مصادر الوحي وأنواعه في القرآن الكريم

الدكتور ستار جبر حمّود الأعرجي

مصادر الوحي وأنواعه في القرآن الكريم

المؤلف:

الدكتور ستار جبر حمّود الأعرجي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-78-2
الصفحات: ٢٢٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

النبي بها ويفسدوا على المؤمنين إيمانهم (١).

ب ـ أن يكون تمنّى بمعنى حَدَّثَ وهو ما روي عن ابن عباس قال : ( إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ ) أي : إلّا إذا حدَّث و ( أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) أي في حديثه ويُعَدُّ هذا الرأي لابن عباس من أحسن الوجوه في تفسير الآية (٢).

وقد أورد المفسرون المنكرون لرواية الإلقاء الشيطاني في الوحي عدّة آراء واحتمالات فيما زعم من أمر هذا الإلقاء بوصف اللّات والعُزّى بأنّهن ( الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى ) ومن ذلك :

١ ـ أن المراد بالغرانيق العلى الملائكة ، وقد جاءت بعض الروايات بمثل ذلك فتوهم المشركون أنه أراد اللّات والعُزّى (٣).

٢ ـ ما قيل أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا تلا القرآن على قريش توقف في فصول الآيات وأتى بكلام على سبيل المحاججة ، فلما تلا ( أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّىٰ ... ) الآية. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى ؟! على سبيل الإنكار عليهم وإن الأمر بخلاف ما ظنوه في ذلك (٤).

٣ ـ ما قيل من أن بعض الكفار من الذين حضروا مجلس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد غص بهم قد قال ذلك في وصف آلهة قريش طلباً لتغليظ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لأنّهم يعلمون أن من عادته صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يعيبها ويسفهها ، وأن من حضر لما سمعوا ذلك تصوروا أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله هو القائل (٥)

________________

(١) الميزان ١٤ : ٣٩١.

(٢) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي ١٢ : ٨٤.

(٣) انظر : تنزيه الأنبياء : ١٩٧ ، الكشاف ٣ : ١٩ ، مجمع البيان ٤ : ٩٢.

(٤ ـ ٥) تنزيه الأنبياء : ١٠٨ ، مجمع البيان ٤ : ٩٢.

٦١

رابعاً ـ علامات الوحي الشيطاني :

يصور القرآن الكريم الشيطان في مواقف كثيرة ، ويحدد معالم وعلائم وحيه وإلقاءاته الخبيثة ، ويلاحقه في كل مواقفه وتأثيراته في النفس الإنسانية. ويُستَشَفُّ من ذلك العلائم التالية :

١ ـ إن الشيطان يلازم النوع الإنساني منذ الولادة وحتى الممات في كل تفاصيل الحياة صغيرها وكبيرها ، وتنبني على تأثيراته في النفس الإنسانية مقاييس وأسس هدايتها وضلالها وسعادتها وشقاوتها ؛ ويدلّ عليه المحاور والتي حكاها القرآن الكريم بقوله تعالى : ( قَالَ أَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ) (١).

٢ ـ إن الله سبحانه وضع لسلطانه وقدراته حدوداً ، إذ لا سبيل له إلّا على أوليائه أما عباد الله المخلصين فهم في أمان منه إن هم اعتصموا بالله تعالى واستعاذوا به : ( قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (٢) ، وقال تعالى : ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ) (٣).

٣ ـ إنه يعد ويمني ويزيِّن بالغرور ويسعى إلى تلبس الإنسان بالمعصية

________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٤ ـ ١٧.

(٢) سورة ص : ٣٨ / ٨٢ ـ ٨٣.

(٣) سورة الحجر : ١٥ / ٤٢.

٦٢

لإضلاله قال تعالى : ( يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ) (١) ، فوعده الفقر وأمرُه بالفاحشة.

عن عبد الله بن عباس قال : « اثنان من الله واثنان من الشيطان ، فاللذان من الشيطان الوعد بالفقر والأمر بالفحشاء ، واللذان من الله المغفرة على المعاصي والفضل في الرزق » (٢).

وعن عبد الله بن مسعود : أن للملك لمة وللشيطان لمة ، فلمة الملك : إيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجدها فليحمدالله ، ولمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب الحق فمن وجدها فليستعذ بالله .. (٣).

٤ ـ إن ما يلقيه كيدٌ ضعيفٌ وزخرفٌ زيَّنه لإيقاع من يقبل غوايته ، قال تعالى : ( شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ) (٤). والزخرف من القول هو المزَيَّن ، يقال زخرفه إذا زَيَّنه (٥).

قال الزمخشري هو : ما يُزَيِّنه من القول والوسوسة والإغراء على المعاصي ، وغروراً : خَدْعاً وأخذاً على غِرة (٦) ، وهو المَمَوَّهُ المزيَّن الذي يستحسن ظاهره ولا حقيقة له ولا أصل (٧).

________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٢٠.

(٢) التبيان / الطوسي ٢ : ٣٤٦.

(٣) اُنظر : جامع البيان / الطبري ٣ : ٥٩.

(٤) سورة الأنعام : ٦ / ١١٢.

(٥) التبيان / الطوسي ٤ : ٢٤٢.

(٦) الكشاف ٢ : ٤٥.

(٧) مجمع البيان / الطبرسي ٨ : ٣٥٢.

٦٣

٥ ـ إن ما ينزل به الشيطان قسمان (١) :

إما بأن يفسد أمر الهداية الإلهية فيضع سبيلاً باطلاً مكان سبيل الحق.

أو أن يخلط فيدخل شيئاً من الباطل في الوحي الإلٰهي الحق فيختلط الأمر ، والقسم الثاني ممتنع ومنفي بما سبق بيانه في موضوع إلقاءات الشيطان ولقوله تعالى : ( يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ) (٢). وهم حراس الوحي يحرسونه من وساوس شياطين الجن وتخاليطهم حتى يبلِّغ ( الرسول ) ما أوحي به إليه ... (٣).

٦ ـ إن ما يتركه من أثر في النفس يلازمه تضيق الصدر وشحّ النفس ، ويدل على شيطانيته ما يرافقه من اضطراب وقلق وما يلحقه من الخفة والجزع والعجلة (٤).

٧ ـ إذا كان الوحي الإلٰهي يبني في النفس الإنسانية أساس الإيمان ويختم مسيرتها بالهداية إلى الصراط المستقيم ، فإنّ وحي الشيطان ووعيده ينتهي بالإنسان إلى الخسران والخذلان وتخليه عن أوليائه بعدما يكون قد أسلمهم إلى الضلال ووضعهم على شفا النار ، قال تعالى : ( وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي

________________

(١) الميزان / الطباطبائي ٥ : ١٤١.

(٢) سورة الجن : ٧٢ / ٢٧.

(٣) مفاتيح الغيب / الرازي ٣٠ : ١٦٩.

(٤) الميزان ٣ : ١٨١ و ٢٢٠.

٦٤

كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (١).

خامساً ـ أنواع الوحي الشيطاني :

تتعدّد أنواع الوحي والإلقاء الشيطاني التي يصوّرها القرآن الكريم ، وتتداخل فيما بينها ، ويكون بعضها شكلاً من أشكال بعضها الآخر ، وتكاد تكون أهمّ صورها : ١ ـ الوسوسة.

٢ ـ النزغ.

٣ ـ الأز.

٤ ـ الهمز.

٥ ـ المسّ.

أمّا الصور الأخرى المذكورة في القرآن : كالوعد والتمنية والتزيين والإزلال والنجوى وغيرها فهي تمثّل مصاديق لتلك الصور المهمة وتدخل تحتها ، لذلك سيقتصر البحث في هذا الموضوع على الوسوسة والنزغ والأز والهمز والمسّ.

١ ـ الوسوسة :

قال تعالى : ( فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا .. ) (٢) ، وقال تعالى : ( مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ) (٣). قال الخليل أبو عبدالرحمن بن أحمد

________________

(١) سورة إبراهيم : ١٤ / ٢٢.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ٢٠.

(٣) سورة الناس : ١١٤ / ٤ ـ ٥.

٦٥

الفراهيدي ( ت / ١٧٥ هـ ، ٧٨٦م ) الوسوسة : حديث النفس ، والوسواس الصوت الخفي وبه يشبه صوت الحلي (١) قال الأعشى :

تسمعُ لِلحُلي وَسواسا إذا انصَرَفَتْ

كما استعانَ بِريحٍ عَشْرَقٍ زجل

 والوسوسة : الخَطِرة الرديئة وأصله من الوسواس (٢).

أمّا الطبرسي فيميزها بالخفاء بما لا يكون فيه سماع صوت ، فالوسوسة : الكلام الخفي الذي يصل مفهومه إلى قلوبهم من غير سماع صوت (٣).

واستفاد الفخر الرازي من قوله تعالى : ( الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ) أن معناه التكرار للكلام الخفي ، فوسوس : إذا تكلم كلاماً خفياً يكرره (٤) إذ أن الخناس مأخوذ من خَنَسَ إذا تأخر ، فالشيطان يوسوس إلى الإنسان فإذا ذكر العبد ربّه خنس أي تأخّر وتوقّف عن وسوسته.

وفي الحديث النبوي الشريف : « إنّ الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم فإذا ذكر الله سبحانه خَنَس ، وإذا نسي التَقَمَ قلبه بذلك الوسواس الخناس » (٥).

وعن ابن عباس قال : هو الشيطان يأمر فإذا أُطيعَ خَنَس (٦).

وما عن مجاهد وقتادة : أنّه يخنس إذا ذكر العبد ربّه (٧)

________________

(١) انظر : العين ٧ : ٣٣٥.

(٢) المفردات / الراغب : ٥٢٢.

(٣) مجمع البيان / الطبرسي ١٠ : ٥٧١.

(٤) مفاتيح الغيب ١٤ : ٤٨.

(٥) مجمع البيان ١٠ : ٥٧١.

(٦ ـ ٦) جامع البيان ٣٠ : ٢٢٩.

٦٦

وقيل الخَنّاس الكثير الاختفاء بعد الظهور وهو المستتر المختفي من أعين الناس لأنّه يوسوس من حيث لا يرى بالعين (١).

والوسوسة يرد ذكرها في القرآن منسوبة إلى مصدرين :

١ ـ وسوسة الشيطان وقد مرَّ بيانها.

٢ ـ وسوسة النفس الإنسانية ، قال تعالى : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) (٢).

٢ ـ النزغ :

قال تعالى : ( وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (٣). وقال تعالى على لسان يوسف عليه‌السلام : ( ... نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ) (٤).

والنَزْغُ : أدنى الحركة ، يقال نزغه : حَرَّكَهُ أدنى حركة (٥). ونَزَغَ بينهم نَزْغاً أي : حَمَلَ بعضهم على بعض بفساد ذاتِ بينهم. قال رؤبة بن العجاج (٦) :

وحذر أقاويل العداة النزّغ

قال ابن عباس إن المراد من الآية : « إن عَرَضَ لك من الشيطان

________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٥٧١ ، التبيان ١٠ : ٤٣٧.

(٢) سورة ق : ٥٠ / ١٦.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ٢٠٠.

(٤) سورة يوسف : ١٢ / ١٠٠.

(٥) لسان العرب / ابن منظور ٣ : ٦١٧ ( مادة نزغ ) تصنيف يوسف خياط دار لسان العرب ، بيروت.

(٦) العين ٤ : ٣٨٤.

٦٧

عارض » (١). أي : ينالك منه أدنى حركة من معاندة أو سوء عشرة (٢).

ويرى الزمخشري أن النزغ والنخس بمعنى واحد ، فالمراد بقوله تعالى : ( يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ ) : يَنخَسنَّكَ منه نخس بأن يحملك بوسوسته على خلاف ما أُمِرتَ به ، فَنَزْغُ الشيطان بين الناس إلقاءَه الفساد وإغراءَه بعضهم على بعض ليقع بينهم المشارة والمشاقة (٣).

٣ ـ المس :

المَسُّ في اللغة يعني اللمس ، تقول : مَسسْتُهُ : أمِسّه مَسّاً ومَسيساً : لمستهُ ، وقد استعير ذلك المعنى للجنون كأن الجن مَسّته ، فيقال : به مسّ من جنون. فالمَسُّ : الجنون (٤).

وقد ورد ذكر مسّ الشيطان بمعنى الوحي في القرآن الكريم على أنّه يكون بالمسّ بالطائف.

قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ) (٥) وقرئ أيضاً ( طيف ). وأصابه طوف من الشيطان وطائفٌ وطيْفٌ وطَيِّف .. أي مَسٌّ (٦)

________________

(١) انظر : مجمع البيان / الطبرسي ٩ : ١٣.

(٢) التبيان ٥ : ٦٣.

(٣) الكشاف ٢ : ١٣٩.

(٤) لسان العرب / ابن منظور ٣ : ٤٨٣ ( مادة مَسَسَ ).

(٥) سورة الأعراف : ٧ / ٢٠١.

(٦) أيضاً ٢ : ٦٢٦ ( مادة طيف ).

٦٨

قال بعض المفسرين : إنّ طيف الشيطان هنا : وسوسته ، فعن ابن عباس في تفسيره للآية قوله تعالى : ( إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ .. ) الآية قال : إذا وسوس إليهم الشيطان ، وبذلك أيضاً قال السدي والحسن وأبو عمرو بن العلاء (١).

وقال مجاهد وسعيد بن جبير : الطيف هو الغضب ، فالممسوس بالطائف عندهما هو : الرجل الذي يغضب الغضبة فيتذكّر الله فيكظم غيظه (٢).

يتحصّل لنا مما مرّ أن من الطيف : الوسوسة والجنون والغضب ، ويسمّى طيفاً لأنّه ( لمة من الشيطان تُشَبَّهُ بلمّة الخيال وهذا من معاني الطيف في اللغة ) (٣).

أمّا محلّ المسّ بالطيف فهو كالوسوسة يستهدف القلب [ أي النفس ] ، فالطائف من الشيطان ما يطوف حول القلب ليلقي إليه الوسوسة ، أو هو وسوسته التي تطوف حول القلب لتقع فيه وتستقرّ عليه (٤).

والواقع عليهم المسُّ هم المؤمنون فإنّهم إذا حصل لهم من الشيطان دفع ووسوسة تذكّروا الله ـ وهذا طريق دفع المسّ ـ فيزول عنهم أثره.

٤ ـ الهمز :

قال تعالى : ( وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ) (٥) ، الهمز : العصر ، تقول هَمْزتُ رأسه وهمزت الجوزة بكفي. وهَمَزَ الشيطان الإنسان

________________

(١) انظر : التبيان / الطوسي ٥ : ٦٤ ، مجمع البيان / الطبرسي ٩ : ٥١٣.

(٢) انظر : مجمع البيان / الطبرسي ٩ : ٥١٤.

(٣) جامع أحكام القرآن / القرطبي ٧ : ٣٥٠.

(٤) الميزان / الطباطبائي ٨ : ٣٨١.

(٥) سورة المؤمنون : ٢٣ / ٩٧.

٦٩

هَمزاً : هَمَس في قلبه وسواساً ، وهمزات الشيطان : خَطراتُه التي يخطرها بقلب الإنسان (١) ، أو ( ما يقع في القلب من وسوسة الشيطان ) (٢).

قال العلّامة المجلسي في بحار الأنوار : « همزات الشياطين : وساوسهم ، وأصل الهمز : النخس ، شبّه حثّهم الناس على المعاصي بهمز الراضّة الدواب على المشي ، والجمع للمرّات أو لتنوّع الوساوس ، أو لتعدّد المضاف إليه » (٣).

روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه كان يقول في دعاء له : « .. اللهمّ إني أعوذ بك من همزات الشياطين همزه ونفثه ونفحه .. » فقيل : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وما همزه ؟ قال : « الموتة التي تأخذ ابن آدم » أي الجنون (٤).

٥ ـ الأزّ :

قال تعالى : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ) (٥) ، والأزّ : الحثّ وأزّه : حَثَّه ، فأزه يؤزه أزّا : أَغراه وهَيَّيجه (٦) ، وفي قوله تعالى : ( تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ) قال ابن عباس : ( أي : تزعجهم إزعاجاً من الطاعة إلى المعصية ).

وعن سعيد بن جبير : ( تغريهم إغراء بالشر ) (٧). والأز والهمز والاستفزاز

________________

(١) لسان العرب / ابن منظور ٣ : ٨٢٩ ( مادة همز ).

(٢) تفسير علي بن إبراهيم القمي ٢ : ٩٣.

(٣) بحار الأنوار ٨٣ : ١٦٤.

(٤) مفاتيح الغيب / الفخر الرازي ٢٣ : ١٢٠.

(٥) سورة مريم : ١٩ / ٨٣.

(٦) لسان العرب ١ : ٥٦ ( مادة أزَزَ ).

(٧) مجمع البيان ٦ : ٤٥١.

٧٠

واحد ، وتشترك في معنى التهييج وشِدة الإزعاج.

قال الشيخ الطوسي : « ( تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ) ، أي : تزعجهم ازعاجاً ، والأزّ : الازعاج إلى الأمر » (١).

سادساً ـ مراتب التأثير الشيطاني :

من خلال ظواهر الآيات التي صورت صور الوحي الشيطاني التي سبق بحثها نجد أن كل شكل منها اختص بطائفة من العباد ، وأن بعضها كان عاماً سُلِّط على العباد عموماً ، فالوسوسة لم يُخَصَّص تأثير الشيطان فيها على طائفة دون أخرى من العباد ، وإنّما هي أمر يقع للجميع حتى للأنبياء عليهم‌السلام ، قال تعالى : ( فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا ) (٢).

أمّا النّزْغُ فإنّه يكون في الأنبياء عليهم‌السلام ، وإنّ الشيطان لا يتجاوزه إلى أشدّ وأكثر منه ، قال تعالى : ( إِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ ... ) (٣) وقوله تعالى في يوسف وإخوته : ( بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي .. ) (٤).

وأمّا المسّ بالطائف فيكون في المؤمنين من الناس ، قال تعالى : ( .. الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم

________________

(١) التبيان ٧ : ١٤٩ ونحوه في مجمع البيان ٦ : ٤٥٠.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ٢٠.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ٢٠٠.

(٤) سورة يوسف : ١٢ / ١٠٠.

٧١

مُّبْصِرُونَ ) (١).

وأمّا الأزّ فقد أشارت الآية الكريمة أنّه يصيب الكافرين قال تعالى : ( أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٢).

________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ٢٠١.

(٢) سورة مريم : ١٩ / ٨٣.

٧٢



الفصل الثالث

الوحي من مصادر أُخرى

ينسب الوحي في القرآن الكريم إلى مصادر أُخرى وذلك في حالات نادرة كان ظاهر الآيات يسميها وحياً ، وفي حالات أخرى كان المفسرون يؤولون ويستنتجون دلالة الآيات عليها ، ويمكن تلخيص تلك الحالات من الوحي بـ :

١ ـ الوحي البشري.

٢ ـ الوحي الملائكي.

٣ ـ وحي مظاهر الطبيعة.

أولاً ـ الوحي البشري :

وردت الإشارة الصريحة عن وحي بشري من البشر إلى بعضهم في القرآن الكريم مرتين اختلفت طبيعة كل منهما عن الأخرى اختلافاً كلياً ، وهاتان الحالتان هما :

أ ـ وحي زكريا عليه‌السلام إلى قومه ، قال تعالى : ( فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) (١).

ويكاد يجمع أغلب علماء اللغة وأصحاب المعاجم كالأزهري وأبوعبيدة

________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ١١.

٧٣

والفراء ، والزجاج وقدامة بن جعفر (١) وغيرهم على أن الوحي هنا بمعنى الإشارة.

والإشارة السريعة أصل من أصول الوحي في العربية كما يقرر الراغب الأصبهاني إذ أن من أنواع الوحي الإشارة ببعض الجوارح. فإنّ معنى وحي زكريا عليه‌السلام لقومه عنه هو : رمز أو اعتبار أو كتابة (٢).

ولا يبتعد المفسرون في بيانهم لهذا الوحي عن هذا الإطار إذ أنهم حين يأتون إلى آية وحي زكريا عليه‌السلام يستحضرون غالباً المعاني اللغوية للوحي وخصوصاً معنى الإيماء والإشارة أو الكتابة كما قال بعضهم ، فأمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام حين يعدد أنواع الوحي الوارد في الكتاب الكريم يَعدُ منها وحي الإشارة (٣) ، ويستشهد عليه بالآية من قوله تعالى : ( فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) (٤).

وموضع البحث الذي تناوله المفسرون من الآية هو ما وصفه القرآن نفسه من طبيعة الوحي الذي ينسب إلى زكريا عليه‌السلام والذي تمثل في ( الآية ) التي طلبها زكريا عليه‌السلام دلالة على استجابته تعالى لدعائه فكانت ( الآية ) امتناعه عن الكلام ثلاثة أيام ، وبما أنه لابد له عليه‌السلام من أن يفسر لقومه ما حدث له تمهيداً لظهور أثر استجابة الدعاء بولادة يحيى عليه‌السلام وأنه لابدّ لكلامه من بديل فقد بَيَّن تعالى له

________________

(١) انظر : جمهرة اللغة / ابن دريد ١ : ١٧١ ، تهذيب اللغة ٥ : ٢٩٧ ، نقد النثر : ٦٣ وغيرها.

(٢) المفردات : ٥١٥.

(٣) انظر : رسالة في المحكم والمتشابه / المرتضى : ٢١.

(٤) سورة مريم : ١٩ / ١١.

٧٤

بأن يكون كلامه رمزاً قال تعالى : ( قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا ) (١) ، أما تفسير هذا الرمز فهو ما كان زكريا عليه‌السلام قد فهمه منه وما ألهمه الله من تطبيق له فجاء ذلك تطبيقاً متكاملاً للأمر بعدم الكلام ، فكان طريق تفاهمه مع قومه هو الوحي وما يتضمنه هنا من أصول لغوية أسسها الخفاء وامتناع ظهور الصوت ، وتوافر الإعلام والتفهيم للمقصود إلقاؤه إليهم ، فالآية الكريمة ( فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا .. ) بيَّنت أن طريقة كلامه عليه‌السلام بالرمز كانت : أنه كلمهم وحياً.

ومن هذا المدخل تناول المفسرون الآية للبحث في طريقة هذا الوحي ، لأنّ الوحي له مصاديق متعددة يشكل وحي زكريا عليه‌السلام لقومه أحدها.

وقد كان اختيار أغلب المفسرين والعلماء لطريقة وحيه عليه‌السلام أنها كانت الإشارة والإيماء ، ومن هؤلاء جَمْعٌ من أعلام علماء الأمة كابن عباس ، والضحاك ، وقتادة ، والحسن ، والربيع ، والسدي ، وابن زيد ، وابن إسحاق ، وابن جريج ، والكلبي ، وابن منبه وغيرهم (٢).

ويؤيد ذلك ما ورد في تفسير العياشي عن الإمام الصادق عليه‌السلام : ( لما سأل زكريا ربه أن يهب له ذكرا فوهب الله له يحيى فدخله من ذلك فقال عليه‌السلام : ( رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا ) فكان يومئ برأسه وهو الرمز ) (٣).

وقد استفاد الشيخ المفيد أن معنى الخفاء في الوحي هو ما جعله يُشَبَّه

________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٤١.

(٢) انظر : جامع البيان / الطبري ٣ : ١٧٩ ، جامع أحكام القرآن / القرطبي ١١ : ٨٥.

(٣) تفسير العياشي ١ : ١٧٢.

٧٥

بطريقة الكلام بالرمز الذي تكلم به زكريا عليه‌السلام بالإشارة ، فمعنى قوله تعالى : ( أَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ ... ) أنه عليه‌السلام ( أشار إليهم من غير إفصاح الكلام شُبِّه ذلك بالوحي لخفائه عَمَّن سوى المخاطبين ولسره عمن سواه ) (١).

وهذا هو ما قال به أغلب المفسّرين كالشيخ الطوسي ، والزمخشري ، والطبرسي ، والفخر الرازي ، والقرطبي وغيرهم (٢).

وعرفوا ما كان من زكريا عليه‌السلام بالإيحاء ، وهو ما كان : إلقاء المعنى إلى النفس في خفى بسرعة من الأمر (٣).

وفسر آخرون معنى الرمز في الآية بالكتابة ففي رواية عن ابن عباس قال : ( أَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ ) : كتب لهم على الأرض (٤).

وبذلك أيضا وردت رواية عن مجاهد (٥) وعن الضحّاك (٦).

وقد استفاد من قال بأن المراد من الوحي في الآية الكتابة من أن من أصول الوحي في اللغة أنه بمعنى الكتابة.

وقال آخرون إن معنى الرمز الذي قصد به في الآية هو تحريك الشفتين كما في رواية عن مجاهد وغيره (٧).

وقد استحسن الفخر الرازي هذا الوجه وفَضّله على غيره من الوجوه

________________

(١) تصحيح الاعتقاد : ٢٥١.

(٢) انظر : التبيان ٧ : ٩٩ ، الكشاف ٢ : ٥٠٤ ، مجمع البيان ٣ : ٥٠٥ ، مفاتيح الغيب ١١ : ١١٠ ، جامع أحكام القرآن ١١ : ٨٥.

(٣) التبيان ٧ : ٩٩.

(٤) الكشاف ٢ : ٥٠٤.

(٥ ـ ٦) التبيان ٧ : ٩٩ ، مجمع البيان ٣ : ٥٠٥.

(٧) جامع البيان / الطبري ٣ : ١٧٦.

٧٦

فقال : إنه أوْلى وسبب ذلك ( أن الإشارة بالشفتين يمكن وقوعها بحيث تكون حركات الشفتين وقت الرمز مطابقة لحركاتهما عند النطق فيكون الاستدلال بتلك الحركات على المعاني الذهنية أسهل ) (١).

ولكن هذا التعليل بسهولة تطابق حركات الشفتين مع حركات النطق يمكن توافر ما هو أسهل منه لو اخترنا معنى الإشارة بأن زكريا عليه‌السلام أشار إليهم بيديه إذ يكفي أن يرفع يديه بالدعاء إلى السماء مشيراً إليهم ليفعلوا مثل ذلك فيفهم أن المراد : سبحوا الله وادعوه ، والملاحظ أن كل الوجوه السابقة في تفسير معنى وحي زكريا عليه‌السلام لقومه بكلامه رمزاً إنّما تدور في إطار المعاني اللغوية للوحي وكَأنّ في ذلك إشارة إلى حقيقة أن ما يكون مصدره غير الله من الوحي لا يتعدّى إطار المعاني اللغوية لايتجاوزها إلى ما تحمله المعاني الاصطلاحية للوحي المختص بما يلقيه تعالى إلى أنبيائه.

والمختار من المعاني المتقدّمة ما تقدّم برواية العيّاشي عن الصادق عليه‌السلام ، أي : كان زكريا عليه‌السلام يشير برأسه.

وهو ما أكّده ابن دريد فقال : ( الوحي من الله ـ عزّ وجلّ ثناؤه ـ نبأ وإلهام ، ومن الناس إشارة ) (٢).

ب ـ وحي شياطين الإنس :

قال تعالى : ( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا .. ) (٣). فالآية تقسم من يوحي

________________

(١) مفاتيح الغيب ٨ : ٤٥.

(٢) جمهرة اللغة ١ : ١٧١.

(٣) سورة الأنعام : ٦ / ١١٢.

٧٧

من الشياطين على قسمين :

١ ـ شياطين الجن وقد سبق بحث ذلك في الفصل الثاني من هذا الباب.

٢ ـ شياطين الإنس.

فالآية تشير إلى أن من الإنس من يوحي بعضهم إلى بعض وهم شياطين الإنس.

وفي رسالة الإمام الصادق عليه‌السلام إلى شيعته : « .. فإن من لم يجعل الله من أهل صفة الحق فأولئك هم شياطين الإنس والجنّ ، وإن لشياطين الإنس حيلة ومكراً وخدائع ووسوسة بعضهم إلى بعض ، يريدون إن استطاعوا أن يردّوا أهل الحق عما أكرمهم الله به من النظر [ النصرة ] في دين الله الذي لم يجعل الله شياطين الإنس من أهله .. » (١).

وقد أكّد المفسرون صدور نسبة الوحي إلى الإنس في ذلك عن دلالة ظاهر الآية ، ففي تفسيره لقوله تعالى : ( وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ .. ) (٢).

فالمراد بالشياطين هنا هم شياطين الإنس ، من مردة الكفّار أو اليهود ونحوهم (٣).

ولايمنع هذا من دخول علماء السوء ، ورؤساء الضلالة بصدّهم الناس عن طريق الحقّ في جملة شياطين الإنس الذين ورد التحذير من وساوسهم لعنهم الله (٤).

والوحي المنسوب إلى شياطين الإنس بعضهم إلى بعض لا ينطبع

________________

(١) روضة الكافي / الكليني ٨ : ١١ / ١.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ١٢١.

(٣) اُنظر : التبيان / الشيخ الطوسي ٤ : ٢٥٧.

(٤) اُنظر : بحار الأنوار / المجلسي ٥٢ : ١٢١.

٧٨

بطابع الإسرار ، كما ذهب إليه بعضهم ، قال أبو عبيدة في الآية : ( شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ .. ) إنّ هذا الوحي وحي إسرار (١) ، والصحيح ما ذكره الشيخ الطبرسي في تفسيره الآية ، وهو أن شيطان الجن يوسوس في خفاء ، وهو لا يُرى وأما شيطان الإنس « يأتي علانية ويُرِي أنه ينصح وقصده الشر » (٢).

ثانياً ـ الوحي الملائكي :

تدل العديد من الآيات الكريمة على وساطة الملائكة بين الله تعالى وأنبيائه ، وحملهم مسؤولية تبليغ الرسالات إلى الأنبياء عليهم‌السلام ، أو إبلاغهم بالبشارات أو النّذر الصادرة إلى أممهم ، أو تحذيرهم بنزول العقاب على تلك الأمم ، أو تبليغ الله تعالى لبعض عباده باختيارهم واصطفائهم أو لطفه بهم وتصبيره لهم على ما ينالون ، وما تحمله هذه البلاغات من دلالات على وجود محاورات وتبادل للكلام ، فقد عُبِّر عن ذلك كله بصيغ عديدة ، منها ما هو مع الأنبياء عليهم‌السلام ، ومنها ما هو مع غيرهم ، ومن ذلك التبشير بالمنن والنعم الإلهية كتبشير إبراهيم عليه‌السلام ، وزكريا عليه‌السلام بالولد بعد الكبر قال تعالى : ( قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ) (٣) ، وقال تعالى : ( فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا .. ) (٤) ، وقال تعالى : ( إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ

________________

(١) اُنظر : التبيان ٦ : ٤٠٢.

(٢) مجمع البيان ١٠ : ٥٧١.

(٣) سورة الحجر : ١٥ / ٥٣.

(٤) سورة آل عمران : ٣ / ٣٩.

٧٩

بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ) (١).

والنزول على الأنبياء بالوحي والتبيلغ عن الله ، قال تعالى : ( يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ... ) (٢).

والاصطفاء للرسالة والوساطة بينه وبين أنبيائه قال تعالى : ( جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا ) (٣) ، ( اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا ) (٤).

ولا شك أن الوحي الخفي كان قاسماً مشتركاً في أكثر حالات التخاطب الموصوفة في القرآن بين الملائكة والأنبياء عليهم‌السلام أو غيرهم من البشر المخاطبين كَأُمِّ موسى عليها‌السلام ومريم والحواريين .. إلخ ، ولكن هذه الحالات لم يُعَبِّر عنها القرآن الكريم بصيغة الوحي دائماً وإنّما كان يعبر عنها ـ كما مر ـ بالقول والمناداة والإنزال والبشارة .. إلخ.

ولم يرد ذكر الوحي منسوباً إلى الملائكة وصادراً عنهم إلّا في ما يلي :

١ ـ آية الشورى المبينة لطرق تكليمه تعالى ، فكان الوحي بوساطتهم أحد تلك الطرق. قال تعالى : ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ .. ) (٥).

والترديد الحاصل في وجوه تكليم الله تعالى لعباده من البشر يدلُّ على أنّ هذا البشر المقصود في الآية ( يسمع كلام الملك وحياً وهو يحكي كلام

________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٤٥.

(٢) سورة النحل : ١٦ / ٢.

(٣) سورة فاطر : ٣٥ / ١.

(٤) سورة الحج : ٢٢ / ٧٥.

(٥) سورة الشورى : ٤٢ / ٥١.

٨٠