مصادر الوحي وأنواعه في القرآن الكريم

الدكتور ستار جبر حمّود الأعرجي

مصادر الوحي وأنواعه في القرآن الكريم

المؤلف:

الدكتور ستار جبر حمّود الأعرجي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-78-2
الصفحات: ٢٢٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ ... ) (١).

هذا فيما يتعلق بذكر الشيطان في القرآن الكريم وصيغ تسميته والتعريف به ، أما حقيقته فإنّ القرآن الكريم لا يتركها خافية علينا ، فيقرر أن جنسه هو الجن ، قال تعالى : ( ... إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ) (٢). وفي آية أخرى نتعرف على ماخُلِقَ منه ، فإذا هو مثل الجن عموماً مخلوق من النار ، قال تعالى : ( وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ ) (٣). ويتأكد هذا فيما احتج به إبليس نفسه على الله سبحانه بأفضليته على آدم ، قال تعالى : ( قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ) (٤) ورغم وضوح دلالة ظاهرالآية على أنه من الجن فقد اختلف المفسرون في حقيقة انتسابه على عدة آراء لا داعي للخوض فيها لخروجها عن موضوعنا.

ثانياً ـ طبيعة الوحي الشيطاني :

يمكن إجمال ما تصفه الآيات القرآنية الكريمة العديدة من طبيعة عامة للوحي الشيطاني بما لخصه الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام حين سئل عن الوحي في القرآن الكريم فعدد مصاديقه المختلفة ثمّ قال عن وحي الشيطان : ومنه وحي كذب (٥) واستشهد بالآية الكريمة قوله تعالى : ( ... شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ

________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١١٢.

(٢) سورة الكهف : ١٨ / ٥٠.

(٣) سورة الحجر : ١٥ / ٢٧.

(٤) سورة الأعراف : ٧ / ١٢.

(٥) رسالة في المحكم والمتشابه / الشريف المرتضى : ٢١.

٤١

غُرُورًا ... ) (١).

وبالعودة إلى الآيات الكريمة نجدها غالباً تصف وحي الشيطان بهذا الطابع الذي تتلبّس به مصاديقه المختلفة من وسوسة أو تزيين أو وعد أو تأميل .. إلخ.

والقرآن الكريم يميّز الوحي الشيطاني بخصائص ينفرد بها تمثل ما يمكن أن يكون تصوراً لطبيعته ، وهذه الخصائص يمكن استجلاؤها من آيات الذكر الحكيم التي تناولت ذكر الشيطان وما يحيط به ويمكن إجمالها في :

١ ـ تلبس الشيطان بطبيعته العاصية فلا ينتسب وحيه إلى غيره ، ولا تكون له أية صلة بالله تعالى ، لأنّه يقف في مقابل الوحي الإلٰهي ويتناقض معه ، بل يمكن أن يقال إن وحيه تزييف للوحي الإلٰهي وخداع للإنسان ، لأنّ الوحي الإلٰهي إنّما هو كلامه تعالى المنزَّل على عباده من أنبياء أو غيرهم ، قال تعالى : ( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ... ) (٢) ، ومن ينزل به إليهم هو رسول منه تعالى ارتضاه لِيُبلِّغ وحيَه ، وهذا الرسول ملك كريم ، فما ينزل به من وحي هو : ( قَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) (٣) ، فهذا الوحي بعيد عن متناول الشيطان ولا توجد له أية صلة بالشيطان ، قال تعالى : ( وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ) (٤) ، وما كان للشيطان أن يكون لهم من سبيل إلى أن يتنزلوا بشيء منه تعالى ، قال تعالى : ( وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنبَغِي

________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١١٢.

(٢) سورة النساء : ٤ / ١٦٣.

(٣) سورة التكوير : ٨١ / ١٩.

(٤) سورة التكوير : ٨١ / ٢٥.

٤٢

لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ) (١). وهم لايستطيعون لأنّ الوحي الإلٰهي محروس محفوظ من وصولهم إليه ، إذ يُرجَمون لو حاولوا ، قال تعالى : ( إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ * لَّا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَىٰ وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ ) (٢). وما دام الوحي محروساً فلا سبيل للشيطان إليه إلّا ما استثني من استراقه السمع ، فالشياطين تصعد إلى السماء محاولة استراق السمع لما يدور في الملأ الأعلى وهو عالم الملائكة ، إذ يقتربون منه ( للاطلاع على أسرار الخلقة والحوادث المستقبلة ) (٣). وهؤلاء ممن يسترقون السمع يجدون بانتظارهم حفظة الوحي وحراسه الذين يقذفون تلك الشياطين بالشهب ، قال تعالى : ( ... إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ ) (٤).

وإذا كانت الصفة المطلقة لهذا الوحي الشيطاني أنّه كذب فإنّ هناك من الأخبار ما يتضمن مغيبات وأسرارا يصدق أخبارهم فيها وهي مما لا مصدر له إلّا بوحي إلٰهي : وقد قال المفسرون في ذلك : إن بعض هؤلاء الشياطين ممن يسترقون السمع فيُقذَفون بالشهب يأتي أصحابه فيبلّغهم ما استرقه من أخبار قبل أن يهلك ... عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي‌الله‌عنه قال : « تصعد الشياطين أفواجاً تسترق السمع فينفرد المارد منها ، قال تعالى : ( وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ ) (٥) فيعلو فيرمى بالشهاب فيصيب جبهته أو جبينه أو حيث شاء الله

________________

(١) سورة الشعراء : ٢٦ / ٢١٠ ـ ٢١١.

(٢) سورة الصافّات : ٣٧ / ٦ ـ ٨.

(٣) انظر : الميزان / الطباطبائي ١٧ : ١٢٣ ـ ١٢٥.

(٤) سورة الحجر : ١٥ / ١٨.

(٥) سورة الصافّات : ٣٧ / ٧.

٤٣

منه ، فيلتهب فيأتي أصحابه وهو يلتهب فيقول : إنه كان الأمر كذا وكذا ، قال : فيذهب أولئك [ أي : أصحابه الشياطين ] إلى إخوانهم من الكهنة فيزيدون عليه أضعافه من الكذب فيخبرونهم به ... » (١).

فلا صلة لما يلقي به الشيطان إلى أوليائه بالله تعالى ، إن هي إلّا أكاذيب يدس بينها ما يسترقه بالسمع ويُزيِّف به الوحي الإلٰهي.

أما ما ورد في القرآن الكريم مما يدور مدار المناظرات بين الله تعالى وإبليس وذلك من نحو قوله تعالى : ( قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ .. ) (٢) ، وقوله تعالى على لسان إبليس : ( قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ .. ) (٣) ، فإنّ مثل هذه المناظرات مع ما فيها من تكليم بغير واسطة لا يمكن اعتبارها وحياً من الله تعالى له (٤).

٢ ـ إنّ ميدان نشاط الشيطان في إغوائه وصدّه عن سبيل الله هو النفس الإنسانية من خلال مدركاتها وأفعالها وقواها المختلفة ، ومن نشاطاته وتأثيراته فيها :

أ ـ النجوى : وذلك في قوله تعالى : ( ... إِنَّمَا النَّجْوَىٰ مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ... ) (٥).

ب ـ العمل على نسيان الإنسان ذكر ربّه وذلك في قوله تعالى : ( وَإِمَّا

________________

(١) جامع البيان / الطبري ١٤ : ١١.

(٢) سورة الحجر : ١٥ / ٣٤.

(٣) سورة ص : ٣٨ / ٨٢.

(٤) مفاتيح الغيب / الرازي ٢٧ : ١٩٠.

(٥) سورة المجادلة : ٥٨ / ١٠.

٤٤

يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (١).

ج‍ ـ حثّه الإنسان ودفعه إلى المعصية وتزيينها له ، قال تعالى : ( .. وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ) (٢).

وغيرها من الآيات الكريمة التي نجد من خلالها أن تأثير الشيطان وإلقاءه إنّما يستهدف دائما مدركات النفس الإنسانية وقواها ، وليس أدَلّ على ذلك من قوله تعالى في وصفه بأنّه : ( يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ) (٣).

إذ أنّ المراد بالصدور هنا هي النفس ( لأنّ متعلّق الوسوسة هو مبدأ الإدراك من الإنسان وهو نفسه ) (٤).

.. عن ابن عباس : « إنّ الله تعالى جعلهم [ أي الشياطين ] يجرون من بني آدم مجرى الدم ، وصدور بني آدم مساكن لهم .. » (٥).

ولا شكّ أنّ لهذا السلطان الذي أعطاه تعالى للشيطان في إبقائه إلى يوم القيامة حكمة وسرّاً من أسراره تعالى لما فيه من امتحان للبشر ، وهذا ما تشير إليه الآيات الكريمة ، قال تعالى : ( قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَىٰ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا

________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٦٨.

(٢) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٣٨.

(٣) سورة الناس : ١١٤ / ٥.

(٤) الميزان / الطباطبائي ٢٠ : ٣٩٧.

(٥) مجمع البيان / الطبرسي ٨ : ٤٠٩.

٤٥

عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (١).

وعبرت روايات أُخرى عن النفس الإنسانية التي يسعى الشيطان بوحيه إليها بالقلب ، فعن ابن عباس : « ما من مولود يولد إلّا على قلبه الوسواس ، فإذا عقل فذكر الله خنس ... » (٢).

وما في تفسير العياشي .. عن سليمان بن خالد قال : ( سمعت أبا عبد الله : الإمام الصادق عليه‌السلام ) يقول : « إنّ الله إذا أراد بعبد خيراً نكت في قلبه نكتة بيضاء وفتح مسامع قلبه ووكل به ملكا يسدّده ، وإن أراد بعبد سوءاً نكت في قلبه نكتة سوداء وسدّ عليه مسامع قلبه ووكل به شيطاناً يضلّه .. » (٣).

وعبر الشيخ المفيد عن محلّ إلقاءات الشيطان ( بأقصى أسماع الإنسان ) فالشياطين يوسوسون إلى أوليائهم بما يلقونه من الكلام في أقصى أسماعهم فيُخَصُّون بعلمهم دون سواهم (٤).

ويتبين من هذا عمق ما للشياطين من قدرات وقوى ( يتوصلون بها إلى تغيير النفوس والقذف فيها بما يستدعونها ) (٥). وهذه الصلة الوثيقة للوحي الشيطاني بالنفس الإنسانية ومحاولاته إلقاء أحابيله إليها جعلت بعض المفسرين يقول بأن الشيطان الحقيقي هو النفس ، فالفخر الرازي يرى أن ما يأتي به الشيطان هو الوسوسة والتزيين والدعوة ، ولا سلطان له إلّا في ذلك

________________

(١) سورة ص : ٣٨ / ٧٧ ـ ٨٣.

(٢) جامع البيان / الطبري ٣٠ : ٢٢٨.

(٣) تفسير العياشي ١ : ٣٧٩.

(٤) تصحيح الاعتقاد ( شرح عقائد الصدوق ) / الشيخ المفيد : ٢٥١.

(٥) الفصل في الملل والأهواء والنحل / ابن حزم ٥ : ١٣.

٤٦

( فلولا الميل الحاصل بسبب الشهوة والغضب والوهم والخيال [ وهي مدركات وقوى للنفس ] لم يكن لوسوسته تأثير البتة ، فدل هذا عنده على أن الشيطان الحقيقي هو النفس ) (١).

٣ ـ من خلال هذا الارتباط للوحي الشيطاني بالنفس نلتمس له التقاء مع الوحي عموماً في توافر معنى الإلقاء الخفي ، وهو ما نجد الإشارة واضحة إلى تأكيده من خلال ما يلي :

أ ـ وصف الشيطان وهو متلبس بوحيه : بالوسواس والخناس ، قال تعالى : ( مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ) (٢).

فالوسواس من الوسوسة وهي الصوت الخفي (٣).

والوسوسة : الكلام الخفي الذي يصل قلوبهم من غير سماع (٤).

والخناس : الكثير الاختفاء بعد الظهور (٥).

وقد قيل : الخناس الكثير الاختفاء .. وهو المستتر المخفي من أعين الناس ، لأنّه يوسوس من حيث لا يُرى بالعين (٦). كما وصف ما يلقيه أيضاً بالوحي في آيتين قال تعالى : ( ... شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ .. ) (٧) ، وقال تعالى : ( ... وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ

________________

(١) مفاتيح الغيب / الفخر الرازي ١٩ : ١١٤.

(٢) سورة الناس : ١١٤ / ٤ ـ ٥.

(٣) العين / الخليل بن أحمد الفراهيدي ٧ : ٣٣٥.

(٤) مجمع البيان / الطبرسي ١٠ : ٥٧١.

(٥) التبيان / الطوسي ١٠ : ٤٣٧.

(٦) مجمع البيان ١٠ : ٥٧١.

(٧) سورة الأنعام : ٦ / ١١٢.

٤٧

أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ .. ) (١)

وقد مرت بنا معاني الوحي وتعريفاته التي استفدنا من خلالها أن الإلقاء في خفاء أصل من أصول الوحي وأهم المعاني التي وردت فيه لغة وشرعاً.

وقد قال الشيخ الطوسي في وحي الشيطان إلى الإنسان أنه ( يلقي إليه بكلام خفي وهو الدعاء والوسوسة ) (٢).

وأكد الطبرسي هذا المعنى فقال فيه : « الكلام الخفي الذي يصل مفهومه إلى قلوبهم من غير سماع » (٣).

وملخص ما يتحصل لدينا في ذلك أن جميع ما ينسب إلى الشيطان من المعاني الملقاة في النفوس ( القلوب ، الصدور .. إلخ ) وإن عبر عنها بالقول والأمر والوسوسة والوحي والتزيين والوعد .. إلخ ، فهي جميعاً ( قول وكلام ولكن لا يخرج عن شق فم ولا تحريك لسان ) (٤) ، فهو كلام مجرد عما يحيط بالكلام من التعبير بالألفاظ والأصوات ، وإنّما هو كلام خفي طريقه الوسوسة والأز والنزغ ... إلخ.

ب ـ تأكيد القرآن الكريم أن الشيطان غير مرئي للإنسان وإن كان هو يرى الإنسان ويعايشه كظلّه ، فمن الآيات الدالة على ذلك :

١ ـ قوله تعالى : ( .. إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ .. ) (٥).

________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١٢١.

(٢) انظر : التبيان ٤ : ٢٤٢.

(٣) انظر : مجمع البيان ١٠ : ٥٧١.

(٤) الميزان / الطباطبائي ٣ : ١٨١.

(٥) سورة الأعراف : ٧ / ٢٧.

٤٨

كما أن سياق الآيات التي تتحدث عن الشيطان وأفعاله وآثاره في العالم الإنساني من وحي ووسوسة وتزيين وإزلال وفتنة .. إلخ ، يدل على أن هذه الآثار تتم دون معاينة ومباشرة رؤية أو حتى إدراك أن مصدرها هو الشيطان إلّا ماكان من ذلك مع الأنبياء عليهم‌السلام فإنّ لهم حالاً مختلفة عن عامة البشر كما سنبيّنه.

قال ابن عباس .. ( هم يرون بني آدم وبنو آدم لا يرونهم ) (١).

وقد قيل تفريقاً عن شيطان الإنس ، إن شيطان الجن يوسوس ولا تراه معاينة (٢). بخلاف شيطان الإنس الذي هو من الناس ، وعليه يحمل قول بعض الصحابة : ( إنّ لي شيطاناً يعتريني ) (٣) ، إذ كيف علم بأنه يعتريه لو لم يره عياناً ويصحبه ؟!

وعن قتادة أنه قال : « والله إن عدوا يراك ولا تراه لشديد المؤونة إلّا من عصم الله » (٤).

ثالثاً ـ الوحي ودعاوى إلقاء الشيطان :

ترد هنا نقطة مهمة لابد من جلائها وهي أن حال الأنبياء عليهم‌السلام في تأثير الشيطان وإلقائه مختلف عن حال سائر البشر في مدى قوة هذا التأثير ونوعه

________________

(١) مجمع البيان / الطبرسي ٨ : ٤٠٩.

(٢) جامع البيان / الطبري ٣٠ : ٢٢٩.

(٣) المصنّف / عبد الرزاق ١١ : ٢٢٦ / ٢٠٧٠١ ، والطبقات الكبرى / ابن سعد ٣ : ٢١٢ ، والإمامة والسياسة / ابن قتيبة الدينوري ١ : ٢٤ ، وتاريخ مدينة دمشق / ابن عساكر ٣٠ : ٣٠٣ و ٣٠٤ ، والبداية والنهاية / ابن كثير ٦ : ٣٣٤ وقد اتفقت هذه المصادر كلّها على نسبة هذا القول لأبي بكر وأنّه قاله على المنبر في اليوم الأوّل من سلطته !!

(٤) مجمع البيان ٨ : ٤٠٩.

٤٩

ومجاله الذي يبرز فيه.

فالأنبياء عليهم‌السلام معصومون تجاه تأثير الشيطان في وحيه ووسوسته لأنّ نفوسهم الطاهرة لاسبيل لنجاح إلقاءات الشيطان إليها ، لأنّه تعالى يهديهم ويلطف بهم فيدفع عنهم تلك الإلقاءات.

وإن تمكينهم من رؤية الشيطان من المصاديق المهمة على عصمتهم هذه ، فإنّ الله تعالى تحدَّى الشيطان في أن يكون له سلطان على عباده المخلصين ، قال تعالى : ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ) (١) ، ولا شك أن الأنبياء أولى من سائر العباد في انتفاء سلطان الشيطان عليهم ، سواء كان ذلك السلطان على ما يلقى إليهم من وحي لتبليغه للعباد ، أو السلطان في توجيه أفعالهم وإزلالهم وصدِّهم عن السبيل ، ولا يمكن القول غير هذا في حق من أرسلهم تعالى لهداية البشر وليكون ما يبلّغوه عن الله إلى العباد في مقابل ما يلقيه الشيطان ويدعوهم إليه.

فإذا جُوِّز أن يلقي الشيطان حتى إلى هؤلاء الرسل ، بل ويعبث في الرسالات التي يبلغونها ويفسد فيها بما يلقيه ، أصبحت الرسالة كلها مهددة والثقة بصدورها عنه تعالى احتمالية وهو ما يتناقض مع أسس العقيدة والتشريع.

ومن هنا تصبح الروايات التي ترد بما يشير إلى إلقاء الشيطان وتدخله في الوحي أخباراً ضعيفة وباطلة لا أساس متين لها من نقل أو عقل حتىٰ يمكن الاعتقاد بصحتها ، والاعتقاد بتلك الروايات يُعَدُّ طعنا في النبوة والوحي.

________________

(١) سورة الحجر : ١٥ / ٤٢.

٥٠

وأهم هذه الروايات ما نقل من إلقاء الشيطان في الوحي النازل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وذلك في سورة النجم حسب زعمهم ، ودليل هؤلاء فيما ذهبوا إليه الآية الكريمة قوله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (١) ، فهم حين يأتون إلى سبب نزولها يقولون إنها نزلت تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد أن كان الشيطان ( ألقى على لسانه صلى‌الله‌عليه‌وآله في بعض ما يتلوه مما أنزل الله عليه من القرآن ما لم ينزله الله عليه فاشتدّ ذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله واغتم به فسلّاه الله به من ذلك بهذه الآية ) (٢).

أما الحادثة نفسها فقد نقلت تفاصيلها العديد من كتب التفسير والحديث العاميّة ، وتتلخص الروايات في : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جلس في نادٍ من أندية قريش كثير أهله ، فتمنى يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه ، فأنزل الله عليه : ( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ ) حتى إذا بلغ : ( أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّىٰ ... ) ألقى عليه الشيطان كلمتين : ( تلك الغرانيق العلى وإنّ شفاعتهن لترتجى ) ، ففرح المشركون وسجدوا جميعاً ، أما خاتمة القصة فإنّهم يقولون إن جبريل عليه‌السلام جاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وطلب منه أن يعرض عليه سورة النجم ، فلما عرض وصف اللات والعزى بالغرانيق العلى قال جبريل .. ( أما هذا فلم آتِكَ به هذا من الشيطان ) (٣).

________________

(١) سورة الحج : ٢٢ / ٥٢.

(٢) انظر : جامع البيان / الطبري ١٧ : ١٣١ ، أسباب النزول / الواحدي : ٢٣٢ ، مطبعة هندية ـ مصر (١٣١٥ ه‍ ).

(٣) انظر : جامع البيان / الطبري ٩ : ٣٥ ، و ١٢ : ٤٢ ، و ١٧ : ٢٤٥ ـ ٢٤٨ و ٢٥٠

٥١

وقد زاد مفسرون آخرون ما أساء أكثر إلى الذات النبوية المعصومة كما روى أبوبكر ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام من أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله لما بلغ ( أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّىٰ ... ) الآية سها فقال : تلك الغرانيق

________________

و ٢٥٢ ، و ٢٤ : ١٤ / ٢٣٢٣٤ ، ومعاني القرآن / النحاس ٤ : ٢٢٥ ، وأحكام القرآن / الجصاص ٣ : ٣٢١ ، وتفسير الثعالبي ١ : ١١١ ، و ٤ : ١٢٩ ، وأسباب النزول / الواحدي : ٢٣٢ ، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي ١٢ : ٨١ ، وزاد المسير في علم التفسير / ابن الجوزي ٥ : ٣٠٢ ، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير ٣ : ٢٣٩ ـ ٢٤٠ ، وتفسير الجلالين / السيوطي والمحلّي : ١٦ و ٤٤٠ و ٥٢٠ ، والدر المنثور / السيوطي ٤ : ١٩٤ و ٣٦٦ ـ ٣٦٨ ، ولباب النقول في أسباب النزول / السيوطي : ١٢٥ و ١٣٦ ، وفتح القدير / الشوكاني ٣ : ٤٦١.

وتأويل مختلف الحديث / ابن قتيبة : ١٦٨ ، والمعجم الكبير / الطبراني ٩ : ٣٥ ، و ١٢ : ٤٢ ، والطبقات الكبرى / ابن سعد ١ : ٢٠٥ في ذكر سبب رجوع أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من أرض الحبشة ، وتاريخ الطبري ٢ : ٧٥ ـ ٧٧ ، والبداية والنهاية / ابن كثير ٣ : ١١٣ ، والسيرة النبوية / ابن كثير ٢ : ٥٦ ، ومعجم البلدان / الحموي ٤ : ١٦ ( عزا ) ، وشرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد المعتزلي الشافعي ٧ : ١٩.

وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ٧ : ١١٥ : ( رواه البزّار والطبراني ورجالهما رجال الصحيح ) !! ودافع ابن حجر العسقلاني في فتح الباري ٨ : ٣٣٣ عن طرق هذه الفرية بعد أن ذكرها بنحو ما بيّناه ، مفصّلاً طرقها ، وردّ على من ضعفها كابن العربي المالكي والقاضي عياض إلى أن قال : ( .. وقد ذكرت أن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح وهي مراسيل يحتجّ بمثلها من يحتجّ بالمرسل وكذا من لا يحتجّ به لاعتضاد بعضها ببعض ).

وتابعه على ذلك المباركفوري في تحفة الأحوذي في شرح جامع الترمذي ٣ : ١٣٦ مصرّحاً في ص : ١٣٨ من الجزء المذكور بأن بعض علماء العامّة قد زعموا أنّ ( الغرانيق العلى ) كانت قرآناً ثمّ نسخت !!!

٥٢

العلى .. (١).

وتمشّيا مع مذهب المعتزلة في تجويز الخطأ والسهو على الأنبياء يفسر الزمخشري قوله تعالى : ( أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) (٢) بأنه ( وسوس إليه بما شيعها به فسبق لسانه على سبيل السهو والغلط إلى أن قال : تلك الغرانيق .. كذا ، قال الزمخشري : ولم يفطن حتى أدركته العصمة فتنبه عليه ... ) (٣).

وتابع الفخر الرازي رأي الزمخشري في تجويز السهو على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكنه لم يقل بجواز الغلط ، إذ يفهم من غرض الآية أنها تُبَيِّن ( أن الرسل الذين أرسلهم الله تعالى وإن عصمهم عن الخطأ مع العلم فلم يعصمهم من جواز السهو ، ووسوسة الشيطان بل حالهم في جواز ذلك كحال سائر البشر ... ) (٤).

وأصل هذه الأكذوبة في صحيح البخاري باب سجود المسلمين مع المشركين ، قال : ( حدّثنا مسدد ، قال : حدثنا عبد الوارث ، قال : حدّثنا أيوب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجنّ والإنس ) (٥).

وقال في باب فاسجدوا لله واعبدوا : ( حدّثنا معمر ، حدّثنا عبد الوارث ، حدّثنا أيوب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : سجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالنجم

________________

(١) انظر : الجامع لأحكام القرآن / القرطبي ١٢ : ٨١.

(٢) سورة الحج : ٢٢ / ٥٢.

(٣) الكشاف ٣ : ١٩.

(٤) مفاتيح الغيب ٢٣ : ٥٥.

(٥) صحيح البخاري ٢ : ٣٢ ، وصحيح ابن حبّان ٦ : ٤٦٩.

٥٣

وسجد معه المسلمون والمشركون والجنّ والإنس ) (١) ، وزاد الطبراني : ( أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سجد وهو بمكة بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجنّ والإنس ) (٢).

وعبارة ( وسجد معه المسلمون والمشركون ) في لفظ البخاري موجودة بعينها في أكذوبة الغرانيق ، ولهذا صرح ابن كثير بأن اصل قصة الغرانيق في صحيح البخاري (٣) فالبخاري إذن يرى صحّة تلك الفرية التي ليس بها مرية.

وقد تصدّى علماء الإمامية قديماً وحديثاً لهذه الفرية العظيمة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وردوها بأبلغ الردود العلمية الشافية ، واستهجنوا روايتها والتصديق بها.

فقد وصفها السيد المرتضى بأنها خرافة (٤).

وقال العلّامة الحلي بعد ذكر خبر الغرانيق : ( وهذا في الحقيقة كفرٌ ) (٥).

وقال الشهيد الثالث القاضي نور الله التستري : ( وهذا عين الكفر ) (٦).

وقال المحقّق الداماد في خبر الغرانيق : ( ولا يستريب ذو بصيرة في أنّه باطل مردود ولا يستصحّه العقل ولا النقل ، والبرهان قائم بالقسط على كذبه

________________

(١) صحيح البخاري ٦ : ٥٢.

(٢) المعجم الأوسط / الطبراني ٣ : ١٩٧ ، وانظر : المعجم الكبير له أيضاً ١١ : ٢٥٣ ، مشكل الآثار / الطحاوي ١ : ٣٥٢ ، والسنن الكبرى / البيهقي ٢ : ٣١٣.

(٣) انظر : البداية والنهاية / ابن كثير ٣ : ١١٣ ، والسيرة النبوية له أيضاً ٢ : ٥٦.

(٤) تنزيه الأنبياء / السيد المرتضى : ١٠٧.

(٥) الرسالة السعدية / العلّامة الحلي : ٧٣.

(٦) الصوارم المهرقة في نقد الصواعق المحرقة / القاضي نور الله التستري : ٢٢٥.

٥٤

وبطلانه ) (١).

وقال العلّامة المجلسي : ( حديث الغرانيق من الخرافات التي روتها العامّة ، وهو موضوع مما لا أصل له ، والعجب من علماء أهل السنّة كيف رووه في كتبهم وفيه إزراء شنيع للرسول المطهّر صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهتك لقداسته وحرمته ، فكيف يجوز لمسلم آمن بالله وعرف رسوله وصدقه أن يتفوّه بمثل هذا الكلام في حقّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي لا ينطق إلّا عن الوحي ، ولا يفعل إلّا ما فيه رضا الربّ ـ إلى أن قال ـ نعوذ بالله من الضلال والخذلان واتباع وساوس الشيطان ) (٢).

وقال السيد الطباطبائي في الميزان : ( الأدلّة القطعية على عصمته صلى‌الله‌عليه‌وآله تكذب متنها وإن فرضت صحّة سندها ، فمن الواجب تنزيه ساحته المقدّسة عن مثل هذه الخطيئة ) (٣).

وخصص السيد مرتضى العسكري في كتابه أحاديث عائشة مساحة واسعة لمناقشة تلك الخرافة بل السخافة التي صارت مدعاة لهجوم المستشرقين على نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤).

________________

(١) الرواشح السماوية / المحقّق الداماد : ١٩٧.

(٢) بحار الأنوار / العلّامة المجلسي ٧ : ٥٦ واستدلّ على بطلان سخافة تلك القصّة مطوّلاً.

(٣) الميزان في تفسير القرآن ١٤ : ٣٩٦ ، وقد ذكرنا من صحيح رواية الغرانيق الباطلة من علماء الحشوية ، وإليهم يشير الشيخ محمود أبو ريه في أضواء على السنّة المحمدية : ٢٨٣ بقوله : ( فتعدّد الطرق في مسألة مقطوع ببطلانها شرعاً كمسألة الغرانيق أو عقلاً لا قيمة له ، لجواز اجتماع تلك الطرق على الباطل ).

(٤) أحاديث عائشة / السيد مرتضى العسكري : ٣٠٦ وما بعدها.

٥٥

وخصص أيضاً السيد جعفر مرتضى العاملي في كتابه الصحيح من السيرة مساحة واسعة استوعبت الكثير من الأدلّة العقلية والنقلية في ردّ تلك الأكذوبة (١).

وللعلّامة السيد عبد الحسين شرف الدين كلام حول هذه المزعومة أحببت إيراده بلفظه ، قال قدس‌سره في بيان معنى الآية الشريفة : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) (٢) : ( فإنّه لا يراد بها أن الشيطان يُلقي في نفس الرسول أو النبي شيئاً والعياذ بالله ، ليشكل الأمر فنحتاج إلى تخريج الآية على خلاف ظاهرها ، وإنّما المراد ما نصّت الآية عليه من أنّ الشيطان يلقي في الأُمنية نفسها ، أي : يُلقي فيما يتمنّاه الرسول أو النبي من الخير والسعادة شيئاً من التشويه في نظر رعاع الشيطان والناعقين معه ، ليصدّهم بسبب ذلك عمّا تمنّاه الرسول لهم ، ويحول بين الأُمنية وتحقّقها في الخارج ، فتكون الآية الحكيمة على حدّ قول القائل : ما كل ما يتمنّى المرء يدركه.

هذا هو المراد من الآية قطعاً وهو المتبادر منها إلى الأذهان .. والعجب من غفلتهم عنه على وضوحه وكونه هو اللائق بالذكر الحكيم والنبي العظيم وسائر الرسل والأنبياء عليهم‌السلام. فلا يجوز حمل الآية على ما سواه أبداً.

أما حديث الغرانقة فإنّه من مختلقات الزنادقة كما أوضحناه على سبيل التفصيل في رسالة أفردناها لهذا الحديث ولكل ما كان حوله متناً وسنداً أسميناها « خرافة الزنادقة أو سخافة الغرانقة » والله المسؤول أن يوفّقنا

________________

(١) راجع : الصحيح من السيرة ، الجزء الثالث.

(٢) سورة الحج : ٢٢ / ٥٢.

٥٦

لنشرها فإنّها في بابها مما لا نظير له ، والحمد لله على هدايته وعظيم عنايته ) (١).

جدير بالذكر أنّ المأمون العباسي قد عيّر بعض أصحاب الحديث من الحشوية على روايتهم لأكذوبة الغرانيق فقال لهم في جملة كلامه : ( .. وكما رويتم أنّ الشيطان يفرّ من ظلّ عمر ، وألقىٰ على لسان نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وأنّهنّ الغرانيق العلى ! ففرّ ـ يعني الشيطان ـ من عمر ، وألقىٰ على لسان النبي بزعمكم الكفر ) ! (٢)

ولهذا نرى بعض علماء العامّة قد نفى قصّة الغرانيق وحكم بكذبها واختلاقها ، وانها من الموضوعات التي لا أصل لها ، وانها من وضع الزنادقة وإن قال الهيثمي بأنّ رجالها رجال الصحيح ، إذ لا صحيح البتة في قبال النيل من قداسة النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

والخلاصة من كل ذلك ، أن هذه القصة مردودة بكل ما تضمّنته وأشارت إليه من وقائع ، وما يرتبط بها من مظاهر التشكيك والدس والإساءة إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل إلى شريعته ، وسواء قصد ذلك عمداً أم كان دون قصد فإنّ قبول القصة وتصديقها يعد هدما لمفاهيم وأسس عديدة يقوم عليها التشريع الإسلامي عموماً.

________________

(١) أبو هريرة / السيد عبد الحسين شرف الدين : ١٠٦ ـ ١٠٧.

(٢) عيون أخبار الإمام الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٩٩ ـ ٢١٥ / ٢ باب (٤٥) والمقطع المذكور في الصفحة : ٢٠٣ ، وأعاب عليهم بهذا ونحوه الكراجكي في التعجب : ٥٩ ، والبياضي في الصراط المستقيم ٣ : ٨١ ، والقاضي نور الله التستري في الصوارم المهرقة : ١٤٣.

٥٧

وبالإضافة إلى ما مرّ من موارد إبطال القصة يستفيد الباحث موارد أخرى لردها وإبطالها ، والاستناد في ذلك إلى أدلة عقلية ونقلية مرت الإشارة إلى بعضها ويمكن إجمال ذلك في الآتي :

١ ـ إنّ الله تعالى بيَّن أن الشياطين لا سبيل لهم إلى الوحي والتدخل فيه لأنهم معزولون مرجومون بالشهب ، وإنّما لم يكن لهم ذلك حراسة للمعجزة من أن تتموّه بالباطل ، لأنّ الله تعالى إذا أراد أن يدل بها على صدق الصادق أخلصها بمثل هذه الحراسة (١). قال تعالى : ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ) (٢) ، فالشياطين لاسبيل لهم إلى الوحي ، وما استرقوه منه ممن خطف الخطفة منهم فإنهم إنّما ينزلون به ( عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ) (٣). وإن تجويز مثل هذه الروايات والخرافات فيه نسبة الإفك والإثم إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٢ ـ إن هذه الروايات تضمنت ما قد نزهت الرسل عنه من تأثير فعل الشيطان ، ومدح الأصنام ، وترجّي شفاعتها بما فيه من إشراك بالله تعالى يتنزّه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عنه وهو الذي أرسله الله تعالى لمحاربة الشرك والأوثان وهو الذي ( نزهه تعالى عن الأمور الخارجة عن باب المعاصي كالغلظة والفظاظة وقول الشعر مما هو دون مدح الأصنام المعبودة دون الله ) (٤).

٣ ـ إن الله تعالى بيَّن في كتابه الكريم أن السبيل إلى التخلص من إلقاءات

________________

(١) انظر : التبيان / الطوسي ٨ : ٦٧.

(٢) سورة الجن : ٧٢ / ٢٦ ـ ٢٧.

(٣) سورة الشعراء : ٢٦ / ٢٢٢.

(٤) تنزيه الأنبياء / الشريف المرتضى : ١٠٧ ـ ١٠٨.

٥٨

الشيطان وآثاره ووساوسه هو بالاستعاذة بالله منه ، لأنّ الشيطان خنّاس إذا ذُكِر الله خنس.

وهو تعالى قد عصم عباده المؤمنين ـ بذكرهم له والاستعاذة به ـ من مس الشيطان قال تعالى : ( الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ) (١). وهو تعالى أوصى رسوله وأمره بالاستعاذة به من الشيطان حين قراءته القرآن قال تعالى : ( فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ) (٢). وقد كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كما يؤكد رواة هذه الأخبار يقرأ القرآن خلالها ، فهل عصم الله سبحانه عباده وترك نبيه نهباً لإلقاءات الشيطان ، وهل كان العباد أجدر بإطاعة أمر الاستعاذة من الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

٤ ـ إن لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ الذي يدَّعي هؤلاء أن الشيطان ألقى عليه ـ هو : ( بيان الله وترجمانه ) (٣) الذي لاينطق إلّا عنه قال تعالى : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) (٤) ، فما يبلّغه هذا الرسول إلى الناس ويتلوه عليهم هو ذكر من الله تعالى قد تعهد بحفظه فقال : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (٥) ، والقول بإمكان الشيطان التدخل والإلقاء في هذا الذكر ( الوحي ) النازل منه تعالى هدم لأساس الرسالة ، وطعن للثقة في صحة صدور الوحي عنه تعالى ، فإذا كان الشيطان يستطيع أن يفسد ويلقي في بعض

________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ٢٠١.

(٢) سورة النحل : ١٦ / ٩٨.

(٣) الكاشف / مغنية ٥ : ٢٤٠.

(٤) سورة النجم : ٥٣ / ٣ ـ ٤.

(٥) سورة الحجر : ١٥ / ٩.

٥٩

الوحي ( القرآن ) فما يمنعه أن يلقي في بعضه الآخر ، ونحن نعلم بقطع أن حفظ الوحي يعني أن يكون ( حفظاً من كل تخليط وتغيير بالزيادة والنقصان يقع من ناحية الشياطين بلا واسطة أو معها ) (١).

٥ ـ ما مرّ بيانه من إطباق علماء الإمامية قديماً وحديثاً على ردّ هذه الفرية ، وكذلك نخبة من علماء العامة ضعفوا هذه الروايات ووصفوها بالكذب والافتراء والوضع والخرافة والنقص حتى نسبها بعضهم إلى الزنادقة ، الأمر الذي يجعلها من صنف الأساطير والخرافات التي لا أصل لها على رغم أنف من احتج بها أو صححها.

وقد كان من أسباب هذا الخلاف في القول بإلقاء الشيطان وإمكان ذلك ما يحتمله لفظ التمني في قوله تعالى : ( ... إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ... ) (٢) من معان منها :

أ ـ أن يكون التمني هنا بمعنى التلاوة. كقول حسان بن ثابت :

تَمنَّى كتابَ الله أَول لَيلَةٍ

وآخره لاقى حِمامَ المَقادِرِ

فيكون معنى الآية كما يفسرها السيد المرتضى : ( إن من أرسِلَ قبلك من الرسل كان إذا تلا ما يؤدّيه إلى قومه حرَّفوا عليه وزادوا فيما يقوله ونقصوا ) (٣).

أو أن يكون الملقي هو الشيطان يلقي شبها متصلة على الناس ليجادلوا

________________

(١) الميزان / الطباطبائي ٢٠ : ٥٤.

(٢) سورة الحج : ٢٢ / ٥٢.

(٣) تنزيه الأنبياء : ١٠٧.

٦٠