مصادر الوحي وأنواعه في القرآن الكريم

الدكتور ستار جبر حمّود الأعرجي

مصادر الوحي وأنواعه في القرآن الكريم

المؤلف:

الدكتور ستار جبر حمّود الأعرجي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-78-2
الصفحات: ٢٢٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ .. ) (١).

هـ ـ عيسى عليه‌السلام حيث نسب الكتاب إليه في آيات عديدة (٢) ، من ذلك قوله تعالى : ( .. إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ) (٣) ، وكتابه هو الإنجيل الذي ورد ذكره في القرآن الكريم كما في قوله تعالى : ( .. وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ .. ) (٤).

و ـ الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد عبر عن كتابه بعدة صيغ :

كالكتاب : قال تعالى : ( إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ ) (٥) ، وقد ورد ذكره بهذه الصيغة في عشرات الآيات ، والفرقان : قال تعالى : ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) (٦) ، والقرآن : قال تعالى : ( وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) (٧).

ثانياً ـ الصحف : وقد نسبت إلى إبراهيم وموسى عليهما‌السلام ، وذلك في قوله تعالى : ( صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ ) (٨). ونسبت إلى نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله تعالى :

________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٤٤.

(٢) انظر : المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم : ٥٩٢.

(٣) سورة مريم : ١٩ / ٣٠.

(٤) سورة المائدة : ٥ / ٤٦.

(٥) سورة النساء : ٤ / ١٠٥.

(٦) سورة الفرقان : ٢٥ / ١.

(٧) سورة الحجر : ١٥ / ٨٧.

(٨) سورة الأعلى : ٨٧ / ١٩.

١٠١

( رَسُولٌ مِّنَ اللهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً ) (١).

ثالثاً ـ الألواح : وهي ما أُوتيه موسى عليه‌السلام وتضمنت الشرائع مفصلة ، وهي نفسها التوراة كتاب موسى عليه‌السلام حيث أعطاه إياه تعالى على شكل ألواح على الطور ، قال تعالى : ( وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا .. ) (٢).

رابعاً ـ البينات : وقد نسبت إلى الرسل عموماً كما نسبت إلى بعضهم بالإسم ، قال تعالى : ( جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ) (٣) ، وقال تعالى : ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقَانِ ) (٤).

ثانياً ـ خصائص النفس النبوية ( المتلقية للوحي ) :

من خلال ما تم بحثه في الاصطفاء فيمن يظهره تعالى على غيبه نتلمس في النفس النبوية المصطفاة لتلقي الوحي قدرات وخصائص تميزها ـ بعد تلبسها بصفة النبوة ـ عن سائر النفوس البشرية.

فالنفس النبوية لكي تكون لها ملكة الاتصال بعالم غريب عن عالمها وهو الأفق الأعلى لتستمد منه الوحي لابدَّ لها من استعداد فطري محض ليس للكسب فيه أثر بحيث تكون في ذروة الإنسانية ، قادرة على احتمال انكشاف

________________

(١) سورة البينة : ٩٨ / ٢.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٤٥.

(٣) سورة فاطر : ٣٥ / ٢٥.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ١٨٥.

١٠٢

حجاب هذا العالم الغريب حيث : ( تشهد من أمر الله شهود العيان ما لم يصل غيرها إلى تعقله أو تحسسه بعصي الدليل والبرهان ) (١).

ومن خلال فهمنا لخصوصية اصطفاء من يختاره تعالى لإطلاعه على الغيب يتبيَّن لنا بوضوح أن النبي لايمكنه إقامة نبوة بوظيفتها في الهداية وطريقها بالإنذار بما تأتي به إلّا بتوافر ثلاث خصائص تتميز بها الروح النبوية عن سائر الأرواح وهي (٢) :

١ ـ أنها تتصرف في الطبيعة وأنظمتها الخفية بالمعجزة التي تكون الطاقة التي تقوم بها فوق حدود القوى والطاقات البشرية.

٢ ـ أنها تمتلك ملكة العصمة.

٣ ـ أنها ترتبط بعالم الغيب .. إذ هو المادة الأولى لكيان النبوة حيث تتوقّف عليه المادتان السابقتان ، ولأنّ الاتصال به روح المعجزة وحياة العصمة.

وعلى هذا النبي أن يمتلك تنبهاً خاصاً يؤهله لوظيفة الإرشاد بدلالة الوحي وهذا التنبه ( لا يكون إلّا فيمن بلغ الغاية في الصفاء والاستقامة ، وهو نادر يتحقق في الأوحدي من الناس ) (٣).

وبهذا التنبه الخاص يدرك النبي ـ بواسطة قوى ربانية اصطفي لمنحها إيّاه ـ ( الأوامر الإلهية والدستور الغيبي غير المحسوس بالعقل أو

________________

(١) الأعمال الكاملة / محمد عبده : ٤١٥.

(٢) أصول الدين الإسلامي / محمد جمال الهاشمي : ٦٩ ـ ٧٤ ( بتصرف )  ط١ دار الباقر ، مطبعة النعمان ، النجف الأشرف ( ١٣٨٢ هـ ، ١٩٦٢ م ).

(٣) القرآن في الإسلام / الطباطبائي : ١٠٧.

١٠٣

الحواس وهذه الحالة هي من حالات النبوة وبها يتلقّى النبيّ الشريعة الإلهيّة ) (١).

وتميّز النبي خصيصة أخرى يختلف بها عن سائر البشر ، إذ الإنسان في حالة الاتصال بعالم الغيب لابد له من الخروج عن القيود التي تربطه بعالمه المحدود المادي ، أما النبي فهو لا يحتاج إلى الخروج من عالم الجسد المادي إلى عالم الروح الغيبي من أجل إدراك الغيب والإطلاع عليه من خلال تلقي الوحي (٢).

ويحدد الفخر الرازي الخصائص المميزة لقوى النبي بثلاث :

أحدها : في قوته العاقلة وهو أن يكون كثير المقدمات ، سريع الانتقال منها إلى المطالب من غير غلط يقع له فيها.

ثانيها : في قوته المتخيلة وهو أن يرى في حال يقظته ملائكة الله تعالى ، ويسمع كلام الله ، ويكون مخبراً عن المغيبات الكائنة والماضية والتي ستكون.

ثالثها : أن تكون نفسه متصرفة في مادة هذا العالم فيقلب العصا ثعباناً والماء دماً ، ويبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله ... إلخ (٣).

وبهذه القدرات والقوى والملكات تكاملت النفوس النبوية وصارت أوعية نقية مهيأة لتلقي الفيض الإلٰهي وللاختصاص بنعم وألطاف لم يكن لغيرهم إليها من سبيل تمثّلت بـ ( الوحي والتكليم ونزول الروح والملائكة

________________

(١) القرآن في الإسلام / الطباطبائي : ٩٠.

(٢) الوحي المحمدي / محمد رشيد رضا : ١٨٠.

(٣) المباحث المشرقية في علم الإلهيات والطبيعيات / الفخر الرازي ٢ : ٥٢٣ ، مكتبة الأسدي ، طهران ( ١٩٦٦ م ).

١٠٤

ومشاهدة الآيات الكبرى ، وما أخبرهم به كالملك والشيطان واللوح والقلم وسائر الآيات الخفيّة على حواس الناس ) (١).

ثالثاً ـ صور الوحي النبوي العام :

الوحي إلى الأنبياء عليهم‌السلام هو أهم وجوه الوحي الإلٰهي إلى البشر بل أساس الوحي كله فلا يراد بالوحي إذا أطلق إلّا النبوي دون سواه.

وقد بيّن تعالى صور تكليمه ( وحيه ) تعالى لعباده بقوله تعالى : ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (٢). وقد خاض المفسرون في هذه الآية طويلاً ، وأدرجوا تحت كل من هذه الصور الثلاث تفصيلات ، وأنواعاً ترتبط بها وتخضع لمقاييسها.

وقد أجمل الإمام علي عليه‌السلام هذه الوجوه المتعددة لتكليمه تعالى بوصفه لكلام الله تعالى بأنه ليس على نحو واحد فإنّ : ( منه ما كلّم به الرسل ، ومنه ما قذفه الله في قلوبهم ، ومنه رؤيا يريها الرسل ، ومنه وحي وتنزيل يتلى ويقرأ فهو كلام الله ) (٣).

والصور الثلاث التي حددتها الآية واعتمدها المفسرون هي :

الصورة الأولى للوحي ـ الإلهام وصيغه :

يلاحظ على هذه الآية أنها جعلت للوحي معنىً خاصاً بكونه قسماً من

________________

(١) الميزان ٢ : ٣٣٠.

(٢) سورة الشورى : ٤٢ / ٥١.

(٣) انظر : التوحيد / الشيخ الصدوق أبوجعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (ت٣٨١ هـ ، ٩٩١م) : ٢٦٤ ، دار معرفة للطباعة والنشر ـ بيروت.

١٠٥

أقسام التكليم الإلٰهي للبشر ، بينما تضمنت آيات أخرى جعله قسيماً للتكليم ، كقوله تعالى فيما وصف فيه الوحي للأنبياء عليهم‌السلام : ( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ) إلى قوله : ( وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا ) (١) ، فالوحي هنا قسيم للتكليم الخاص ، فالوحي هنا قسيم للتكليم الخاص الذي هو بلا واسطة ، وهو قسم من التكليم العام الذي هو إيصال المعنى بطرق متعدّدة ، وبهذا يكون الجعل للوحي بالمعنيين بلحاظين مختلفين.

وقد اختلف المفسرون في التعبير وتسمية هذا النوع من الوحي بمعناه الخاص ضمن صور تكليمه تعالى للأنبياء ، فقد عبروا عنه بعدة صيغ وأدخلوا تحته عدة تقسيمات ، ومن الآراء في ذلك :

١ ـ ما ذهب إليه بعض المفسرين من أنّ الوحي في قوله تعالى : ( إِلَّا وَحْيًا ) هو الإلهام وأدخلوا ضمنه ما كان يقظة أو مناماً ، قال السدي : ... ( إِلَّا وَحْيًا ) بمعنى : إلّا إلهاماً بخاطر أو في منام أونحوه من معنى الكلام في خفاء (٢).

وأيّد الجبائي هذا التحديد ، فعنده أن هذا الوحي ليس كلاماً على سبيل الإفصاح كما يكون من إفصاح الرجل لصاحبه وإنّما هو ( خاطر وتنبيه ) (٣).

ويقصر البيهقي معنى الوحي هنا على ما يريه تعالى الأنبياء في المنام من الرؤيا وذلك ( كما أمر إبراهيم عليه‌السلام في منامه بذبح ابنه ) (٤).

________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٦٣.

(٢) التبيان / الطوسي ٩ : ١٧٧.

(٣) أمالي المرتضى ٢ : ٢٠٥.

(٤) الأسماء والصفات : ١٩٢.

١٠٦

وأدرج الفخر الرازي تحت هذه الصورة عدّة أنواع من الوحي ، إذ أنّه يرى أنّ قوله ( إِلَّا وَحْيًا ) معناه ( بالإلهام والقذف في القلب أو المنام كما أوحي إلى أُم موسى وإبراهيم عليهم‌السلام ) (١).

وقصر الشيخ مغنية من المحدّثين المراد بهذا الوحي على الإلهام بمعنى : إلقاء المعنى مباشرة في قلب النبيّ دون واسطة (٢).

٢ ـ ما عبّر عنه بعضهم ؛ بالقذف والنفث في القلب والروح ، فقد وحّد مجاهد بين هذا القذف والإلهام ، فقوله تعالى : ( إِلَّا وَحْيًا ) معناه : نفث ينفث في قلبه فيكون إلهاماً (٣). فكأنه يشير إلى أن العلم المتحصّل من طريق هذا القذف هو الإلهام ، وإن الوسيلة له هو القذف في الروع ، وعن مجاهد أيضاً أن المقصود بهذه الآية هو داود عليه‌السلام : ( أوحي في صدره فزبر الزبور ) (٤).

وقد روي عن الإمام علي الهادي ( عاشر أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ) الإشارة إلى الربط بين معنى الإلهام والقذف في الروع. فحين سئل عن قوله تعالى : ( إِلَّا وَحْيًا ) قال : وحي مشافهة ، ووحي إلهام ، وهو الذي يقع في القلب (٥).

ومعنى الروع الذي يعبر عن الإلقاء بأنه يكون فيه هو القلب والعقل كما

________________

(١) مفاتيح الغيب ٢٧ : ١٨٧.

(٢) الكاشف ٦ : ٥٣٤.

(٣) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي ١٦ : ٥٣.

(٤) مجمع البيان / الطبرسي ٩ : ٣٧.

(٥) تفسير القمي ٢ : ٢٧٩ ، تصحيح وتعليق السيد طيب الموسوي الجزائري ، مطبعة النجف ، النجف الأشرف ( ١٣٨٦ هـ ).

١٠٧

يرى محمد بن أبي بكر الرازي (١).

٣ ـ يرى السيد المرتضى أن هذا النوع من الوحي يلقى بطريقتين : فإما بأن يخطر في قلوب البشر ، وإما أن يكون بالدلالة على المراد ، بحيث يكون تعالى من حيث نصبه الدلالة على ما يريد ، والإرشاد إليه مخاطباً ومكلّماً للعباد بما يدل عليه (٢).

ويذهب الباقلاني القاضي أبوبكر بن الطيب البصري ( ت ٤٠٣ هـ ، ١٠١٢ م ) إلى أن المقصود بهذا الوحي هو ما كان من وحي مباشر بين الله تعالى والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله انعدمت فيه الوسائط ، حيث ( أسمعه الله كلامه ليلة المعراج من غير واسطة ولا حجاب ) ، لأنّه تعالى في تلك الليلة قال : ( فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ ). (٣)

وانفرد الشيخ الطوسي بذهابه إلى أن المراد بهذا النوع من الوحي هو تبليغ الأنبياء للبشر ، فقوله تعالى ( وَحْيًا ) معناه عنده : بتأدية الرسول أوامره تعالى إلى المكلفين من الناس (٤).

ويكاد السيد الطباطبائي أن يجمع بين هذه الوجوه العديدة في التعبير عن الوحي بهذه الصورة مع تفريقها عن الصور الأخرى في الآية ، وهو الرأي الذي

________________

(١) مختار الصحاح : ٢٦٣ ، دار الكتاب العربي ـ بيروت ط١ ، ( ١٩٦٧م ).

(٢) أمالي المرتضى ٢ : ٢٠٧.

(٣) الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به : ٩٥ ، تحقيق محمد زاهر الكوثري ، مطبعة السنة المحمدية ـ القاهرة ط ٢ ، ( ١٣٨٢ هـ ، ١٩٦٣م ). والآية من سورة النجم : ٥٣ / ١٠.

(٤) التبيان ٩ : ١٧٧.

١٠٨

يميل إليه الباحث من أن المراد بهذا النوع من التكليم هو : التكليم الخفي من دون أن تتوسط بينه تعالى وبين النبي أصلاً (١).

والواضح من خلال هذه الوجوه المتعددة في التعبير عن هذه الصورة أن كون الوحي بهذا المعنى من الإلهام والقذف في القلب أو الروع وكونه مناماً ـ كما سيأتي ـ يخرجه عن الاختصاص بالأنبياء عليهم‌السلام وحدهم ، إذ وردت الإشارة إلى أنه أوحي إلى أم موسى عليه‌السلام والحواريين وغيرهم.

الأنبياء الموحى إليهم بهذه الصورة :

انطلاقاً من اتفاق المفسرين تقريباً على أن هذه الصورة من الوحي يدخل تحتها الإلهام والقذف في القلب أو الروع وما يكون في المنام ، فإننا نجد أن جميع الأنبياء قد أوحي إليهم بواحدة من هذه الطرق وبضمنهم موسى عليه‌السلام ونبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله وإن عُبّر عن موسى بأنه كلم الله فهذا التكليم كان ما أوحي فيه حالات محددة تختلف عنها تلك التي ذكر فيها الوحي إليه بصيغة ( الوحي ) المطلقة وليس بالتكليم ، أو إرسال الرسول ، وهذا ينطبق أيضاً على نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وخلاصة القول أن المفسرين يدخلون تحت الصورة الأولى من صور تكليمه تعالى في آية الشورى كل الطرق التي لا تدخل ضمن حدود التكليم من وراء حجاب وإرسال الرسول الملكي ، فكان الإلهام والقذف في القلب والرؤيا والوحي المباشر دون واسطة أو حجاب ـ كما كان للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ليلة المعراج ـ داخلاً ضمن هذه الصورة ، وإن عدّ بعض المفسرين الرؤيا في المنام

________________

(١) الميزان ١٨ : ٧٣.

١٠٩

مندرجة ضمن التكليم من وراء حجاب (١).

والآية في ظاهرها دالة على هذا الشمول ، إذ تضمنت تحديداً وحصراً لصور تكليمه تعالى للبشر بهذه الصور الثلاث لا غيرها ، ومن ذلك يستنتج ملاحظات هامة حول هذا الوحي مرت من قبل ويمكن إجمالها في الآتي :

١ ـ إن جميع الأنبياء والمرسلين قد أوحي إليهم بأحد أشكال هذه الصورة من الوحي بلا واسطة ، ومما يدل على ذلك قوله تعالى : ( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا ) (٢). وقد دلّ ظاهر الآية على شمول الوحي بهذه الصورة لرسل لم يذكروا في الآية ورسلاً آخرين لم يسبق أن قصهم القرآن على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٢ ـ إن هذا الوحي وبالتحديد الذي له يخرج عن التخصيص بالأنبياء عليهم‌السلام إلى ما ذكر من الوحي لغيرهم كلم موسى والحواريين.

٣ ـ إن كون الأنبياء عليهم‌السلام ألقي إليهم بهذه الصورة لايلزم منه عدم الوحي إليهم بأحد الصور الأخرى للوحي كإرسال الرسول الملكي ، وهي صورة تلقّى بواسطتها الوحي كثير من الأنبياء عليهم‌السلام ، حيث جمع بعض الرسل بين أكثر من صورة من صور الوحي.

٤ ـ إن هذا الوحي بالطرق الواقعة ضمنه خرج عن الانتساب إلى

________________

(١) انظر : الميزان / الطباطبائي ١٨ : ٧٥.

(٢) سورة النساء : ٤ / ١٦٣ ـ ١٦٤.

١١٠

الصورتين الأخريين من التكليم وإرسال الرسول ، لأنّ الأولى خصت بموسى عليه‌السلام ، والثانية قيدت بوساطة الرسول الملكي.

والقرآن الكريم يذكر الوحي الحاصل في هذه الصورة والذي تنعدم فيه الوسائط بعدة صيغ كالوحي ، والمناداة ، والقول ، والتفهيم .. إلخ. وهي صيغ اتفق المفسرون على إدخالها ضمن الصورة الأولى من صور الوحي المنصوص عليها في الآية الثانية والأربعين من سورة الشورى.

الصيغة الأولى ـ الوحي :

وقد عُبّر بها عن الإلقاء إلى الأنبياء عليهم‌السلام ، ومنهم حسب التسلسل التاريخي :

١ ـ نوح عليه‌السلام : وقد ورد ذكر الوحي صريحاً إليه في عدة آيات ، أشارت بعضها إلى حالات وحي خاص بيّنته ، كالوحي إليه بصنع السفينة قال تعالى : ( فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا ) (١) ، وقد فسر الطبري قوله تعالى : ( فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ ) ( بالقول ) دون بيان كيفيته فمعنى الآية عنده ( فقلنا له حين استنصرنا على كفرة قومه : اصنع الفلك ... ) (٢) ، ويبدو أن الطبري يشير هنا إلى وقوع هذا الوحي بلا واسطة حين عبر عنه بالقول الذي يتضمن معنى المباشرة.

وقد أيد الشيخ الطوسي والعلّامة الطبرسي والزمخشري وغيرهم كون الوحي هنا بمعنى تعليمه عليه‌السلام كيفية صنع السفينة (٣).

________________

(١) سورة المؤمنون : ٢٣ / ٢٧.

(٢) جامع البيان ١٨ : ٦٣.

(٣) انظر : التبيان ٧ : ٣٢٠ ، ومجمع البيان ٤ : ١٠٤ ، والكشاف ٣ : ٣٠.

١١١

وذهب الفخر الرازي إلى القول بأن هذا التعليم كان بواسطة جبريل واستحسن قول من قال به ، إذ أن جبريل عليه‌السلام علّمه عمل السفينة ووصف له كيفية اتخاذها (١) ، وهو يميل هنا إلى تفسير قوله تعالى : ( أَعْيُنِنَا ) أن معناه : الوسائل التي ألقى بها تعالى علم صنع السفينة إلى نوح عليه‌السلام وهو جبريل عليه‌السلام.

وهذا ما أيده السيد الطباطبائي من المحدثين ، فقد استفاد من الأعيُن في الآية قرينة على أن معنى الوحي المذكور فيها هو وحي في مقام العمل وهو تسديد وهداية عملية بتأييده بروح القدس الذي يشير عليه أن أفعل كذا ولا تفعل كذا (٢) وهذا أمر يختلف عن تبليغ الرسالة.

وهناك ما يؤيد ما ذهب إليه الرازي والطباطبائي فيما استفاده الشريف الرضي أبو الحسن محمد بن الحسين ( ت / ٤٠٦ هـ ، ١٠١٥م ) من استعمال الأعين في الآية بأنّه استعارة بلاغية ، فلا يراد بها حقيقة الأعيُن ، وهو كما في الآية الأخرى قوله تعالى : ( ... وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي ) (٣) ، ( فليس هناك عيناً تلحظ وإنّما ذلك كقول القائل : « إنا بعين الله » أي بمكان من حفظ الله ) (٤).

وفسر الشريف الرضي أيضاً ـ وأيده الشيخ الطوسي والعلّامة الطبرسي والزمخشري ـ هذا الحفظ بأنه يكون عن طريق الملائكة الذي يحفظونه

________________

(١) مفاتيح الغيب ٢٣ : ٩٤.

(٢) الميزان ١٠ : ٢٢٣.

(٣) سورة طه : ٢٠ / ٣٩.

(٤) تلخيص البيان في مجازات القرآن : ٧٥ ، مطبعة المعارف ـ بغداد ( ١٣٧٥ هـ ، ١٩٥٥م ).

١١٢

ويمنعون من يريد إفساد الأمر عليه (١).

وقد ذهب مفسرون آخرون إلى أن الوحي إلى نوح في قوله تعالى : ( بِوَحيِنا ) معناه : بالأمر والتعاليم (٢).

ومن الوحي الخاص بنوح عليه‌السلام في حالة معينة ما ورد في قوله تعالى : ( وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) (٣). وقد فسّر الوحي هنا بالإعلام ، فيكون معنى الآية أنه تعالى : ( أعلم نوحاً عليه‌السلام أنه لن يؤمن به أحد من قومه في المستقبل ) (٤).

ونوح عليه‌السلام هو أول الأنبياء أولي العزم من أصحاب الشرائع (٥) بعد إدريس عليه‌السلام ، وهو صاحب أول شريعة متكاملة كما تقدّم في بعض الأحاديث المروية عن أهل البيت عليهم‌السلام.

ومما يدل على عموم شريعته وسبقها دلالة الآية التي جمعت التشريع بما عنده عليه‌السلام وما كان من الوحي للرسل الأربعة أصحاب الشرائع وذلك في قوله تعالى : ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ... ) (٦).

________________

(١) انظر : تلخيص البيان : ١٥٣ ، والتبيان ٧ : ٣٢٠ ، ومجمع البيان ٤ : ١٠٤ ، والكشاف ٣ : ٣٠.

(٢) الكاشف / مغنية ٤ : ٢٢٩.

(٣) سورة هود : ١١ / ٣٦.

(٤) مجمع البيان / الطبرسي ٣ : ١٥٩.

(٥) النور المبين في قصص الأنبياء والمرسلين / الجزائري ( نعمة الله ) : ٧١ ، دار الأندلس ـ بيروت ( د.ت ).

(٦) سورة الشورى : ٤٢ / ١٣.

١١٣

٢ ـ الأنبياء بعد نوح عليه‌السلام ، ولم يرد ذكر تفصيلي لهم في نطاق الآية (١٦٣) من النساء بل اكتفي بعموم من هم بعده ، قال تعالى : ( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ) (١).

٣ ـ إبراهيم عليه‌السلام : ورد ذكر الوحي بصيغته الصريحة له عليه‌السلام في عدّة آيات كقوله تعالى : ( .. وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ .. ) (٢) ، وهو أحد الأنبياء الخمسة أصحاب الشرائع الإلٰهيّة.

٤ ـ إسماعيل وإسحاق عليهما‌السلام ولدا إبراهيم الخليل عليه‌السلام قال تعالى : ( .. وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ .. ).

٥ ـ يعقوب عليه‌السلام : قال تعالى : ( .. وَيَعْقُوبَ .. ).

٦ ـ الأسباط : قيل : إنهم في ولد إسحاق كالقبائل في ولد يعقوب ، وقد بعث منهم عدة رسل كيوسف وداود وسليمان وموسى وعيسىٰ. ويجوز أن يراد بالوحي إليهم هنا الوحي إلى الأنبياء منهم (٣) دون الكل.

٧ ـ عيسى عليه‌السلام : قال تعالى : ( .. وَعِيسَىٰ .. ) (٤) ، وهذه هي المرة الوحيدة التي يرد فيها ذكر الوحي صريحاً إلى عيسىٰ عليه‌السلام في القرآن الكريم ، إذ كان ذلك يعبر عنه بصيغ أخرى كالتأييد بروح القدس وغيرها مما سنقف عنده في بحث الصور الأخرى للوحي.

٨ ـ أيّوب ويونس عليهما‌السلام : قال تعالى : ( .. وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ .. ) (٥).

________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٦٣.

(٢) سورة النساء : ٤ / ١٦٣.

(٣) التبيان / الطوسي ٣ : ٣٩٣.

(٤) سورة النساء : ٤ / ١٦٣.

(٥) سورة النساء : ٤ / ١٦٣.

١١٤

٩ ـ هارون عليه‌السلام : ذكر الوحي إليه في القرآن الكريم منفرداً ، قال تعالى : ( وَهَارُونَ ) (١) ، كما ذكر الوحي له مع موسى عليه‌السلام ، قال تعالى : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا ) (٢) ، وعن طريقـة هذا الوحي المزدوج لهما عليهما‌السلام سئل الإمـام الباقـر محمد بن علي بن الحسين عليه‌السلام ( ت / ١١٤ هـ ، ٧٣٢م ) عن الوحي أكان ينزل عليهما جميعاً ؟ فقال عليه‌السلام : الوحي ينزل على موسى ، وموسى يوحيه إلى هارون (٣).

١٠ ـ موسى عليه‌السلام : ذكر موسى عليه‌السلام في عشرات الآيات من الكتاب ، وذكر الوحي إليه بصيغته الصريحة ، كالقول ( أَوْحَيْنَا ) و ( أُوحِيَ ) بما يدخل ضمن الوحي بلا واسطة ولا حجاب ، إذ يلاحظ أن الوحي حين يذكر لموسى على أنه يلقى إليه دائماً بشيء تحدده الآية ، ولا يكتفي بذكر أنه أوحي إليه فقط كما هو حاصل مع باقي الأنبياء عليهم‌السلام ، ويبدو أن هذا التفريق يراد منه التفهيم بافتراق هذا الوحي عما كان تكليماً له من وراء حجاب في الصورة الثانية من صور الوحي ، لأنّ الإشارة إلى ذلك التكليم وما أوحي فيه ترد غالباً بصيغة العموم فتوصف بالكتاب والألواح والصحف ، بينما كان الوحي الصريح المنسوب على أنه بلا واسطة يفصل في أحداث ووقائع أوحي إليه فيها ولم تكن ضمن ما كلم به على الطور ومن هذه الحوادث :

أ ـ وحيه تعالى إليه بإظهار معجزة العصا ، وأمره بإلقائها وهو وسط جمع من البشر من أهل مصر ، وحضور فرعون وملئه والسحرة. قال تعالى :

________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٦٣.

(٢) سورة يونس : ١٠ / ٨٧.

(٣) انظر : تفسير القمي ٢ : ٣٧.

١١٥

( وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ) (١).

ب ـ وحيه تعالى إليه حين استسقاه قومه فأخرج على يديه آية أخرى لبني إسرائيل ، قال تعالى : ( .. وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا .. ) (٢).

ج ـ قوله تعالى : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا .. ) (٣).

د ـ قوله تعالى : ( وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ .. ) (٤).

هـ ـ قوله تعالى : ( فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ) (٥).

فهذه الحوادث تثبت أن الوحي فيها كان آنياً وألقي بلا واسطة ، فليس تكليماً من وراء حجاب مما اختص به موسى عليه‌السلام فهو وحي تنبيه وخاطر وإلهام (٦) ليس فيه إفصاح كما يكون في التكليم.

١١ ـ سليمان عليه‌السلام قال تعالى : ( وَسُلَيْمَانَ .. ) (٧).

١٢ ـ داود عليه‌السلام : لم يعبر عن الوحي له بصيغته الصريحة وإنّما أفرد من بين

________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١١٧.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٦٠.

(٣) سورة يونس : ١٠ / ٨٧.

(٤) سورة طه : ٢٠ / ٧٧.

(٥) سورة الشعراء : ٢٦ / ٦٣.

(٦) أمالي المرتضى ٢ : ٢٠٦.

(٧) سورة النساء : ٤ / ١٦٣.

١١٦

الأنبياء الآخرين بأنه أوتي الزبور وذلك بقوله تعالى : ( وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ) (١) ، وقد فسر مجاهد ـ كما مر سابقاً ـ الوحي في الصورة الأولى بأنه ما كان إتيان داود عليه‌السلام الزبور وهو كتابه ، فعرف الوحي بأنه كان لداود زبر في قلبه الزبور (٢).

وقد اختلف في معنى الزبور الوارد ذكره هنا وفي آيات أخرى كقوله تعالى : ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ ... ) (٣) ، وذلك على عدة آراء منها (٤) : عن ابن عباس ومجاهد أنها : الكتب المنزلة بعد التوراة التي هي الذكر الوارد في الآية. وعن سعيد بن جبير ومجاهد الزبور والزبر هي الكتب المنزلة. وعن الشعبي : أنه زبور داود والذكر توراة موسى عليه‌السلام.

١٣ ـ يوسف عليه‌السلام : وقد ورد ذكر الوحي له مرة واحدة أشير إلى أنها كانت في صغره ، قال تعالى : ( فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ) (٥) ، وقد اختلف في هذا الوحي الذي كان في الصغر إلى رأيين :

الأوّل : عن الحسن ومجاهد وقتادة : ( إن الله أعطاه النبوة وهو في الجب والبشارة بالنجاة والملك ) (٦). وأيد الزمخشري ذلك وأثبته ، وعلل كونه وحياً

________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٦٣.

(٢) انظر : مجمع البيان / الطبرسي ٩ : ٣٧.

(٣) سورة الأنبياء : ٢١ / ١٠٥.

(٤) انظر : التبيان / الطوسي ٤ : ٦٦ ، ومجمع البيان / الطبرسي ٧ : ٢٥١ ، ومفاتيح الغيب / الفخر الرازي ٢٢ : ٢٢٩ وغيرها.

(٥) سورة يوسف : ١٢ / ١٥.

(٦) مجمع البيان ٣ : ٢١٧.

١١٧

رغم صغر سنه بأنه : كان إذ ذاك مدركاً ، واستدل عليه بما كان ليحيى وعيسىٰ عليهما‌السلام من الوحي في الصغر (١).

وأكد الطبرسي أن وحيه عليه‌السلام كان وحي الرسالة والنبوة كالوحي الذي كان لسائر الأنبياء عليهم‌السلام (٢).

وأورد الفخر الرازي قولين في الوحي ليوسف عليه‌السلام : فقيل : إن المراد منه الوحي والنبوة والرسالة ، وهو ما عليه طائفة عظيمة من المحققين ، وقيل : إن المراد منه الإلهام لا وحي النبوة. وأيد الرأي الأوّل واستحسنه ، وأول الوحي له مع صغر سنه بأنه : ( لا يمتنع أن يشرفه الله بالوحي والتنزيل ويأمره بتبليغ الرسالة بعد أوقات ، ويكون فائدة تقديم الوحي تأنيسه وتسكين نفسه وإزالة الغم والوحشة عن قلبه ) (٣).

وأيد بعض المفسرين المحدثين ما عليه الغالبية من العلماء أن هذا الوحي كان من وحي النبوة (٤).

أما الرأي الثاني : فهو قول من ذهب إلى أنه لم يكن وحي نبوة ولا رسالة وإنّما كان على سبيل الإلهام ، وهذا قول أبي بكر الرازي ، وسبب ذلك عنده صغر سن يوسف عليه‌السلام ( ووحي النبوة مخصوص لايكون إلّا بعد الأربعين ) (٥).

وهو قول شاذّ لا يعتد به.

________________

(١) الكشاف ٢ : ٣٠٧.

(٢) مجمع البيان ٣ : ٢١٧.

(٣) مفاتيح الغيب ١٨ : ١٠٢.

(٤) الميزان / الطباطبائي ١١ : ١٠٠.

(٥) مسائل الرازي وأجوبتها : ١٤٨.

١١٨

الصيغة الثانية : من الصيغ التي عبَّر بها القرآن الكريم عن الوحي هي : التلقّي.

قال تعالى : ( فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (١).

« أي : استقبلها بالأخذ والقبول حين علمها بالوحي أو الإلهام » (٢).

ويؤيّد أنّه عليه‌السلام علمها بالوحي ، ما جاء في حديث أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أنّ آدم لما بكى على خطيئته بعث الله إليه جبرئيل عليه‌السلام فقال : يا آدم الربّ عزّوجلّ يقرؤك السلام... الحديث (٣).

وكذلك حديث ابن عباس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله « .. أتاه جبرئيل فقال : يا آدم ادعُ ربك ، قال : يا حبيبي جبرئيل وبما ادعوه ؟ قال : قل يا ربّ أسألك بحقّ الخمسة الذين تخرجهم من صلبي آخر الزمان إلّا تبت عليَّ ورحمتني ، فقال : حبيبي جبرئيل سمّهم لي ، قال : محمد النبيّ ، وعليّ الوصيّ ، وفاطمة بنت النبيّ ، والحسن والحسين سبطي النبيّ. فدعا بهم آدم فتاب الله عليه ، وذلك قوله : ( فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ ) .. » (٤).

وفي الصحيح عن أبان بن عثمان ، عن الصادق عليه‌السلام ان جبرئيل عليه‌السلام نزل إلى آدم وعلمه الكلمات التي تلقاها من ربّه وهي : « سبحانك اللّهمّ وبحمدك ، لا إله إلّا أنت ، عملت سوءاً ، وظلمت نفسي ، واعترفت بذنبي ، فاغفر لي ، ________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٣٧.

(٢) شرح أصول الكافي / المازندراني ١٢ : ٤٢٦ ـ ٤٢٧ في شرح الحديث (٤٧٢).

(٣) تحف العقول / ابن شعبة الحرّاني : ١١.

(٤) مناقب أمير المؤمنين عليه‌السلام / محمد بن سليمان الكوفي : ٥٤٧ / ٤٨٧ ، وتفسير فرات الكوفي : ٥٦ / ١٦.

١١٩

إنّك أنت الغفور الرحيم... الحديث » (١).

ونحوه ما رواه الكليني بسنده ، عن كثير بن كلثمة ، عن أحدهما ـ الباقر أو الصادق عليهما‌السلام (٢) ـ ، ثم قال الكليني : « وفي رواية أخرى في قوله عزّوجلّ ( فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ ) (٣) قال : سأله بحقّ محمد وعليّ والحسن والحسين وفاطمة صلوات الله عليهم » (٤)..

ورواية التوسل بالخمسة أصحاب الكساء عليهم‌السلام رواها الصدوق بسنده عن أبي سعيد المدائني يرفعها إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله (٥).

ولا منافاة بين الروايتين لجواز تعدّد السبب لشيء واحد ، كما لو كان توسل آدم عليه‌السلام بالخمسة الأطهار صلوات الله عليهم سبباً لاستجابة الدعاء المذكور. وعليه يكون الوحي والإلهام قد اجتمعا معاً في كيفية توبة آدم عليه‌السلام وقبولها.

ويؤيد أنه عليه‌السلام علمها بالإلهام حديث صفوان الجمال ، قال : « دخلت على أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه‌السلام وهو يقرأ هذه الآية ( فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (٦) ثمّ التفت إليَّ فقال : يا صفوان إن الله تعالى ألهم آدم أن يرمي بطرفه نحو العرش فإذا هو بخمسة أشباح

________________

(١) تفسير القمي ١ : ٤٤.

(٢) روضة الكافي / الكليني ٨ : ٣٠٤ / ٤٧٢.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٣٧.

(٤) روضة الكافي ٨ : ٣٠٥ ذيل حديث / ٤٧٢.

(٥) معاني الأخبار : ١٢٥ / ٢ باب معنى الكلمات التي تلقاها آدم من ربّه فتاب عليه.

(٦) سورة البقرة : ٢ / ٣٧.

١٢٠