مصادر الوحي وأنواعه في القرآن الكريم

الدكتور ستار جبر حمّود الأعرجي

مصادر الوحي وأنواعه في القرآن الكريم

المؤلف:

الدكتور ستار جبر حمّود الأعرجي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-78-2
الصفحات: ٢٢٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

١

٢

٣

٤

مقدّمة المركز

الحمد لله بما هو أهله ، وصلّى الله على نبيّنا محمد وآله ، وبعد..

بنت الأديان السماوية كلّها معارفها الإلهيّة وحقائقها الدينية على ضوء ما جاء به الوحي الإلٰهي وأبانته النبوّات ، وما التفاوت الحاصل في هذا البناء عند أهل الأديان إلّا بسببهم ؛ لتفاوتهم في درجة حفظ ذلك البناء والتفاني من أجل سلامته. إذ المعلوم الثابت أن يد البغي والتحريف قد طالت الكثير من حقائق الوحي المبين وأقوال الأنبياء عليهم‌السلام السابقين من خلال الافتراء عليهم بنسبة الكذب المخترع إليهم ، وهم عليهم‌السلام براء منه. وأما الدين الخاتم الذي ارتضاه الله لعباده ، فقد بقي فيه الوحي الإلهي وسيبقى محافظاً على نفسه إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) بخلاف السنّة القولية للنبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله التي هي من الوحي غير القرآني الممضى في القرآن الكريم نفسه ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) ، حيث تعرّضت إلى الدسّ والتزوير في حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتّى قام فيهم خطيباً محذّراً من الكذب عليه ، قائلاً : « ألا قد كثرتْ عليَّ الكذّابة ، فمن كذّب عليَّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار » ، وأما بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فالحديث ذو شجون ! وبالرغم من ذلك فقد امتاز دين الإسلام بفضل الوحي والسنّة الصحيحة المعصومة برقي معارفه ومتانة حقائقه.

وحيث أن دين الله واحد منذ أن فطر الله الخلق وإلى يوم يبعثون ، فمردّ الاختلاف الحاصل إذن في عقائد أهل الأديان ، ليس إلى الوحي والنبوات ، بل أساسه ، اختلاف طبائع الناس وأمزجتهم تجاه الحقّ في كلّ دين ، وتلوّث فطرهم ، وإخلادهم إلى الأرض ، ولهذا كان فيهم المؤمن والكافر ، والمنصف والعنيد ، فلا غرابة إذن فيما لو تعرّض الوحي وما دعا إليه كلّ نبي إلى الجحود والإنكار من أصناف كثيرة في مسيرة الأديان ، يقودهم في عصرنا هذا المادّيون ، ومن تأثّر بما أنتجته العلوم الطبيعية القائلة بأصالة المادّة المتحوّلة من حال إلى حال ! ومن فرط حماقاتهم أنّهم جعلوا الإدراكات الإنسانية خواطر مادية مترشّحة من الدماغ ! وجعلوا الغايات الوجودية ، وجميع الكمالات الحقيقية استكمالات فردية مادية ، بهدف القضاء على فكرة الدين والوحي ، فالنبوة عندهم نوع من النبوغ الفكري ، والصفاء الذهني ، والنبيّ ـ بزعمهم ـ مفكّر نابغ يدعو قومه إلى ما فيه صلاح محيطهم الاجتماعي ، والوحي بنظرهم يمثل انتقاش الأفكار الفاضلة في ذهن النبيّ ، والكتاب السماوي الموحى به إلى ذلك النبيّ ، هو مجموع تلك الأفكار الفاضلة المنزّهة عن الهوس والأغراض الشخصية ! وعلى هذا الطراز جاءوا بمعانٍ جديدة للملائكة والجنّة والنار والصراط والميزان واللوح والكرسي والقلم وما شابه ذلك ، فأنكروا كلّ هذه الحقائق ووجوداتها المادية الخارجة عن الحسّ ، وفسّروها بما يعيدها إلى الوجود المادّي المحسوس ، ليوافق بزعمهم الدين ما قطع به العلم ، ويُستحفظ بذلك عن السقوط !!

ولا شكّ أن الإذعان المطلق لما أنتجته العلوم الطبيعية سيّما بعد اتساع نطاقها وجريان البحث فيها على أساس الحسّ والتجربة ، لا يعني أبداً ربط كلّ شيء بالمادة حتّىٰ ولو لم يكن مادياً محسوساً ،

٥

الأمر الذي توهمه أولئك فأنكروا ما وراء الطبيعة ، وفسّروا الحقائق المتعالية بما يسلخها عن شأنها ويعيدها إلى مادة عجماء جامدة. والبحث الصحيح يوجب تفسير بيانات الوحي اللفظية الواردة في جميع الأديان السماوية على أساس ما يعطيه كلّ لفظ منها عرفاً ولغة ، ثمّ يعتمد في أمر المصداق على ما يفسّر به بعض الكلام بعضاً ، ثمّ ينظر هل الأنظار العلمية تنافيها أو تبطلها ، ولو ثبت فيها ـ من خلال ذلك ـ شيء خارج عن المادة وحكمها ، فالطريق إليه ـ نفياً أو إثباتاً ـ طور آخر من البحث غير الذي عكفت عليه العلوم الطبيعية ، إذ لا يمكن بحث ما هو خارج عنها بكلّ مقايسها فيها ، لا نفياً ولا إثباتاً.

وقد أثبتت سائر العلوم المختصّة ببحث ما وراء الطبيعة ، أن حياة النوع الإنساني هي حياة واسعة ممتدّة لا نهاية لها ، ولا تقتصر على الحياة الدنيا ، ولا تنتهي بالموت أبداً ، وأن الإنسان سيعود حتماً إلى عالم آخر ليعيش هناك حياة أخرى دائمة لا موت فيها ، إمّا منعّماً أو معذّباً ، الأمر الذي أكّدته الأديان السماوية بكلّ قوّة وعملت على ترسيخه ، وبيّنت برهانه ودليله ، وقد جعل الله عزّوجلّ فطرة الإنسان دليلاً إضافياً عليه ، ولكن شمس الفطرة كما قد تشرّق على بعض النفوس فتصيّر فجرها ناصعاً ، قد تغرب في نفوس أخرى بعد ضعف العوامل والمستلزمات الأساسية فيها المحافظة على الفطرة وتناميها ، وتحيلها إلى ظلام دامس ، وكون الدين الإلٰهي فطرياً لا ينافي جهل الماديين بحقائقه ، فقد جمع الله عزّوجلّ بين الفطرة وعدم العلم بالدين في قوله تعالى : ( فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ).

وتوقف تصديق الماديين بحقائق الوحي على مشاهدته ، يذكرنا بموقف أبي سفيان وزبانيته من الجاهلية الأولى الذين طالبوا النبي الأعظم بمثل ذلك ، مع أن تبيين الحقائق والمعارف لكلّ شخص من البشر أمر لا يحتمله أي نظام في هذا العالم ، وهكذا الحال في كل إعلام عمومي وتبيين مطلق ، وهو إنما يكون باتصال الخبر إلى بعض الناس من غير واسطة وإلى بعض آخر بالواسطة بتبليغ الحاضر الغائب ، والعالم الجهال ، لا فرق في ذلك بين الوحي وغيره ، وإلّا لصار الأمر فوضى ، هذا مع أن الوحي ـ الذي هو نوع من التكليم الإلٰهي ـ من مختصّات ولوازم النبوّة ، وتتوقّف عليه نبوّة النبي ، وهو سنّة جارية في جميع الأنبياء ، وشرع إلهي فيه هداية الناس إلى سعادة حياتهم في الدين والدنيا ، والله تعالى لا يهمل أمر هداية العباد ؛ لأنّه حكيم مُتقِن ، ومن إتقان الفعل أن يساق إلى غايته. والقرآن الكريم قد بيّن حقيقة الوحي ، وتحدّث عن غاياته وآثاره ، وعصمته في إيصال ما يريده الله تعالى بواسطته إلى أنبيائه ورسله عليهم‌السلام ، وهناك الكثير من الحقائق التي كانت غائبة تماماً عن المجتمع المكّي ، ولا يمكن تحصيلها بشيء كسبي ، ولم تكن معروفة لدى العالم بأسره لولا نزول الوحي بها على صدر الحبيب المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله ، هذا فضلاً عمّا جاء به من أنباء الغيب المستقبلية التي تحقّقت ـ وهي كثيرة ـ على طبق ما أخبر بها الوحي الإلهي. والكتاب الماثل بين يديك عزيزي القارئ بيّن لنا حقيقة الوحي الإلهي ومصادره وأنواعه في القرآن الكريم بدراسة علمية بكر ، ليضيف بذلك لبنة جديدة إلى صرح الثقافة القرآنية ، جديرة بالثناء والتقدير. والله الهادي إلى سواء السبيل.

مركز الرسالة

٦



المُقدَّمةُ

ينتمي علم الظواهر النفسية الخارقة ( الباراسيكلوجي ) إلى العلوم النفسية الفلسفية ، ويرتبط من بعض زواياه بالعلوم الطبيعية البحتة ، ولا يزال هذا العلم في محيط الدراسات العربية وليداً يخطو خطواته الأُولى بخلاف ما هو عليه في محيط الدراسات العالمية حيث خطا هناك خطوات واسعة ، ومع هذا لم نكن ندري عنه أكثر مما نسمعه أحياناً من أخبار لبعض الظواهر الغريبة التي تقع ضمن مجال دراسته.

وموضوع بحثنا هذا وإن لم يتضمّن شيئاً من مباحث علم البراسيكولوجي ، إلّا أن شكل الارتباط بينه وبين هذا العلم تمثل في توافر ظاهرة الوحي على العديد من العناصر التي يقوم هذا العلم بدراستها وتشبهُ بعض ظواهرِهِ ما في الوحي من مصاديقَ وأشكالٍ ، رغمَ خصوصيَّتِها وتميزها بالإطارِ القدسيِّ الإلٰهي الذي يتجلَّى في المعادلةِ الثلاثيةِ للوحي المكونةِ من المُوحي ( الله تعالى ) والموحى إِليه ( البشر ، النبي ) والواسطةِ ( الملك ) أو بعض الصورِ الأخرى التي انتفت فيها الواسطة.

وأهمُ عناصرِ ظاهرةِ الوحي التي تلتقي معها ظواهرُ علمِ ( الباراسيكلوجي ) الإِلقاءَ الخفي وإِيصالَ المعرفةِ دونَ سلوكِ الطرُقِ

٧

المحسوسةِ الماديَّةِ وهي مظاهرُ مشابهةٌ لما يقومُ هذا العلمُ بمحاولاتٍ في التفسيرِ للوصولِ إِلى ماهيَّتِهِ وأشكالِهِ.

وهذه المظاهرُ بالذاتِ اتّخذَها العديدُ من الباحثينَ والمفسّرينَ المحدثين أدلةً ومنافذَ في إثباتِ ظاهرة الوحي ، وإنّها تضمّنتْ اتصالاً خفياً خارجياً بينَ النبي والموحي إليه ولم تكن ظاهرةً داخليةً تمثلُ معارفُها انعكاساً لحالةِ النبي النفسية الداخلية كما لم تكن نتيجة لتشنجات وحالات عصبية كالصرع والهستيريا وغيرَها كما حاولَ بعضُ المستشرقينَ تصويرَها.

فالوحيُّ الإلٰهي في حقيقتهِ ، قدّم صورةً جليةً من الاتصالِ الخارقِ غيرَ المنظورِ بينَ ذاتين من عالمينِ مختلفينِ ، سمتْ فيه النفسُ النبويةُ الإنسانيةُ إلى الاتصال بالملأ الأعلى والتلقِّي منه ، فكانت ظاهرةٌ إعجازيةٌ قدمتْ نماذجَ من الاتصالِ الخفيْ عن غيرِ المتلقي لهُ.

وتجلّتْ عظمتُها في خصوصية معارفها التي كانت أعظمُ ما فيها أنَّ كمّاً هائلاً من المعارف يُلقى في لحظةٍ خاطفةٍ لا يكادُ يكونُ للزمن فيها تقديرٌ أو وجودٌ ، وإنّما هو انتقالٌ لمعرفةٍ من ذاتٍ إلى ذاتٍ بحيث لا يمكنُ إطلاقاً تصوُّر مدى للمقارنة مع العلوم والمعارفِ المكتسبةِ بالطرقِ النظريةِ الاستدلاليةِ والكسبيةِ.

وإني لأرجو أن يكون هذا البحث مقدمةً للدخولِ إلى آفاقِ العلومِ الروحيةِ والنفسيةِ والدراسات الإسلاميةِ فيها وخصوصاً ظواهرُ ( الباراسيكلوجي ) التي تقدِّمُ دليلاً قاطعاً لا مجالَ للشَّكِ أو الاحتماليةِ فيه لإثباتِ المفاهيم والعقائد الإسلامية ( القرآنية ) في عالَمِ الرُّوحِ والنفسِ الإنسانيةِ وقواها ، وإدراكاتِها وملكاتِها المتميِّزةِ.

٨

ويَطيبُ ليَ من خلالِ هذه البحث أن أقدّمَ دعوةً مخلِصةً إلى كلِّ مَن يَحمِلُ العلمَ ، ويشفعه بعقيدته الإسلامية ، أن يلتفت إلى هذا العلم الذي ينطلقُ بخطىً هائلةٍ ليحتلَّ مكانتَه المتميزةَ بينَ جميعِ العلومِ ، وقد بلغتْ فيه بعضُ المراكزِ العلميةِ في الشّرقِ والغربِ مستوياتٍ متقدمةٍ جدّاً ، وتوصلَتْ في أبحاثها ودراساتِها النظريةِ والتطبيقيةِ إلى حقائقَ مذهلةٍ تجعلُنا أمام مسؤوليةٍ خطيرةٍ يُمثّلُ التهاونُ في تحمُّلها والتأخرُ عن القيام بما تُمليه تقصيراً بحقِّ تراثِنا العلمي الإسلاميِّ الخالدِ وريادتِه في الإشارة والبحثِ لمثلِ هذه الظواهرِ ، إِذ وردت الكثيرُ من التحليلاتِ العلميةِ الدقيقةِ لتلك الظواهر ، وتَمثَّلَ ذلك خصوصاً في الفكرِ الصوفيِّ والفلسفيّ والكلاميّ الذي بَحث في النّفسِ وقِواها وإدراكاتِها وَصِلتِها بعالمِ الغيبِ ، كما مثّلتِ الكراماتُ مَجالاً للخَوضِ في بعضِ العناصرِ الفكريةِ المرتبطةِ بهذه الظواهر ، الأمر الذي ينبغي إلفات أنظار الباحثين إليه وإن كُنتُ أتمنى أن أوفَّقَ شخصِياً لدراستِهِ.

هذه الاطلالة السريعة لابدّ منها ونحن نتحدث عن ظاهرة الوحي في القرآن الكريم في بابين :

الأوّل : ( مصادر الوحي في القرآن الكريم ) ، وقد استقصيت في هذا الباب كل ما ورد في القرآن الكريم من نسبة الوحي إلى كونه يصدر عن عدة مصادر ، جمعتها في ثلاث فصول ، وهي : ( الوحي الإلٰهي ) ، و ( الوحي الشيطاني ) ، و ( الوحي من مصادر أخرى ).

الثاني : ( الوحي من حيث المتلقي ) ، واستقصيت في هذا الباب الموارد المتعددة التي وردت الإشارات القرآنية بأن الوحي قد ألقي إليها ، وقد تمت دراستها في ثلاثة فصول ، وهي ( الوحي النبوي العام ) ، و ( الوحي المحمدي ) ،

٩

و ( الوحي إلى الموجودات الأخرى ).

أرجو أن أكون قد وفقت لخدمة الكتاب العزيز بدراسة ظاهرة الوحي فيه ، تلك الظاهرة التي لم تأخذ قبل ذلك حقّها من البحث الموضوعي الشامل ، فسبرت أغوارها ، وكشفت عن حقيقتها ، مع تغطيتها من جميع جهاتها.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

الدكتور ستّار الأعرجي

١٠



الباب الأوّل مصادر الوحي في القرآن الكريم

يمكن للباحث في موضوع الوحي ، بتعدّد صيغه الواردة في القرآن الكريم ، أن يميز مفهوماً عاماً مجملاً يتمثَّل في كون الوحي إلقاءً للمعارف والأفكار والخواطر ضمن إطار من الخفاء والسرعة ، وبطريقة تكاد تخفى علينا ، إذ في أحيان كثيرة عجز الباحثون ومفسرو القرآن الكريم عن إدراك كنه هذه الظاهرة التي ذكرها القرآن الكريم إجمالاً.

وعند استقصاء مادة الوحي في القرآن الكريم نجد أن الإشارة إلى مصدر الوحي تتمثل في ثلاثة مصادر يُنسَب إليها ، فتكون أنواعه :

الأوّل ـ الوحي الإلٰهي : الصادر عنه تعالى ، وسيتبيَّن لنا خلال البحث أن هذا الوحي فقط هو ما يمكن أن يجمع العناصر اللغوية والاصطلاحية والشرعية للوحي ويشتمل عليها.

كما سنجد أن أغلب الوحي الوارد ذكره في القرآن الكريم هو من هذا النوع ، إذ يصدر عنه تعالى إلى أنبيائه ورسله أو باقي مخلوقاته.

الثاني ـ الوحي الشيطاني : الذي يتمثل في ما يلقيه الشيطان ـ بمصاديقه المختلفة ـ إلى البشر من نحو الوسوسة والأز والنّزْغُ ... إلخ.

الثالث ـ الوحي من مصادر أخرى ، فقد أشارت بعض الآيات إلى

١١

كون بعض أنواع الوحي صادرا من الملائكة والبشر ، ومظاهر الطبيعة وغيرها.

لذا فإنّ هذا الباب سينقسم ـ تبعاً لمصادر الوحي المذكورة ـ إلى ثلاثة فصول ، ليتمّ تناولها جميعاً بحسب الترتيب.

١٢



الفصل الأوّل

الوحي الإلٰهي

أوّلاً ـ نسبته إليه تعالى :

يتأكّد لدينا من خلال البحث أن هذه النسبة ضرورة لا بديل آخر عنها ، لأنّه بلا نسبة الوحي بكلّ ما يمثَّله ويحمله من خصائص إلى الله تعالى فإنّنا لا نجد أيّة جهة أُخرى يمكن أن تنهض صفاتها وتَتَلاءم إمكانياتها مع ما في الوحي من خرق لكلّ مستويات القدرة المحدودة ، لأنّه يُسْتَمَدُّ من قدرة مطلقة تتعالى على القدرات البشرية أو أية نسبة أُخرى ، فما يأتي به الوحي من معارف وأعمال لا يمكن أبداً تفسيره إلّا بإثبات أن الوحي ( كلام سماوي غير مادي ليس للحواس الظاهرية والعقل أن تصل إليه ) (١) ، وذلك لأنّ نوع ما يأتي به الوحي من تلك المعارف والعلوم لا يُعلم إلّا من أربعة أوجه (٢).

إما بمشاهدة الحال ، أو قراءة الكتب ، أو تعليم بعض العباد ، أو بِوَحْي من الله ، وقد بطلت الأوجه الثلاثة الأولى بأنّها لم تكن حاصلة ، فصحَّ أنّها بوحي إلٰهي ، قال تعالى : ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) (٣).

________________

(١) القرآن في الإسلام / الطباطبائي : ٨٩.

(٢) انظر : التبيان / الطوسي ٢ : ٤٥٨.

(٣) سورة النساء : ٤ / ٨٢.

١٣

ونمعن النظر في هذا الوحي فنجد فيه تميُّزاً عن كلّ ما يحيط بنا وبمعارفنا ، إنّنا ننجذب فيه إلى حقيقة عميقة تخاطب فينا مكنوناتٍ وخفايا لا تسبر غورها إلّا قوّة مطلعة على سرائرنا خارجة عن ذواتنا ومستويات عالمنا ، قوّة مهيمنة تحيط بأسرار الوجود كلّه.

لهذه المميزات فإنّ النبوات ، والوحي أساسها ، كانت في مختلف فترات انطلاقها موضعا للجدل والخلاف ؛ لأنّها مثّلت حدثا غير عادي وارتبطت بما وراء هذا العالم من خلال اتصالها بقوى غير منظورة تنتمي إلى عالم مختلف ، ولم تكن مجرد دعوات تغييرية وتشريع جديد ينسخ ما قبله ، فثبت لدينا أن هؤلاء الأنبياء ( عرفوا ما لم يعرف بقية البشر بطاقة خفية لاتمت إلى المعارف السائدة بسبب وبالتالي لا سبيل إلى العقل البشري لإدراكها ) (١).

ثانياً ـ صلته بالغيب :

مثلما يمثّل الوحي بذاته ظاهرة خفية في ماهيتها ، فإنّ معارفه التي جاء بها مما لم يكن للبشر سابق معرفة به.

والغيب : ذهاب الشيء عن الحس ، ومنه ( عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ) (٢) ، أي عالم بما غاب عن الحواس وبما حضرها (٣). ويضيف الراغب الأصفهاني إلى هذا التعريف بُعدا آخَر ، إذ الغيب عنده ( ما لا يقع تحت الحواس ، ولا تقتضيه بدائة العقول وإنّما يُعلم بخبر الأنبياء ) (٤). فمعارفه غائبة عن الحس

________________

(١) انظر : محمد رسول الله نبي الإنسانية / أحمد حسين : ٦٧.

(٢) سورة الرعد : ١٣ / ٩.

(٣) انظر : التبيان / الطوسي ٦ : ٢٠١.

(٤) المفردات / الراغب : ٣٦٦.

١٤

البشري المحدود المقيَّد ، فهو غيب بالنسبة إلى الإنسان إذ ( يقال للشيء غيبٌ وغائب باعتباره بالناس لا بالله تعالى فإنّه لا يغيب عنه شيء ) (١) ، قال تعالى : ( لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ) (٢) ، وقال تعالى : ( وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) (٣) ، وقال تعالى : ( وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ) (٤).

وأما ما يشتمل عليه إطلاق لفظ الغيب مما لا يقع عليه الحس فهو ( الله سبحانه وتعالى وآياته الكبرى الغائبة عن حواسنا ومنها الوحي ) (٥).

والإيمان بالوحي وإثباته معتمد أساساً ومستلزم للإيمان بالغيب وإثباته ، لأنّ إنكار الغيب ( وبضمنه وجوده تعالى ) هدم لأهم أسس العقيدة ، وبه يقع على الإنسان اسم الإلحاد (٦).

فالإيمان بالغيب أصل من أصول الإيمان ، وبإضافة الإيمان بالوحي ( النبوة ) والإيقان بالآخرة يستجمع ( الإيمان بالله تعالى ليتم بذلك الإيمان بالأصول الثلاثة للدين ) (٧).

ويتأكد ارتباط الوحي بالغيب وكونه وسيلة المعرفة الرئيسية له في أن الوحي من خلال القرآن الكريم ( أخبر في عدة من آياته عن أمور مهمة تتعلّق

________________

(١) المفردات : ٣٦٦.

(٢) سورة سبأ : ٣٤ / ٣.

(٣) سورة النمل : ٢٧ / ٧٥.

(٤) سورة هود : ١١ / ١٢٣.

(٥) الميزان / الطباطبائي ١ : ٤٥.

(٦) المفردات : ٣٦٦.

(٧) الميزان ١ : ٤٥.

١٥

بما يأتي من الأنباء والحوادث ، وقد كان في جميع ما أخبر به صادقاً لم يخالف الواقع في شيء منها ، ولا شكَّ أن هذا من الإخبار بالغيب ولا سبيل إليه غير طريق الوحي والنبوة ) (١).

فمعارف الوحي الإلٰهي وحقائقه التي يفيض بها هي في معظمها حقائق غيبية لم يستطع العقل البشري إدراكها وغابت عن البشر قبل ورود الوحي بها ، ونلاحظ في هذا الورود التأكيد بشدة على اختصاص علم هذ الغيب به تعالى فلا سبيل إليه إلّا منه سبحانه.

ولا شكَّ أن لهذا الاختصاص به تعالى علّة ترتبط ارتباطاً قوياً بأبعاد الغيب نفسه ، إذ العلم به وبأبعاده تستلزم الإحاطة بمصاديقه ومبادئه وعلَّله ، وبما أن غيره تعالى أيّاً ما كان ( محدود الوجود لا سبيل له إلى الخارج منه الغائب عنه ، من حيث أنه غائب ، ولا شيء غير محدود ولا غير متناه محيط بكل شيء إلّا الله سبحانه ) (٢) ، فلا تكون الإحاطة بالغيب إلّا لَهُ وحده تبارك وتعالى ، قال تعالى : ( وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ) (٣) ، و ( وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) (٤) ، و ( قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ) (٥). وبربط هذه الآيات الكريمة مع آيات أخرى تعرضت إلى ذكر الغيب ، كقوله تعالى : ( وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ

________________

(١) البيان في تفسير القرآن / السيّد الخوئي : ٨١.

(٢) الميزان / الطباطبائي ٨ : ٣٧٢.

(٣) سورة الأنعام : ٦ / ٥٩.

(٤) سورة النحل : ١٦ / ٧٧.

(٥) سورة النمل : ٢٧ / ٦٥.

١٦

وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ .. ) (١) ، ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ .. ) (٢) و ( قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ .. ) (٣) ، نلاحظ أن هذه الآيات لا تنفي الإخبار بالغيب عن غيره تعالى مطلقا وإنّما هي مطلقة بلحاظ معنى الأصالة والتبعية في علم الغيب ( فهو تعالى يعلم الغيب لذاته وغيره يعلمه بتعليم الله ) (٤) أي : إن علم الغيب منفي عن البشر بمعنى أن يكون علمهم له طبيعة بشرية أعلى من طبيعة عموم البشر ، فالآيات نافية أن يكون علمهم للغيب بعلم ذاتي وليست بنافية للعلم الكسبي بمعنى ( انكشاف الغيب لهم بتعليم إلهي من طريق الوحي ) (٥) فهو عند الله سبحانه علم ، وهو من البشر إخبار بالكسب ، وهذا ما أكدته آيات أخرى كقوله تعالى : ( ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ .. ) (٦) ، ( تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ .. ) (٧). إذ يتبيَّن لنا من ملاحظة ارتباط الآيات فيما ترمي إليه من مفهوم : ( أنّ الغيب لله وعند الله ، وأنه لا طريق إلى معرفته بالتجربة ولا بالعقل ولا بأي شيء آخر إلّا بالوحي منه تعالى ) (٨).

________________

(١) سورة هود : ١١ / ٣١.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ١٧٩.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ١٨٨.

(٤) الميزان / الطباطبائي ٢٠ : ٥٣.

(٥) الميزان / الطباطبائي ١٨ : ١١١.

(٦) سورة آل عمران : ٣ / ٤٤.

(٧) سورة هود : ١١ / ٤٩.

(٨) التفسير الكاشف / محمد جواد مغنية ٣ : ٤٧٢.

١٧

وما يُلقى إلى البشر من الغيب الذي جوَّزته الآيات الكريمة لا يشمل كل ما يقع تحت اسم الغيب ، فالغيب الإلٰهي أنواع لا يلقى إلى البشر إلّا النزر اليسير منها ، ... عن الفضيل عن أبي عبد الله الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام قال : « إن لله علما لم يَعلَمهُ إلّا هو ، وعلما أعلَمهُ ملائكته وأنبياءَه ورسله ، وما أعلمه ملائكته وأنبياءه ورسله فنحن نعلمه » (١).

ويُقَسِّم محمد رشيد رضا الغيب على قسمين : ( غيب حقيقي لا يعلمه إلّا الله ، وغيب إضافي يعلمه بعض الخلق دون بعض لأسباب تختلف باختلاف الاستعداد الفطري والعمل الكسبي ) (٢).

وزاد الشيخ محمد جواد مغنية نوعاً ثالثاً ، فأنواع الغيب عنده ثلاثة (٣) :

١ ـ نوع يحجبه الله عن عباده لايُطلِعُ عليه أحداً كائناً من كان كقيام الساعة.

٢ ـ نوع يُطلِعُ عليه من ارتضى من عباده ...

٣ ـ نوع أخبر به كُلَّ الناس كالبعث والنشر والجنة والنار ... إلخ.

ومن خلال هذه الأنواع ومراتب معرفة البشر واطّلاعهم عليها نستطيع أن نتبيَّن الاختلاف والتفريق بين علمه تعالى بالغيب وعلم البشر ممن ارتضاهم لاطّلاعهم عليه فيتمثل لنا الاختلاف في ( أن إخبار الرسول [ البشر ] لايكون علما بالغيب بل نقلاً عمن يعلم الغيب ) (٤).

فعلمه تعالى هو الأصل ، وعلم غيره فرع من ذلك الأصل ، كما يختلف

________________

(١) انظر : أمالي الشيخ الطوسي ١ : ٢١٩.

(٢) الوحي المحمدي / محمد رشيد رضا : ١٨١.

(٣) التفسير الكاشف ٣ : ٤٣١.

(٤) الكاشف ٣ : ٤٣١.

١٨

التلقي للغيب في مصدره.

فالأنبياء عليهم‌السلام ينقلون عن الأصل بالوحي الإلٰهي الذي يتلقونه عنه تعالى ، ويختلفون عن غيرهم كالكهنة والمنجمين الذين يصيبون في أخبارهم أحياناً ، ويفرق الطبري بين الإخبارين في : أن أنبياء الله ورسله يخبرون به ( أي الغيب ) من غير استخراج ولا طلب لمعرفته باحتيال ، ولكن ابتداءً بإعلام الله إياهم من غير أصل تقدم ذلك احتذوه أو بنوا عليه أو فزعوا إليه كما يفزع المنجم إلى حسابه والمتكهّن إلى رأيه (١).

وإخبار الملائكة والأنبياء عليهم‌السلام بالغيب مرتبط بما يعبر عنه تعالى بالارتضاء والاصطفاء ، بتخصيص من يلقى إليه علم الغيب باختياره من بين كل البشر.

فالاصطفاء : أخذ صفوة الشي وخالصته ، واصطفاء الله تعالى من الملائكة رسلاً ومن الناس : اختياره من بينهم من يصفو لذلك ويصلح (٢). قال تعالى : ( اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ .. ) (٣) ، ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ .. ) (٤) ، ( رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ .. ) (٥).

يفسر قتادة بن ربعي ( ت ١١٧ ه‍ ، ٧٣٥ م ) ذلك بأنّه تعالى ( ربما أطلعه

________________

(١) جامع البيان ٣ : ١٩٣.

(٢) الميزان / الطباطبائي ١٤ : ٤١٩.

(٣) سورة الحجّ : ٢٢ / ٧٥.

(٤) سورة الجنّ : ٧٢ / ٢٦ ـ ٢٧.

(٥) سورة غافر : ٤٠ / ١٥.

١٩

« أي المرتضى » على ما غاب عن غيره من الخلائق ، بأن يوحي إليهم بما شاء من الغيب ) (١).

وتقييد إلقائه على المرتضين دون العامة أتبعه تقييد آخر في الآية الأولى بالرسول ، إذ تشير إلى أنه تعالى ( لايطلع على الغيب إلّا المرتضى : الذي هو المصطفى للنبوة خاصة ، لا كل مرتضى ) (٢).

ويستفيد الزمخشري جار الله محمود ( ت ٥٣٨ ه‍ ، ١١٤٣ م ) من خلال هذا التقييد بخصوص المرتضى للرسالة ، إبطال الكرامات والكهانة والتنجيم ، لأنّ الذين تضاف إليهم الكرامات ، وإن كانوا أولياء فليسوا برسل ، ولأنّ أصحاب الكهانة والتنجيم أبعد شيء عن الارتضاء وأدخله في السخط (٣).

وأكد الفخر الرازي في تفسيره هذا الاختصاص بالاصطفاء للرسالة في الإطلاع على الغيب (٤).

ولم يكتف الواحدي أبو الحسن علي بن أحمد النيسابوري ( ت / ٤٦٨ ه‍ ، ١٠٧٦ م ) في استناده على هذه الآية بإبطال الكهانة والتنجيم ، فقد استدل بها على تكفير المنجمين لأنّ ( من ادَّعى أن النجوم تدله على ما يكون من حياة أو معرفة أو غير ذلك فقد كفر بما في القرآن ) (٥). إلّا أنّه جوز الكرامات وإطْلاع

________________

(١) انظر : التبيان / الطوسي ١٠ : ١٥٨.

(٢) الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل / الزمخشري ٤ : ١٧٢.

(٣) الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ٤ : ١٧٣.

(٤) مفاتيح الغيب ٣٠ : ١٦٨.

(٥) مفاتيح الغيب ٣٠ : ١٦٨.

٢٠