهارة والحدث (١) هذا. على أنه يكفينا في الحكم بوجوب الوضوء في هذه المسألة أصالة الاشتغال لعدم علمه بالوضوء ، وهذا أيضاً من دون فرق بين الظن بالطّهارة وعدمه والظن بالحدث وعدمه كما عرفت. هذا كلّه في الصورة الثانية.

الصورة الثالثة :

وهي ما إذا علم بكل من الطّهارة والحدث إلاّ أنه شك في المتقدّم والمتأخّر منهما. وهي على قسمين ، لأنه قد يكون التأريخ مجهولاً في كل منهما ، وأُخرى يكون أحدهما معلوم التأريخ دون الآخر ، والكلام فعلاً فيما إذا جهل التأريخان معاً. والمشهور المعروف بين أصحابنا هو الحكم بوجوب الوضوء حينئذ وذلك لقاعدة الاشتغال لأنه عالم باشتغال ذمّته بالصلاة مع الوضوء ، ولا علم له بالطّهارة والوضوء على الفرض فلا بدّ من أن يتوضأ تحصيلاً لليقين بالفراغ. وقاعدة الاشتغال في المقام مما لم يقع فيها خلاف ، وذلك لأنه ليس من الاحتياط في الشبهات الحكمية الذي وقع فيه الخلاف بين الأُصوليين والمحدّثين ، وإنما هو شبهة موضوعية مع العلم بالاشتغال ولا كلام في وجوب الاحتياط حينئذ ، وهو الذي يعبر عنه بأن العلم بالاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية.

ويؤيد القاعدة رواية الفقه الرضوي الواردة في مسألتنا هذه بعينها وأنه إذا توضأت وأحدثت ولم تدر أيهما أسبق فتوضأ (٢) لأنا وإن لا نعتمد على ذلك الكتاب إلاّ أنه لا بأس بكونه مؤيداً.

وأمّا الاستصحاب فهو غير جار في المقام أصلاً ، وذلك أما بناء على ما سلكه‌

__________________

(١) مصباح الأُصول ٣ : ١٨.

(٢) مستدرك الوسائل ١ : ٣٤٢ أبواب الوضوء ب ٣٨ ح ١. وإليك نصّها : ... وإن كنت على يقين من الوضوء والحدث ولا تدري أيّهما أسبق فتوضأ ... ، فقه الرضا : ٦٧.

٧٠

صاحب الكفاية قدس‌سره من اعتبار إحراز اتصال زمان الشك باليقين فلأجل عدم المقتضي لجريانه حينئذ أصلاً لعدم إحراز الاتصال ، لا أنه يجري في كل من الطّهارة والحدث ويسقط بالمعارضة (١). وأمّا بناء على ما بنينا عليه وفاقاً للمشهور من عدم اعتبار إحراز الاتصال (٢) فلأنّ استصحاب كل من الطّهارة والحدث يجري في نفسه ولكنّه يسقط بالمعارضة ، فعلى أي حال لا مجال للاستصحاب في المقام فتصل النوبة معه إلى قاعدة الاشتغال هذا.

وقد نسب إلى العلاّمة قدس‌سره في قواعده والمحقق الثاني في جامع المقاصد تفصيلان في المسألة.

تفصيلان في محل النزاع :

أحدهما : ما حكي عن العلاّمة قدس‌سره من التفصيل بين صورة الجهل بالحالة السابقة فكالمشهور وصورة العلم بها فيؤخذ بطبق الحالة السابقة المعلومة معلّلاً بالاستصحاب (٣) هذا. والمراجعة إلى كتابه قدس‌سره تبيّن أن مقصوده من التمسّك على طبق الحالة السابقة والاستصحاب إنما هو ما إذا علم المكلّف بأن ما أتى به من الوضوء كان وضوءاً رافعاً وكذلك الحدث حدث ناقض ، وليس من الوضوء بعد الوضوء ولا الحدث بعد الحدث ، وذلك لأنه عقد الكلام في مسألة الاتحاد والتعاقب بأن علم أنه أتى بوضوء واحد وحدث واحد ولكن وقع الحدث بعد الطّهارة أو الطّهارة بعد الحدث ، ولم يقع الحدث بعد الحدث ولا الوضوء بعد الوضوء.

وعليه فإذا كان محدثاً فعلم بوضوئه وحدثه فلا محالة يعلم بحدثه وأن وضوءه قد وقع قبل حدثه ، وإلاّ لوقع الحدث بعد الحدث ، والمفروض أنه عالم بأن حدثه إنما وقع بعد الطّهارة لا بعد الحدث ، وكذا الحال فيما إذا كان متطهراً فعلم بحدث ووضوء ، لأنه‌

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٤٢٠.

(٢) مصباح الأُصول ٣ : ١٨٥.

(٣) القواعد ١ : ٢٠٥.

٧١

يعلم أنه متطهر فعلاً وأن حدثه وقع قبل طهارته وإلاّ لوقعت الطّهارة بعد الطّهارة وهو خلاف المفروض. ففي هاتين الصورتين إذا شك في حدث آخر أو طهارة أُخرى غير الحادثين ، يرجع إلى استصحاب الحدث في الأوّل وإلى استصحاب الطّهارة في الثاني.

وهذا وإن كان توضيحاً للواضح وخارجاً عما نحن بصدده ، إذ لا شك في التقدّم والتأخّر حينئذ فليس هذا تفصيلاً في محل الكلام ، إلاّ أن تعليله بالاستصحاب وملاحظة كتابه لا يرخصان الحمل على غيره ، إذ كيف يمكن التمسّك باستصحاب الحالة السابقة قبل الحادثين مع العلم بارتفاعها ، لأنه لا يمكن إسناده إلى من هو دونه قدس‌سره بمراتب كثيرة فضلاً عن آية الله العلامة قدس‌سره فمراده ما ذكرناه وهو ليس بتفصيل في محل الكلام حقيقة وهو أمر واضح ، ثمّ على تقدير تسليم أنه ناظر إلى ما نحن فيه من غير علمه بالتعاقب لا يمكن المساعدة عليه للقطع بارتفاع الحالة السابقة.

وثانيهما : ما ذهب إليه المحقق الثاني قدس‌سره في جامع المقاصد من التفصيل بين صورة الجهل بالحالة السابقة فكالمشهور ، وبين صورة العلم بها فيؤخذ بضدّها (١). وهذا التفصيل وإن كان له وجه لأنه إذا كان متطهراً أوّلاً فقد علم بارتفاع تلك الطّهارة قطعاً بالحدث المعلوم تحققه ، وأما هذا الحدث فلا علم له بارتفاع أثره لاحتمال أن يكون هو المتأخر عن الحادثين وقد وقعت الطّهارة بعد الطّهارة فيستصحب حدثه. كما أنه إذا كان محدثاً أوّلاً فقد علم بارتفاع ذلك الحدث بالطّهارة المتحققة قطعاً ، وأما تلك الطّهارة فلا علم له بارتفاع أثرها لاحتمال أن تكون هي المتأخرة ويقع الحدث بعد الحدث ، فيستصحب طهارته.

إلاّ أن هذا أيضاً مما لا يمكن المساعدة عليه ، لمعارضته باستصحاب الطّهارة في الصورة الأُولى واستصحاب الحدث في الصورة الثانية ، وذلك لأنه في الصورة الأُولى‌

__________________

(١) جامع المقاصد ١ : ٢٣٥.

٧٢

عالم بطهارته حين توضئه ، وغاية الأمر لا يدري زمان حدوث تلك الطّهارة وأنها كانت من الأوّل كما إذا كان الحادث الأوّل هو الطّهارة ، أو حدثت بالفعل كما إذا كان الحادث الأوّل هو الحدث ، فيستصحب تلك الطّهارة وهو يعارض استصحاب حدثه فيتساقطان. كما أنه في الصورة الثانية عالم بحدثه حين ما أحدث وإن لم يعلم بزمانه وأنه كان من الابتداء كما لو كان المحقق أوّلاً هو الحدث ، أم تحقق هذا الزمان كما لو كان المحقق الأوّل هو الطّهارة ، فيستصحب ذلك الحدث. وعليه فالصحيح ما ذهب إليه المشهور من وجوب الوضوء على وجه الإطلاق من جهة قاعدة الاشتغال المؤيدة برواية الفقه الرضوي (١). هذا كلّه في الصورة الاولى أعني ما إذا جهل تأريخهما.

وأولى من ذلك الصورة الثانية وهي ما إذا علم تأريخ الحدث وكان تأريخ الوضوء مجهولاً ، وذلك لأنا إن قلنا بما ذهب إليه الماتن قدس‌سره من عدم جريان الاستصحاب فيما جهل تأريخه فالاستصحاب جار في الحدث من غير معارض ، فيجب عليه الوضوء لا محالة. وإن لم نقل به وقلنا بجريانه في كل من المجهول والمعلوم تأريخه فاستصحاب كل منهما يجري ويسقط بالمعارضة فلا بدّ أيضاً من التمسّك بقاعدة الاشتغال كما في الصورة الأُولى ، ولعلّه ظاهر.

وأمّا الصورة الثالثة وهي ما إذا علم تأريخ الوضوء وجهل تأريخ الحدث فقد ذكر الماتن قدس‌سره أن الاستصحاب يجري في الوضوء حينئذ من غير معارض ولا يجري في مجهول التأريخ ، معللاً بعدم اتصال الشك باليقين حتى يحكم ببقائه ، ومعه لا بدّ من الحكم بطهارته وإن كان الأحوط الاستحبابي أن يتوضأ في هذه الصورة أيضاً.

ثمّ ذكر أن الأمر في الصورتين المتقدمتين وإن كان كذلك أيضاً أي لم يكن الشك متصلاً فيهما باليقين حتى يجري فيهما الاستصحاب إلاّ أن مقتضى قاعدة الاشتغال فيهما وجوب إحراز الطّهارة والشرط ، ولأجلها حكمنا بوجوب الوضوء فيهما. وأما‌

__________________

(١) التي تقدّمت في ص ٧٠.

٧٣

في الصورة الثالثة فاستصحاب بقاء طهارته يقضي بعدم وجوب الوضوء. هذا ما أفاده في المتن. إلاّ أن في عبارته قدس‌سره سهواً من قلمه الشريف كما نبّه عليه سيِّدنا الأُستاذ ( مدّ ظله ) في تعليقته ، وذلك لأن عدم اتصال الشك باليقين إنما هو في مجهولي التأريخ وهو الصورة الاولى من الصور المتقدّمة ، وأما في الصورة الثانية أعني ما إذا علم تأريخ الحدث وجهل تأريخ الوضوء فالشك فيه متصل باليقين بالحدث ويجري فيه الاستصحاب كما بنى عليه هو قدس‌سره وإنما عدم الاتصال بالإضافة إلى ما جهل تأريخه دون ما علم تأريخه ، ففي عبارته سهو من القلم الشريف. والصحيح أن يقول : والأمر وإن كان كذلك فيما جهل تأريخهما إلاّ أن إلخ.

وإذا عرفت ذلك فلنتكلم في حكم الصورة الثالثة أعني ما إذا علم تأريخ الوضوء وجهل تأريخ الحدث ، فهل يجري الاستصحاب في كل من الحادثين ويتساقطان بالمعارضة ، أو يجري الاستصحاب فيما علم تأريخه دون ما جهل تأريخه؟ فقد عرفت أن الماتن ذهب إلى جريانه فيما علم تأريخه ومنع عنه في المجهول تأريخه معلّلاً بعدم اتصال الشك باليقين ، وذلك لأنّا إذا فرضنا الساعة الاولى من الزوال ظرف اليقين بالطّهارة وعلمنا أن الحدث أيضاً قد تحقق ، فإن كان ظرف الحدث ما قبل الزوال أي ما قبل الساعة الاولى من الزوال فقد تخلل بين اليقين بالحدث وبين الشك فيه اليقين بالطّهارة وهو رافع للحدث ، وإن كان ظرف الحدث هو الساعة الثانية من الزوال والمفروض أن الشك في الساعة الثالثة من الزوال فهما متصلان ، وحيث إنا لم نحرز الاتصال فالمقام شبهة مصداقية للاستصحاب ، ومعه لا يمكن التمسّك بعموم أدلّة اعتباره.

وليعلم أوّلاً أن الشك في المقام إنما هو في بقاء ما علمنا بحدوثه ، وجامعه أن نعلم بحدوث ضدين ونشك في المتقدّم والمتأخّر منهما ، لأن ما حدث متأخراً هو الباقي الرافع لما حدث أوّلاً ، وهذا غير ما إذا علمنا بحدوث مطلق حادثين وشككنا في المتقدّم والمتأخّر منهما من غير شك في بقاء أحدهما وارتفاع الآخر الذي يجري فيه أصالة تأخر الحادث فلا تذهل.

٧٤

ثمّ إن المنع عن جريان الاستصحاب فيما جهل تأريخه في أمثال المقام معللاً بعدم اتصال الشك باليقين إنما هو من الشيخ راضي وهو استاد الماتن ( قدس الله أسرارهم ) ويقال إنه أوّل من تنبه إلى هذه المناقشة في أمثال هذه الموارد وادعى أنا استفدنا من روايات الاستصحاب أن الشك لا بدّ وأن يكون متصلاً باليقين ، وذلك لقوله عليه‌السلام : « لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت » (١) ، فلا بدّ من اتصال أحدهما بالآخر. وقد يعبر عنه باعتبار إحراز الاتصال كما في كلام صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) وعليه فلا بدّ من التكلم فيما أُريد من اتصال الشك باليقين. وقد قيل في بيان المراد منه وجوه أحسنها ما أفاده صاحب الكفاية قدس‌سره كما سيتضح :

الأوّل : أن المراد بذلك أن لا يتخلل يقين آخر بين اليقين والشك في البقاء والأمر ليس كذلك فيما جهل تأريخه ، لأن الساعة الاولى من الزوال إذا فرضناها ظرفاً لليقين بالطهارة وشككنا في بقاء الحدث في الساعة الثالثة من الزوال ، فإن كان ظرف الحدث المتيقن هو الساعة الثانية من الزوال بعد الطّهارة فاليقين بالحدث متصل بالشك به وأما إذا كان ظرفه ما قبل الساعة الاولى من الزوال فقد تخلل بين اليقين بالحدث والشك فيه يقين آخر وهو اليقين بالطّهارة ، وحيث إنا لم نحرز أن ظرف الحدث ما قبل زمان اليقين بالطّهارة أو ما بعده فلا محالة يكون المقام شبهة مصداقية للاستصحاب فلا يمكن التمسّك به حينئذ هذا.

__________________

(١) الواقعة في صحيحة زرارة ، الوسائل ٣ : ٤٧٧ / أبواب النجاسات ب ٤١ ح ١ ، وفيه : « ... قلت : لم ذلك؟ قال : لأنك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت ، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبداً ... » نعم ورد في رواية محمّد بن مسلم في حديث الأربعمائة المذكورة في الخصال : ٦١٩ « من كان على يقين فشك فليمض على يقينه فإن الشك لا ينقض اليقين ». والرواية موثقة فان القاسم بن يحيى الواقع في سندها موجود في أسناد كامل الزيارات. هذه الرواية رواها في الخصال : باب حديث الأربعمائة ، ونقلها في جامع الأحاديث ٢ : ٤٦٤ / ٢٥٦٣ وصاحب الوسائل نقل قطعات الحديث المناسبة للوضوء وذكر فيها : من كان على يقين ثمّ شك فليمض على يقينه إلخ. الوسائل ١ : ٢٤٦ / أبواب نواقض الوضوء ب ١ ح ٦.

(٢) كفاية الأُصول : ٤٢٠.

٧٥

ولا يخفى أن هذا الوجه مقطوع الفساد ، وذلك لما بيناه في بحث الاستصحاب من أن المدار في جريانه إنما هو على اجتماع اليقين والشك الفعليين في زمان واحد (١) ، بأن يكون للمكلف يقين بالفعل من حدوث الشي‌ء ويكون له شك فعلي في بقائه ، فهما لا بدّ أن يكونا متّحدا الزمان ، نعم قد يتحقق اليقين قبل تحقق الشك أو بعده إلاّ أن المناط والاعتبار في جريان الاستصحاب إنما هو باجتماعهما في زمان واحد كما عرفت فلا اعتبار باليقين السابق على زمان الشك في البقاء ، كان على وفق اليقين المتحد مع الشك بحسب الزمان أم على خلافه.

فإذا كان الاعتبار في جريانه باجتماع اليقين والشك في البقاء في زمان فلا معنى لاعتبار اتصال أحدهما بالآخر ، لأن الاتصال إنما يتعقل بين المتغايرين وقد عرفت أن اليقين والشك في الاستصحاب متحدان بحسب الزمان ، وإذا راجعنا وجداننا في المقام نجد أنا على يقين من الحدث كما أنا على شك في بقائه في الساعة الثالثة من الزوال وقد مرّ أنه لا اعتبار باليقين السابق مخالفاً كان أم موافقاً وإنما الناقض لليقين في الاستصحاب هو اليقين البديل للشك في البقاء أعني اليقين بالارتفاع المجتمع مع اليقين بالحدوث في الزمان هذا.

والذي يدلنا على ما ذكرناه أنا لو قلنا باعتبار الاتصال بهذا المعنى في الاستصحاب للزم المنع عن استصحاب الحدث على وجه الإطلاق في جميع الموارد حتى مع العلم بتأريخه ، وكذا كل أمر يعتبر العلم وعدم الغفلة في الإتيان بمنافيه ، وذلك لأنا إذا علمنا بالحدث في أوّل ساعة من الزوال ثمّ شككنا في بقائه وارتفاعه باحتمال أنا توضأنا أو اغتسلنا ، فقد احتملنا طروء اليقين بالطّهارة وتخلله بين اليقين بالحدث والشك في بقائه ، حيث لا بدّ من العلم والالتفات بالوضوء والغسل في صحّتهما فهو حالهما كان متيقناً من طهارته لا محالة ، ومع احتمال تخلل يقين آخر بين اليقين والشك لا يجري الاستصحاب لأنه شبهة مصداقية له حينئذ ، وهذا مما لا يلتزم به السيِّد ولا غيره من الأعلام ( قدس الله أسرارهم ).

__________________

(١) مصباح الأُصول ٣ : ٩١ ٢٤٥.

٧٦

ودعوى أنّا كما نستصحب بقاء الحدث نستصحب عدم اليقين بالطّهارة وعدم الوضوء والغسل ، مندفعة بأنه لا يثبت الاتصال المعتبر في جريانه على الفرض ، فلو قلنا بهذه المقالة فلا مناص من سدّ باب الاستصحاب في أمثال الحدث في جميع الموارد مع أنهم يتمسكون به في تلك المقامات من غير خلاف ، وسرّه ما عرفت من أن الاستصحاب يتقوم باليقين والشك الفعليين المتحققين في زمان واحد ولا اعتبار باليقين السابق ، وهما موجودان في المقام وغيره ، ولا معنى لاشتراط الاتصال في المتحدين فلا يكون المقام شبهة مصداقية للاستصحاب باحتمال تخلل يقين آخر بينهما وإنما تكون الشبهة مصداقية فيما إذا شك في أنه متيقن من الأمر الفلاني أو ليس له يقين ، إلاّ أنا أسلفنا في محلِّه أنه لا يعقل الشك والتردّد في مثل اليقين والشك ونحوهما من الأوصاف النفسانية ، لدوران أمرها بين العلم بوجودها والعلم بعدمها (١).

الثاني : أن الاعتبار في الاستصحاب وإن كان باجتماع اليقين الفعلي مع الشك الفعلي في زمان واحد إلاّ أنه يعتبر في الاستصحاب أن لا يكون ذلك اليقين يقيناً بأمر مرتفع ولو على نحو الاحتمال ، وأما إذا احتملنا أن يكون ذلك اليقين الفعلي الموجود بعينه يقيناً بالارتفاع وبما هو مرتفع في نفسه ، فلا محالة يكون المورد شبهة مصداقية فلا يمكن التمسّك فيه بالاستصحاب ، والأمر في المقام كذلك ، لأن المفروض أن لنا يقيناً بالطّهارة في أوّل ساعة من الزوال ، فيقيننا بالحدث إن كان متعلقاً بالحدث قبل الساعة الاولى من الزوال فهو عين اليقين بارتفاع الحدث أي يقين بأمر مرتفع للعلم بالطّهارة بعده ، نعم إذا كان متعلقاً بالحدث بعد الساعة الأُولى فهو ليس يقيناً بالارتفاع فيجري الاستصحاب في بقائه ، وحيث إنا نحتمل أن يكون اليقين بالحدث بعينه يقيناً بالارتفاع فلا يمكن التمسّك بالاستصحاب في مثله هذا.

ولا يخفى أن هذا الوجه أيضاً كسابقه مقطوع الفساد ، وذلك لأنا لا نحتمل اليقين بالحدث المقيّد بكونه قبل الساعة الاولى من الزوال ، لما بيناه في بحث العلم الإجمالي من أن العلم الإجمالي إنما يتعلّق بالجامع بين الطرفين أو الأطراف ، غاية الأمر الجامع‌

__________________

(١) مصباح الأُصول ٣ : ١٨٥.

٧٧

المتخصص بإحدى الخصوصيتين ولا يتعلّق بشي‌ء من خصوصيات الأطراف ولا يحتمل تعلّقه بها أصلاً ، فإذا علمنا بنجاسة أحد المائعين الأحمر أو الأصفر فقد علمنا بنجاسة الجامع المتخصص دون شي‌ء من المائعين ، ولا نحتمل أن يكون لنا يقين بنجاسة خصوص الأحمر أو الأصفر بوجه.

وعليه ففي المقام إنما علمنا بحدوث بول أو حدث مردّد بين كونه ما قبل الزوال وبين كونه في الساعة الثانية من الزوال ، فالعلم قد تعلّق بالجامع بينهما ولا نحتمل أن يكون لنا يقين بالحدث الواقع فيما قبل الزوال ، وحيث إنا نشك في بقائه فنستصحبه لا محالة ، واليقين بالطّهارة في أوّل الزوال لا يمكن أن يكون ناقضاً لليقين بالحدث ، لأن اليقين بالفرد لا يكون ناقضاً لليقين بالكلي بالبداهة ، فإذا علمنا بوجود كلي الإنسان في الحياة وعلمنا بموت زيد مثلاً ، فلا يتوهم أن يكون اليقين بانعدام فرد ناقضاً لليقين بوجود الكلي بوجه كما ذكرناه في القسم الثاني من أقسام الاستصحاب الكلي.

الثالث : ما قد يقال إنه ظاهر كلام صاحب الكفاية قدس‌سره وحاصله : أنه يعتبر في الاستصحاب اليقين والشك الفعليان ، ويتعلق اليقين بشي‌ء معيّن ويتعلق الشك بوجوده في الأزمنة التفصيلية المتأخرة ، بحيث لو رجعنا قهقرى لوجدنا الشك في كل من الأزمنة التفصيلية المتقدّمة إلى أن ننتهي إلى زمان هو زمان المتيقن لا محالة ، لأنه المستفاد من قوله عليه‌السلام : « لا تنقض اليقين بالشك » وقوله عليه‌السلام : « لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت » وغيرهما ، والمتحصل أن تكون أزمنة الشك منتهية إلى زمان معيّن هو زمان المتيقن على وجه التفصيل.

وهذا التقريب لو كان بهذا المقدار فهو مقطوع الفساد ، لضرورة عدم توقف جريان الاستصحاب على أن يكون المتيقن معلوم التحقق في زمان على وجه التفصيل ، لأنه يجري في موارد العلم بتحققه على وجه الإجمال أيضاً ، كمن علم بحدثه قبل طلوع الشمس ثمّ قطع بطهارته وارتفاع حدثه فيما بين الطلوع والزوال ، وعند الزوال شك في حدثه وأنه فيما بين المبدأ والمنتهى بعد ما توضأ قطعاً فهل أحدث أيضاً أم لم يحدث‌

٧٨

فإنه ممّا لا إشكال في جريان استصحاب طهارته لأنه من غير معارض ، مع أنا لو رجعنا قهقرى لرأينا أن الأزمنة بأجمعها زمان الشك ولا تنتهي إلى زمان معيّن نقطع فيه بتحقق الطّهارة في ذلك الزمان إلى أن ننتهي إلى ما قبل الطلوع وهو ظرف اليقين بالحدث ، فهذا الوجه ساقط كسابقيه.

والرابع : وهو العمدة ، بل الظاهر أنه مراد صاحب الكفاية قدس‌سره ، وهو الذي يظهر من عبارته. وحاصله : أن الاستصحاب يعتبر فيه أن يتعلق اليقين بشي‌ء ويتعلق الشك بوجوده في الأزمنة التفصيلية المتأخرة ، بأن يكون وجوده فيها مشكوكاً فيه حتى تنتهي إلى زمان اليقين بوجوده إما تفصيلاً وإما على وجه الإجمال كما عرفت ، وهذا غير متحقق في أمثال المقام ، وذلك لأن الحدث المستصحب غير محتمل أن يكون هو الحدث قبل الزوال للقطع بارتفاعهِ بالطّهارة في الساعة الاولى من الزوال ، والحدث بعد الزوال إذا لاحظنا لَنرى أنه مشكوك في جميع الأزمنة المتأخرة التفصيلية ولا ننتهي إلى زمان نعلم فيه بالحدث تفصيلاً أو على نحو الإجمال ، فإذا لاحظت الساعة الثالثة من الزوال فوجدت الحدث مشكوكاً فيه في تلك الساعة وهكذا في الساعة الثانية ، والساعة الاولى ظرف اليقين بالطّهارة فلا تقف على زمان تقطع فيه بوجود الحدث تفصيلاً ولا على نحو الإجمال ، ومع عدم اتصال أزمنة الشك إلى اليقين بهذا المعنى أي عدم الانتهاء إلى متيقن بوجه فماذا يقع مورد الاستصحاب حينئذ؟ وهذا هو الذي يظهر من عبارته حيث قال : لم يحرز اتصال زمان الشك بزمان اليقين فلاحظ.

من هنا بنى هو والماتن وغيرهما ممّن يعتبر في الاستصحاب اتصال زمان الشك باليقين على عدم جريان الاستصحاب فيما جهل تأريخه من أمثال المقام.

وما أفادوه من الكبرى بالتقريب المتقدّم ممّا لا إشكال فيه ، كما أن تطبيقها على أمثال المقام ممّا لا يقبل المناقشة لو أُريد من الاستصحاب فيما جهل تأريخه الاستصحاب الشخصي ، حيث إن الحدث قبل الزوال مقطوع الارتفاع ، والحدث بعد الزوال ممّا لم‌

٧٩

يتعلّق يقين بوجوده التفصيلي ولا على نحو الإجمال. وأمّا إذا أُريد منه الاستصحاب الكلي بإجرائه في الجامع بين الحدث فيما قبل الزوال وبين الحدث فيما بعد الزوال ، فلا ينطبق عليه الكبرى المتقدّمة.

حيث إنّ لنا يقيناً بوجود الحدث الجامع ونشك في بقائه ، لأنه إن كان متحققاً فيما قبل الزوال فهو مقطوع الارتفاع ، وإن كان متحققاً فيما بعده فهو مقطوع البقاء ولتردده بينهما شككنا في بقاء الحدث الجامع ، والشك في بقائه في الأزمنة المتأخرة متصل إلى زمان اليقين بوجوده على نحو الإجمال. وعليه فحال المقام حال القسم الثاني من أقسام الكلي بعينه ، والفرق بينهما أن الجامع هناك إنما كان بين فردين عرضيين ، وأما في المقام فالحدث الجامع إنما هو بين فردين طوليين أعني الحدث فيما قبل الزوال والحدث فيما بعده ، فيأتي فيه جميع ما أوردوه على جريان الاستصحاب في القسم الثاني من الكلي ، من أن أحد الفردين أعني الفرد القصير كالحدث الأصغر فيما إذا تردد الحدث الصادر بين أن يكون هو الأصغر أو الأكبر معلوم الارتفاع والآخر أعني الفرد الطويل كالحدث الأكبر مشكوك الحدوث من الابتداء والأصل عدمه فأين يجري فيه الاستصحاب.

والجواب عنه هو الجواب ، وهو أنه إنما يتمّ لو قلنا بجريانه في الشخص ، وأما إذا أجريناه في الجامع بين الباقي والزائل فلا إشكال في أنا علمنا بتحققه ونشك الآن في بقائه فيجري فيه الاستصحاب ، فإن العلم بارتفاع الفرد لا ينافي العلم بوجود الكلي وحيث إن العلم بالطّهارة علم بفرد وهو الطّهارة الواقعة في أوّل الزوال فهو لا ينافي العلم بجامع الحدث بين الفرد المرتفع والفرد الباقي ، فإذا أجرينا فيه الاستصحاب فلا محالة تقع المعارضة بينه وبين استصحاب الطّهارة فيسقطان بالمعارضة. فالإنصاف أنه لا فرق بين هذه الصورة وبين صورة الجهل بتأريخ كل من الحدث والوضوء. وأمّا بقيّة الوجوه التي ذكروها في تقريب الكبرى المتقدّمة فهي غير قابلة للتعرّض.

٨٠