بحث حول المهدي (عج)

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحث حول المهدي (عج)

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الدكتور عبدالجبار شرارة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ١٤٣

بروزه (١) على الساحة وإقامة العدل على الأرض؟

ويتساءلون أيضأ!

كيف نستطيع أن نؤمن بوجود المهدي ، حتى لو افترضنا أن هذا ممكن؟ وهل يسوغ لإنسان أن يعتقد بصحة فرضية من هذا القبيل دون أن يقوم عليها دليل علمي أوشرعي قاطع؟ (٢) وهل تكفي بضع روايات تنقل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا نعلم مدى صحتها (٣) للتسليم بالفرضية المذكورة؟

ويتساءلون أيضأ بالنسبة إلى ما أعدّ له هذا الفرد من دور في اليوم الموعود!

كيف يمكن أن يكون للفرد هذا الدور العظيم الحاسمم في حياة العالم؟! مع أن الفرد مهما كان عظيما لا يمكنه أن يصنع بنفسه التاريخ ، ويدخل به مرحلة جديدة ، وإنما تختمر بذور الحركة التاريخية وجذوتها في الظروف الموضوعية وتناقضاتها ، وعظمة الفرد (٤) هي التي ترشحه لكي يشكل الواجهة لتلك الظروف الموضوعية ، والتعبير العملي عما تتطلبه من حلول؟

__________________

(١) إن هذه المسألة مرهونة باشتراطاتها الخاصة ، وكما تأخر النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى زمن ظهوره المبارك لحكم وامور اقتضتها حكمة المرسل ( الله ) تعالى على رغم الاحتياج إليه ، فكذا الأمر هنا.

(٢) سيناقش الشهيد الصدر هذه المسألة تفصيلأ.

(٣) الواقع ـ وكا سيأتي ـ أنّ علماء الأمة الإسلامية أجمعوا على صحة أحاديث المهدي عليه‌السلام ، ولم يشذ إلا من هو ليس من أهل المعرفة بالحديث. راجع : التاج الجامع للأصول ٥ : ٣٦١.

(٤) لقد رأينا كيف صنع ( الأبطال ) تاريخ أممهم ، على أن الشهيد الصدر قدس‌سره هنا يقدّم فهما أصيلأ ومهما جدأ لحركة التاريخ ودور الفرد البطل ، وأمية الظروف الموضوعية في التأثير. وقد أشار توماس كارليل في كتابه ( الأبطال ) إلى دور البطل. راجع كتابه المذكور ، ترجمة الدكتور السباعي ـ مصر ـ سلسلة الألف كتاب.

٦١

ويتساءلون أيضأ!

ما هي الطريقة التي يمكن أن نتصور من خلالها ما سيتمُّ على يد ذلك الفرد من تحوّل هائل وانتصار حاسم للعدل ورسالة العدل على كل كيانات الظلم والجور والطغيان ، على الرغم مما تملك من سلطان ونفوذ ، وما يتواجد لديها من وسائل الدمار والتدمير ، وما وصلت إليه من المستوى الهائل في الإمكانات العلمية والقدرة السياسية والاجتماعية والعسكرية؟ (١)

هذه أسئلة قد تتردد في هذا المجال وتقال بشكل وآخر ، وليست البواعث الحقيقية لهذه الأسئلة فكرية فحسب ، بل هناك مصدر نفسي لها أيضأ ، وهو الشعور بهيبة الواقع المسيطر عالمياً ، وضآلة أي فرصة لتغييره من الجذور ، وبقدر ما يبعثه الواقع الذي يسود العالم على مز الزمن من هذا الشعور ، تتعمق الشكوك وتترادف التساؤلات. وهكذا تؤدي الهزيمة والضآلة والشعور بالضعف لدى الإنسان إلى أن يحسّ نفسياً بإرهاق شديد ، لمجرد تصور عملية التغيير الكبرى للعالم التي تفرغه من كل تناقضاته ومظالمه التاريخية ، وتعطيه محتوىً جديداً قائماً على أساس الحق والعدل ، وهذا الإرهاق يدعوه إلى التشكك في هذه الصورة ومحاولة رفضها لسبب وآخر.

ونحن الآن نأخذ التساؤلات السابقة تباعأ؟ لنقف عند كل واحد منها وقفة قصيرة بالقدر الذي تتسع له هذه الوريقات.

__________________

(١) في هذا إشارة إلى أسلحة الدمار ( الشامل ) فضلأ عن التطور التكنولوجي الذي شمل وسائل الإعلام المرئية والمسموعة وتأثيراتها الهانلة. إلأ أننا شهدنا كيف توجد بالمقابل الأسلحة المضادة التي كثيراً ما تعطّل تلك التأثيرات ، وكذلك رأينا تأثير المعنويات في إبطال مفعول أسلحة الخصم المختلفة أو التقليل من آثارها إلى حدّ كبير جداً ، كما حدث في الثورات والانتفاضات الشعبية.

٦٢
٦٣

( المبحث الأوّل )

كيف تأتّى للمهدي

هذا العمر الطويل؟

٦٤
٦٥

هل بالإمكان أن يعيش الإنسان قروناً كثيرة كما هو المفترض في هذا القائد المنتظر لتغيير العالم ، الذي يبلغ عمره الشريف فعلاًً أكثر من ألف ومائة وأربعين سنة ، أي حوالي (١٤) مرة بقدر عمر الإنسان الاعتيادي الذي يمرّ بكل المراحل الاعتيادية من الطفولة إلى الشيخوخة؟

كلمة الإمكان هنا تعني أحد ثلاثة معاني : الإمكان العملي ، والإمكان العلمي ، والإمكان المنطقي أو الفلسفي.

وأقصد بالإمكان العملي : أن يكون الشيء ممكناً على نحو يتاح لي أو لك ، أو لإنسان آخر فعلاًً أن يحققه ، فالسفر عبر المحيط ، والوصول إلى قاع البحر ، والصعود إلى القمر ، أشياء أصبح الا إمكان عملي فعلاًً. فهناك من يمارس هذه الأشياء فعلاًً بشكل وآخر (١).

وأقصد بالإمكان العلمي : أن هناك أشياء قد لا يكون بالإمكان عمليأ لي أو لك ، أن تُمارسها فعلاًً بوسائل المدنية المعاصرة ، ولكن لا يوجد لدى العلم ولا

__________________

(١) ولم تكن مثل هذه الأمور بمتصورة سابقاً قبل وقوعها ، ولو حَدّثَ بها أحد من الناس قبل تحققها فعلاًً لعدّ الحديث مجرد تخيلات وأوهام.

٦٦

تشير اتجاهاته المتحركة إلى ما يبرر رفض إمكان هذه الأشياء ووقوعها وفقاً لظروف ووسائل خاصة ، فصعود الإنسان إلى كوكب الزهرة لا يوجد في العلم ما يرفض وقوعه ، بل إن اتجاهاته القائمة فعلاً تشير إلى إمكان ذلك ، وإن لم يكن الصعود فعلاً ميسورأ لي أو لك؟ لأن الفارق بين الصعود إلى الزهرة والصعود إلى القمر ليس إلأ فارق درجة ، ولا يمثل الصعود إلى الزهرة إلأ مرحلة تذليل الصعاب الإضافية التي تنشأ من كون المسافة أبعد ، فالصعود إلى الزهرة ممكن علمياً وإن لم يكن ممكنأ عمليأ فعلاً (١). وعلى العكس من ذلك الصعود إلى قرص الشمس في كبد السماء فإثه غير ممكن علمياً ، بمعنى أن العلم لا أمل له في وقوع ذلك ، إذ لا يتصور علمياً ، وتجريبيأ إمكانية صنع ذلك الدرع الواقي من الاحتراق بحرارة الشمس ، التي تمثل أئونأ هائلأ مستعرأ بأعلى درجة تخطر على بال إنسان.

وأقصد بالإمكان المنطقي أو الفلسفي : أن لا يوجد لدى العقل وفق ما يدركه من قوانين قَبْلية ـ أي سابقة على التجربة ـ ما يبرر رفض الشيء والحكم باستحالته.

فوجود ثلاث برتقالات تنقسم بالتساوي وبدون كسر إلى نصفين ليس له إمكان منطتي؟ لأن العقل يدرك ـ قبل أن يمارس أي تجربةـ أن الثلاثة عدد فردي وليس زوجاً ، فلا يمكن أن تنقسم بالتساوي؟ لأن انقسامها بالتساوي يعني كونها زوجاً ، فتكون فردأ وزوجاً في وقت واحد ، وهذا تناقض ، والتناقض مستحيل منطقيأ. ولكن دخول الإنسان في النار دون أن يحترق ، وصعوده للشمس دون أن تحرقه الشمس بحرارتها ليس مستحيلاً من الناحية المنطقية ، إذ لا تناقض في

__________________

(١) الكلام في وقته دقيق علمياًً ، فهو يقول : إنه ممكن علمياً ، ولكنه لم يكن قد تحقق فعلاً ، والواقع أن كثيراً من الإنجازات في عالم الفضاء ، وتسيير المركبات الفضائية إلى كواكب وتوابع الأرض وغيرها قد أصبح حقائق في أواخر القرن العشرين.

٦٧

افتراض أن الهرارة لا تتسرب من الجسم الأكثر حرارة إلى الجسم الأقل حرارة ، وإئما هو مخالف للتجربة التي أثبتت تسرب الحرارة من الجسم الأكثر حرارة إلى الجسم الأقل حرارة إلى أن يتساوى الجسمان في الحرارة.

وهكذا نعرف أن الإمكان المنطقي أوسع دائرة من الإمكان العلمي ، وهذا أوسع دائرة من الإمكان العملي.

ولا شذ في أن امتداد عمر الإنسان آلاف السنين ممكن منطقيأ؟ لأن ذلك ليس مستحيلاً من وجهة نظر عقلية تجريدية ، ولا يوجد في افتراض من هذا القبيل أي تناقض؟ لأن الحياة كمفهوم لا تستبطن الموت السريع ، ولا نقاش في ذلك.

كما لا شكّ أيضأ ولا نقاش في أن هذا العمر الطويل ليس ممكنأ إمكانأ عمليأ ، على نحو الإمكانات العملية للنزول إلى قاع البحر أو الصعود إلى القمر ، ذلك لأن العلم بوسائله وأدواته الحاضرة فعلاً ، والمتاحة من خلال التجربة البشرية المعاصرة ، لا تستطيع أن تمدد عمر الإنسان مئات السنين ، ولهذا نجد أن أكثر الناس حرصأ على الحياة وقدرة على تسخير إمكانات العلم ، لا يحتاح لهم من العمر إلاّ بقدر ما هو مألوف.

وأما الإمكان العلمي فلا يوجد عملياً اليوم ما يبرر رفض ذلك من الناحية النظرية (١). وهذا بحث يتصل في الحقيقة بنوعية التفسير الفسلجي لظاهرة الشيخوخة والهرم لدى الإنسان ، فهل تعبز هذه الظاهرة عن قانون طبيعي يفرض على أنسجة جسم الإنسان وخلاياه ـ بعد أن تبلغ قمة نموها ـ أن تتصلب بالتدريج

__________________

(١) نعم ، لا يوجد مبرر علمي واحد يرفض هذه النظرية ، بل إن علماء الطبّ منشغلون فعلاً بمحاولات حثيثة لإطالة عمر الإنسان ، وإن هناك عشرات التجارب التي تتممّ في هذا المجال ، وذلك وحده ينهض دليلاً قوياً على الإمكان النظري أو العلمي.

٦٨

وتصبح أقل كفاءة للاستمرار في العمل ، إلى أن تتعطل في لحظة معينة ، حتى لو عزلناها عن تأثير أي عامل خارجي؟ أو أن هذا التصلب وهذا التناقص في كفاءة الأنسجة والخلايا الجسمية للقيام بأدوارها الفسيولوجية ، نتيجة صراع مع عوامل خابىجية كالميكروبات أو التسمم الذي يتسرب إلى الجسم من خلال ما يتناوله من غذاء مكثف؟ أو ما يقوم به من عمل مكثف أو أي عامل آخر؟

وهذا سؤال يطرحه العلم اليوم على نفسه ، وهو جاد في الإجابة عنه ، ولا يزال للسؤال أكثر من جواب على الصعيد العلمي.

فإذا أخذنا بوجهة النظر العلمية التي تتجه إلى تفسير الشيخوخة والضعف الهرمي ، بوصفه نتيجة صراع واحتكاك مع مؤثرات خارجية معينة ، فهذا يعني أن بالإمكان نظرياً ، إذا عُزلت الأنسجة التي يتكون منها جسم الإنسان عن تلك المؤثرات المعيّنة ، أن تمتد بها الحياة وتتجاوز ظاهرة الشيخوخة وتتغلب عليها نهائياً.

وإذا أخذنا بوجهة النظر الأخرى ، التي تميل إلى افتراض الشيخوخة قانوناً طبيعياً للخلايا والأنسجة الحيّة نفسها ، بمعنى أنها تحمل في أحشائها بذرة فنائها المحتوم ، مروراً بمرحلة الهرم والشيخوخة وانتهاءً بالموت.

أقول :

إذا أخذنا بوجهة النظر هذه ، فليس معنى هذا عدم افتراض أي مرونة في هذا القانون الطبيعي ، بل هو ـ على افتراض وجوده ـ قانون مرن ؛ لأننا نجد في حياتنا الاعتيادية؟ ولأن العلماء يشاهدون في مختبراتهم العلمية ، أن الشيخوخة كظاهرة فسيولوجية لا زمنية ، قد تأتي مبكرة ، وقد تتأخر ولا تظهر إلأ في فترة متأخرة ، حتى إن الرجل قد يكون طاعنأ في السن ولكنه يملك أعضاء لينة ، ولا

٦٩

تبدو عليه أعراض الشيخوخة كما نصّ على ذلك الأطباء (١). بل إن العلماء استطاعوا عمليأ أن يستفيدوا من مرونة ذلك القانون الطبيعي المفترض ، فأطالوا عمر بعض الحيوانات مئات المرات بالنسبة إلى أعمارها الطبيعية؟ وذلك بخلق ظروف وعوامل تؤجل فاعلية قانون الشيخوخة.

وبهذا يثبت عملياً أن تأجيل هذا القانون بخلق ظروف وعوامل معيّنة أمر ممكن عملياً ، ولئن لم يتح للعلم أن يمارس فعلاً هذا التأجيل بالنسبة إلى كائنٍ معقد معين كالإنسان ، فليس ذلك إلاّ لفارق درجة بين صعوبة هذه الممارسة بالنسبة إلى الإنسان وصعوبتها بالنسبة إلى أحياء أخرى. وهذا يعني أن العلم من الناحية النظرية وبقدر ما تشير إليه انجاهاته المتحركة لا يوجد فيه أبداً ما يرفض إمكانية إطالة عمر الإنسان ، سواء فشرنا الشيخوخة بوصفها نتاج صراع واحتكاك مع مؤثرات خارجية أو نتاج قانون طبيعي للخليّة الحيّة نفسها يسير بها نحو الفناء.

ويتلخص من ذلك : أن طول عمر الإنسان وبقاءه قروناً متعددة أمر ممكن منطقياً وممكن عملياً ، ولكنه لا يزال غير ممكن عملياً ، إلاّ أن اتجاه العلم سائر في طريق تحقيق هذا الإمكان عبر طريق طويل.

وعلى هذا الضوء نتناول عمر المهدي عليه الصلاة والسلام وما أحيط به من استفهام أو استغراب ، ونلاحظ :

إنه بعد أن ثبت إمكان هذا العمر الطويل منطقياً وعلمياً ، وثبت أن العلم

__________________

(١) يؤكد الأطباء والدراسات الطبية على هذه الملاحظة ، وأن لديهم مشاهدات كثيرة في هذا المجال ، ولعل هذا هو الذي دفعهم إلى إجراء محاولات وتجارب لإطالة العمر الطبيعي للإنسان ، وكالمعتاد كان مسرح التجربة في البداية هي الحيوانات لميسورية ذلك ، وعدم وجود محاذير اخرى تمنع إجراء مثل تلك التجارب على الإنسان.

٧٠

سائر في طريق تحويل الإمكان النظري إلى إمكان عملي تدريجأ ، لا يبقى للاستغراب محتوىً إلاّ استبعاد أن يسبق المهدي العلم نفسه ، فيتحول الإمكان النظري إلى إمكان عملي في شخصه قبل أن يصل العلم في تطوره إلى مستوى القدرة الفعلية على هذا التحويل ، فهو نظير من يسبق العلم في اكتشاف دواء ذات السحايا أو دواء السرطان.

وإذا كانت المسألة هي أنه كيف سبق الإسلام ـ الذي صمّم عمر هذا القائد المنتظر ـ حركة العلم في مجال هذا التحويل؟

فالجواب : أنه ليس ذلك هو المجال الوحيد الذي سبق فيه الإسلام حركة العلم.

أوليست الشريعة الإسلامية ككل قد سبقت حركة العلم والتطور الطبيعي للفكر الإنساني قروناً عديدة؟ (١)

أوَلم تناد بشعارات طرحت خططاً للتطبيق لم ينضج الإنسان للتوصل إليها في حركته المستقلة إلاّ بعد مئات السنين؟

أوَلم تأت بتشريعات في غاية الحكة ، لم يستطع الإنسان أن يدرك أسرارها ووجه الحكة فيها إلأ قبل برهة وجيزة من الزمن؟

أوَلم تكشف رسالة السماء أسراراً من الكون لم تكن تخطر على بال إنسان ، ثم

__________________

(١) هذه التساؤلات التي يثيرها السيد الشهيد رضي الله عنه تهدف إلى ترسيخ حقيقة مهمة ، هي أن الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندما بشر ( بالمهدي ) ، وهو حالة غير اعتيادية في سياق البشرية ، تنبئ في جملتها عن تسجيل سبقٍ في الإمكانية العملية ، بحد تأكيد الإمكانية العلمية ، أى لبقاء الإنسان مدة أطول بكثير من المعتاد ، فإن مثل هذا السبق في التنبيه على حقائق ني هذا الوجود كان قد سجّله القرآن والحديث الشريف في موارد كثيرة جدأ في مسائل الطبيعة والكون والحيا ة. راجع : القرآن والعلم الحديث / الدكتور عبدالرزاق نوفل.

٧١

جاء العلم ليثبتها ويدعمها؟

فإذا كنا نؤمن بهذا كله ، فلماذا نستكثر على مرسل هذه الرسالة ـ سبحانه وتعالى ـ أن يسبق العلم في تصميم عمر المهدي؟ (١) وأنا هنا لم أتكلم إلأ عن مظاهر السبق التي نستطيع أن نحسّها نحن بصورة مباشرة ، ويمكن أن نضيف إلى ذلك مظاهر السبق التي تحذثنا بها رسالة السماء نفسها.

ومثال ذلك أنها تخبرنا بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أسري به ليلأ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، وهذا الإسراء (٢) إذا أردنا أن نفهمه في إطار القوانين الطبيعية ، فهو يعبز عن الاستفادة من القوانين الطبيعية بشكل لم يتح للعلم أن يُحقّقه (٣) إلأ بعد مئات السنين ، فنفس الخبرة الربانية التي أتاحت للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التحرك السريع قبل أن يتاح للعلم تحقيق ذلك ، أتاحت لآخر خلفائه المنصوصين العمر المديد ، قبل أن يتاح للعلم تحقيق ذلك.

نعم ، هذا العمر المديد الذي منحه الله تعالى للمنقذ المنتظر يبدو غريبأ في

__________________

(١) إشارة إلى أن هذا من قبيل الإعجاز أيضاً ، وهو إفاضة ربانية خاصة ، وهذا أمر لا يسع المسلم إنكاره ، بعد أن أخبرت بأمثا له الكتب السماوية ، وبالأخص القرآن ، كالذي ورد في شأن عمر الني نوح عليه‌السلام ، وكذا ما أخبر به القرآن من المغيبات الأخرى ، على أن كثيراً من أهل السنّة ومن المتصوفة وأهل العرفان يؤمنون بوقوع الكرامات ومايشبه المعجزات للأولياء والصلحاء والمقزبين من حضرة المولى تعالى. راجع : التصوف والكرامات / الشيخ محمد جواد مغنية. وراجع : التاج الجامع للأصول ٥ : ٢٢٨ / كتاب الزهد والرقائق ـ الذين تكلموا في المهد.

(٢) إشارة إلى الآية المباركة : ( سُبْحَانَ الَّذي أَسْرَى بِعَبدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى ... ) الإسراء : ١.

(٣) إشارة إلى تصميم المركبات الفضانية ، وركوب الفضاء والتوغل إلى مسافات بعيدة عن أرضنا ، وقطعها في ساعات أو أيام معدودة ، وقد أضحت هذه حقائق في حياتنا المعاصرة في أواخر القرن العشرين.

٧٢

حدود المألوف حتى اليوم في حياة الناس ، وفي ما أنجز فعلاً من تجارب العلما ،.

ولكن!

أو ليس الدور التغييري الحاسم الذي أُعدّ له هذا المنقذ غريبأ في حدود المألوف في حياة الناس ، وما مزت جمعهم من تطورات التاريخ؟

أو ليس قد أنيط به تغيير العالم ، وإعادة بنائه الحضاري من جديد على أساس الحق والعدل؟

فلماذا نستغرب إذا اتّسم التحضير لهذا الدور الكبير ببعض الظواهر الغريبة والخارجة عن المألوف كطول عمر المنقذ المنتظر؟ فإن غرابة هذه الظواهر وخروجها عن المألوف مهما كان شديداً ، لا يفوق بحال غرابة نفس الدور العظيم الذي يجب على اليوم الموعود إنجازه. فإذا كنا نستسيغ ذلك الدور الفريد (١) تاريخيأ على الرغم من أنه لا يوجد دور مناظر له في تاريخ الإنسان ، فلماذا لا نستسيغ ذلك العمر المديد الذي لا نجد عمرأ مناظرأ له في حياتنا المألوفة؟

ولا أدري!

هل هي صدفة أن يقوم شخصان فقط بتفريغ الحضارة الإنسانية من محتواها الفاسد وبنائها من جديد ، فيكون لكل منهما عمر مديد يزيد على أعمارنا الاعتيادية أضعافاً مضاعفة؟

أحدهما مارس دوره في ماضي البشرية وهو النبي نوح ، الذي نصّ القرآن

__________________

(١) إشارة إلى ما أعذ للإمام المهدي المنتظر من دور ومهمة تغييرية على مستوى الوجود الإنساني برمته كما يشير الحديث الصحيح : «يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلما وجورا » ، وهذا الدور وهذه المهمة عليها الإجماع بين علماء الإسلام ، والاختلاف حصل في أمور فرعية. ومن هنا كان التساؤل الذي أثاره السيد الشهيد رضي الله عنه له مبرر منطقي قوي.

٧٣

الكريم (١) على أنه مكث في قومه ألف سنة إلاّ خمسين عاماً ، وقدّر له من خلال الطوفان أن يبني العالم من جديد.

والآخر يمارس دوره في مستقبل البشرية وهو المهدي الذي مكث في قومه حتى الآن أكثر من ألف عام وسيقدّر له في اليوم الموعود أن يبني العالم من جديد.

فلماذا نقبل نوح الذي ناهز ألف عام على أقل تقدير ولا نقبل المهدي؟ (٢)

__________________

(١) في الآية المباركة : ( فلَبثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً ) العنكبوت : ١٤.

(٢) السؤال موجّه إلى المسلمين المؤمنين بالقرآن الكريم وبالحديت النبوي الشريف ، وقد روى علماء السنّة لغير نوح ما هو أكثر من ذلك. راجع تهذيب الأسماء واللغات / النووي ١ : ١٧٦ ، ولايصخ أن يشكل أحد بأن ذاك أخبر به القرآن فالنمق قطعي الثبوت ، وهو يتعلق بالنبى المرسل نوح عليه‌السلام ، أما هنا فليس لدينا نصّ قطعي ، ولا الأمر متعلق بنبيّ.

والجواب : أن المهمة أولأ واحدة ، وهي تغيير الظلم والفساد ، وأن الوظيفة كما أوكلت إلى النبي ، فقد اوكلت هنا إلى من اختاره الله تعالى أيضأكما هو لسان الروايات الصحيحة. قال الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لَوْ لَمْ يَبِقْ مِنَ الدنيا إلاّ يومٌ لطوّل اللهُ ذلك اليَوم حتّى يَبعثَ رَجُلاً مِنْ أهلِ بيتي يملأ الأرضَ قِسْطاً وَعدلاً ... » التاج الجامع للأصول ٥ : ٣٤٣.

وأما من جهة قطعية النص ، فأحاديث المهدي بلغت حدّ التواتر ، وهو موجب للقطع والعلم ، فلا فرق في المقامين. راجع : التاج الجامع للأصول ٥ : ٣٤١ و ٣٦٠ فقد نقل التواتر عن الشوكاني ، وانتهى المحققون من علماء الفريقين إلى القول بأنّ من كفر بالمهدي فقد كفر بالرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس ذلك إلاّ بلحاظ أنه ثبت بالتواتر ، وأنه من ضرورات الدين ، والمنكر لذلك كافر إجماعاً. وراجع : الإشاعة لأشراط الساعة / البرزنجي في بحثه حول المهدي. وقد نقلنا حكاية التواتر في المقدمة أيضأ.

٧٤
٧٥

( المبحث الثاني )

المعجزة والعمر الطويل

٧٦
٧٧

وقد عرفنا حتى الآن أنّ العمر الطويل ممكن علمياً ، ولكن لنفترض أنه غير ممكن علمياً ، وانّ قانون الشيخوخة والهرم قانون صارم لا يمكن للبشرية اليوم ، ولا على خطها الطويل ان تتغلب عليه ، وتغير من ظروفه وشروطه ، فماذا يعني ذلك؟ إنّه يعني أنّ إطالة عمر الإنسان ـ كنوحٍ أو كالمهدي ـ قروناً متعددة ، هي على خلاف القوانين الطبيعية التي أثبتها العلم بوسائل التجربة والاستقراء الحديثة ، وبذلك تصبح هذه الحالة معجزة عطلت قانوناً طبيعياً في حالة معينة للحفاظ على حياة الشخص الذي أنيط به الحفاظ على رسالة السماء ، وليست هذه المعجزة فريدة من نوعها ، او غريبة على عقيدة المسلم المستمدة من نصّ القرآن والسنّة (١) ، فليس قانون الشيخوخة والهرم أشدّ صرامة من قانون انتقال الحرارة من الجسم الأكثر حرارة إلى الجسم الأقل حرارة حتى يتساويا ، وقد عطّل هذا القانون لحماية حياة أبراهيم عليه‌السلام حين كان الأسلوب الوحيد للحفاظ عليه تعطيل ذلك القانون. فقيل للنار حين ألقي فيها إبراهيم ( قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم) أنبياء : ٦٩ ، فخرج منها كما دخل سليماً لم يصبه أذىً ، إلى كثير من القوانين الطبيعية التي عطّلت

__________________

(١) أي أنّ الأمر يصبح من قبيل المعجز ، وهو ما نطق به القرآن ، وجاء في صحيح السنّة المطهرة ، والإعجاز حقيقة رافقت دعوة الأنبياء ، وادّعاء سفارتهم عن الحضرة الإلهية ، وهو ما لا يسع المسلم إنكاره أو الشك فيه ، بل إنّ غير المسلم يشارك المسلم في الاعتقادات بالمعجزات.

٧٨

لحماية أشخاص من الأنبياء وحجج الله على الارض ، ففلق البحر لموسى (١) ، وشبّه للرومان أنهم قبضوا على عيسى (٢) ولم يكونوا قد قبضوا عليه ، وخرج النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من داره وهي محفوفة بحشود قريش التي ظلّت ساعات تتربص به لتهجم عليه ، فستره الله تعالى عن عيونهم وهو يمشي بينهم (٣). كلّ هذه الحالات تمثل قوانين طبيعية عطّت لحماية شخص ، كانت الحكمة الربانية تقتضي الحفاظ على حياته ، فليكن قانون الشيخوخة والهرم من تلك القوانين.

وقد يمكن ان نخرج من ذلك بمفهوم عام وهو انه كلّما توقف الحفاظ على حياة حجة لله في الارض على تعطيل قانون طبيعي ، وكانت إدامة حياة ذلك الشخص ضرورية لإنجاز مهمته التي اُعدّ لها ، تدخلت العناية الربانية في تعطيل ذلك القانون لإنجاز ذلك ، وعلى العكس اذا كان الشخص قد انتهت مهمته التي اُعِدّ لها ربانياً فإنه سيلقى حتفه ويموت أو يستشهد وفقاً لما تقرره القوانين الطبيعية.

ونواجه عادة بمناسبة هذا المفهوم العام السؤال التالي :كيف يمكن ان يتعطل القانون (٤)؟ وكيف تنفصم العلاقة الضرورية التي تقوم بين الظواهر الطبيعية؟ وهل هذه إلاّ مناقضة للعلم الذي اكتشف ذلك القانون الطبيعي ، وحدّده هذه العلاقة

__________________

(١) إشارة الى قوله تعالى : ( فأَُوْحُيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِعَصَاكَ البَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ) الشعراء : ٦٣.

(٢) إشارة الى قوله تعالى : ( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ ... ) النساء : ١٥٧.

(٣) راجع : سيرة ابن هشام ٢ : ١٢٧ ، فقد نقل هذه الحادثة وهي مجمعٌ عليها.

(٤) قد يقال : إنّ القانون بصفته قانوناً لابدّ أن يطّرد ، ولا يتصور التعطيل والانخرام ، وقد لاحظ بعضهم أنّ الانخرام إنما هو بقانون آخر ، كما هو الأمر بالنسبة إلى قانون الجاذبية ، الذي يستلزم جذب الأشياء الى المركز ، ومع ذلك فإنّ الماء يصعد بعملية الامتصاص في النباتات من الجذر إلى الأعلى بواسطة الشعيرات ، وهذا بحسب قانون آخر هو ( الخاصية الشعرية ). راجع : القرآن محاولة لفهم عصري / الدكتور مصطفى محمود.

٧٩

الضرورية على أسس تجريبية واستقرائية؟!

والجواب : أنّ العلم نفسه قد أجاب عن هذا السؤال بالتنازل عن فكرة الضرورة في القانون الطبيعي ، وتوضيح ذلك : إنّ القانون الطبيعية يكتشفها العلم على اساس التجربة والملاحظة المنتظمة ، فحين يطّرد وقوع ظاهرة طبيعية عقيب ظاهرة أخرى يستدل بهذا الاطّراد على قانون طبيعي ، وهو أنه كلّما وجدت الظاهرة الاولى وجدت الظاهرة الثانية عقيبها ، غير أنّ العلم لا يفترض في هذا القانون الطبيعي علاقة ضرورية بين الظاهرتين نابعة من صميم هذه الظاهرة وذاتها ، وصميم تلك وذاتها ؛ لأنّ الضرورة حالة غيبية ، لا يمكن للتجربة ووسائل البحث الاستقرائي والعلمي إثباتها ، ولهذا فإنّ منطق العلم الحديث يؤكد أنّ القانون الطبيعي ـ كما يعرّفه العلم ـ لا يتحدث عن علاقة ضرورية ، بل عن اقتران مستمر بين ظاهرتين (١) ، فإذا جات المعجزة وفصلت إحدى الظاهرتين عن الاخرى في قانون طبيعي لم يكن ذلك فصماً لعلاقة ضرورية بين الظاهرتين.

والحقيقة أنّ المعجزة بمفهومها الديني ، قد أصبحت في ضوء المنطق العلمي الحديث مفهومة بدرجة أكبر مما كانت عليه في ظلّ وجهة النظر الكلاسيكية الى علاقات السببية.

فقد كانت وجهة النظر القديمية تفترض أنّ كلّ ظاهرتين اطرّد اقتران إحداهما بالأخرى فالعلاقة بينهما علاقة ضرورة ، والضرورة تعني أنّ من المستحيل ان تنفصل إحدى الظاهرتين عن الاخرى ، ولكن هذه العلاقة تحولت في منطق العلم الحديث إلى قانون الاقتران أو التتابع المطّرد (٢) بين الظاهرتين دون افتراض تلك الضرورة الغيبية.

__________________

(١) وقد بسط الشهيد الصدر القول في هذه المسألة في كتابه فلسفتنا فراجع ص ٢٩٥ و ٢٩٩.

(٢) راجع فلسفتنا : ص ٢٨٢ وما بعدها.

٨٠