موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

[٦٥٩] مسألة ٨ : إذا كان جنباً وكان الماء في المسجد يجب عليه أن يتيمم (*) ويدخل المسجد لأخذ الماء (١) أو الاغتسال فيه ، ولا يبطل تيممه لوجدان هذا الماء‌

______________________________________________________

وهذا بخلاف العالم بجنابته ، فإن حرمة العمل وإن كانت بما هي غير منافية للملكيّة ولكن بما أنها مانعة عن تسليم العمل إلى المستأجر وموجبة لسلب القدرة عليه تقتضي بطلان الإجارة وعدم استحقاق الأُجرة على عمله ، لعدم إمكان الجمع بين الأمر بالوفاء بالإجارة وتسليم العمل إلى المستأجر وبين النهي عن تسليمه لحرمته. وهذا هو الوجه في بطلان الإجارة في المحرّمات دون قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه لعدم ثبوته (٢) ، ولا رواية تحف العقول (٣) لضعفها.

حكم دخول الجنب المسجد لأخذ الماء‌

(١) هذا كأنه للغفلة عمّا بنى قدس‌سره عليه في المسائل المتقدّمة من جواز دخول الجنب للمسجد لأخذ شي‌ء ، فإنه يجوز حينئذ أن يدخل الجنب المسجد لأخذ الماء من غير أن يمكث فيه ، نعم ناقشنا في ذلك سابقاً وقلنا إن حكمه بجواز دخول الجنب في المسجد للأخذ لا يلائم حكمه بحرمة الوضع في المسجد ولو من غير دخول لأنهما إمّا أن يلاحظا بأنفسهما فيحكم بجواز الأوّل وحرمة الثاني في نفسهما ، وحينئذ يتمّ حكمه بحرمة الوضع ولو من غير دخول ولا يتمّ حكمه بجواز دخول المسجد‌

__________________

(*) تقدّم منه قدس‌سره جواز دخول الجنب المسجد لأخذ شي‌ء منه ، وعليه فلا مانع من دخوله لأخذ الماء بغير مكث بلا تيمم ، وأما على ما ذكرناه من عدم جواز ذلك أو فرض أن الأخذ يتوقف على المكث فالظاهر أنه لا يشرع التيمم لذلك ، بل هو من فاقد الماء فيجب عليه التيمم للصلاة.

(١) نعم ذكر الشيخ في الخلاف ٣ : ١٨٥ / مسألة ٣١٠ من كتاب البيوع ما هذا نصّه : روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : إنّ الله تعالى إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه.

(٢) الوسائل ١٧ : ٨٣ / أبواب ما يكتسب به ب ٢ ح ١ ، تحف العقول : ٣٣١.

٣٤١

إلاّ بعد الخروج أو بعد الاغتسال ، ولكن لا يباح بهذا التيمم إلاّ دخول المسجد واللّبث فيه بمقدار الحاجة ، فلا يجوز له مسّ كتابة القرآن ولا قراءة العزائم إلاّ إذا كانا واجبين فورا.

______________________________________________________

للأخذ ، فإن جواز الأخذ في نفسه لا يلازم جواز الدخول في المسجد. وإما أن يلاحظا باعتبار مقدّمتهما أعني الدخول فيجوز الأوّل ويحرم الثاني ، وحينئذ يتمّ حكمه بجواز الدخول فيه من جهة الأخذ ولا يتمّ حكمه بحرمة الوضع في نفسه ، إلاّ أنه أمر آخر.

هذا إذا كان التيمم لدخول المسجد وأخذ الماء فقط ، وأمّا إذا أراد أن يمكث فيه للاغتسال أو أراد الأخذ من المسجدين وقلنا بحرمته فيهما فهل يجب التيمم حينئذ مقدّمة لجواز الدخول في المسجد لأخذ الماء أو لا يجب؟

ذكر الماتن قدس‌سره أنه يجب أن يتيمم حينئذ ولا يباح به إلاّ دخول المسجد واللبث فيه بمقدار الحاجة ، ولا يبطل تيممه إلاّ بعد الاغتسال في المسجد أو بعد الخروج منه للاغتسال في خارجه. والوجه فيما أفاده أن التيمم حينئذ إنما هو للاضطرار إلى الدخول في المسجد ، والضرورات تتقدّر بقدرها فلا يترتب على تيممه هذا غير إباحة الدخول ، وأما سائر الغايات فحيث لا اضطرار له إليها لا يترتب على تيممه.

ولا يمكن المساعدة على ما أفاده بوجه ، وذلك لأن التيمم إما أن تكون غايته الصلاة مع الطّهارة المائية أي الغسل بمعنى أنه مأمور بالاغتسال من جهة الأمر بالصلاة ولا يتحقق الغسل إلاّ بالتيمم وجواز الدخول في المسجد ، فالتيمم حينئذ مقدّمة لمقدّمة الواجب وإنما وجب لوجوب الصلاة مع الغسل ، فهذا أمر مستحيل لأنّ الغسل والصلاة مع الطّهارة المائية واجب مشروط بالتمكن من الماء ومع حرمة الدخول في المسجد لا قدرة له على الماء ، فان الممنوع شرعاً كالممتنع عقلاً ، ولأن النهي عن الدخول فيه معجز مولوي عن استعماله الماء ، وعليه يتوقف وجوب الغسل‌

٣٤٢

أي وجوب الصلاة مع الطّهارة المائية على جواز دخوله المسجد فلو توقف جواز دخوله المسجد على وجوب الصلاة مع الغسل لدار ، فلا يمكن أن يسوغ التيمم بغاية وجوب الغسل ووجوب الصلاة مع الطّهارة المائية.

وإما أن تكون غايته نفس الكون في المسجد وهو أيضاً غير صحيح ، لعدم كونه غاية مشرعة للتيمم ، وإلاّ لم يجب عليه المبادرة إلى الخروج أي لم يحرم عليه المكث زائداً على مقدار الحاجة في المسجد كما التزم به قدس‌سره فإنه محكوم بالطّهارة وله أن يبقى في المسجد ما شاء ، ولجاز أن يبادر إلى الدخول في المسجد مع التيمم في أوّل الوقت مع القطع بأنه بعد ساعة متمكن من الاغتسال ، إذ المفروض أن التيمم لغاية الكون في المسجد موجب للطّهارة ، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به ، وعليه فالصحيح أنه فاقد للماء ووظيفته أن يتيمم لصلاته.

فرعان :

الجنب المتيمم لكون الماء في المسجد ليس له أن يدخل المسجد‌

الأوّل : ما إذا تيمم للصلاة خارج المسجد من جهة كون الماء في المسجد وحكم بطهارته فهل يجوز أن يدخل المسجد حينئذ لأنه متطهر أو لا يجوز؟ الصحيح أنه لا يترتب على تيممه للصلاة جواز دخوله المسجد ، وذلك لأنه يلزم من جواز دخوله المسجد عدمه ، وما استلزم وجوده عدمه فهو مستحيل. وتقريب ذلك : أن المكلّف إذا تيمم بغاية الصلاة حكم عليه بالطّهارة شرعاً ، لأنه كان فاقداً وجاز التيمم في حقه فإذا تيمم لأجلها صار محكوماً بالطّهارة ، والمتطهر يجوز له جميع الغايات المتوقفة على الطّهارة التي منها دخوله المسجد ، فبمجرّد تيممه جاز له الدخول في المسجد فإذا جاز له الدخول تمكن من استعمال الماء وإذا تمكن منه انتقض تيممه لا محالة وإذا انتقض تيممه لم يجز له الدخول في المسجد ، فيلزم من القول بجواز دخوله المسجد عدم جواز دخوله وهو مستحيل ، ولذا قلنا إن تيممه لا يترتب عليه جواز الدخول في المسجد.

٣٤٣

ويدلّ على ما ذكرناه قوله تعالى ( وَلا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) (١) حيث جعل الغاية الاغتسال ولم يقل حتى تيمموا ، لأنه بإطلاقه يدلّ على أن وظيفته الغسل تيمم أم لم يتيمم. وعلى الجملة لا يجوز الدخول في المسجد بالتيمم إلاّ أن يضطر إليه اضطراراً شرعياً كتوقف إنقاذ نفس محترمة على الدخول ونحوه.

الجنب المتيمم لبعض المسوغات ليس له أن يدخل المسجد‌

الثاني : ما إذا كان جنباً ووجب عليه التيمم لا لأجل كون الماء في المسجد ، بل لأجل مرض له أو قرحة وجراحة وتيمم لأجل الصلاة فهل يجوز أن يدخل المسجد حينئذ أو لا يجوز؟ ظاهر كلماتهم جواز ذلك بل لم نر ولم نسمع خلافاً في ذلك ، ولكن للمناقشة فيما تسالموا عليه مجال واسع.

وذلك لأنّ الحكم قد يترتب على عنوان الحدث وعدم الطّهارة كما في حرمة مسّ كتابة القرآن ، حيث إنها مترتبة على عنوان الحدث وعدم الطّهارة على ما ورد في بعض الأخبار من استشهاده عليه‌السلام على عدم جواز مسّ المحدث الكتاب بقوله تعالى ( لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ) (٢) فجواز المس مترتب على الطّهارة وعدم الحدث ، وكوجوب الصلاة فإنه متوقف على الطّهارة لما ورد من أنه لا صلاة إلاّ بطهور (٣) ، ففي أمثال ذلك إذا لم يتمكن المكلّف من الوضوء أو الغسل وتيمم به بدلاً عن الطّهارة المائية فلا محالة ترتفع عنه الأحكام المترتبة على الحدث وعدم الطّهارة ، لأن التيمم يرفع الحدث ويوجب الطّهارة حقيقة غاية الأمر ما دام معذوراً عن الماء. والقول بالإباحة كلام محض بل لعله لا قائل بها واقعاً ، وذلك لعدم إمكان الالتزام بأن المتيمم محدث ويجوز له الصلاة وغيرها تخصيصاً في أدلّة اشتراط الطّهارة في الصلاة.

__________________

(١) النساء ٤ : ٤٣.

(٢) كما في موثقة إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن عليه‌السلام الوسائل ١ : ٣٨٤ / أبواب الوضوء ب ١٢ ح ٣.

(٣) الوسائل ١ : ٣٦٥ / أبواب الوضوء ب ١ ح ١ ، وغيرها من الموارد.

٣٤٤

وقد يكون الحكم مترتباً على عنوان الجنابة لا على عنوان الحدث وهذا كما في المقام ، لأن دخول المسجد محرم على الجنب لا على المحدث بحدث الجنابة وقد قال الله سبحانه ( وَلا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ ) ولم يقل ولا محدثاً ، وفي مثل ذلك لا ترتفع الأحكام المترتبة على عنوان الجنابة بالتيمم ، لأنه إنما يرفع الحدث ويوجب الطّهارة لا أنه يرفع الجنابة ، حيث لم يرد في شي‌ء من الأخبار والآيات ما يدلّنا على ارتفاع الجنابة بالتيمم ، بل هو جنب متطهر وجنب غير محدث لا أنه ليس بجنب ، لقصور المقتضي أي عدم الدليل ولوجود المانع وهو لزوم أن يكون وجدان الماء سبباً للجنابة حيث إنها ارتفعت بالتيمم ، وبما أن التيمم ينتقض بوجدان الماء فتعود عليه الجنابة بالوجدان ، مع أن سببها أمران : الجماع والإنزال ، وليس وجدان الماء من أسبابها وعليه فلا يجوز للمتيمم بدلاً عن الجنابة أن يدخل المسجد لأنه جنب ولم ترتفع جنابته بتيممه. ويدلّ على ما ذكرناه قوله تعالى ( وَلا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) (١) حيث جعل غاية حرمة القرب من المسجد للجنب الاغتسال ، فلو كان له غاية أُخرى وهو التيمم لذكره ولما حصرها في الاغتسال مع أنه قال ( حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) ولم يقل تغتسلوا أو تيمموا ، فيدلّ بإطلاقه على أن وظيفته الغسل سواء تيمم أم لم يتيمم.

ونظير المقام ما إذا يمم الميت لعدم الماء أو لجراحة في الميت ولم يغسل فان مسّه موجب لغسل المس ، لأن وجوب الغسل عن المس إنما يترتب على عنوان الميت الذي برد ولم يغسل ولم يترتب على عنوان الميت المحدث بحدث الموت ، والتيمم إنما يرفع الحدث ولا يرفع الموضوع بأن يجعل الميت مغسلاً ، فلو مسّه أحد بعد تيممه لوجب عليه غسل المس أيضاً. وتظهر ثمرة ما ذكرناه في غير هذين الموردين أيضاً كما في البقاء على الجنابة في شهر رمضان ، فان الحكم فيه أيضاً مترتب على الجنابة لا على الحدث.

__________________

(١) النساء ٤ : ٤٣.

٣٤٥

[٦٦٠] مسألة ٩ : إذا علم إجمالاً جنابة أحد الشخصين لا يجوز له استئجارهما ولا استئجار أحدهما لقراءة العزائم أو دخول المساجد أو نحو ذلك ممّا يحرم على الجنب (١).

______________________________________________________

استئجار من علم جنابته إجمالاً لما يحرم على الجنب

(١) قد يعلم الثالث بجنابة أحد شخصين من غير تعيين من دون أن يعلم أحد منهما بجنابة نفسه ، وقد يعلم الثالث بجنابة أحدهما مع علم أحدهما بجنابة نفسه. أما في الصورة الاولى فلا مانع من صحّة إجارة أحدهما أو كليهما ، لما مرّ من أن الإجارة إنما وقعت على أمر مباح في نفسه وهو الكنس مثلاً ، فلا مانع من صحّة الإجارة سوى عدم تمكنه من تسليم العمل للمستأجر لحرمة مقدّمته أعني الدخول في المسجد ، فإذا فرضنا جهله فلا محالة يجوز له الدخول ويتمكن من تسليم العمل لمالكه.

هذا كلّه بالإضافة إلى حرمة إجارتهما أو جوازها وضعاً. أما من حيث جوازها وحرمتها التكليفيين فالأمر كما أفاده الماتن قدس‌سره من حرمتها مطلقاً ، وذلك لما مرّ من أن مقتضى إطلاق دليل الحرمة عدم جواز إيجاد المحرّم بالمباشرة أو بالتسبيب فان المبغوض الواقعي لا يجوز إيجاده في الخارج مطلقاً بلا فرق في ذلك بين التسبيب والمباشرة ، فإذا استأجرهما معاً فقد قطع بالمخالفة لأنه أوجد دخول الجنب في المسجد بالتسبيب ، وإذا استأجر أحدهما فهو مخالفة احتمالية لاحتمال أن يكون هو الجنب واستئجاره تسبيب لدخول الجنب في المسجد. فما ذكره شيخنا الأُستاذ قدس‌سره في تعليقته من أن الظاهر جواز استئجارهما معاً فضلاً عن أحدهما ممّا لا يمكن المساعدة عليه ، بل الصحيح هو ما أفاده في المتن من حرمة إجارة أحدهما فضلاً عن كليهما للثالث العالم بجنابة أحدهما.

٣٤٦

[٦٦١] مسألة ١٠ : مع الشك في الجنابة لا يحرم شي‌ء من المحرمات المذكورة إلاّ إذا كانت حالته السابقة هي الجنابة (١).

فصل

فيما يُكره على الجنب

وهي أُمور : الأوّل : الأكل والشرب ويرتفع كراهتهما بالوضوء أو غسل اليدين والمضمضة والاستنشاق أو غسل اليدين فقط. الثاني : قراءة ما زاد على سبع آيات من القرآن ما عدا العزائم ، وقراءة ما زاد على السبعين أشدّ كراهة. الثالث : مسّ ما عدا خط المصحف من الجلد والأوراق والحواشي وما بين السطور. الرابع : النوم إلاّ أن يتوضأ أو يتيمم إن لم يكن له الماء بدلاً عن الغسل. الخامس : الخضاب ، رجلاً كان أو امرأة ، وكذا يكره للمختضب قبل أن يأخذ اللون إجناب نفسه. السادس : التدهين. السابع : الجماع إذا كان جنابته بالاحتلام.

______________________________________________________

وأمّا في الصورة الثانية فلا إشكال في عدم جواز استئجار أحدهما فضلاً عن كليهما ولا في بطلان الإجارة ، لعدم قدرة أحدهما على الدخول في المسجد لحرمته ، لفرض أن أحدهما عالم بجنابة نفسه فيعلم الثالث إجمالاً أن إجارة أحدهما باطلة وأن دخوله المسجد حرام.

صور الشكّ في الجنابة‌

(١) صور المسألة ثلاث ، لأنه قد يعلم بعدم جنابته سابقاً ، وقد يعلم بجنابته السابقة ، وثالثة لا يعلم حالته السابقة لتوارد الحالتين عليه.

إذا علم بحالته السابقة من جنابته أو عدم جنابته فلا إشكال في المسألة ، لجريان استصحابها وبه يحرز جنابته أو طهارته.

٣٤٧

الثامن : حمل المصحف. التاسع : تعليق المصحف.

فصل

[ في كيفية الغسل وأحكامه ]

غسل الجنابة مستحب نفسي وواجب غيري للغايات الواجبة ومستحب غيري للغايات المستحبة. والقول بوجوبه النفسي ضعيف (١).

______________________________________________________

وأمّا إذا لم يعلم الحالة السابقة فلا يجري فيها شي‌ء من استصحابي الطّهارة والحدث في نفسهما أو يجريان ويتساقطان بالمعارضة ومعه لا بدّ من الرجوع إلى ما هو الأصل في المسألة ، وهو في مقامنا هذا البراءة عن حرمة دخول المسجد أو غيره ممّا يحرم على الجنب.

فصل غسل الجنابة ليس بواجب نفسي‌

(١) لا إشكال ولا كلام في محبوبية غسل الجنابة شرعاً لقوله تعالى ( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) (١) فإن الغسل من الجنابة طهارة والمغتسل منها متطهر وإنما الخلاف في أن محبوبيته نفسيّة أو غيريّة؟ المعروف المشهور بينهم أنه واجب غيري ، وخالف في ذلك من القدماء ابن حمزة (٢) ومن المتوسطين العلاّمة (٣) ومن المتأخِّرين الأردبيلي (٤) وصاحبا المدارك (٥) والذخيرة (٦). ولا تكاد تظهر ثمرة‌

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٢٢.

(٢) الوسيلة : ٥٤.

(٣) المختلف ١ : ١٥٩ / ١٠٧.

(٤) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ١٣٦.

(٥) المدارك ١ : ٢٦٥.

(٦) الذخيرة : ٥٥ / السطر ٣٠.

٣٤٨

عمليّة لهذا النزاع بعد العلم باشتراط الصلاة والصوم بالطّهارة وعدم الجنابة أعني توقفهما على غسل الجنابة إلاّ في موارد نادرة كمن أجنب قبل الوقت وعلم بأنه يقتل بعد ساعة وقبل دخول الوقت ، فإنه بناءٌ على أنه واجب نفسي يجب الإتيان به بخلاف ما إذا كان واجباً شرطياً ، وهذا من الندرة بمكان. نعم تظهر الثمرة غير العمليّة في استحقاق العقاب ، لأنه إذا تركه وترك الصلاة مثلاً فعلى القول بوجوبه النفسي يعاقب بعقابين بخلاف ما إذا قلنا بوجوبه الغيري فإنه لا يعاقب حينئذ إلاّ عقاباً واحداً لتركه الصلاة فحسب ، فالمسألة عادمة الثمرة عملا.

وكيف كان ، استدلّ للقول بوجوبه النفسي بوجوه : منها : قوله سبحانه ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ) (١) بدعوى أن ظاهر الأمر بالاغتسال وإطلاقه أنه واجب نفسي. ويدفعه أن صدر الآية المباركة وذيلها أقوى قرينة على أن المراد به هو الوجوب الغيري ، أعني كونه إرشاداً إلى شرطية الطّهارة من الحدث في الصلاة. أما صدرها فلقوله تعالى ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ) لأنه قرينة ظاهرة على أن الأمر بكل من الغسل والوضوء غيري وإرشاد إلى الشرطية. وأمّا ذيلها فلقوله تعالى ( أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) حيث أُقيم التيمم بدلاً عن الغسل ، فلو كان الغسل واجباً نفسياً فلا بدّ من الالتزام بأن التيمم أيضاً واجب نفسي وهو ممّا لا يلتزمون به فالآية لا دلالة لها على المدّعى.

وأمّا الأخبار ، فأظهر ما استدلّ به على هذا المدعى من الأخبار ما ورد في أن الدين الذي لا يقبل الله تعالى من العباد غيره ولا يعذرهم على جهله شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمّداً رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والصلوات الخمس وصوم شهر‌

__________________

(١) المائدة ٥ : ٦.

٣٤٩

رمضان والغسل من الجنابة (١).

وربّما يقال : إنّ دلالتها على المدّعى ظاهرة ، حيث عدّ غسل الجنابة من دعائم الدِّين ، ويبعد جدّاً أن يراد به الوجوب الغيري لمكان أنه مقدّمة للصلاة ، إذ للصلاة شرائط ومقدّمات أُخر لا وجه لتخصيصه بالذكر حينئذ من بينها. وهذه الرواية وإن كانت معتبرة بحسب السند لوجود الحسين بن سيف في أسانيد كامل الزيارات ، ولكنه يمكن المناقشة في دلالتها بأنا لا نحتمل أن يكون غسل الجنابة من الأركان دون الجهاد والزكاة وأمثالهما مع أنها عدته من الأركان وتركت أمثال الجهاد والأمر بالمعروف وغيرهما مما هو أعظم من غسل الجنابة بمرات كثيرة ، وليس هو بتلك المثابة من الأهميّة قطعا.

وأمّا الاستدلال بغيرها من الأخبار فيدفعه أنها ممّا لا دلالة له على المدّعى كالاستدلال بما ورد من قولهم : « إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل » (٢) وقولهم : « أتوجبون عليه الحدّ والرجم ولا توجبون عليه صاعاً من ماء » (٣) وذلك لأنها إنما هي بصدد بيان ما هو الحد لموضوع تلك الأحكام وأنّ حدّه هو الالتقاء ، وليست في مقام بيان أنها واجبة نفسيّة أو غيريّة ، بل تحد الموضوع لتلك الأحكام الأعم من النفسيّة والغيريّة وتدلّ على أن حدّ وجوب الغسل على ما هو عليه من النفسيّة أو الغيريّة هو الالتقاء ، ولا دلالة لها على وجوبها النفسي أبدا.

وعلى الجملة : إنّها إنما سيقت لبيان أن الموضوع لتلك الأحكام أي شي‌ء من غير‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٨ / أبواب مقدّمة العبادات ب ١ ح ٣٨. رواها البرقي في المحاسن [ ١ : ٤٤٩ / ١٠٣٧ ]. هكذا : أنه سئل عن الدين الذي لا يقبل الله من العباد غيره ، ولا يعذرهم على جهله ، فقال : شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمّداً رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والصلاة الخمس وصيام شهر رمضان والغسل من الجنابة وحج البيت والإقرار بما جاء من عند الله جملة والائتمام بأئمة الحق من آل محمّد ، الحديث.

(٢) الوسائل ٢ : ١٨٣ / أبواب الجنابة ب ٦ ح ٢ ، ٥.

(٣) الوسائل ٢ : ١٨٤ / أبواب الجنابة ب ٦ ح ٥.

٣٥٠

أن يكون لها نظر إلى أن الوجوب المرتب عليه نفسي أو غيري ، بل لا نظر لها إلى الحكم أصلاً ، وإنما تدلّ على أن ما هو الموضوع لتلك الأحكام المستفادة من أدلّتها لا من تلك الروايات أي شي‌ء.

على أنا لو سلمنا ظهورها في أن غسل الجنابة واجب نفسي فحالها حال بقيّة الأوامر الواردة في غسل الثياب عن الأبوال أو غيرها من النجاسات ، حيث ورد « اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه » (١) والأوامر الواردة في غسل الحيض والاستحاضة والنفاس وأنها إذا طهرت فلتغتسل ، والأوامر الواردة في الوضوء والتيمم فإنها في حدّ أنفسها ظاهرة في الوجوب النفسي ، ولكن العلم القطعي الخارجي بل الضرورة القائمة على أن الصلاة مشروطة بالطّهارة من الحدث والخبث يوجب انصرافها إلى الأوامر الغيرية الإرشادية إلى شرطية الطّهارة للصلاة ، فالحال في تلك الروايات أيضاً كذلك فتكون منصرفة إلى الوجوب الغيري الإرشادي دون الوجوب النفسي.

وعمدة ما اعتمدوا عليه في هذا المدعى أن غسل الجنابة لو لم يكن واجباً نفسياً للزم جواز تفويت الواجب بالاختيار ، وذلك لأن المكلّف إذا أجنب في ليالي شهر رمضان فإما أن نقول إن غسل الجنابة قبل طلوع الفجر واجب نفسي في حقّه ، وإما أن نقول واجب غيري ، وإمّا أن نقول بعدم وجوبه أصلاً. والأوّل هو المدّعى ، وأما على الآخرين فيلزم المحذور ، وذلك لأنّ الواجب الغيري يستحيل أن يتصف بالوجوب قبل وجوب ذي المقدّمة ، فإن المعلول لا يتقدّم على علّته ، فلو كان الغسل مقدّمة فهو غير واجب قبل الفجر ، فإذا جاز ترك الغسل قبل الفجر لم يجب عليه الصوم غداً لاشتراطه بالطّهارة عند الصبح وقد فرضنا جواز تركها فجاز له تفويت الواجب بالاختيار ، ومعه لا مناص من الالتزام بوجوبه النفسي لئلا يرد هذا المحذور.

والجواب عن ذلك :

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٠٥ / أبواب النجاسات ب ٨ ح ٢ ، ٣.

٣٥١

أوّلاً : أن ذلك غير مختص بغسل الجنابة ، بل الأمر كذلك في كل مقدّمة لا يمكن الإتيان بها بعد دخول وقت الواجب كغسل الحيض والنفاس والاستحاضة فيما إذا طهرت قبل طلوع الفجر ، فلازم ذلك الالتزام بالوجوب النفسي في الجميع.

وثانياً : أن الحصر غير حاصر ، فان لنا أن نلتزم بوجوب الغسل للغير لا بوجوبه النفسي ولا الغيري ، وهذا لا بملاك مستقل غير ملاك الواجب ليرد محذور تعدّد العقاب عند ترك الواجب لترك مقدّمته ، بل بملاك نفس ذي المقدّمة لا بوجوبه النفسي ولا الغيري. وقد بيّنا في محلِّه أن الواجب للغير غير الواجب الغيري (١) فنلتزم بأن غسل الجنابة وغيره من المقدّمات غير المقدورة في ظرف الواجب واجب للغير ، فلا يتعيّن القول بالوجوب النفسي حينئذٍ للفرار عن المحذور.

وثالثاً : يمكننا القول بوجوبه الغيري ، لأن الصوم إنما وجب من أوّل اللّيل بل من أوّل الشهر ، لقوله تعالى ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) (٢) بناء على أنّ المراد بالشهادة هو الرؤية ، فالوجوب قبل طلوع الفجر فعلي والواجب استقبالي وظرفه متأخر كما التزمنا بذلك في جميع الواجبات المعلّقة ، ومع فعلية الوجوب تجب المقدّمة ولا يشترط في وجوبها فعليّة ظرف الواجب أيضا.

ورابعاً : يمكننا إنكار وجوب الغسل حينئذ رأساً ولا نلتزم بوجوبه ولو مقدّمة لأنا لا نلتزم بوجوب مقدّمة الواجب عند فعلية وجوب ذي المقدّمة شرعاً فضلاً عما إذا لم يجب ، وإنما تجب المقدّمة عقلاً تحصيلاً للغرض الملزم ، فان ترك المقدّمة تفويت اختياري للواجب ، بلا فرق في ذلك قبل الوقت وبعده ، لأنّ العقل هو الحاكم بالاستقلال في باب الإطاعة والعصيان ، وحيث إن الإتيان بالواجب موقوف على إتيان مقدّمته ولو قبل الوقت فالعقل مستقل بلزوم إتيانه كذلك ، لأن تركه ترك للغرض الملزم بالاختيار.

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ٣٥٥.

(٢) البقرة ٢ : ١٨٥.

٣٥٢

ولا يجب فيه قصد الوجوب والندب ، بل لو قصد الخلاف (١) لا يبطل إذا كان مع الجهل بل مع العلم إذا لم يكن بقصد التشريع (*) وتحقق منه قصد القربة ، فلو كان‌

______________________________________________________

وما عن أبي الحسن من أن المقدّمة لو لم تجب شرعاً جاز تركها ، فلو جاز تركها جاز ترك الواجب وذي المقدّمة (٢) ، مندفع بأن عدم وجوب المقدّمة شرعاً غير ملازم لجواز تركها عند العقل ، لأنه مستقل بلزوم إتيانها كما مرّ هذا.

على أن لنا أن نقلب الدعوى بأن نقول : هب أنّا التزمنا بالوجوب النفسي في جميع تلك المقدّمات التي لا يمكن الإتيان بها في وقت الواجب فهل تلتزمون بوجوبها الغيري ولو مندكاً في وجوبها النفسي ، أو لا تلتزمون به وإنما هو واجب نفسي فقط فان أنكرتم وجوبها الغيري فليزمكم القول بتعدد العقاب عند ترك الواجب لترك مقدّمته ، ولا يمكن الالتزام به. وإن اعترفتم بوجوبها الغيري فتعود المناقشة السابقة وأنه كيف وجبت المقدّمة قبل وجوب ذيها. فما هو الجواب عن المحذور حينئذ هو الجواب عن محذور وجوب غسل الجنابة قبل الفجر.

فتحصل : أن غسل الجنابة ليس بواجب نفسي ، ولا قائل به أخيراً ، كما لا دليل عليه وإن كانت له رنة في تلك الأزمنة من جهة عدم تصويرهم الواجب المعلق.

هل يعتبر قصد الوجوب أو الندب في صحّة الغسل؟

(١) قدّمنا أن غسل الجنابة ليس بواجب نفسي ، كما أنه غير متّصف بالوجوب الغيري على ما ذكرناه في محلِّه من عدم وجوب مقدّمة الواجب شرعاً (٣) ، وعليه فهو مستحب نفسي فقط وغير متصف بالوجوب أبداً. وبما أنه أمر عبادي كما هو المتسالَم عليه بين المسلمين فضلاً عن الإمامية فلا بدّ من أن يؤتى به بقصد القربة والامتثال‌

__________________

(*) كيف لا يكون تشريعاً والمفروض أنه قصد الخلاف عالما.

(١) كما حكاه عنه في كفاية الأُصول : ١٢٧.

(٢) محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ٤٣٨.

٣٥٣

قبل الوقت واعتقد دخوله فقصد الوجوب لا يكون باطلاً ، وكذا العكس ، ومع الشك في دخوله يكفي الإتيان به بقصد القربة للاستحباب النفسي أو بقصد إحدى غاياته المندوبة أو بقصد ما في الواقع من الأمر الوجوبي أو الندبي.

______________________________________________________

وهذا يتحقّق في الغسل بوجهين :

أحدهما : أن يأتي به بداعي استحبابه النفسي ، بلا فرق في ذلك بين ما قبل الوقت وبعده.

وثانيهما : أن يأتي به بداعي أنه مقدّمة للعبادة وواقع في سلسلتها ، فإنه أيضاً نحو امتثال وإضافة للعمل إلى الله. وهذا يختص بما بعد دخول الوقت.

وأمّا بناء على أن مقدّمة الواجب واجبة فلا محالة يتصف الغسل بالوجوب الغيري بعد دخول وقت العمل وبه يرتفع استحبابه ، لتنافي الوجوب مع الاستحباب ، وعليه فلا بدّ في صحّته إذا اتي به بعد دخول الوقت من أن يؤتى به بداعي الوجوب الغيري ولا يكفي الإتيان به بداعي استحبابه النفسي حيث لا استحباب حينئذ ، نعم يكفي ذلك عند الإتيان به قبل دخول الوقت.

فلو أتى به بقصد استحبابه النفسي بعد دخول الوقت أو بداعي وجوبه الغيري قبل الوقت ، فان كان ذلك مستنداً إلى اعتقاده وحسبان أن الوقت غير داخل فقصد استحبابه النفسي أو أنه داخل فقصد وجوبه الغيري فلا إشكال في صحّته ، لأنه قد قصد أمره الفعلي وغاية الأمر أنه أخطأ في تطبيقه على الاستحباب النفسي أو على وجوبه الغيري ، ومثله غير مضر في صحّة العبادة بعد كون الطبيعة المستحبة نفساً أو الواجبة مقدّمة طبيعة واحدة. وأما إذا كان عالماً بالحال فأتى به قبل الوقت بداعي وجوبه الغيري متعمداً أو بعد الوقت بداعي استحبابه النفسي متعمداً فهل يحكم بصحّته أو أنه فاسد؟ فقد فصّل فيه الماتن قدس‌سره بين ما إذا لم يكن بقصد التشريع وتحقّق منه قصد التقرّب وما إذا لم يكن كذلك. والكلام في ذلك يقع من جهتين :

٣٥٤

إحداهما : أنه مع العلم بعدم استحبابه النفسي لو أتى به بداعي استحبابه أو مع العلم بعدم وجوبه الغيري إذا أتى به بداعي وجوبه الغيري هل يعقل أن لا يكون تشريعاً محرماً ، أو أنه قد يكون كذلك وقد لا يكون؟

ثانيتهما : أن حرمة التشريع توجب بطلان العمل أو لا توجبه؟

أمّا الجهة الاولى : فلا نتعقل انفكاك مثله عن التشريع ، لأنه عبارة عن إدخال ما علم أنه ليس من الدين أو لم يعلم أنه من الدِّين في الدِّين ، ومع العلم بعدم استحباب شي‌ء ، إذا أتى به بعنوان أنه مستحب لا محالة كان من إدخال ما علم أنه ليس من الدِّين في الدِّين.

وأمّا الجهة الثانية : فقد يقال بأن حرمة التشريع لا تستلزم بطلان العبادة مطلقاً بل إنما توجبه فيما إذا كان التشريع في مقام الأمر والتكليف ، كما إذا علم بوجوب شي‌ء فبنى على استحبابه وأتى به بداعي أنه مستحب فإنه محكوم ببطلانه ، إذ لا يتمشى معه قصد القربة والامتثال. وأمّا التشريع في مقام الامتثال والتطبيق كما إذا سمع أن المولى أمره بشي‌ء ولم يعلم أنه أوجبه أو ندب إليه ولكنّه بنى على أنه أوجبه وأن الأمر هو الوجوبي ، فلا يوجب هذا بطلان عمله ولا ينافي ذلك قصد القربة والامتثال كما فصّل بذلك صاحب الكفاية قدس‌سره والتزم بأن التشريع لا يستلزم بطلان العمل مطلقاً ، بل فيما إذا كان راجعاً إلى الأمر والتكليف (١).

ولا يمكن المساعدة على ذلك ، لعدم انحصار الوجه في بطلان العبادة مع التشريع بعدم التمكّن عن قصد التقرب والامتثال ليفصل بين الصورتين ، بل له وجه آخر يقتضي بطلان العبادة مع التشريع في كلتا الصورتين وهو مبغوضية العمل وحرمته المانعة عن كونه مقرباً ، لأن حرمة البناء والتشريع تسري إلى العمل المأتي به في الخارج وبه يحكم بحرمته ومبغوضيته ، ومعهما كيف يكون العمل مقرّباً به ليحكم بصحّته.

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٣٦٨ ٣٦٩.

٣٥٥

والواجب فيه بعد النيّة غسل ظاهر تمام البدن (١)

______________________________________________________

وجوب غسل ظاهر تمام البدن في الغسل‌

(١) لصحيحة زرارة ، قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن غسل الجنابة فقال : تبدأ فتغسل ، إلى أن قال : ثمّ تغسل جسدك من لدن قرنك إلى قدميك » الحديث (١) وصحيحة البزنطي عن الرضا عليه‌السلام في حديث « ثمّ أفض على رأسك وسائر جسدك » (٢) وغيرهما من الأخبار الآمرة بغسل تمام الجسد (٣). وفي موثقة سماعة « يفيض الماء على جسده كلّه » ، وفي بعضها أنها « تمرّ يدها على جسدها كلّه » (٤). وفي بعضها : « من ترك شعرة من الجنابة متعمداً فهو في النار » (٥). والمراد بالشعرة إما أنه معناها الحقيقي فتدلّ على وجوب غسل الشعر الذي هو من توابع البدن ، فلو وجب غسل ما هو من توابع البدن بتمامه فلا محالة يجب غسل نفسه بتمامه بطريق أولى ، وإما بمعناها المجازي أي بمقدار جزئي وحينئذ تدلّ على وجوب غسل تمام البدن على نحو بليغ هذا.

وقد ذهب المحقِّق الخونساري (٦) إلى عدم وجوب الاعتداد ببقاء شي‌ء يسير غير مخل بصدق غسل البدن عرفاً ، وذلك لصحيحة إبراهيم بن أبي محمود ، قال « قلت للرضا عليه‌السلام : الرجل يجنب فيصيب جسده ورأسه الخلوق والطيب والشي‌ء اللكد مثل علك الروم والظرب وما أشبهه فيغتسل فإذا فرغ وجد شيئاً قد بقي في‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٣٠ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٥.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٣٣ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ١٦.

(٣) كما يستفاد من غير واحد من الأحاديث المذكورة في الباب المتقدّم.

(٤) الوسائل ٢ : ٢٣١ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٨ ، ب ٣٨ ح ٦.

(٥) الوسائل ٢ : ١٧٥ / أبواب الجنابة ب ١ ح ٥ ، ٢ ، ب ٣٨ ح ٧.

(٦) مشارق الشموس : ١٧٠ / السطر ١٢.

٣٥٦

جسده من أثر الخلوق والطيب وغيره ، قال : لا بأس » (١).

وفي رواية الكليني عن محمّد بن يحيى « الطراز » بدل « الظرب » (٢) وفي الوافي « الطرار ». قال في البيان الذي عقب به الحديث : الخلوق بالفتح ضرب من الطيب وهو الذي يستثني للمحرم من أنواع العطر فيه تركيب. واللكد بالمهملة اللزج اللصيق ، وفي التهذيب (٣) : اللزق والطرار بالمهملات ما يطين به ويزين (٤).

ولم يظهر لتلك الكلمة معنى مناسب للرواية ، لأن الطرار هو ما يزين به ولو بالتعليق وليس ممّا يلصق البدن ، والطراز بمعنى الطرز والنمط أي الأُسلوب ، ولا يناسب الرواية لأنها في مقام التمثيل للكد. والظرب بمعنى ما يلصق ، وهو أيضاً غير مناسب للرواية ، لأنها في مقام التمثيل للكد الذي هو بمعنى ما يلصق فكيف يمثل له بما يلصق فلم يظهر معنى هذه الكلمة ، ولعلّها كانت في تلك الأزمنة بمعنى مناسب للرواية. وعلى الجملة : إن لهذه الكلمة الواردة في صحيحة إبراهيم بن أبي محمود احتمالات لا يتناسب شي‌ء منها للرواية.

نعم المنقول في نسخ الوسائل « الظرب ». وعن الكليني « الطراز » ، ولكن النسخ مغلوطة قطعاً ، فإن الكلمة ليست بالظاء بل بالضاد ، والضرب بمعنى العسل الأبيض الغليظ كما في اللّغة ، وفي مجمع البحرين ذكر الحديث نفسه في مادة « الضّرب » (٥) وهذا أمر يناسب الرواية كما لا يخفى بخلاف الظرب الذي هو بمعنى اللاصق فإنه كما ترى لا يناسبها بوجه. وأما الطرار فهو جمع الطرة ولم نر استعماله مفرداً ، وقد جعله في‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٣٩ / أبواب الجنابة ب ٣٠ ح ١.

(٢) الكافي ٣ : ٥١ / ٧.

(٣) راجع التهذيب ١ : ١٣٠ / باب حكم الجنابة وصفة الطّهارة منها ، ح ٣٥٦ ، مع تعليقه.

(٤) الوافي ٦ : ٥١٠ / ٤٨١٢.

(٥) مجمع البحرين ٢ : ١٠٦.

٣٥٧

مجمع البحرين مفرداً وفسّره بالطين ونقل الحديث واستشهد به (١). وأمّا ما ذكره في الوافي تفسيراً للكلمة من أنها بمعنى ما يطين به ويزين فمما لم نقف عليه في الأخبار ولا في شي‌ء من اللغات ، وعليه فالمحتمل في الصحيحة أمران : أحدهما الضرب بمعنى العسل الأبيض الغليظ ، وثانيهما : الطرار بمعنى الطين.

وكيف كان ، استدلّ بالصحيحة على عدم وجوب غسل اليسير من البدن الذي لا يكون مخلًّا بصدق غسل البدن عرفا.

ويدفعه : أن الصحيحة إنما دلّت على جواز الغسل وصحّته مع بقاء أثر الخلوق والطيب والعلك لا مع بقاء عينها ، وكم فرق بينهما ، فإن أثرها من الرائحة اللطيفة أو لون الصفرة غير مانع من وصول الماء للبشرة ، وهذا بخلاف عينها والعين غير مذكورة في الصحيحة. على أنها دلّت على صحّته مع بقاء أثرها ، أعم من أن يكون يسيراً أم كان كثيراً كما إذا دهن بالخلوق جميع رأسه مثلاً ، ولا دلالة فيها على جوازه وصحّته مع شي‌ء يسير في البدن ، فلو كان الأثر بمعنى العين فلازمها صحّة الغسل ولو مع وجود العين في تمام الرأس ، وهو كما ترى.

وبمضمونها روايات أُخرى أيضاً ظاهرة في إرادة الأثر دون العين منها : ما رواه إسماعيل بن أبي زياد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « كن نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا اغتسلن من الجنابة يبقين صفرة الطيب على أجسادهن وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أمرهنّ أن يصببن الماء صبّاً على أجسادهنّ » (٢). وفي موثقة عمار عن أبي عبد الله « في الحائض تغتسل وعلى جسدها الزعفران لم يذهب به الماء قال : لا بأس » (٣) إذ من المعلوم أن المراد بالزعفران أثره فإنه بنفسه لا يلصق بالبدن.

__________________

(١) مجمع البحرين ٣ : ٣٧٦.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٣٩ / أبواب الجنابة ب ٣٠ ح ٢.

(٣) الوسائل ٢ : ٢٤٠ / أبواب الجنابة ب ٣٠ ح ٣.

٣٥٨

دون البواطن منه ، فلا يجب غسل باطن العين والأنف والأُذن والفم ونحوها (١).

______________________________________________________

البواطن لا يجب غسلها في الاغتسال‌

(١) ويدلّ عليه ما ورد في أنّ الغسل الارتماسي يجزئ في مقام الامتثال ، فان الماء في الارتماسي لا يصل إلى البواطن كباطن العين والأنف ونحوهما عادة ، فإنها قاضية بفحص العينين في الارتماس ومع ذلك دلّ الدليل على كفايته ، فمنه نستكشف عدم اعتبار غسل البواطن في الغسل.

ودعوى أن الارتماسي إنما هو مجزئ عن الترتيبي كما اشتملت عليه أخباره ، حيث دلّت على أنه إذا ارتمس ارتماسة واحدة أجزأته (١) ، ويمكن أن يكون غسل البواطن معتبراً في المأمور به وإن لم يكن معتبراً فيما يجزئ عنه. مندفعة بأنّ الظاهر المستفاد من رواياته أن الارتماسي إنما يجزئ عن الترتيبي من جهة الترتيب فقط ، حيث إنه معتبر في الاغتسال فيجب أن يغسل الرأس أوّلاً ثمّ البدن وهذا لا يتحقق في الارتماسي ، لأن الرجلين فيه تغسلان قبل البدن والبدن قبل الرأس ، وبهذه الجهة كان الارتماس مجزئاً عن الترتيبي المشتمل على الترتيب المعتبر. وأما أن مقدار الغسل في الارتماسي أقل منه في الترتيبي فهو مما لا يستفاد من الروايات ، بل الظاهر أن مقداره فيهما غير متفاوت ، ومعه إذا دلّ الدليل على كفاية الارتماسي في مقام الامتثال فنستكشف أن البواطن غير واجبة الغسل في الغسل هذا.

مضافاً إلى الأخبار الواردة في الوضوء من تعليل عدم وجوب غسل داخل الأنف والعين في روايات المضمضة والاستنشاق بأنهما من الجوف (٢) حيث يدلّ على أنّ الجوف ممّا لا يجب غسله وأنّ الواجب إنّما هو غسل ما ظهر ، ويؤيِّده بعض الروايات الضِّعاف الواردة في المسألة (٣).

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٣٠ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٥ ، ١٢.

(٢) الوسائل ١ : ٤٣١ / أبواب الوضوء ب ٢٩ ح ٦ ، ٩ ، ١٠ ، ١٢.

(٣) الوسائل ٢ : ٢٢٦ / أبواب الجنابة ب ٢٤ ح ٦ ، ٧ ، ٨ ، ٥.

٣٥٩

ولا يجب غسل الشّعر مثل اللِّحية ، بل يجب غسل ما تحته من البشرة ، ولا يجزئ غسله عن غسلها ، نعم يجب غسل الشّعور الدقاق الصغار المحسوبة جزءاً من البدن مع البشرة (١).

______________________________________________________

الشّعر لا يجب غسله في الغسل‌

(١) الكلام في ذلك يقع في مقامين :

أحدهما : في أن غسل الشعر يجزئ عن غسل البشرة أو لا يجزئ.

وثانيهما : في أنه على تقدير عدم إجزائه هل يجب غسله مستقلا أو لا يجب؟

أمّا المقام الأوّل فلا ينبغي الإشكال في أن الواجب إنما هو غسل البشرة لصحيحة زرارة المتقدِّمة الآمرة بغسل البدن من القرن إلى القدم ، لأنّ القرن بمعنى منبت الشّعر وظاهره وجوب إيصال الماء إلى جميع أجزاء البشرة ولا يكفي إيصاله إلى الشعر دون البشرة. وفي صحيحة أُخرى « ثمّ أفض على رأسك وجسدك » (١) وفي موثقة سماعة « يفيض الماء على جسده كلّه » (٢) وفي بعضها : « إذا مسّ جلدك الماء فحسبك » (٣) وفي آخر : « الجنب ما جرى عليه الماء من جسده قليله وكثيره فقد أجزأه » (٤) ومن الظاهر أن الجسد غير الشعر ، وهو ليس من البدن ، وإنما الشّعر من توابعه لا من الجسد. ويؤكِّد ذلك بل يدلّ عليه ما ورد من أن النِّساء يبالغن في غسل مواضع الشعر من جسدهنّ (٥) ولا وجه له إلاّ إيصال الماء إلى البشرة.

وأمّا ما ورد في صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام من قوله : أرأيت ما‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٣٠ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٦.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٣١ / أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٨.

(٣) الوسائل ١ : ٤٨٥ / أبواب الوضوء ب ٥٢ ح ٣.

(٤) الوسائل ٢ : ٢٤٠ / أبواب الجنابة ب ٣١ ح ٣.

(٥) الوسائل ٢ : ٢٥٥ / أبواب الجنابة ب ٣٨ ح ١ ، ٢. في الثانية : يبالغن في الغسل. وفي الاولى : فقد ينبغي ان يبالغن في الماء.

٣٦٠