بحار الأنوار

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

بحار الأنوار

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤٩
  الجزء ١   الجزء ٢   الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦ الجزء ٢٧ الجزء ٢٨ الجزء ٢٩ الجزء ٣٠ الجزء ٣١ الجزء ٣٥ الجزء ٣٦ الجزء ٣٧ الجزء ٣٨ الجزء ٣٩ الجزء ٤٠ الجزء ٤١ الجزء ٤٢ الجزء ٤٣ الجزء ٤٤ الجزء ٤٥ الجزء ٤٦ الجزء ٤٧ الجزء ٤٨ الجزء ٤٩ الجزء ٥٠ الجزء ٥١ الجزء ٥٢ الجزء ٥٣ الجزء ٥٤ الجزء ٥٥ الجزء ٥٦ الجزء ٥٧ الجزء ٥٨ الجزء ٥٩ الجزء ٦٠ الجزء ٦١   الجزء ٦٢ الجزء ٦٣ الجزء ٦٤ الجزء ٦٥ الجزء ٦٦ الجزء ٦٧ الجزء ٦٨ الجزء ٦٩ الجزء ٧٠ الجزء ٧١ الجزء ٧٢ الجزء ٧٣ الجزء ٧٤ الجزء ٧٥ الجزء ٧٦ الجزء ٧٧ الجزء ٧٨ الجزء ٧٩ الجزء ٨٠ الجزء ٨١ الجزء ٨٢ الجزء ٨٣ الجزء ٨٤ الجزء ٨٥ الجزء ٨٦ الجزء ٨٧ الجزء ٨٨ الجزء ٨٩ الجزء ٩٠ الجزء ٩١ الجزء ٩٢ الجزء ٩٣ الجزء ٩٤   الجزء ٩٥ الجزء ٩٦   الجزء ٩٧ الجزء ٩٨ الجزء ٩٩ الجزء ١٠٠ الجزء ١٠١ الجزء ١٠٢ الجزء ١٠٣ الجزء ١٠٤

إلها أن يقولوا : إن الله يبخل تارة ويجود اخرى ، وقال الحسن بن علي المغربي : حدثني بعض اليهود بمصر أن طائفة منهم قال ( ذلك؟ ). (١)

أقول : قال الرازي : لعله كان فيهم من كان على مذهب الفلسفة ، وهو أن الله تعالى موجب لذاته وأن حدوث الحوادث عنه لا يمكن إلا على نهج واحد وسنن واحد وأنه تعالى غير قادر على إحداث الحوادث على غير الوجوه التي عليها يقع ، فعبروا عن عدم الاقتدار على التغيير والتبديل بغل اليد. (٢)

وقال الطبرسي رحمه‌الله في قوله : « غلت أيديهم » : فيه أقوال : أحدها : أنه على سبيل الاخبار ، أي غلت أيديهم في جهنم. وثانيها : أن يكون خرج مخرج الدعاء كما يقال : قاتله الله. وثالثها : أن معناه : جعلوا بخلاء وألزموا البخل فهم أبخل قوم ، فلم يلق يهودي أبدا غير لئيم بخيل.

« كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله » أي لحرب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي هذا دلالة ومعجزة ، لان الله أخبر فوافق خبره المخبر ، فقد كانت اليهود أشد أهل الحجاز بأسا ، وأمنعهم دارا ، حتى أن قريشا تعتضد بهم ، والاوس والخزرج تستبق إلى مخالفتهم وتتكثر بنصرتهم ، فأباد الله خضراءهم ، واستأصل شأفتهم ، واجتث أصلهم (٣) فأجلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بني النضير وبني قينقاع ، وقتل بني قريظة ، وشرد أهل خيبر ، وغلب على فدك ، ودان أهل وادي القرى ، فمحا الله سبحانه آثارهم صاغرين. (٤) وفي ، قوله : « لقد كفر الذين قالوا » هذا مذهب اليعقوبية منهم لانهم قالوا إن الله تعالى اتحد بالمسيح اتحاد الذات فصارا شيئا واحدا وصار الناسوت لاهوتا. (٥)

____________________

(١) مجمع البيان ٣ : ٢٢٠ ، وفيه : الحسين بن على المغربى وهو الصحيح.

(٢) التفسير الكبير ٣ : ٤٢٤.

(٣) أباد الله خضراءهم أى أذهب نعمتهم وخصبهم ، ويمكن أن يكون المعنى : أهلك الله عظمهم ، من خضراء القوم : معظمهم. واستأصل شأفتهم أى استأصلهم من أصلهم ، أو استأصل عداوتهم و أذاهم. اجتثه : قلعه من أصله.

(٤) مجمع البيان ٣ : ٢٢١.

(٥) مجمع البيان ٣ : ٢٢٨. الناسوت : الطبيعة الانسانية ، أصله الناس ، زيدت في آخره واو وتاء مبالغة كملكوت. واللاهوت : الالوهة ، وأصله : لاه بمعنى إله ، ويجوز أن يكون من لاه يليه بمعنى علا وارتفع.

٨١

وقال الرازي : في تفسير قول النصارى : « ثالث ثلاثة » طريقان : الاول : قول المفسرين وهو أنهم أردوا بذلك أن الله ومريم وعيسى آلهة ثلاثة. والثاني : أن المتكلمين حكوا عن النصارى أنهم يقولون : جوهر واحد ثلاثة أقانيم : أب ، وابن ، وروح القدس ، وهذه الثلاثة إله واحد ، كما أن الشمس اسم يتناول القرص والشعاع والحرارة ، وعنوا بالاب الذات ، وبالابن الكلمة ، وبالروح الحياة ، وأثبتوا الذات والكلمة والحياة ، وقالوا : إن الكلمة التي هي كلام الله اختلطت بجسد عيسى اختلاط الماء بالخمر والماء باللبن ، وزعمت أن الاب إله ، والابن إله ، والروح إله ، والكل إله واحد ، واعلم أن هذا معلوم البطلان ببديهة العقل فإن الثلاثة لا تكون واحدا ، والواحد لايكون ثلاثة ، ولا نرى في الدنيا مقالة أشد فسادا من مقالة النصارى. (١)

وقال الطبرسي رحمه‌الله في قوله تعالى : « ترى كثيرا منهم » أي من اليهود « يتولون الذين كفروا » يريد كفار مكة ، يريد بذلك كعب بن الاشرف وأصحابه حين استحاشوا المشركين على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كما مر ، وقال أبوجعفر الباقر عليه‌السلام : يتولون الملوك الجبارين ويزينون لهم أهواءهم ليصيبوا من دنياهم. (٢)

وفي قوله تعالى : « ماجعل الله من بحيرة » يريد : ما حرمها أهل الجاهلية ، و البحيرة : هي الناقة كانت إذا نتجت خمسة أبطن وكان آخرها ذكرا بحروا اذنها (٣) و امتنعوا من ركوبها ونحرها ، ولا تطرد من ماء ، ولا تمنع من مرعى ، فإذا لقيها المعيي (٤) لم يركبها ، وقيل : إنهم كانوا إذا نتجت الناقة خمسة أبطن نظروا في البطن الخامس فإن كان ذكرا نحروه فأكله الرجال والنساء جميعا ، وإن كانت انثى شقوا اذنها فتلك البحيرة ، ثم لا يجز لها وبر ، ولا يذكر عليها اسم الله إن ذكيت ، ولا

____________________

(١) التفسير الكبير ٣ : ٤٣٣ ، وفيه : وزعموا أن الاب إله.

(٢) مجمع البيان ٣ : ٢٣٢ ، وفيه : « ستجاشوا » بالجيم وهو الصحيح ، أى طلبوا منهم المدد والجيش.

(٣) أى شقوا اذنها.

(٤) المعيي : العاجز.

٨٢

حمل عليها ، وحرم على النساء أن يذقن من لبنها شيئا ، ولا أن ينتفعن بها ، وكان لبنها ومنافعها للرجال خاصة دون النساء حتى تموت ، فإذا ماتت اشترك الرجال والنساء في أكلها ، عن ابن عباس ، وقيل : إن البحبرة بنت السائبة.

« ولا سائبة » وهي ما كانوا يسيبونه ، (١) فإن الرجل إذا نذر لقدوم من سفر أو لبرء من علة أو ما أشبه ذلك فقال : ناقتي سائمة ، فكانت كالبحيرة في أن لا ينتفع بها وأن لا تخلا عن ماء ، ولا تمنع من مرعى ، عن الزجاج وعلقمة ، وقيل : هي التي تسيب للاصنام (٢) أي تعتق لها ، وكان الرجل يسيب من ماله ما يشاء فيجئ به إلى السدنة (٣) وهم خدمة آلهتهم فيطعمون من لبنها أبناء السبيل ونحو ذلك ، عن ابن عباس وابن مسعود ، وقيل : إن السائبة هي الناقة إذا تابعت بين عشر إناث ليس فيهن ذكر سيبت فلم يركبوها ، ولم يجزوا وبرها ، ولم يشرب لبنها إلا ضيف ، فما نتجت بعد ذلك من انثى شق اذنها ثم يخلى سبيلها مع امها.

« ولا وصيلة » وهي في الغنم ، كانت الشاة إذا ولدت انثى فهي لهم ، وإذا ولدت ذكرا جعلوه لآلهتهم ، فإن ولدت ذكرا وانثى قالوا : وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم ، عن الزجاج ، وقيل : كانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن فإن كانت السابع جديا ذبحوه لآلهتهم ، ولحمه للرجال دون النساء ، وإن كانت عناقا استحيوها وكانت من عرض الغنم ، وإن ولدت في البطن السابع جديا وعناقا قالوا : إن الاخت وصلت أخاها فمحرمة علينا (٤) فحرما جميعا ، وكانت المنفعة واللبن للرجال دون النساء ، عن ابن مسعود ومقاتل ، وقيل : الوصيلة : الشاة إذا أتأمت (٥) عشر إناث في خمسة أبطن ليس فيها ذكر جعلت وصيلة ، فقالوا : قد وصلت ، فكان ما ولدت بعد ذلك للذكور دون الاناث ، عن محمد بن إسحاق.

____________________

(١) من سيبت الدابة : تركتها واهملتها.

(٢) من سيب الغلام : أعتقه.

(٣) سدنة بفتحات : الخدم والحجاب.

(٤) في التفسير المطبوع : فحرمته علينا.

(٥) أتأمت المرأة : وضعت اثنين في بطن واحد.

٨٣

« ولا حام » وهو الذكر من الابل ، كانت العرب إذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا : قد حمى ظهره ، فلا يحمل عليه ، ولا يمنع من ماء ، ولا من مرعى ، عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما ، وقيل : إنه الفحل إذا لقح ولد ولده قيل : حمى ظهره فلا يركب ، عن الفراء.

أعلم الله سبحانه أنه لم يحرم من هذه الاشياء شيئا ، وقال المفسرون : روي عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف كان قد ملك مكة ، وكان أول من غير دين إسماعيل ، فاتخذ الاصنام ، ونصب الاوثان ، وبحر البحيرة ، وسيب السائبة ، ووصل الوصيلة ، وحمى الحامى ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : فلقد رأيته في النار تؤذي أهل النار ريح قصبه ، (١) ويروى : يجر قصبه في النار. (٢) وفي قوله : « ولو نزلنا عليك كتابا » نزلت في النضر بن الحارث وعبدالله بن امية و نوفل بن خويلد قالوا : يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة يشهدون عليه أنه من عند الله وأنك رسوله « ولو أنزلنا ملكا لقضي الامر ثم لا ينظرون » أي لما آمنوا به ، فاقتضت الحكمة استيصالهم وأن لا يمهلهم « ولو جعلناه ملكا » أي الرسول ، أو الذي ينزل عليه ليشهد بالرسالة « لجعلناه رجلا » لانهم لا يستطيعون أن يروا الملك في صورته ، لان أعين الخلق تحار عن رؤية الملائكة إلا بعد التجسم بالاجسام الكثيفة « وللبسنا عليهم ما يلبسون » قال الزجاج : كانوا هم يلبسون على ضعفتهم في أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيقولون : إنما هذا بشر مثلكم ، فقال : لو أنزلنا ملكا فرأوهم الملك رجلا لكان يلحقهم من اللبس مثل ما لحق ضعفتهم منهم ، وهذا احتجاج عليهم بأن الذي طلبوه لا يزيدهم بيانا ، وقيل : معناه : ولو أنزلنا ملكا لما عرفوه إلا بالتفكر وهم لا يتفكرون ، فيبقون في اللبس الذي كانوا فيه ، وأضاف اللبس إلى نفسه لانه يقع عند إنزاله الملائكة. (٣)

____________________

(١) في النهاية : فيه : رأيت عمرو بن لحى يجر قصبه في النار ، والقصب بالضم : المعى ، و جمعه اقصاب ، وقيل : القصب اسم للامعاء كلها ، وقيل : هو ما كان أسفل البطن من الامعاء.

(٢) مجمع البيان ٣ : ٢٥٢.

(٣) مجمع البيان ٤ : ٢٧٥ ـ ٢٧٧.

٨٤

وفي قوله : « قل أي شئ أكبر شهادة » قال الكلبي : أتى أهل مكة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا : ما وجد الله رسولا غيرك؟ ما نرى أحدا يصدقك فيما تقول ، ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر ، فأرنا من يشهد أنك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كما تزعم ، فأنزل الله تعالى عليه هذه الآية. (١)

وفي قوله : « ومن بلغ » في تفسير العياشي : قال أبوجعفر وأبوعبدالله عليهما‌السلام : معناه : ومن بلغ أن يكون إماما من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهو ينذر بالقرآن كما أنذر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله . (٢)

وفي قوله : « كما يعرفون أبناءهم » قال أبوحمزة الثمالي : لما قدم النبي (ص) المدينة قال عمر لعبدالله بن سلام : إن الله أنزل على نبيه أن أهل الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، فكيف هذه المعرفة؟ قال : نعرف نبي الله بالنعت الذي نعته الله إذا رأيناه فيكم ، كما يعرف أحدنا ابنه إذا رآه بين الغلمان ، وأيم الله الذي يحلف به ابن سلام لانا بمحمد أشد معرفة مني بابني ، فقال له كيف؟ قال عبدالله : عرفته بما نعته الله لنا في كتابنا فأشهد أنه هو ، فأما ابني فإني لا أدري ما أحدثت امه ، فقال : قد وفقت وصدقت وأصبت. (٣)

وفي قوله : « ومنهم من يستمع إليك » قيل : إن نفرا من مشركي مكة منهم النضر بن الحارث وأبوسفيان بن حرب والوليد بن مغيرة وعتبة بن ربيعة وأخوه شيبة وغيرهم جلسوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يقرء القرآن ، فقالوا للنضر : ما يقول محمد؟ فقال أساطير الاولين مثل ما كنت احدثكم عن القرون الماضية. وأساطير الاولين أحاديثهم التي كانوا يسطرونها ، وقيل : معنى الاساطير الترهات والبسابس (٤) مثل حديث رستم وإسفنديار وغيره مما لا فائدة فيه. (٥)

____________________

(١) مجمع البيان ٤ : ٢٨١.

(٢) مجمع البيان ٤ : ٢٨٢.

(٣) مجمع البيان ٤ : ٢٨٢.

(٤) الترهات بضم التاء وتشديد الراء جمع ترهة كقبرة وهى الاباطيل والاقاويل الخالية من الطائل. البسابس : الاباطيل والكذب.

(٥) مجمع البيان ٤ : ٢٨٦.

٨٥

وفي قوله : « قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون » أي ما يقولون إنك شاعر أو مجنون وأشباه ذلك « فإنهم لا يكذبونك » قرأ نافع والكسائي والاعشى عن أبى بكر : « لا يكذبونك » بالتخفيف ، وهو قراءة علي عليه‌السلام والمروي عن الصادق عليه‌السلام ، والباقون بفتح الكاف والتشديد. وفيه وجوه :

أحدها : لا يكذبونك بقلوبهم اعتقادا ، وإن كانوا يظهرون بأفواههم التكذيب عنادا ، وهو قول الاكثر ، ويشهد له ما رواه سلام بن مسكين عن أبي يزيد المدني أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لقى أبا جهل فصافحه أبوجهل ، فقيل له في ذلك فقال : والله إني لاعلم أنه صادق ، ولكنا متى كنا تبعا لعبد مناف؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال السدي : التقى أخنس بن شريق وأبوجهل بن هشام فقال له : يا أبا الحكم أخبرني عن محمد صلى الله عليه وآله أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس هنا أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا ، فقال أبوجهل : ويحك والله إن محمدا لصادق وما كذب قط ، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والحجابة والسقاية والندوة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش؟. (١)

وثانيها : أن المعنى : لا يكذبونك بحجة ، ولا يتمكنون من إبطال ما جئت به ببرهان ويدل عليه ما روي عن علي عليه‌السلام أنه كان يقرء « لا يكذبونك » ويقول : إن المراد بها أنهم لا يأتون بحق هو أحق من حقك.

وثالثها : أن المراد : لا يصادفونك كاذبا كما تقول العرب : قاتلناكم فما أجبناكم أي ما أصبناكم جبناء ، ولا يختص هذا الوجه بالقراءة بالتخفيف ، لان أفعلت وفعلت يجوزان في هذا الموضع ، وأفعلت هو الاصل فيه.

ورابعها : أن المراد : لا ينسبونك إلى الكذب فيما أتيت به ، لانك كنت عندهم أمينا صدوقا ، وإنما يدفعون ما أتيت به ويقصدون التكذيب بآيات الله ، وروي أن أبا جهل قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا نتهمك ولا نكذبك ، ولكننا نتهم الذي جئت به و نكذبه.

____________________

(١) وبهذا البيان السخيف صرفوا الخلافة عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام إلى غيره ، حيث قالوا : لا تجتمع النبوة والخلافة في بيت واحد!.

٨٦

وخامسها : أن المراد : لا يكذبونك بل يكذبونني ، فإن تكذيبك راجع إلي ولست مختصا به ، لانك رسول ، فمن رد عليك فقد رد علي. (١)

وفي قوله : « فان استطعت أن تبتغي » أى تطلب وتتخذ « نفقا في الارض » أي سربا ومسكنا في جوف الارض « أوسلما » أي مصعدا « إلى السماء فتأتيهم بآية » أي حجة تلجئهم إلى الايمان فافعل ، وقيل : فتأتيهم بآية أفضل مما آتيناهم به فافعل « إنما يستجيب الذين يسمعون » أي يصغون إليك ويتفكرون في آياتك فإن من لم يتفكر ولم يستدل بالآيات بمنزلة من لم يسمع « والموتى يبعثهم الله » يريد : إن الذين لا يصغون إليك ولا يتدبرون بمنزلة الموتى فلا يجيبون إلى أن يبعثهم الله يوم القيامة. (٢) « وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه » أي ما اقترحوا عليه من مثل آيات الاولين كعصا موسى وناقة ثمود « ولكن أكثرهم لا يعلمون » ما في إنزالها من وجوب الاستيصال لهم إذا لم يؤمنوا عند نزولها ، وما في الاقتصار بهم على ما اوتوه من الآيات من المصلحة. (٣)

وفي قوله : « هل يهلك إلا القوم الظالمون » أي الذين يكفرون بالله ويفسدون في الارض ، فإن هلك فيه مؤمن أو طفل فإنما يهلك محنة ، ويعوضه الله على ذلك أعواضا كثيرة يصغر ذلك في جنبها. (٤)

وفي قوله : « هل يستوي الاعمى والبصير » أي العارف بالله سبحانه العالم بدينه ، والجاهل به وبدينه ، فجعل الاعمى مثلا للجاهل ، والبصير مثلا للعارف بالله وبنبيه ، وفى تفسير أهل البيت عليهم‌السلام : هل يستوي من يعلم ومن لا يعلم. (٥) وفي قوله : « الذين

____________________

(١) مجمع البيان ٤ : ٢٩٣ ـ ٢٩٤.

(٢) في التفسير المطبوع : يريد : إن الذين لا يصغون إليك من هؤلاء الكفار ولا يتدبرون فيما تقرؤه عليهم وتبينه لهم من الايات والحجج بمنزلة الموتى ، فكما ايست أن تسمع الموتى كلامك إلى أن يبعثهم فكذلك فأيس من هؤلاء أن تستجيبوا لك ، وتقديره : إنما يستجيب المؤمن السامع للحق فاما الكافر فهو بمنزلة الميت فلا يجيب إلى أن يبعثه الله يوم القيامة فيلجئه إلى الايمان إ ه. وكثيرا ما يختصر المصنف كلام المفسرين وينقل معناه.

(٣) مجمع البيان ٤ : ٢٩٦.

(٤) مجمع البيان ٤ : ٣٠٣.

(٥) مجمع البيان ٤ : ٣٠٤.

٨٧

يخافون أن يحشروا إلى ربهم » يريد : المؤمنين يخافون القيامة وأهوالها ، وقيل : معناه : يعلمون ، وقال الصادق عليه‌السلام : أنذر بالقرآن من يرجون الوصول إلى ربهم برغبتهم فيما عنده ، فإن القرآن شافع مشفع. (١)

وفي قوله : « ما تستعجلون به » قيل : معناه : الذي تطلبونه من العذاب كأن يقولون : يا محمد ائتنا بالذي تعدنا ، وقيل : هي الآيات التي اقترحوها عليه استعجلوه بها ، فأعلم الله سبحانه أن ذلك عنده. (٢) وفي قوله : « من فوقكم » قيل : عنى به الصيحة والحجارة والطوفان والريح « أو من تحت أرجلكم » عنى به الخسف ، وقيل : « من فوقكم » أي من قبل كباركم « أو من تحت أرجلكم » من سفلتكم ، وقيل : « من فوقكم » السلاطين الظلمة « ومن تحت أرجلكم » العبيد السوء ومن لا خير فيه وهو المروي عن أبي عبدالله عليه‌السلام « أويلبسكم شيعا » أي يخلطكم فرقا مختلفي الاهواء لا تكونون شيعة واحدة ، وقيل : هو أن يكلهم إلى أنفسهم ويخليهم من ألطافه بذنوبهم السالفة ، وقيل : عنى به : يضرب بعضهم ببعض بما يلقيه بينهم من العداوة والعصبية وهو المروي عن أبي عبدالله عليه‌السلام « ويذيق بعضكم بأس بعض » أي قتال بعض وحرب بعض ، وقيل : هو سوء الجوار ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام.

وفي تفسير الكلبي : أنه لما نزلت هذه الآية قام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فتوضأ ، وأسبغ وضوءه ، ثم قام وصلى فأحسن صلاته ، ثم سأل الله سبحانه أن لا يبعث على امته عذابا من فوقهم ولا من تحت أرجلهم ولا يلبسهم شيعا ولا يذيق بعضهم بأس بعض ، فنزل جبرئيل عليه‌السلام فقال : يا محمد إن الله تعالى سمع مقالتك ، وأنه قد أجارهم من خصلتين ، ولم يجرهم من خصلتين : أجارهم من أن يبعث عليهم عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم ، ولم يجرهم من الخصلتين الاخريين ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا جبرئيل فما بقاء امتي مع قتل بعضهم بعضا؟ فقام وعاد إلى الدعاء فنزل « الم أحسب الناس » الآيتين (٣) فقال : لا بد من فتنة تبتلي بها الامة بعد نبيها ليتبين الصادق من الكاذب ، لان الوحي انقطع ، و بقي السيف وافتراق الكلمة إلى يوم القيامة.

____________________

(١) مجمع البيان ٤ : ٣٠٤.

(٢) مجمع البيان ٤ : ٣١٠.

(٣) العنكبوت : ١ ـ ٢.

٨٨

وقال أبوجعفر عليه‌السلام : لما نزل « فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين » قال المسلمون : كيف نصنع إن كان كلما استهزأ المشركون بالقرآن قمنا وتركناهم فلا ندخل إذا المسجد الحرام ولا نطوف بالبيت الحرام ، فأنزل الله تعالى : « وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ » أم بتذكيرهم وتبصيرهم ما استطاعوا. (١)

وفي قوله : « كالذي استهوته الشياطين في الارض حيران » استهوته من قولهم : هوى من حالق : إذا تردى ، ويشبه به الذي زل عن الطريق المستقيم ، وقيل : استغوته الغيلان في المهامه ، (٢) وقيل : دعته الشياطين إلى اتباع الهوى ، وقيل : أهلكته ، وقيل : ذهبت به « له أصحاب يدعونه إلى الهدى » أي إلى الطريق الواضح ، يقولون له : « ائتنا » ولا يقبل منهم ولا يصير إليهم لانه قد تحير لاستيلاء الشيطان عليه. (٣)

وفي قوله : « وما قدروا الله حق قدره » جاء رجل من اليهود يقال له : مالك بن الصيف (٤) يخاصم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : انشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أما تجد في التوراة أن الله سبحانه يبغض الحبر السمين؟ وكان سمينا فغضب وقال : والله ما أنزل الله على بشر من شئ ، فقالوا له أصحابه : ويحك ولا موسى؟ فنزلت الآية ، عن سعيد بن جبير ، وفي رواية اخرى عنه : إنها نزلت في الكفار أنكروا قدرة الله عليهم ، فمن أقر أن الله على كل شئ قدير فقد قدر الله حق قدره ، وقيل : نزلت في مشركي قريش ، عن مجاهد ، وقيل : إن الرجل كان فنحاص ببن عازوراء وهو قائل هذه المقالة ، عن السدي ، وقيل : إن اليهود قالت : يا محمد أنزل الله عليك كتابا؟ قال : نعم ، قالوا : والله ما أنزل الله من السماء كتابا فنزلت ، عن ابن عباس « تجعلونه قراطيس » أى كتبا وصحفا متفرقة ، أو ذا قراطيس ، أي تودعونه إياها « تبدونها وتخفون كثيرا » أي تبدون بعضها وتكتمون بعضها وهو ما في الكتب من صفات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله الاشارة إليه « وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم » قيل : إنه خطاب للمسلمين ، وقيل : هو

____________________

(١) مجمع البيان ٤ : ٣١٥ و ـ ٣١.

(٢) الحالق من الجبال : المنيف المرتفع لا نبات فيه. المكان المشرف. المهامه جمع المهمه والمهمهة المفازة البعيدة. البلد المقفر.

(٣) مجمع البيان ٤ : ٣١٩.

(٤) في المصدر : مالك بن الضيف.

٨٩

خطاب لليهود ، أي علمتم التوراة فضيعتموه ، أو علمتم بالقرآن ما لم تعلموا « قل الله » أي الله أنزل ذلك « ثم ذرهم في خوضهم » أي فيما خاضوا فيه من الباطل واللعب ، وهذا الامر على التهديد. (١)

وفي قوله : « وجعلوا لله شركاء الجن » أراد بالجن الملائكة لا ستتارهم عن الاعين ، وقيل : إن قريشا كانوا يقولون : إن الله صاهر الجن فحدث بينهم الملائكة ، فالمراد الجن المعروف ، وقيل : أراد بالجن الشياطين ، لانهم أطاعوا الشيطان في عبادة الاوثان « وخلقهم » الهاء والميم عائدة عليهم ، أي جعلوا للذي خلقهم شركاء لايخلقون ، أوعلى الجن فالمعنى : والله خالق الجن فكيف يكونون شركاء؟ ويجوز أن يكون المعنى : وخلق الجن والانس جميعا ، وقيل : إن المراد بالآية المجوس إذ قالوا : يزدان وأهرمن وهو الشيطان عندهم ، فنسبوا خلق المؤذيات والشرور والاشياء الضارة إلى أهرمن ، و مثلهم الثنوية القائلون بالنور والظلمة « وخرقوا له بنين وبنات » أى اختلقوا وموهوا وافتروا الكذب على الله ونسبوا البنين والبنات إليه ، فإن المشركين قالوا : الملائكة بنات الله ، والنصارى قالوا : المسيح ابن الله ، واليهود قالوا : عزير ابن الله « بغير علم » أي بغير حجة. (٢)

وفي قوله : « وليقولوا درست » ذلك يا محمد ، أي تعلمته من اليهود ، وهذه اللام لام الصيرورة ، أي أن السبب الذي أداهم إلى أن قالوا : درست هو تلاوة الآيات. (٣) وفي قوله : « وأقسموا بالله » قالت قريش : يا محمد تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب به الحجر فتنفجر منه اثنتا عشرة عينا ، وتخبرنا أن عيسى كان يحيي الموتى ، وتخبرنا أن ثمود كانت له ناقة فأتنا بآية من الآيات حتى نصدقك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أي شئ تحبون أن آتيكم به؟ قالوا : اجعل لنا الصفا ذهبا ، وابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم عنك : أحق ما تقول أم باطل؟ وأرنا الملائكة يشهدون لك ، أوائتنا بالله و الملائكة قبيلا ، فقال رسول الله : فإن فعلت بعض ما تقولون أتصدقونني؟ قالوا : نعم والله لئن

____________________

(١) مجمع البيان ٤ : ٣٣٣.

(٢) مجمع البيان ٤ : ٣٤٢ ـ ٣٤٣.

(٣) ٤ : ٣٤٦.

٩٠

فعلت لنتبعنك أجمعين ، وسأل المسلمون رسول الله (ص) أن ينزلها عليهم حتى يؤمنوا ، فقام رسول الله يدعو أن يجعل الصفا ذهبا ، فجاء جبرئيل عليه‌السلام فقال له : إن شئت أصبح الصفا ذهبا ، ولكن إن لم يصدقوا عذبتهم ، وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم ، فقال عليه‌السلام : بل يتوب تائبهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، عن الكلبي ومحمد بن كعب.

« جهد أيمانهم » أي مجدين مجتهدين مظهرين الوفاء به « إنما الآيات عند الله » أي هو مالكها والقادر عليها فلو علم صلاحكم لانزلها « ونقلب أفئدتهم وأبصارهم » أي في جهنم عقوبة لهم ، أو في الدنيا بالحيرة « وحشرنا » أي جمعنا « عليهم كل شئ » أي كل آية ، وقيل : أي كل ما سألوه « قبلا » أي معاينة ومقابلة « إلا أن يشاء الله » أي أن يجبرهم على الايمان وهو المروي عن أهل البيت عليهم‌السلام. (١)

وفي قوله : « فلا تكونن من الممترين » أي من الشاكين في ذلك ، والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمراد به الامة ، وقيل : الخطاب لغيره ، أي فلا تكن أيها الانسان أو أيها السامع. (٢) « وإن هم إلا يخرصون » أي ما هم إلا يكذبون ، أو لا يقولون عن علم ولكن عن خرز (٣) وتخمين ، وقال ابن عباس : كانوا يدعون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله و المؤمنين إلى أكل الميتة ، ويقولون : أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل ربكم؟ فهذا إضلالهم. (٤)

وفي قوله : « وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم » يعني الكافرين و رؤساءهم « ليجادلوكم » في استحلال الميتة كما مر ، وقال عكرمة : إن قوما من مجوس فارس كتبوا إلى مشركي قريش فكانوا (٥) أوليائهم في الجاهلية : إن محمدا و أصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله ثم يزعمون أن ما ذبحوه حلال وما قتله الله حرام فوقع ذلك في نفوسهم ، فذلك إيحاؤهم إليهم ، وقال ابن عباس : هم إبليس وجنوده

____________________

(١) مجمع البيان ٤ : ٢٤٩ ـ ٢٥١.

(٢) ٤ : ٣٥٤. والظاهر انه سقط بعد ذلك قوله : وفى قوله تعالى.

(٣) هكذا في المطبوع ، وفى النسخة المخطوطة : حرز ، وفى المصدر : خرص وهو الصحيح.

(٤) مجمع البيان ٤ : ٣٥٦.

(٥) في المصدر : وكان.

٩١

ليوحون إلى أوليائهم من الانس بإلقاء الوسوسة في قلوبهم. (١)

وفي قوله : « وهذا لشركائنا » يعني الاوثان ، وإنما جعل الاوثان شركاءهم لانهم جعلوا لها نصيبا من أموالهم.

« فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله » فيه أقوال : أحدها : أنهم كانوا يزرعون لله زرعا وللاصنام زرعا ، فكان إذا زكا الزرع الذي زرعوه لله ولم يزك الزرع الذي زرعوه للاصنام جعلوا بعضه للاصنام وصرفوه إليها ، ويقولون : إن الله غني والاصنام أحوج ، وإن زكا الزرع الذي جعلوه للاصنام ولم يزك الزرع الذي زرعوه لله لم يجعلوا منه شيئا لله تعالى ، وقالوا : هو غني ، وكانوا يقسمون النعم فيجعلون بعضه لله وبعضه للاصنام ، فما كان لله أطعموه الضيفان ، وما كان للصنم انفق على الصنم. وثانيها : أنه إذا كان اختلط ما جعل للاصنام بما جعل لله تعالى ردوه ، وإذا اختلط ما جعل لله بما جعل للاصنام تركوه ، وقالوا : الله أغنى ، وإذا تخرق الماء من الذي لله في الذي للاصنام لم يسدوه ، وإذا تخرق من الذي للاصنام في الذي لله سدوه ، وقالوا : الله أغنى ، عن ابن عباس وقتادة وهو المروي عن أئمتنا عليهم‌السلام.

وثالثها : أنه إذا هلك ما جعل للاصنام بدلوه مما جعل لله ، وإذا هلك ما جعل لله لم يبدلوه مما جعل للاصنام. (٢)

وفي قوله : « قتل أولادهم شركاؤهم » يعني الشياطين الذين زينوا لهم قتل البنات ووأدهن (٣) أحياء خيفة العيلة والفقر والعار ، وقيل : كان السبب في تزيين قتل البنات أن النعمان بن المنذر أغار على قوم فسبى نساءهم ، وكان فيهن بنت قيس بن عاصم ، ثم اصطلحوا فأرادت كل امرأة منهن عشيرتها غير ابنة قيس فإنها أرادت من سباها ، فحلف قيس لا تولد له بنت إلا وأدها ، فصار ذلك سنة فيما بينهم (٤)

قوله : « حجر » أي حرام ، عنى بذلك الانعام والزرع اللذين جعلوهما لآلهتهم وأوثانهم « لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم » أي لا يأكلها إلا من نشاء أن نأذن له في

____________________

(١) مجمع البيان ٤ : ٣٥٨.

(٢) مجمع البيان ٤ : ٣٧٠.

(٣) وأد البنت : دفنها في التراب حيا.

(٤) مجمع البيان ٤ : ٣٧١.

٩٢

أكلها ، وأعلم سبحانه أن هذا التحريم زعم منهم لا حجة لهم فيه ، وكانوا لا يحلون ذلك إلا لمن قام بخدمة أصنامهم من الرجال دون النساء « وأنعام حرمت ظهورها » أي الركوب عليها ، وهي السائبة والبحيرة والحام « وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها » قيل : كانت لهم من أنعامهم طائفة لا يذكرون اسم الله عليها ولا في شئ من شأنها ، وقيل : إنهم كانوا لا يحجون عليها ، وقيل : هي التي إذا ذكوها أهلوا عليها بأصنامهم فلا يذكرون اسم الله عليها « افتراء عليه » لانهم كانوا يقولون : إن الله أمرهم بذلك « وقالوا ما في بطون هذه الانعام » يعني ألبان البحائر والسيب ، عن ابن عباس وغيره ، وقيل : يعني أجنة البحائر والسيب ما ولد منها حيا فهو خالص للذكور دون النساء ، وما ولدت ميتا أكله الرجال والنساء ، وقيل : المراد به كلاهما « ومحرم على أزواجنا » أي إناثنا. (١)

وفي قوله : « فإن شهدوا فلا تشهد معهم » معناه : فإن لم يجدوا شاهدا يشهد لهم على تحريمها غيرهم فشهدوا بأنفسهم فلا تشهد أنت معهم. (٢)

قوله : « على طائفتين من قبلنا » أي اليهود والنصارى « وإن كنا عن دراستهم لغافلين » أي إنا كنا غافلين عن تلاوة كتبهم. (٣)

وفي قوله : « إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا » قرأ حمزة والكسائي : « فارقوا » وهو المروي عن علي عليه‌السلام.

واختلف في المعنيين بهذه الآية على أقوال : أحدها : أنهم الكفار وأصناف المشركين ، ونسختها آية السيف ، وثانيها : أنهم اليهود والنصارى لانهم يكفر بعضهم بعضا. وثالثها : أنهم أهل الضلالة وأصحاب الشبهات والبدع من هذه الامة ، رواه أبوهريرة وعائشة وهو المروي عن الباقر عليه‌السلام : جعلوا دين الله أديانا لاكفار بعضهم بعضا ، وصاروا أحزابا وفرقا « لست منهم في شئ » هذا خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وإعلام له أنه ليس منهم في شئ ، وأنه على المباعدة التامة من أن يجتمع معهم في

____________________

(١) مجمع البيان ٤ : ٣٧٢ ـ ٣٧٣.

(٢) مجمع البيان : ٣٨١.

(٣) : ٣٨٧.

٩٣

معنى من مذاهبهم الفاسدة ، وقيل : أي لست من مخالطتهم في شئ ، وقيل : لست من قتالهم في شئ فنسختها آية القتال. (١)

وفي قوله تعالى : « فلا يكن في صدرك حرج منه » فيه أقوال : أحدها : أن معنى الحرج : الضيق ، أي لا يضيق صدرك لتشعب الفكر ، خوفا من أن لا تقوم بتبليغ ما انزل إليك حق القيام ، فليس عليك أكثر من الانذار.

وثانيها : أن معنى الحرج الشك ، أي لا يكن في صدرك شك فيما يلزمك من القيام بحقه.

وثالثها : أن معناه : فلا يضيقن صدرك من قومك أن يكذبوك ويجبهوك ( يجهموك خ ل ) بالسوء (٢) فيما انزل إليك ، وقد روي أن الله تعالى لما أنزل القرآن على رسول الله قال : إني أخشى أن يكذبني الناس ويثلغوا رأسي (٣) فيتركوه كالخبزة فأزال الله تعالى الخوف عنه بهذه الآية. (٤)

وفي قوله تعالى : « وإذا فعلوا فاحشة » كني به عن المشركين الذين كانوا يبدون سوآتهم في طوافهم ، فكان يطوف الرجال والنساء عراة يقولون : نطوف كما ولدتنا امهاتنا ، ولا نطوف في الثياب التي قارفنا فيها الذنوب ، وهم الحمس. (٥) قال الفراء كانوا يعملون شيئا من سيور مقطعة يشدونه على حقويهم يسمى حوفا ، وإن عمل من صوف سمي رهطا ، وكان تضع المرأة على قبلها النسعة (٦) فتقول :

____________________

(١) مجمع البيان ٤ : ٣٨٨ ـ ٣٨٩

(٢) جبهه بالسوء : استقبله به.

(٣) ثلغ رأسه : شدخه أى كسره ، قال الجزرى في النهاية : فيه : إذا تثلغوا رأسى كما تثلغ الخبزة ، الثلغ : الشدخ ، وقيل : ضربك الشئ الرطب بالشئ اليابس حتى يتشدخ.

(٤) مجمع البيان ٤ : ٣٩٥.

(٥) الحمس جمع الاحمس ، وهم قريش ومن ولدت قريش وكنانة وجديلة قيس ومن تابعهم في الجاهلية ، فسموا حمسا لانهم تحمسوا في دينهم أى تشددوا ، أو لالتجائهم بالحمساء ، وهى الكعبة.

(٦) السيور جمع السير : قدة من الجلد مستطيلة. الحوف : جلد يشق كهيئة الازار تلبسه الصبيان أو نقبة من ادم تقد سيورا. النسع : سير أو حبل عريض تشد به الرحال ، والقطعة منه : النسعة.

٩٤

اليوم يبدو بعضه أو كله

وما بدا منه فلا احله

تعني الفرج ، لان ذلك لا يستر سترا تاما

وفي قوله : « في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم » أي في أصنام صنعتموها أنتم وآباؤكم واخترعتم لها أسماء سميتموها آلهة وما فيها من معنى الالهية شئ ، و قيل : معناه : تسميتهم لبعضها أنه يسقيهم المطر ، والآخر أنه يأتيهم بالرزق ، والآخر أنه يشفي المرضى ، والآخر أنه يصحبهم في السفر « ما نزل الله بها من سلطان » أي حجة وبرهان « فانتظروا » عذاب الله فإنه نازل بكم. (١)

وفي قوله : « وكلماته » أي الكتب المتقدمة والقرآن والوحي. (٢) وفي قوله : « أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة » معناه : أولم يتفكروا هؤلاء الكفار المكذبون بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فيعلموا أنه ليس بمجنون ، إذ ليس في أقواله وأحواله ما يدل على الجنون ، ثم ابتدأ بالكلام فقال : « ما بصاحبهم من جنة » أي ليس به جنون ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صعد الصفا وكان يدعو قريشا فخذا فخدا (٣) إلى توحيد الله ويخوفهم عذاب الله ، فقال المشركون : إن صاحبهم قد جن ، بات ليلا يصوت إلى الصباح ، فنزلت. (٤)

وفي قوله تعالى : « قل ادعوا شركاءكم » معناه أن معبودي ينصرني ويدفع كيد الكائدين عني ، ومعبودكم لا يقدر على نصركم ، فإن قدرتم لي على ضر فاجتمعوا أنتم مع أصنامكم وتظاهروا على كيدي ولا تمهلوني في الكيد والاضرار ، فإن معبودي

____________________

(١) مجمع البيان ٤ : ٤٣٧ و ٤٣٨ ، وفيه : ولاخر انه يأتيهم بالرزق ، ولاخرأنه يشفى المرضى ولاخر أنه يصحبهم في السفر.

(٢) مجمع البيان ٤ : ٤٨٨.

(٣) فخذا فخذا أى حيا حيا ، قال الجزرى في النهاية : لما نزلت : « وانذر عشيرتك الاقربين » بات يفخذ عشيرته ، أى يناديهم فخذا فخذا وهم أقرب العشيرة إليه ، وقد تكرر ذكر الفخذ في الحديث وأول العشيرة الشعب ، ثم القبيلة ، ثم الفصيلة ، ثم العمارة ، ثم البطن ، ثم الفخذ.

(٤) مجمع البيان ٤ : ٥٠٤ ـ ٥٠٥ ، وفيه : أولم يتفكروا هؤلاء المكذبون بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وبنبوته في أقواله وأفعاله فيعلموا ا ه.

٩٥

يدفع كيدكم عني « وإن تدعوهم » أي الاصنام أو المشركين « خذ العفو » أي ما عفا وفضل من أموالهم ، أو العفو من أخلاق الناس واقبل الميسور منها ، وقيل : هو العفو في قبول العذر من المعتذر وترك المؤاخذة بالاساءة « وأمر بالعرف » أي بالمعروف « وأعرض عن الجاهلين » أي أعرض عنهم عند قيام الحجة عليهم والاياس من قبولهم ولا تقابلهم بالسفه.

ولا يقال : هي منسوخة بآية القتال ، لانها عامة خص عنها الكافر الذي يجب قتله بدليل. قال ابن زيد : لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : كيف يارب والغضب؟ فنزل. (١) قوله : « وإما ينزغنك من الشيطان نزغ » أي إن نالك من الشيطان وسوسة و نخسة في القلب أو عرض لك من الشيطان عارض. (٢)

وفي قوله : « وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها » أي إذا جئتهم بآية كذبوا بها وإذا أبطأت عنهم يقترحونها ويقولون : هلا جئتنا من قبل نفسك ، فليس كل ما تقوله وحيا من السماء ، وقيل : إذا لم تأتهم بآية مقترحة قالوا : هلا اخترتها من قبل نفسك فتسأل ربك أن يأتيك بها. (٣)

وفي قوله : « كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون » السماع هنا بمعنى القبول وهؤلاء هم المنافقون ، (٤) وقيل : هم أهل الكتاب من اليهود وقريظة والنضير ، وقيل : إنهم مشركو العرب ، لانهم قالوا : قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا « إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون » يعني هؤلاء المشركين الذين لم ينتفعوا بما يسمعون من الحق ولا يتكلمون به ولا يعتقدونه ولا يقرون به فكأنهم صم بكم لا يعقلون كالدواب قال الباقر عليه‌السلام : نزلت الآية في بني عبدالدار لم يكن أسلم منهم غير مصعب بن عمير وحليف لهم يقال له : سويبط. (٥)

____________________

(١) مجمع البيان ٤ : ٥١١ و ٥١٢.

(٢) مجمع البيان ٤ : ٥١٣.

(٣) ٤ : ٥١٤.

(٤) في المصدر : وهؤلاء الكفار هم المنافقون.

(٥) مجمع البيان ٤ : ٥٣٢.

٩٦

وفي قوله : « لو نشاء لقلنا مثل هذا » إنما قالوا ذلك مع ظهور عجزهم عن الاتيان بمثله عداوة وعنادا ، وقيل : إنما قالوا ذلك قبل ظهور عجزهم وكان قائل هذا النضر بن الحارث بن كلدة ، واسر يوم بدر فقتله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعقبة بن أبي معيط وقتله أيضا يوم بدر « وإذ قالوا اللهم » القائل لذلك النضر بن الحارث أيضا ، وقيل : أبوجهل. (١) وفي قوله : « إلا مكاء وتصدية » المكاء : الصفير ، والتصدية : ضرب اليد على اليد ، قال ابن عباس : كانت قريش يطوفون بالبيت عراة يصفرون ويصفقون ، وصلاتهم معناه : دعاؤهم أى يقيمون المكاء والتصدية مكان الدعاء والتسبيح ، وقيل : أراد : ليس لهم صلاة ولا عبادة وإنما يحصل منهم ما هو ضرب من اللهو واللعب ، وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا صلى في المسجد الحرام قام رجلان من بني عبدالدار عن يمينه فيصفران ، ورجلان عن يساره يصفقان بأيديهما ، فيخلطان عليه صلاته ، فقتلهم الله جميعا ببدر ، ولهم يقول ولبقية بني عبدالدار : « فذوقوا العذاب » يعني عذاب السيف يوم بدر ، وقيل : عذاب الآخرة. (٢)

وفي قوله تعالى : « فقد مضت سنة الاولين » أي في نصر المؤمنين وكبت أعداء الدين. (٣) وفي قوله : « وقالت اليهود عزير ابن الله » قال ابن عباس : القائل لذلك جماعة منهم جاؤوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله منهم سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف فقالوا ذلك ، وقيل : إنما قال ذلك جماعة منهم من قبل وقد انقرضوا ، وإن عزيرا أملى التوراة من ظهر قلبه علمه جبرئيل عليه‌السلام فقالوا : إنه ابن الله ، إلا أن الله أضاف ذلك إلى جميعهم وإن كانوا لا يقولون ذلك اليوم ، كما يقال : إن الخوارج يقولون بتعذيب أطفال المشركين ، وإنما يقوله الازارقة منهم خاصة ، ويدل على أن هذا مذهب اليهود أنهم لم ينكروا ذلك لما سمعوا هذه الآية مع شدة حرصهم على تكذيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله « يضاهؤن قول الذين كفروا » أي عباد الاصنام في عبادتهم لها ، أو في عبادتهم للملائكة ، وقولهم : إنهم بنات الله « اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله » روي عن أبي جعفر وأبي عبدالله عليهما‌السلام أنهما قالا : أما والله ما

____________________

(١) مجمع البيان ٤ : ٥٣٨ ـ ٥٣٩.

(٢) مجمع البيان ٤ : ٥٤٠.

(٣) ٤ : ٥٤٢.

٩٧

صاموا لهم ولاصلوا لهم ، ولكنهم أحلوا لهم حراما ، وحرموا عليهم حلالا فاتبعوهم فعبدوهم من حيث لا يشعرون. وروى الثعلبي بإسناده عن عدي بن حاتم قال : أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي عنقي صليب من ذهب ، فقال : يا عدي اطرح هذا الوثن من نقك ، قال : فطرحته وانتهيت إليه وهو يقرء هذه الآية حتى فرغ منها ، فقلت له : إنا لسنا نعبدهم ، فقال : أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ، ويحلون ما حرم الله فتستحلونه؟ قال : فقلت : بلى ، قال : فتلك عبادتهم. (١)

وفي قوله : « إنما النسئ زيادة في الكفر » يعني تأخير الاشهر الحرم عما رتبها الله سبحانه عليه ، وكانت العرب تحرم الاشهر الاربعة ، وذلك مما تمسكت به من ملة إبراهيم وإسماعيل ، وهم كانوا أصحاب غارات وحروب ، فربما كان يشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغيرون فيها ، (٢) فكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر فيحرمونه ويستحلون المحرم فيمكثون بذلك زمانا ، ثم يزول التحريم إلى المحرم (٣) ولا يفعلون ذلك إلا في ذي الحجة وقال ابن عباس : معنى قوله : « زيادة في الكفر » أنهم كانوا أحلوا ما حرم الله وحرموا ما أحل الله ، قال الفراء : والذي كان يقوم به رجل من كنانة يقال له نعيم بن تغلبة وكان رئيس الموسم ، فيقول : أنا الذي لا اعاب ولا اخاب ، ولا يرد لي قضاء ، فيقولون : نعم صدقت ( أنسئنا؟ ) شهرا وأخر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر وأحل المحرم ، فيفعل ذلك ، والذي كان ينسؤها حين جاء الاسلام جنادة بن عوف بن امية الكناني ، قال ابن عباس : وأول من سن النسئ عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف ، وقال أبومسلم : بل رجل من بني كنانة يقال له القلمس ، وقال مجاهد : كان المشركون يحجون في كل شهر عامين فحجوا في ذي الحجة عامين ، ثم حجوا في المحرم عامين ، ثم حجوا في صفر عامين ، وكذلك في الشهور حتى وافقت الحجة التي قبل حجة الوداع في ذي القعدة ، ثم حج النبي

____________________

(١) مجمع البيان ٥ : ٢٣.

(٢) أغار عليهم : هجم وأوقع بهم. وفى التفسير المطبوع : لا يغزون فيها.

(٣) في التفسير المطبوع : ثم يأول التحريم إلى المحرم.

٩٨

صلى‌الله‌عليه‌وآله في العام القابل حجة الوداع فوافقت في ذي الحجة ، فذلك حين قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في خطبته : « ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والارض ، السنة اثنا عشر شهرا ، منها أربعة حرم ، ثلاثة متواليات : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، ورجب مفطر الذي (١) بين جمادى وشعبان » وأراد عليه‌السلام بذلك أن الاشهر الحرم رجعت إلى مواضعها وأعاد الحج إلى ذي الحجة وبطل النسئ « ليواطؤا عدة ما حرم الله » أي إنهم لم يحلوا شهرا من الحرام إلا حرموا مكانه شهرا من الحلال ، ولم يحرموا شهرا من الحلال إلا أحلوا مكانه شهرا من الحرام ليكون موافقة في العدد. (٢)

وفي قوله : « أنهم يفتنون » أي يمتحنون « في كل عام مرة أو مرتين » بالامراض والاوجاع ، أو بالجهاد مع رسوله الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما يرون من نصرة الله رسوله ، وما ينال أعداءه من القتل والسبي ، وقيل : بالقحط والجوع ، وقيل : بهتك أستارهم وما يظهر من خبث سرائرهم « وإذا ماانزلت سورة » أي من القرآن وهم حضور مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كرهوا مايسمعونه ، و « نظر بعضهم إلى بعض » نظرا يؤمون به : « هل يراكم من أحد » وإنما يفعلون ذلك لانهم منافقون يحذرون أن يعلم بهم ، فكأنهم يقول بعضهم لبعض : هل يراكم من أحد؟ ثم يقومون فينصرفون ، وإنما يفعلون ذلك مخافة أن تنزل آية تفضحهم ، وكانوا لايقولون ذلك بألسنتهم ولكن ينظرون نظرة من يقول لغيره ذلك ، وقيل : إن المنافقين كان ينظر بعضهم إلى بعض نظر تعنت وطعن في القرآن ، ثم يقولون : هل يرانا أحد من المسلمين؟ فإذا تحقق لهم أنه لايراهم أحد من المسلمين بالغوا فيه ، وإن علموا أنه يراهم واحد كفوا عنه « ثم انصرفوا » عن المجلس ، أوعن الايمان « صرف الله قلوبهم » عن رحمته وثوابه ، وقيل : إنه دعاء عليهم. (٣)

____________________

(١) هكذا في المطبوع ، وفى نسخة مخطوطة : ورجب مضر الذى. وفى التفسير المطبوع : ورجب الذى.

(٢) مجمع البيان ٥ : ٢٩.

(٣) مجمع البيان ٥ : ٨٥ ٨٦.

٩٩

وفي قوله : « قال الذين لايرجون لقاءنا » أي لا يؤمنون بالبعث والنشور « ائت بقرآن غير هذا » الذي تتلوه علينا « أوبد له » فاجعله على خلاف ماتقرؤه ، والفرق بينهما أن الاتيان بغيره قد يكون معه ، وتبديله لا يكون إلا برفعه ، وقيل : معنى قوله : « بدله » غير أحكامه من الحلال والحرام ، أرادوا بذلك زوال الحظر عنهم و سقوط الامر منهم وأن يخلى بينهم وبين ما يريدون « ولا ( أدريكم؟ ) به » أي ولا أعلمكم الله به بأن لا ينزله علي « فقد لبثت فيكم عمرا من قبله » أي أقمت بينكم دهرا طويلا من قبل إنزال القرآن فلم أقرأه عليكم ولا ادعيت نبوة حتى أكرمني الله به « و يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله » أخبر سبحانه عن هؤلاء الكفار أنهم قالوا : إنا نعبد هذه الاصنام لتشفع لنا عند الله ، وإن الله أذن لنا في عبادتها ، وأنه سيشفعها فينا في الآخرة ، وتوهموا أن عبادتها أشد في تعظيم الله سبحانه من قصده تعالى بالعبادة ، فجمعوا بين قبيح القول وقبيح الفعل وقبيح التوهم ، وقيل : معناه هؤلاء شفعاؤنا في الدنيا لاصلاح معاشنا ، عن الحسن ، قال : لانهم كانوا لا يقرون بالبعث بدلالة قوله تعالى : « وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت ». (١) « قل أتنبؤن الله بما لا يعلم في السموات ولا في الارض » أي تخبرون الله بما لا يعلم من حسن عبادة الاصنام وكونها شافعة ، لان ذلك لو كان صحيحا لكان تعالى به عالما ، ففي نفي علمه بذلك نفي المعلوم. (٢)

وفي قوله تعالى : « فسيقولون الله » فيها دلالة على أنهم كانوا يقرون بالخالق وإن كانوا مشركين ، فإن جمهور العقلاء يقرون بالصانع سوى جماعة قليلة من ملحدة الفلاسفة ، ومن أقر بالصانع على هذا صنفان : موحد يعتقد أن الصانع واحد لا يستحق العبادة غيره ، ومشرك وهم ضربان : فضرب جعلوا لله شريكا في ملكه يضاده ويناويه وهم الثنوية والمجوس ، ثم اختلفوا فمنهم من يثبت لله شريكا قديما كالمانوية ، ومنهم من يثبت لله شريكا محدثا كالمجوس ، وضرب آخر لا يجعل لله شريكا في حكمه

____________________

(١) النحل : ٣٨.

(٢) مجمع البيان ٥ : ٩٧ ـ ٩٨.

١٠٠