بحث حول المهدي (عج)

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحث حول المهدي (عج)

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الدكتور عبدالجبار شرارة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ١٤٣

ولجأ آخرون إلى انكار ولادته (١) الميمونة بإقراء ذوي المطامع (٢) او الطموح السياسي والاجتماعي لتبني هذا الإنكار والإفادة منه ، إلى غير ذلك من التعلقات الواهنة التي تسقط لدى عرضها على الحقائق الوفيرة ، فضلاً عن مقتضيات الأحاديث الصريحة الصحيحة.

وبالجملة فإنّ منهج المشككين لم يخرج عن مثل تلك المنطلقات والتوهمات أو المغالطات المنكرة ، فضلاً عن تعارضه مع الأصول المعتبرة الدينية والروائية.

ولعل من المناسب أن نورد ضمن هذا المنهج ما ذهب إليه بعض المعاصرين من أمثال إحسان إلهي ظهير (٣) والبنداري (٤) والسائح ، ومن احتذى حذوهم ، وقلّدهم تقليداً أعمى من المنسوبين إلى الشيعة.

وملخّص ما أثاروه واستندوا إليه أمور نذكرها كما وردت على ألسنتهم ، ثمّ نناقش أسس مدّعياتهم ومنهجهم ، وذلك كما يأتي :

١ ـ قالوا : إنّ الشيعة وقعوا في حيرة واضطراب بعد وفاة الإمام العسكري ، وخاصة فيما يتعلق بولادة الإمام المهدي ( محمد بن الحسن ) ؛ لوجود الغموض فيما ورد عنه من طريق الأئمة عليهم‌السلام عندما سُئلوا عنه.

٢ ـ قالوا : إنّ الشيعة انقسموا وتفرقوا إلى أربع عشرة فرقة في مسالة الإمام

__________________

(١) راجع : دفاع عن الكافي : ١ : ٥٦٩ فقد أورد المؤلف شهادات واعترافات وإثباتات وافية عن علماء أهل السنّة من القرن الرابع الهجري إلى القرن الرابع عشر في إثبات ولادة المهدي واستمرار حياته ووجوده الشريف.

(٢) راجع : الإرشاد / الشيخ المفيد : ص ٣٤٥ ، وراجع أيضاً سيرة الأئمة الاثني عشر / الحسني ٢ : ٥٣٤ ـ ٥٣٨ في قضية جعفر الكذّاب.

(٣) راجع الشيعة والتشيع ـ فرق وتاريخ : وص ٢٦١ و ٣٠١ / الطبعة الثانية ١٣٨٤ هـ ـ باكستان.

(٤) راجع التشيع بين مفهوم الائمة والمفهوم الفارسي / الطبعة الثانية ـ دار عمار ـ الأردن.

٢١

بعد وفاة الامام الحسن العسكري ، وأن أمر الإمام المهدي لو كان واضحاً ومهماً وجزءاً من المذهب الجعفري لما جاز الاختلاف فيه ، ولما أمكن ان يبقى امره سرّاً غامضاً.

٣ ـ زعموا أن الروايات التي تتحدث عن هوية الإمام المهدي ضعيفة وموضوعة ومختلفة ، سواء منها ما يتعلق باسم أمّه ، أم بتاريخ ولادته ، أم بما لابسَ ولادته ، أم بغيبته وسفرائه.

وقد ختم أحدهم تخرَصاته زاعماً بأنه لم يرفض إمامأ ثبت وجوده من أهل البيت ، إنما حصل عنده شكّ بولادة الإمام الثاني عشر؟ لعدم توفر الأدلة الكافية- بحسب زعمه- أو لعدم قناعته بها أي بالأدلة المذكورة ، وذكر أنه لايستبعد أن يطيل الله عمر إنسان كما أطال عمر النبي نوح عليه‌السلام ، بالرغم من عدم الحاجة والضرورة إلى ذلك. وأنه يبحث عن الأدلة التي تثبت أن الله تعالى قد فعل هذا بشخصِ آخر ، لأنه لا يمكن أن يعتقد بحدوث هذا عن طريق القياس والتشبيه ، ثم قال : «وقد كان سيدنا الصادق يرفض القياس بالأُمور الفرعية الجزئية فكيف في الأمور التاريخية والعقائدية ».

هذا ملخص ما أوردوه وانفتقت به عبقرياتهم وهم يحسبون أنهم جاءوا بما لم يتنبه إليه الأوائل.

وردّاً على هذه الإشكالات ، وجوابأ عن هذه الإثارات ، نقول :

أولأ ـ إن وجود الغموض في تحديد هوية الإمام المهدي ، ووقوع الحيرة لدى الشيعة ـ لو صخّ كما صوّره الخصم وضخّمه ـ هو دليل على الخصوم وليس لهم ، إذ عدم تحديد الهوية والإصرار على بقاء الأمرسرّاً دليلٌ على وجود الإمام والخوف عليه من الأعداء لا على عدم وجوده ، كما توهّموا.

٢٢

فالأئمة عليه‌السلام -كما وردت الروايات (١) ـ لم يريدوا الكشف عن التفاصيل المتعلقة بحياة الإمام المهدي وولادته الميمونة ، لمعرفتهم بتكالب الأعداء في طلبه ، وجدّهم وتربّصهم به ، وقد كانوا يبثون العيون ويترصدون كلّ حركة للعثور على الإمام والتخلص منه ، بعد أن أيقنوا بالأمر وشاهدوا ترقّب الأُمّة وتطلعها لمقدمه الشريف ليملأ الأرض قسطأ وعدلأ بعد أن ملئت ظلمأ وجورأ.

وكيف لا يحرص الأئمة عليهم‌السلام على حياته العزيزة ، وقد فعل سلاطين الجور الأفاعيل ، وارتكبوا الحماقات والشناعات بحق أهل البيت وذرية الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ طاردوهم وسجنوهم وأذاقوهم التشريد والقتل أخذاً بالظِنّة والتُهمة والوشاية المغرضة ، ودونك التاريخ فاقرأ في ( مقاتل الطالبيين ) للأصفهاني العجب العجاب.

وإذن فكيف يكون الحال وقد اطلع هؤلاء السلاطين على الروايات في صحاح المسلمين ومسانيدهم عن المهدي من العترة الطاهرة ، ومن ذرية فاطمة ومن أولاد الحسين تحديدأ ، وأنه سيظهر ليملأها قسطأ وعدلأ ، فهذه المعرفة اليقينية قد خلقت شعورأ قويأ لدى الحكام الظلمة بأن عروشهم ستنهار. وكان هذا ا الهاجس هو الذي يفسّر لنا تلك الإجراءات الغريبة وغير الاعتيادية التي اتخذتها السلطة الحاكمة عند سماع نبأ وفاة الإمام الحمسن العسكري عليه‌السلام مباشرة ، وليس هناك من تفسير معقول سوى اعتقادهم بوجود الإمام الثاني عشر الحجة ابن الحسن ، وأنه الإمام الموعود كما نطقت به الأخبار المتواترة لدى السُنّة والشيعة ، ولذا أسرعوا إلى دار الإمام عليه‌السلام واتخذوا مثل تلك الإجراءات الاستثنائية بدءأ من التفتيش الواسع والدقيق ، إلى حبس جواري الإمام وإخضاعهن

__________________

(١) راجع : الغيبة للنعماني من أعلام القرن الرابع الهجري / الباب ١٢ ، الغيبة الكبرى / السيد محمد الصدر / البحث التمهيدي.

٢٣

للفحص (١) ، كل ذلك في محاولة يائسة للقبض على الإمام. ولا عجب فقد حصل ذلك من نظرائهم ، وحدّثنا القرآن الكريم عن فعل فرعون للقبض على النبي موسى عليه‌السلام فنجّاه الله من الكيد.

ومن هنا نفهم السبب في إخفاء الإمام الصادق عليه‌السلام هوية المهدي والتفاصيل المتعلقة بهذا الأمر.

وليست الحيرة بعد ذلك والاضطراب إلأ حالة طبيعية في ظل مثل تلك الظروف والملابسات الخاصة التي رافقت قضية المهدي عليه‌السلام في وجوده وولادته ، وشغب السلطة وتمويهاتهم وإعلامهم الزائف. وإذن فليست ( الحيرة ) إلأ بسبب تلك الظروف والملابسات ، فضلأ عن أن الروايات الواردة عن الأئمة عليهم‌السلام قد أشارت إلى وقوع مثل هذه الحيرة والفتنة والتفرق ، كما نقل ذلك ابن بابويه القمي في ( التبصرة ) ، والشيخ النعماني في ( الغيبة ) الباب الثاني عشر.

ثانيأ ـ قولهم بضعف الروايات واختلاقها ، ولا ندري هل أنّهم يفرّقون بين الضعيف والموضوع أم هما عندهم سواء؟ ثم لماذا هذا الخلط المقصود بين مسألة وجود الإمام الحجة الثابتة بالطرق الصحيحة وبين بعض الروايات التي تلابس (حدث الولادة )؟ والعجب من ركوب هؤلاء جميعأ هذه الجرأة المفضوحة إذ إن روايات ( المهدي ) لم تروها كتب الشيعة فحسب ، ولم ترد عن طرقهم فقط ، وإنما روتها الصحاح والمسانيد والجوامع الحديثية المعتبرة كصحيح أب داود ، وصحيح البخاري وشروحه ، ومسند أحمد بن حنبل ، وجامع الطبراني ، وجمعها السيوطي في العرف الوردي (٢) من عدة طرق ، وحكى تواترها البرزنجي في الإشاعة (٣) ،

__________________

(١) الإرشاد / الشيخ المفيد : ص ٣٤٥.

(٢) راجع الحاوي للفتاوي / السيوطي ٢ : ٢١٣ وما بعدها.

(٣) الإشاعة لأشراط الساعة : ص ٨٧ ـ ٢٢ ١ الباب الثالث.

٢٤

وكذا الشوكاني في التوضيح (١) ، ونقل ذلك أخيرأ الشيخ منصور علي ناصف! في غاية المأمول (٢).

فانظر إلى جهل المشككين كيف رموا ما صحّ وتواتر عند جمهور المسلمين من السُنّة والشيعة بالوضع والاختلاق واعجب لجرأتهم وشغبهم! إذ لايصحّ بعد ذلك شيئ مما تناقله الرواة من حوادث التاريخ ، وأسماء الأعلام ، وآراء المذاهب الختلفة.

ثالثأ ـ استدل بعضهم على نفي وجود الإمام المهدي وولادته بقوله : إن الشيعة اختلفوا في المهدي وانقسموا ـ على حدّ زعمه ـ إلى سبع عشرة فرقة بعد وفاة الحسن العسكري عليه‌السلام ، وهذا يدل ـ بحسب زعمه ـ على عدم وجود الإمام!!

ولعل من المناسب أن ننبه إلى أنّ الاختلاف حول موضوع أو قضية أو شخص لا يستلزم العدم ، إذ لو جرينا على هذا المنطق لما قامت عقيدة ، ولا ثبت دين ، ولا استقام شأن من الشؤون ، فالاختلاف قائم دائم في العقائد ، وفي التواريخ ، وفي الشخصيات ، وفي الحوادث الواقعة ، وفي الفروع ، وفي سائر الأمور. وقد تفرّق أبناء الفرقة الواحدة إلى فرقِ وطوائف واتجاهات وآراء كما حدث عند المعتزلة والخوارج والأشاعرة (٣) وغيرهم .. ثم ألم تسمع بما تناقله أهل الحديث من الرواية المشهورة وهي قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ... وتفترق أمّتي على ثلاث وسبعين فرقة (٤).

ونتساءل هنا ، حول أيّ شيء كان الافتراق؟ وهل يستلزم ذلك نفي ما

__________________

(١) التوضيح في تواتر ما جاء من الأحاديث في المهدي والدجال والمسيح ، كما في غاية المأمول.

(٢) غاية المأمول شرح التاج الجامع للأصول ٥ : ٣٦٠.

(٣) راجع : مقالات الإسلاميين للأشعري ، والملل والنحل للشهرستاني ، وفرق النوبختي وغيرها.

(٤) راجع هذه الرواية وغرهافي سنن ابن ماجة ٢ : ١٣٢١ / ٣٩٩١ كتاب الفق ـ باب افتراق الأمم.

٢٥

تفرقوا ( فيه ) لهذا السبب؟! وإذن لا تبقى عقيدة ، ولا تسلم حقيقة ، ولا يستقيم أمرٌ بسبب وقوع الافتراق والانقسام في ذلك بحسب هذا المنطق.

والسؤال الأهم ، ما هي هذه الفرق التي انقسم إليها الشيعة بعد وفاة الإمام العسكري؟ وما هي تسمياتهم؟ ومن هم زعاء ورجال هذه الفرق المزعومة؟ لقد قال الشهرستاني في الملل والنحل : «وأما الذين قالوا بإمامة الحسن ـ العسكري ـ : فافترقوا بعد موته إحدى عشرة فرقة ، وليست لهم ألقاب مشهورة ، ولكنّا نذكر أقاويلهم .. » (١). وإذن فهو لا يعرف أسماءهم ولا رجالهم ، وهم حسب زعمه إحدى عشرة فرقة ، أما هؤلاء المقلدون الكذّابون من أمثال إحسان إلهي ومن تابعه أخيرأ فقد زادوا العدد فرقأ أخرى ليس لها اسم ولا رسم ، حتى أوصلها أحد هؤلاء المفضوحين إلي سبع عشرة فرقة!! وأنّي لهم بمعرفتها وهي من مختلقاخهم؟ ولذا لم يذكر أحد منهم زعيماً أو رجلأ معروفأ في التاريخ من هذه ( السبع عشرة ) فرقة ، بل ولم يجرأ أحد هؤلاء المفترين على الشيعة أن يشير إلى مكان أو زمان وجودهم.

ويحسن أن ننقل تعليقة العلأمة عبدالحسين شرف الدين في الفصول المهئة حول هذه الكذبة التي أطلقها الشهرستاني في ملله ، قال العلأمة معقبأ : « وليته أسند شيئأ من الأقاويل التي نقلها عن تلك الفرق إلى كتاب يتلى أو شخص خلقه الله تعالى! وليته أخبرنا عن بلاد واحدة من تلك الفرق أو زمانها أو اسمها! فبالله عليك ، هل سمعت بفرق متخاصمةِ! ، ونحل آراؤها متعاركة لا يُعرف لهم في الأحياء والأموات رجلٌ ولا امرأةٌ؟! ولا يوجد في الخارج الم مسمّى ولا اسم؟!! » (٢)

__________________

(١) الملل والنحل ١ : ١٥١ و ١٥٢.

(٢) الفصول المهمة ني تأليف الأمة : ص ١٦٩.

٢٦

والظاهر أنّ أحدهم قد أدرك خطأه واشتباهه فقال أخيراً : إنّي لم أرفض إمامأ ثبت وجوده من أهل البيت عليهم‌السلام ، وإنمّا حصل عندي شك بولادة الإمام الثاني عشر. زاعمأ أنّ السبب هو عدم توفر إلاّدلة الكافية ، أو عدم قناعته بالأدلة!!

والسؤال الذي نثيره هنا هو ، عن أي نوع من الأدلة يبحث هؤلاء؟ وهل هناك أدلة أقوى من إطباق الطائفة وعلماء الأمّة ورواتها الثقات على مثل هذا الأمر ، أعني ولادة الإمام الحجة ابن الحسن؟ إذ ليس هناك من سبيل إلى ثبوت مثل هذه الأمور إلأ الخبر الصحيح ، وتوفر الشواهد ، وقيام القرائن والمؤيدات من العقل والمنطق ، وقد ثبت من كل هذه الجهات.

ولعل من المناسب الإشارة إلى ما حققه السيد ثامر العميدي في كتابه ( دفاع عن الكافي ) الجزء الأؤل ، وأثبت ولادة الإمام واستمرار وجوده الشريف بالروايات والأحاديث الصحيحة ، ثم بالنقل التاريخي المتواتر ، كما أورد اعترافات وشهادات الفقهاء والمحدّثين والمفسّرين والمؤرخين وأهل التحقيق والأدباء والكتاب ، وكلهم من أهل السُنّة بولادة المهدي محمد بن الحسن العسكري ، ونقل ذلك عنهم بدءأ من بداية القرن الرابع الهجري كالروياني في المسند ، وسهل بن عبدالله البخاري ( ت / ١ ٣٤ هـ ) في سر السلسلة العلوية ، والخوارزمي ( ت / ٣٨٧هـ ) في مفاتيح العلوم طبعة ليدن ١٨٩٥ م.

كما أورد اعترافات من رجال القرن الخامس إلى القرن الرابع عشر ، ومنهم : أبو نعيم الأصفهاني ( ت / ٤٣٠ هـ ) في الأربعين حديثأ ، ويحيى بن سلامة الخصفكي الشافعي ( ت / ٥٦٨ هـ ) كما في تذكرة الخواص لابن الجوزي ، ومحيي الدين بن عربي ( ت / ٦٣٨ هـ ) في الفتوحات المكية على مانقله الشعراني في اليواقيت والملك المؤيد أبي الفداء إسماعيل بن علي ( ت / ٧٣٢ هـ ) في المختصر في أخبار البشر ، وابن الصباغ المالكي ( ت / ٨٥٥ هـ ) في الفصول المهمة ، وجلال الدين السيوطي ( ت / ٩١١ هـ ) في

٢٧

إحياء المَيْت ، وابن طولون الحنفي مؤرخ دمشق ( ت / ٩٥٣ه ) في كتابه الائمة الاثنا عشر ، وأحمد بن يوسف أبوالعباس القرماني الحنفي ( ت / ١٠١٩ هـ ) في كتابه أخبار الدول ، والشبراوي الشافعي ( ت / ١١٧١ هـ ) في الإتحاف بحب الأشراف ، ومحمد أمين السويدي ( ت / ١٢٤٦ هـ ) في سبائك الذهب ، وأخيرأ الزركلي ( ت / ١٣٩٦ هـ ) في الأعلام ، وهذا الكمُّ الكبير من الروايات والنقول والشواهد والشهود ألا تكفي للاقتناع بوجود شخصِ وولادته؟ وإذا لم! يكن ذللث كله كافيأ ودليلاً ، فلازمه بالضرورة الشك في كل الحوادث الماضية والشخصيات العلمية والتاريخية وما جرى في غابر الزمن البعيد والقريب ، وعند ذاك لا يصحّ شيء ، ولا يثبت شيء ، فهل هذا يُرضي مثل هؤلاء المتطفلين على البحث والتحقيق؟!

وأما إذا كان الأمر من جهة تعقل الموضوع ، فدونك ( مجث حول المهدي ) للشهيد الصدر رضي الله عنه ـ وهو هذا الكتاب الذي بين يديك ـ فهو الشافي الكافي ، والحجة الدامغة والبرهان القاطع لمن يفكر بعقله ، ولا يتعبد بما نقله وحكاه ذوو الأغراض المعروفة ، والمغالطات المفضوحة أمثال ظهير والبنداري وغيرهم.

ولعل من الأمور التي تدُلّك على المغالطة المفضوحة هو قولهم : « لا نستبعد أن يطيل الله عمر إنسان ... ولكن لا يمكن الاعتقاد بحدوث هذا عن طريق القياس ، وقد كان سيدنا الصادق يرفض القياس في الفروع ، فكيف في الأمور التاريخية والعقائدية؟! ».

وقد فاتهم أن القياس هنا أمر وارد ، ودليل معتبر عند أهل المنطق وأهل النظر في مثل هذه الموارد التي قد لا يدركها الإنسان إلأ عن طريق التشبيه والقياس ، وهو أُسلوب علمي ، ومنهج قرآني (ويَضرِبُ اللهُ الأَمثال لِلنَّاس ) إبراهيم : ٢٥ ، وقال تعالى حاكياً قول المنكرين لبعض الأُمور الاعتقادية كالمعاد كما في الآية المباركة : (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنِسِيَ خَلقَهُ قَالَ مَن يُحيٍي العٍظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُل

٢٨

يُحيٍيهَا اَلذِي أَنشَأهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ .. ) يس ٧٨ ـ ٧٩.

فانظر كيف يتنكب المتطفلون عن المنهج القرآني والعلمي؟ وانظر إلى عدم تفرقتهم بين القياس في أحكام الشريعة المنهيّ عنه ، لعدم إحراز علة الحكم التي بنى الشارع عليها حكمه ، وبين القياس في مجال المعقولات الذي لا شبهة فيه.

وهكذا نخلص إلى القول أنّ أصحاب هذا المنهج التشكيكي ليس بأيديهم حجة ولا برهان ، ولا يملكون سندأ علميّاً أو تاريخيأ مقبولأ ومنطقيأ في نفيهم وتشكيكاتهم ، وإنما هي مجرد ظنون وأوهام ، أو افتراضات وحدوس تتهاوى أمام الأدلة والبراهين المتينة ، الروائية والتاريخية والعقلية كما سطّرها وحققها المثبتون لولادة الإمام المهدي عليه‌السلام واستمرار وجوده الشريف المبارك.

ولا يضير ذلك ما أحيطت به روايات ولادته التي اختلفت من بعض الوجوه ، ومحاولة هذا النفر استغلا لها بصورة غير أمينةٍ ولا دقيقة للتشويش على أصل الموضوع ، وهو ولادة الحجة ابن الحسن محمد المهدي عليه‌السلام ، وقد ثبت من الطريق الاعتيادي الذي تثبت به الولادات ، وهو شهادة القابلة حكيمة بنت الإمام الجواد ، وعمة الإمام العسكري ، وصحّة الرواية عنها بأسانيد معتبرة صحيحة (١).

وإذا كان هناك من نقل روايات أُخرى سواء في زواج الإمام أبي محمد الحسن العسكري من ( نرجس ) أمّ الإمام المهدي عليه‌السلام أم في اسمها ، أم في ولادة المهدي وما جرى ولابس تلك الولادة المباركة ، أم في الاختلاف في تاريخ الولادة « فإن المشهور على ما نقلة الثقات من الشيعة والسنّة ، هو ولادته سنة ٢٥٥ هـ في الخامس عشر من شعبان ، وأنّ أُمّه هي ( نرجس ) وكانت جارية عند إحدى

__________________

(١) أصول الكافي : الجزء الأول ـ كتاب الحجة ، وراجع إثبات الوصية / المسعودي : ص ٢١٩.

٢٩

أخوات الإمام علي الهادي عليه‌السلام ، فطلبها الإمام العسكري وتزوجها ، وولدت منه الإمام المهدي ، كما صرّح به الإمام العسكري بسند صحيح لا خدشة فيه » (١). وقد بشّر الإمام العسكري أصحابه وشيعته خاصة بالمولود المبارك ، وأنه الخلف الحجة الموعود والإمام من بعده (٢).

وأخيرأ لا بدّ من التنبيه أيضأ إلى أنّ منهج هؤلاء المنكرين في قضية الإمام المهدي عليه‌السلام يقوم على أُسلوب كان قد اتّبعه المستشرقون من قبل في معالجاتهم ومناقشاتهم لعقائد الإسلام ، ونبوّة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاتم الأنبياء ، ولِمَا جاء في القرآن الكريم من المفاهيم والأفكار والأحكام ، وهذا الأسلوب يتمثل ـ كما يرى المستشرق المنصف آربري (٣) ـ « باقتطاع النصوص من سياقها ، وبالتحليل السطحي .. » هذا فضلأ عن المغالطات والمفارقات المنهجية كالإحالة إلى المصادر بصورةٍ غير دقيقة وغير أمينة (٤) ، وكالتدليس والكذب في نسبة الآراء ، إذ يوردون نصوصأ ثم يذكرون المصادر جملةً ، على سبيل التمويه ، والأنكى والأعجب أ نّهم ـ وبحسب تحليلهم السطحي ـ يطرحون فهمهم لبعض المطالب على أنه المفهوم والرأي عند المذهب أو الطائفة وهو فهم غير دقيق ، ثم يحاولون أن يحشّدوا النصوص ويقسروها لتتلائم مع تصوراتهم وأفهامهم هُم ، وليس مع ما ذهب إليه المذهب أو مع ما كان مقبولأ ومعتمداً.

__________________

(١) راجع المصدرين السابقين ، وتفصيلات وافية عن الموضوع في دفاع عن الكافي / السيد ثامر العميدي ١ : ٥٤٦ وما بعدها.

(٢) راجع دفاع عن ألكافي المصدر السابق في ما نقله بطرق صحيحة معتبرة عن الكافي وغيره.

(٣) راجع المستشرقون والإسلام / الدكتور عرفان عبد الحميد : ص ١٩.

(٤) راجع إحسان إلهي ظهير في كتابه الشيعة والتشيع ـ فرق وتاريخ ، ومن تابعه فيما أشاروا إليه من كتاب الإمامة والتبصرة من الحيرة لابن بابويه القمي (والد الصدوق) ( ت / ٣٢٩) ، ففيه أدلة ضدهم. وراجع ما انتقوه من فرق الشيمة للنوبختي ، وفيه غير ما ذهبوا إليه.

٣٠

وأرى لزاماً عليّ التنبيه أيضأ إلى أمرٍ مهمٍّ ، ذكره العلأمة محمد تقي الحكيم في كتابه الأصول العامة للفقه المقارن قائلاً : « إنّ مجتهدي الشيعة لا يسوّغون نسبة أيّ رأي يكون وليد الاجتهاد إلى المذهب ككل ، سواء كان في الفقه أم الأصول أم الحديث ، بل يتحمل كل مجتهدٍ مسؤولية رأيه الخاص. نعم ما كان من ضروريات المذهب يصحّ نسبته » (١).

ومن هنا يكون من المجازفة في القول تعميم الرأي الاجتهادي ما لم يَحْظ بالقبول والشهرة. وكذلك الأمر في المجالات الأخرى فإنه لو ذهب أحد المفسرين أو الأخباريين إلى رأي ، أو أخذ برواية ، أو أبدى وجهة نظر معينة ، وحتى لو اعتمد نظرية أو فكرة ، فإنه لايصحّ تحميل المذهب أو الطائفة ذلك ، بل يكون من المنطتي نسبة الرأي إليه ، وتحميله هو اعتماده على هذه الرواية أو تلك ، مع ضرورة الأخذ بنظر الاعتبار منهجه الروائي الخاص. ويكون حينئذ على الباحث العلمي أن يحصّل رأي المذهب من مجموع آراء الفقهاء والعلماء ، واستنادأ إلى المنهج العام لديهم بما في ذلك منهجهم في قبول الأخبار والروايات والأسانيد ، وكذلك يشترط الرجوع إلى ما أصّلوه من المفاهيم والآراء بالرجوع إلى المصادر الأصلية والأساسية لديهم.

وعليه فبدون ذلك ، أعني بدون الالتفات إلى هذه الملاحظات المهمة ، فإنّ الباحثين سيقعون بلا أدفى شك في الخلط والمجازفة والاشتباه ، ولايُعفَون حينئذ من سوء القصد ومحاولة المشاغبة والتشويش وهو ما دأبَ عليه أسلافهم من المستشرقين وخصوم الإسلام أو الحاقدين على أهل البيت عليهم‌السلام ، وعلى مدرستهم الأصيلة في الإسلام الحنيف ، كما هو شأن إحسان إلهي ظهير والجبهان والبنداري وغيرهم في القديم والحديث.

__________________

(١) الأصول العامة للفقه المقارن : ص ٥٩٦ ، الطبعة ـ الثانية ١٩٧٩ م ، دار الأندلس ـ بيروت.

٣١

وتبقى كلمة أخيرة فيما يتعلق بالمهدي الموعود عليه‌السلام بعد ثبوت ولادته الميمونة ووجوده المبارك ، وهي مسألة تعقل أو عقلانية استمرار وجوده الشريف وثبوت ذلك منذ الغيبة الصغرى ، وحتى انقطاع السفارة ثمّ وقوع الغيبة الكبرى. وهنا سيجدُ القارئ الكريم والباحث الطالب للحقيقة سيجد فيما كتبه السيد الشهيد ، ووضّحه من هذه المطالب ، وما ساقه من الأدلّة العقلية والمنطقية والعلمية ما يشفي الغليل ، ويزيل أوهام وتعلقات المشككين.

ثانياً : منهج المثبتين

١ ـ المنهج الروائي : إنّ الذين كتبوا في قضية المهدي كثيرون جداً ، قديماً وحديثاً ، ومنهم من أفرده بكتاب مستقل ومنهم من كتب فصلاً أو فصولاً ، وقد احصى عبد المحسن العباد في بحثه المنشور في مجلة الجامعة الإسلامية الصادرة بالمدينة المنورة أكثر من عشرة مؤلفين من أجلاء علماء أهل السنّة ، منهم : الحافظ أبو نعيم والسيوطي الشافعي ، والحافظ ابن كثير ، وعلي المتقي الهندي صاحب كنز العمال ، وابن حجر المكي في مؤلّفه : ( القول المختصر في علامات المهدي المنتظر ) ، ومرعي بن يوسف الحنبلي ( ت / ١٠٣٣ هـ ) ، ومؤلّفه الذي سمّاه ( فوائد الفكر في ظهور المهدي المنتظر ) ، ذكره السفاريني في لوامع الأنوار البهية ، ومنهم : القاضي محمد بن علي الشوكاني ( ت / ١٢٥٠ هـ ) الذي سمّي مؤلّفه : ( التوضيح في تواترما جاء في المهدي المنتظر والدجال والمسيح ) إلى غيرهم.

أمّا عند الشيعة فهناك عشرات الكتب والرسائل التي كتبت ونشرت قديماً وحديثاً منها أخيراً : منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر للشيخ لطف الله الصافي الگلپايگاني ، وإلزام الناصب في إثبات الحجة الغائب للشيخ علي اليزدي الحائري ، والمهدي الموعود المنتظر عند علماء أهل السنّة والإمامية للشيخ نجم الدين

٣٢

العسكري ، نشر مؤسسة الإمام المهدي ـ طهران ، والإمام المهدي لعلي محمد علي دخيل طبع بيروت ، وهو جليل ومهم جداً.

وقد اعتمد هؤلاء العلماء وغيرهم في مناقشاتهم لدعاوى المنكرين على الأدلة النقلية غالبأ ، فأثبتوا صحّة أحاديث المهدي من طرق أهل السنّة والشيعة (١) ، وتعدد طرق الرواية ، وكثرة الرواة من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين من سائر الفرق والمذاهب الإسلامية.

فقد نقل الشيخ العباد أن رواة حديث المهدي من الصحابة ستة وعشرون راويأ ، أمّا الأئمة الذين خرّجوا الأحاديث والآثار الواردة في المهدي فيبلغ عددهم ثمانية وثلاثين ، ذكر أسماءهم وفي مقدمتهم أبو داود في سننه ، والترمذي في جامعه ، والنسائي في سننه ، وأحمد في مسنده ، وأبو بكر بن شيبة في المصنف ، والحافظ أبو نعيم في الحلية وفي كتاب المهدي ، والطبراني في المعجم الكبير والأوسط ، وابن عساكر في تاريخه ، وأبو يعلى الموصلي في مسنده ، وابن جرير في تهذيب الآثار ، والبيهقي في دلائله ، وابن سعد في الطبقات وغيرهم.

ونريد أن نسأل ( احمد أمين ) ومن عزف على نغمته هنا : هل أنّ مثل هؤلاء الأئمة من علماء الحديث والرواة المعتبرين الذين تلقتهم الأمّة بالقبول ، واعتمدت عليهم فيما نقلوه من صحيح الآثار أو صححوه ، كلهم يتواطؤن على نقل ( اسطورة )؟ وكيف يعقل أن تهتم الأمّة ، وأجلة العلماء والمحققين وأصحاب الصحاح والمسانيد ( باسطورة ) إلى هذا الحدّ؟! ولماذا هذه الجرأة المنافية لأبسط قواعد الذوق والمنطق والعلم والأخلاق؟ أوليس تدلّ مثل هذه التشويشات على

__________________

(١) راجع : عقيدة أهل السنّة والأثر في المهدي المنتظر / الشّيخ عبد المحسن العبّاد ، مجلة الجامعة الإسلامية / العدد الثالث / السنة الأولى ١٩٦٩ م ، وراجع : منتخب الأثر / العلأمة الصافي الگلبايگاني.

٣٣

ركوب الهوى أو الانسياق واللهاث وراء تلويحات الوهابية ، (ورنين إغراءاتها)؟ بل إن العلماء المتقدمين منهم والمتأخرين أثبتوا تواتر أحاديث المهدي ليقطعوا الطريق والعذر على المتشككين والمتأولين ، كما فعل الشوكاني ( ت / ١٢٥٠ هـ ) في رسالته المسمّاة ب ( التوضيح في تواتر ما جاء في المهدي والدجال والمسيح ) ، والبزرنجي ( ت / ١١٠٣ هـ ) في ( الإشاعة لأشراط الساعة ) ، ثم ذ كر الشيخ عبد المحسن العباد في بحثه المنشور في مجلة الجامعة الإسلامية آخرين ، منهم : الحافظ الآبري السجزي ( ت / ٣٦٣ هـ ) ، والشيخ محمد السفاريني ( ت / ١١٨٨ هـ ) في كتابه لوامع الأنوار البهية ، ومنهم : الشيخ صديق حسن القنوچي ( ت / ١٣٠٧ هـ ) ، ومن المتأخرين الذين حكوا تواتر أحاديث المهدي الشيخ محمد بن جعفر الكتاني ( ت / ١٣٤٥ هـ ) في كتابه نظم المتناثر من الحديث المتواتر.

وقد تصدّى العلماء أيضأ إلى ما تعلّق به الخصوم من دعاوى ، وما أثاروه من إشكالات وطعون في الروايات وأجابوا (١) عن ذلك بجوابات سديدة ومتينة ، ولعلّ من أهم هذه الدراسات الحديثة :

الف ـ دراسة عبد المحسن العباد (٢) ـ وهو إستاذ جامعي ومن علماء أهل السنّة ـ وهي على ما فيها من زلّات واشتباهات ، إلأ أنه عرض فيها بالتفصيل لذكر أسماء الصحابة الذين رووا أحاديث المهدي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأحصى منهم ستة وعشرين صحابيأ ، ثم ذكر أسماء الأئمة الذين خرّجوا أحاديث المهدي ، وأحصى منهم ـ أي من أئمة الحديث ـ ثمانية وثلاثين ، ثمّ أورد بعد ذلك أسماء العلماء الذين أفردوا مسألة المهدي بالتأليف ، وذكر عشرة منهم ، ثم ذكر بعض الذين حكوا تواتر أحاديث المهدي ، ثمّ انتقل إلى ذكر ما ورد في الصحيحين ممّا له تعلّق

__________________

(١) راجع الأجوبة عن طعونهم في دفاع عن الكافي / السيد ثامر العميدي ١ : ٢٠٥.

(٢) تقدمت الإشارة إلى عنوان بحثه ومصدره.

٣٤

بالمهدي ، ثم انتقل إلى ذكر بعض الأحاديث في غير الصحيحين من السنن والمسانيد ، ثّم ذكر بعض العلماء الذين احتجوا بأحاديث المهدي واعتقدوا موجبها ، ثم تعرض بالمناقشة القوية للمنكرين لأحاديث المهدي أو المترددين في شأنه ، وذكر منهم ابن خلدون ، وسجّل عليه ملاحظات وإيرادات أظهر فيها تهافته وعدم تبصّره بالأُمور ، ونقل عن الشيخ المحقق أحمد شاكر الذي حقق مسند الإمام أحمد وخرّج أحاديثه قوله عن ابن خلدون رادّاً عليه تشكيكاته : « إما ابن خلدون فقد قفا ما ليس له به علم واقتحم قحماً لم يكن من رجا لها ، وأنه تهافت تهافتاً عجيبأ في الفصل الذي عقده في مقدمته للمهدي وغلط أغلاطاً واضحة .. » وانتهى آخر الأمر إلى أنّ المهدي حقيقة ثابتة لا تقبل الشك.

ب ـ أمّا الدراسة الثانية فكانت للباحث والمحقق ثامر العميدي ، الذي جرى على منهج علماء الإمامية الأجلّاء الذين عالجوا هذه المسألة ، وأشبعوها بحثأ واستقصاءً ، واستطاع هذا الباحث الفاضل أن يُلخّص تلك المطالب ، ويستوفي تلك المضامين ويستوعبها ، ويضفي على ذلك كله من بيانه وتحقيقاته ، ويخرجه على منهج علمي رصين ، وقد استغرقت هذه الدراسة الصفحات من ١٧١ إلى ٦١١ من الجزء الأول من كتابه القيّم ( دفاع عن الكافي ) الذي نشره مركز الغدير للدراسات الإسلامية سنة ١٩٩٥ م.

ومن أهم الأمور التي عرض لها بأُسلوب علمي : تحليل فكرة الاعتقاد بالمهدي (١) ، ومناقشاته لتضعيفات ابن خلدون (٢) ، ونقله أكثر من ثمانٍ وخمسين (٣) شهادة وتصريح بصحة أحاديث المهدي أو تواترها ، ثم مناقشته لمن أنكر ولادة

__________________

(١) دفاع عن الكافي / السيد ثامر العميدي ١ : ١٧١ وما بعدها.

(٢) المصدر نفسه ١ : ٢٠٥.

(٣) المصدر نفسه ١ : ٣٤٣.

٣٥

المهدي ، وإيراده أدلةً وافية متينة واعترافات من أهل السنّة بدءأ من القرن الرابع الهجري وحتى قرننا الحالي بولادة الإمام المهدي ووجوده الشريف (١) ، وأخيرأ مناقشته الطريفة لفرية السرداب (٢) وغيرها.

لقد أوردت هاتين الدراستين بصفتهما نموذجين حديثين للدراسات التي التزمت بمسلك العلماء المتقدمين والإفادة منهم واتّباع منهجهم ، وإلّا فهناك عشرات الدراسات لأفاضل العلماء والمحققين ممن برع في مناقشة تلك القضية (٣).

٢ ـ المنهج العقلي ( منهج الشهيد الصدر رضي الله عنه ) :

لم ينطلق الشهيد الصدر في بحثه (قضية المهدي ) من بديهيات ومقدمات مسلم بها عند الأطراف ، ولم يعتمد تتّبع القضية في كتب التفسير والرواية ، أو مناقشة ما ورد بشأنها من أسانيد ، وإنما سلك مسلكاً آخر ، فبدأ بطرح الإثارات حول القضية وعرض التساؤلات والإشكالات المنتزعة مما قيل ويقال حول القضية ، ثمّ بدأ بالمناقشة العميقة والدقيقة معتمدأ الدليل العقلي ، ومستندأ إلى معطيات العلم والحضارة المعاصرة ، ونعرض معالم هذا المنهج كما يأتي :

ألف ـ لقد مهّد السيد الشهيد لبحثه بإعطاء تصور واضحٍ لفكرة المهدي (٤) في جذورها الممتدّة إلى التراث الديني والإنساني ، ثم انتقل إلى تأصيلها في الفكر الإسلامي ، ثم عرضها في التصور الإسلامي على أنّها ليست مجرّد فكرة وأمل

__________________

(١) دفاع عن الكافي ١ : ٥٣٥.

(٢) المصدر نفسه ١ : ٥٩٣.

(٣) راجع ما أشار إليه وذكره الشيخ العباد في دراسته المشار إليها سابقاً ، وراجع ما ذكره السيد الجلالي أيضأ في بحثه المذكور في مطلع المقدمة ، وراجع دراسة الشيخ علي محمد علي دخيل المشار إليها في الصحيفة ٣٢.

(٤) راجع الصحيفة ٥٥ وما بعدها من هذا الكتاب.

٣٦

يداعب الشعور ، ويجد عنده الإنسان المسلم استراحةً تخلصه من حالة التوتر النفسي عندما تشتد وتتعاظم المحنة ـ كما هو زعم بعض الباحثين ـ وإنما ( المهدي ) يتجسد في إنسان معين (١) حيّ يعيش مع الناس ويشاركهم وهمومهم وآلامهم ، ويترقب مثلهم اليوم الموعود.

ب ـ إن هناك صعوبة في استيعاب هذا التصور الأصيل ، فقد أثار إشكالات وتساؤلات هي في عقول الناس ، وفي حواراتهم المعلنة أو الحبيسة ، ومن هنا بدأ الشهيد الصدر رضي الله عنه يطرح هذه التساؤلات والإثارات بكل صراحة ووضوح ، ثم يشرع في معالجتها باُسلوبه الخاص ؛ وذلك ليضع القضية في محلها الطبيعي ضمن إطار العقيدة الإسلامية التي تقوم أساسأ على العقلانية والواقعية والبرهان.

اً ـ والتساؤل الأوّل الذي يطرحه السيد الشهيد هو :

« إذا كان المهدي يُعبّر عن إنسان حيّ عاصركل تلك الأجيال المتعاقبة منذ أكثر من عشرة قرون ، وسيظل يعاصر امتداداتها ، فكيف تأتّي له هذا العمر الطويل؟!وكيف نجا من القوانين الطبيعية التي تحتم مروره بمرحلة الشيخوخة والهرم؟! » ثم أخذ ينتقل من سؤال إلى سؤال ، ومن إثارة إلى إثارة بترتيب منطقي يمهد الجواب السابق للاحق ، وتترابط المضامين والمباحث ترابطآ منهجيأ محكماً. وبالنسبة إلى السؤال الأؤل أعاد طرحه كالآتي : هل بالإمكان أن يعيش الإنسان قرونأ متطاولة ، كما هو المفترض في المهدي الذي طوى من العمر أكثر من ألف ومئة وأربعين سنة (٢)؟ وهذه الصياغة للسؤال لا تختلف بشيء عن السابق ،

__________________

(١) راجع الصحيفة ٥٥ ـ ٥٦ من هذا الكتاب.

(٢) هذا التاريخ إشارة إلى الفترة من ولادة الإمام المهدي عليه‌السلام إلى تاريخ كتابة البحت وإنجازه في سنة ١٣٩٧ هـ.

٣٧

وتمهيدأ للجواب أعطى إيضاحأ لأنواع الإمكان المتصورة أو المعروفة وهي الإمكان العملي ، والإمكان العلمي ، والإمكان المنطقي أو الفلسفي ، وبعد أن بين المقصود بها خلص إلى القول : بـ « إن امتداد عمر الإنسان آلاف السنين ممكن منطقيأ ؛ لأن ذلك ليس مستحيلأ من وجهة نظر عقلية تجريدية » وأن الإمكان العملي بالنسبة إلى نوع الإنسان ليس متاحاً الآن ، والتجربة المعاصرة لا تساعد عليه.

أما الإمكان العلمي فلا يوجد ما يبرر رفض ذلك من الناحية النظرية؛ لأن التجارب آخذه بالازدياد لتحويل الإمكان العلمي إلى إمكان عملي ، وهي سائرة بهذا الاتجاه من زاوية محاولاتها لتعطيل قانون الشيخوخة. وفي ضوء هذا لا يبقى مبرر منطقي للاستغراب والإنكار اللهم إلأ من جهة أن يسبق ( المهدي ) العلم نفسه فيتحول الإمكان النظري إلى إمكان عملي في شخصه قبل أن يصل العلم في تطوره إلى مستوى القدرة الفعلية. وهذا أيضأ لا يوجد مبرر عقلائي لاستبعاده وإنكاره ، إذ هو نظير من يسبق العلم في اكتشاف دواء السرطان أو غيره مثلأ.

إن هذا السبق ـ كما يقول السيد الشهيد ـ في الأُطروحة الإسلامية عمومأ ـ التي صممت قضية المهدي ـ قد وقع وحصل في أكثر من مفردة وعنوان ، وقد سجّل القرآن الكريم نظائر ذلك حين أورد وأشار إلى حقائق علمية تتعلق بالكون والطبيعة وجاء العلم فأزاح الستار عنها أخيرأ ، والأكثر صراحة أن القرآن قد دؤن أمثال ذلك كما في مسألة عمر النبي نوح عليه‌السلام قال تعالى : ( فلِبثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً) سورة العنكبوت : ١٤ ، ثم ينتقل السيد الشهيد إلى افتراضٍ آخر ينشأ عن السابق وهو :

ماذا لو افترضنا أنّ قانون الشيخوخة قانون صارم ، وأنّ إطالة العمر أكثر من الحدّ الطبيعي والمعتاد خلاف القوانين الطبيعية التي دلّنا عليه الاستقراء؟!

وجوابه : أنه حينئذ يكون من قبيل المعجزة ، وهي ليست حالة فريدة في

٣٨

تاريخ الأنبياء والمرسلين ، والأمر بالنسبة للمسلم الذي يستمد عقيدته من القرآن والسنّة المشرّفة ليس أمراً منكراً ، إذ هو يجد أنّ القانون الذي هو اكثر صرامة قد عُطّّل ، كما حدث بالنسبة إلى النبي إبراهيم الخليل عليه‌السلام في نجاته من النار العظيمة بعد أن أُلقي فيها ، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله : (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ) سروة الأنبياء : ٦٩.

ثمّ يبيّن السيد الشهيد بعد ذلك انّ مسألة المعجزة بمفهوها الديني قد أصبحت في ضوء المنطق العلمي الحديث مفهومةً بدرجةٍ أكبر مما كانت عليه. وشرع في تقديم المعالجة الفلسفية المتينة مستنداً إلى النظريات الفلسفية الحديثة.

بً ـ وينتقل السيد الشهيد إلى سؤال آخر وهو :

لماذا كل هذا الحرص على إطالة عمر المهدي إلى هذا الحدّ ، فتعطل القوانين لأجله؟ ولماذا لا نقبل الافتراض الآخر الذي يقول : إنّ قيادة البشرية في اليوم الموعود يمكن ان تترك لشخص آخر يتمخض عنه المستقبل وتنضجه إرهاصات ذلك اليوم؟ ويعيد صياغة السؤال كالآتي :

ما هي فائدة هذه الغيبة الطويلة؟ وماهو المبرر لها؟ ويعقّب هنا قائلاً : إنّ الناس لا يريدون أن يسمعوا جواباً غيبياً أي أنّهم يطالبون بتفسير اجتماعي للموقف على ضوء الحقائق المحسوسة لعملية التغيير الكبرى نفسها.

وللإجابة عن هذا السؤال ، يتقدم السيد الشهيد وهو متسلح بالمعرفة بقوانين الاجتماع ، وبمتطلبات التغيير الاجتماعي وقوانينه ، فيبدأ بطرح سؤال يمهد به للإجابة ، وهو :

هل يمكن أن نعتبر هذا العمر الطويل للقائد المدّخر عاملاً من عوامل نجاحه في عملية التغيير المرتقب؟ ثمّ يجيب بالإيجاب ، ويقدم أدلّة تستند إلى فهم عميق

٣٩

لحركة التاريخ ، ومستلزمات التغيير الحضاري الشامل ، وأثر الحضارات التي ينشأ الإنسان في ظلها على مستوى تفكيره ورؤاه ودوره الحضاري ، ثم يكئف المسألة في ضوء رسالة الإسلام والنقلة الحضارية التي يريدها.

وهكذا يحؤل السيد الشهيد البحث إلى دراسة اجتماعية تعتمد المقولات والمفاهيم الاجماعية ، فضلأ عن تأصيل مفاهيم ونظرات اجماعية مهمة.

جً ـ ينتقل الشهيد الصدر رضي الله عنه بعد ذلك إلى معالجة قضية أكبر ترتبط بقضية المهدي وهي :

( الإمامة المبكرة ) أو ( كيفية إعداد القائد الرسالي ) في نظرية الإمامة عند الشيعة الاثنى عشرية ، فيذكر أن هذه الظاهرة ( الإمامة المبكرة ) عاشتها الأئة فعلاً (١) ، وقد بلغت ذروتها في الإمام المهدي والإمام الجواد من قبله.

وهذه الظاهرة ـ كما يقول رضوان الله تعالى عليه ـ «تشكل مدلولاً حسيّاً عملياً عاشه المسلمون ووعوه في تجربتهم مع الإمام بشكل وآخر ، ولا يمكن أن نطالب بإثبات لظاهر هي من الظواهر هي أوضح وأقوى من تجربة أمّة » (٢).

ويورد السيد الشهيد كثيراً من الحقائق التاريخية التي تؤكد هذه الظاهرة ، ثم يخلص إلى القول : بأخها أي الإمامة المبكرة في ضوء ذلك كانت ظاهرة واقعية وليست وهمأ أو مجرد افتراض ، وأن الا أمثلة في القرآن الكريم ، كما هو الأمر بالنسبة إلى النبي يحيى عليه‌السلام في قوله تعالى : (وآتيناه الحكم صبيّاً) سورة مريم : ١٢. وهذا ما لا يسع المسلم إنكاره.

__________________

(١) راجع : الإرشاد / الشيخ المفيد : ص ٣١٩ وما بعدها ، وأيضاً الصواعق المحرقة لابن حجر : ص ٢٢٣ و ٢٢٤.

(٢) راجع : الصواعق المحرقة كما سيذكر في محله من الكتاب المحقق ص ٩٤.

٤٠