التقيّة في إطارها الفقهي

علي الشملاوي

التقيّة في إطارها الفقهي

المؤلف:

علي الشملاوي


الموضوع : الفقه
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٠٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

ب ـ الفروع :

ان الميدان الذي اتسعت فيه دائرة التقية والتي صارت مدار بحث العلماء فيه ـ وان كانت كما قلنا ـ من مصاديق الاصول ـ هو المسائل الفرعية التشريعية ـ التي هو عنوانها الاصلي.

فقد بحثها العلماء في هذا المصداق بصورتين.

تارة : على نطاق عام بحيث تجوز في كل مورد قد تحقق موضوعها فيه وهو الضرر.

وتارة : خصّوها بالمسألة المنصوص عليها ـ في جواز العمل بها ـ كما يتضح ذلك من بحث الاجزاء عندهم ...

وهذا من الامور المسلمة عندهم حيث أنهم ينطلقون من القواعد العامة التشريعية ـ القواعد الأولية او الثانوية ـ كما اوضحناه في تعريف التقية ...

وما يهمنا هنا هو ذكر بعض المسائل الفرعية التي نص العلماء على ان الحكم فيها يدور مدار التقية وما ذاك الا لنبين ان التقية موردها فعل المكلف ... المتعلق بعنوانها.

__________________

وما ذاك الا لأن البراءة التي تكون مورداً للتقية انما هي باللسان دون القلب ـ فهي ليست براءة في الواقع ـ وهذا لا مانع منه كما هو مورد مصاديق التقية.

اذاً الروايات غير ناظرة لمورد التقية ، وإنما هي متوجهة للتبروء في الواقع بأن لا ينعقد القلب من الانسان على البراءة من امير المؤمنين علي بن أبي طالب «ع». وهذا محرم قطعاً وحتى المخالف يقول به ..

فاذا كان كذلك فلا معنى للقول بأن الانسان يقدم القتل وايقاع نفسه في الهلكة ـ على مجرد اظهار البراءة او عدم الموالاة لعلي (ع). وقد اختار كثير من العلماء هذا المعنى ـ كما في : التنقيح في شرح العروة الوثقى ـ للغروي ج ٤ ص ٢٦٣.

٦١

وهذه بعض المسائل التي هي مورد التقية ، وهي تنقسم الى قسمين :

ا ـ التقيه في الاحكام.

١ ـ المسح على الحائل تقية :

حينما نرجع لكلام العلماء في هذه المسألة بجميع صورها سواء كان الحائل هو الخف او غيره نجدهم يختلفون في الحكم بالجواز تقية.

ذلك ان الحكم المتوجه للانسان بالاحكام الاولية هو المسح على البشرة من جلد او شعر في القسم الثاني من الوضوء ـ المسحتين ـ

فهل ان التقية تجيز الانتقال الى ترك هذا الحكم الى ما هو على خلافه .....

فقال العلماء :

١ ـ [ لا يجوز المسح على الحائل ـ كالخف لغير ضرورة او تقية .. بل في جوازه مع الضرورة والاجتزاء به مع التقية إشكال. ] (٢)

__________________

(٢) الخوئي : منهاج الصالحين ج ١ ص ٣٠ م ٩٧.

وقد ناقش بعض العلماء في جعل المسح على الخفين من موضوعات التقية حتى يجوز مخالفة الحكم المتوجه اليه ..

بدعوى ان التقية انما جوزت الاتيان بالفعل الناقص اذا كان في المخالفة توجه ضرر ـ لالزام المخالف له ـ وفي المسح على الخفين لا يأتي ذلك اذ ليس على نحو الوجوب عندهم فلو ان الانسان خلع ومسح على البشرة لم يكن هناك ضرر فلا تقية ..

والبعض الآخر ـ جعله من موضوعات التقية توسعاً في موضوعها ولو لرفع معرفة الشخص انه من الفئة الفلانية وهذا ما افتى به الاكثر.

٦٢

ب ـ [ يجوز المسح على الحائل كالقناع والخف والجورب ونحوها في حال الضرورة من تقية او برد يخاف منه على رجله او لا يمكن معه نزع الخف مثلاً ... ] (٣)

ج ـ [ انما يجوز المسح على الحائل في الضرورات ماعدا التقية ـ اذا لم يمكن رفعها ـ الضرورة ـ ولم يكن بد من المسح على الحائل ولو بالتأخير الى آخر الوقت ... واما في التقية فالامر اوسع ، فلا يجب الذهاب الى مكان لا تقية فيه .. وان امكنه بلا مشقة.

نعم لو امكنه وهو في ذلك المكان ترك التقية وإرائتهم المسح على الخف مثلاً فالاحوط بل الاقوى ذلك ... ولايجب بذل المال لرفع التقية .. بخلاف ساير الضرورات ، والأحوط في التقية ايضاً الحلية في رفعها مطلقاً ... ] (٤)

د ـ [ يعتبر عدم المندوحة في مكان التقية على الاقوى ... فلو امكنه ترك التقية واراءة المخالف عدم مخالفة لم تشرع التقية ، ولايعتبر عدم المندوحة في الحضور في مكان التقية وزمانها ... كما لا يجب بذل المال لرفع التقية ... ] (٥)

٢ ـ المبادرة لصلاة تقية :

١ ـ [ يجوز تقديم الصلاة في اول الوقت لذوي الاعذار مع اليأس عن ارتفاع العذر بل مع رجائه ـ ايضاً ـ في غير المتيمم ، لكن اذا ارتفع العذر في الوقت وجب الاعادة ..

__________________

(٣) الحكيم : مستمسك العروة : ج ٢ م ٣٣ ، ص ٣٩٨.

(٤) المصدر السابق ص ٤٠٠ م ٣٥.

(٥) الخوئي : منهاج الصالحين : ج ١ ، ص ٣٠ ، م ٩٩.

٦٣

نعم في التقية يجوز البدار ولو مع العلم بزوال العذر ولايجب الاعادة بعد زواله في الوقت ... ] (٦)

٣ ـ السجود على مالا يصح السجود عليه تقية :

ا ـ [ اذا لم يتمكن من السجود على ما يصح السجود عليه لتقية جاز له السجود على كل ما تقتضيه التقية ... (٧)

ب ـ لابأس بالسجود على غير الارض ونحوها ـ مثل الفراش ـ في حال التقية ، ولايجب التخلص منها بالذهاب الى مكان آخر ، نعم لو كان في ذلك المكان وسيلة لترك التقية بان يصلي على البارية او نحوها مما يصح السجود عليه وجب اختيارها. ]. (٨)

٤ ـ التكفير في الصلاة تقية :

[ نعم هو حرام حرمة تشريعية مطلقاً ، هذا اذا وقع التكفير عمداً وفي حال الاختيار ، اما اذا وقع سهواً او تقية فلا بأس .. ]. (٩)

٥ ـ قول « آمين » في الصلاة تقية :

[ واذا كان سهواً فلا بأس به ، وكذا اذا كان تقية ، بل قد يجب ، وإذا تركه حينئذٍ أثم وصحت صلاته على الأظهر .. ]. (١٠)

__________________

(٦) المصدر السابق : ص ١٤١ ، م ٥١٢ ، ج ١.

(٧) المصدر السابق : ص ١٥٣ ، م ٥٥٤.

(٨) المصدر السابق : ص ١٨٥ ، م ٦٥١.

(٩) المصدر السابق : ص ٢٠٣ ـ المبطل الثامن.

(١٠) المصدر السابق : ص ٢٠٣ ـ المبطل التاسع.

٦٤

ب ـ التقية في الموضوعات :

مامر كان في مخالفة المكلف للحكم المتوجه اليه ...

وهنا صورة اخرى لتطبيق التقية في الفروع وهي ... الوضوعات.

وبيان ذلك ...

ان المكلف اذا توجه اليه حكم ما وجب عليه العمل به والقيام به في الخارج ، فاذا أوقعه في فرد من الأفراد الخارجية ـ والتي يصدق عليها هذا الحكم ـ يُسمى ـ هذا الفرد المنطبق عليه الحكم ـ موضوعاً للحكم ...

فمثلاً : يجب على الانسان اذا اراد ان يأتم بانسان ان يأتم بالانسان العادل .... فيجب عليه عند ذلك ان يفتش عن الرجل العادل ليصلي خلفه فاذا وجده فقد وجد موضوع الحكم.

وهذا الموضوع يجب على كل انسان تحصيله بنفسه والبحث والتنقيب عنه ولايجوز له الاعتماد على بحث الغير فيه الا باحد الطرق التي جعلها الشارع كالاخبار من عدلين او غير ذلك ...

فاذا لم يحصل له الاطمئنان بنفسه لايجوز له ان يجعل هذا الموضوع هو موضوع الحكم المتوجه اليه ... ولهذا يقول العلماء انه : لاتقليد في الموضوعات ...

بعد ان عرفنا المراد بالموضوع ، فما معنى التقية في الموضوعات وهل هي جائزة ......؟

٦٥

اذا علم انسان ان الموضوع الكذائي هو مصداق الحكم وقال آخر بانه ليس مصداق الحكم فهل يجوز للانسان ان يتبع قول الآخر اذا خاف الضرر على نفسه تقية ام لا ؟

ناقش بعض العلماء في ذلك الا ان الاكثر على جوازه .... وقد ذكروا للموضوعات عدة مسائل منها :

١ ـ جواز الأفطار تقية :

ـ اذا علم المكلف ان يوم الصوم ينتهي بعد نصف ساعة فلا يجوز له الافطار الآن. و ـ شخص ـ آخر يرى ان الافطار الآن مع انه اذا لم يفطر يتوجه اليه ضرر .. فهل يجوز أن يفطر مع علمه بان هذا الانسان مخالف للواقع ولو انكشف له لعمل بنفس عمله ..؟

وبصورة اخرى ...

اذا علم ان اليوم ليس باول يوم من شوال فلا يجوز له الافطار وافتى المخالف بوجوب الافطار واذا لم يفطر يتوجه اليه ضرر من تركه الافطار فهل يجوز له الافطار ؟

ذكر العلماء في ذلك أنه يجوز له الافطار ويدفع الضرر عن نفسه ومع ذلك لا تبرء ذمته بل يجب عليه القضاء بعد ذلك.

[ اذا افطر مكرها بطل صومه ، وكذا اذا كان تقية سواء كانت التقية في ترك الصوم ـ كما اذا افطر في عيدهم تقية ـ ام كانت في أداء الصوم ـ كالأفطار قبل الغروب .. فانه يجب الافطار حينئذٍ ولكن يجب القضاء .. ]. (١١)

__________________

(١١) المصدر السابق : ص ٢٨١ ، م ١٠٠٥.

٦٦

٢ ـ الوقوف بعرفة تقية :

اذا علم ان هذا اليوم هو اليوم الثامن وليس هو اليوم التاسع حتى يجوز له الوقوف بعرفة.

ولكنه عند المخالف ان هذا اليوم هو يوم الموقف ـ

وبمعنى آخر ليس اليوم هو موضوع الوقوف وانما هو غد ـ فهل يجوز له ان يقف اليوم ـ اذا توجه اليه ضرر من ترك الوقوف ـ تقية ـ ام لا ؟.

ا ـ [ ومن ذلك تعرف اجزاء الحج اذا وقف تقية مع مخالفين ، ولم يقف في اليوم التاسع من دون فرق بين صورتي العلم بالمخالفة للواقع وعدمه .. ]. (١٢)

ب ـ [ ولا يبعد القول بالإجزاء هنا إلحاقاً له بالحكم للحرج .... واحتمال مثله في القضاء .. ]. (١٣)

ج ـ [ فالعمل على وفق مذهبهم بالجري على طبق حكمهم للخوف من الضرر يكون كسائر موارد التقية التي اذن الشارع ورخص فيها بعنوان ترخيص التقية ، فلا فرق بين ان يأتي بالصلاة الناقصة تقية أو يأتي بالحج الناقص تقية ، فكما انه في الأول يكون ذلك العمل مجزئياً عن الإتيان بالواقع ثانياً بعد ارتفاع الخوف وحصول الأمن كذلك الأمر الثاني .. ]. (١٤)

هذه جملة من المسائل الفرعية التي خضعت في احكامها لعنوان التقية والتي لا حظنا نص العلماء فيها على عنوان الضرر وان المسألة تدور مدار الضرر المتوجه للإنسان ، إذ أن بحثهم

__________________

(١٢ ، ١٣ ، ١٤) الحكيم : مستمسك العروة ج ٢ ، ص ٤٠٧. والنجفي الجواهر : ج ٢ ، ص ٣٤. والبجنوردي : القواعد الفقهية : ج ٥ ، ص ٥٣ بالترتيب.

٦٧

هنا في هذه المسائل الفرعية ـ كما يتضح ـ حول الاجزاء وعدمه ... اي هل يكفي عمله ام يجب عليه الاعادة. او حول جواز العمل ام وجوبه الذي يدور مدار الضرر ....

وهذه المسائل الفرعية ... كان الابتلاء بها اكثر ولهذا ظهرت على افعال اهل البيت واصحابهم ... وهناك وقائع قد اقرها اهل البيت او امروا بتنفيذها ومنها :

١ ـ قصة علي بن يقطين :

اختلف اصحاب الامام موسى الكاظم (ع) في مسح الرجلين أهو من الكعبين الى الاصابع ام بالعكس ؟

فكتب علي بن يقطين للامام يخبره بالاختلاف ويطلب منه الذي ينبغي له ان يفعله ...

فكتب اليه الإمام في جواب ذلك على خلاف ماتوقع ، اذ امره ان يتوضأ بوضوء اخواننا السنة وقال له : ولا تخالف ذلك الى غيره ....

وصَلَ الكتاب الى علي بن يقطين فتعجب من هذا الجواب اذ هو خلاف ما اجمع الأصحاب على صحته ... لكنه عمل به اعترافاً منه بعلم الامام وكونه الاعلم من غيره واعلم بالمصالح ...حتى مضت ايام فوقعت الحادثة المشهورة في كتب حياة الأئمة ـ من اختبار الرشيد له في الولاء والإخلاص ـ.

ثم كتب الامام الكاظم (ع) بدون سؤال وبدون مراجعة منه : ياعلي بن يقطين عند وصول كتابي اليك اعمل في وضوءك كما امر الله ... ـ الوضوء على طريقة اهل

٦٨

البيت (ع) ... الى ان قال له : فقد زال ماكنا نخاف عليك منه والسلام ... (١٥)

وقد يكون من الاطالة بلا طائل سرد قصص الائمة او الشيعة .. لان ذلك مفروغ منه ومسلم عند جميع المسلمين ـ بأن هذه حالهم ـ حيث وجدت الحاجة ، فلا حاجة لذكر الوقائع والقصص لتدعيم التشريع او الوقوع العملي.

__________________

(١٥) الاربلي : كشف الغمة ج ٢ ، ص ٢٢٥ فما فوق ط المطبعة العلمية قم ١٣٨١ ه‍.

٦٩

التقية في المعاملات

المعاملات : تتناول جانباً كبيراً من الفقه الاسلامي ـ وهو الأحكام المتعلقة بعلاقات المجتمع ـ بعضهم مع البعض الآخر ومعاملاتهم ، سواء كانت من الأحوال الشخصية ـ كالزواج والطلاق ... ام كانت عامة كالبيع والتجارة ـ عموماً ـ ... ، فهذه كلها يطلق عليها المعاملات ، وهي تشمل ما دون العبادات بشكل عام.

وكما للعبادات أحكام كذلك المعاملات لها احكام .. بما أنها تتعلق بفعل المكلف ، وفي ضمنها نظام المجتمع العام ...

ويتناولها قانون العبادات في الصحة والفساد .. الا ان الصحة والفساد يختلفان مفهوماً ـ في العبادات عن المعاملات ..

إذ أن مفهوم الفساد هو : بطلانها وعدم الاجزاء .. ، والصحة : هو تمام العمل طبق المأمور به والاجزاء ..

أما الصحة والفساد في المعاملات فمعناهما :

الصحة : ترتب آثار المعاملة على مجرد حصول العقد أو الايقاع .. بجميع شرائطه ..

٧٠

والفساد : عدم ترتب الآثار عليه .. ، فمثلاً : البيع اذا وقع صحيحاً ـ فمعناه ترتب الآثار عليه من الملك للثمن والمثمن لكل من الطرفين ..

واذا وقع فاسداً فمعناه : فقدان ما يوجب تمامية المعاملة فلا يترتب عليه الملك وانتقال الثمن والمثمن لكل من الطرفين ...

بعد هذا البيان ... نطرح السؤال التالي ... هل يمكن ان تجري التقية في المعاملات ... كما جرت في العبادات ؟.

من المتفق عليه بل هو من البديهيات ان التقية تجري في المعاملات كما جرت في العبادات ... ذلك لتحقق موضوع التقية لتحقق شرطها وهو وجود الاكراه ... المتولد عنه الضرر ...

فكما يتحقق الضرر ـ بواسطة الاكراه في العبادات كذلك هنا ...

فقد يُكره الانسان على بيع لا يريده.

وفي مثل هذه الحالة يلزم على المكلف ان يأتي بفعل يدفع عن نفسه الضرر ، وهو نفس الفعل المكره عليه ..

فاذا اجبره او توعد على عدم فعله بالضرب او القتل او نهب مال الى غير ذلك ... وجب عليه فعله دفعاً لهذا الضرر ...

ويترتب على ذلك ... عدم اعتراف الشارع بهذه المعاملة ... لانها في نظرة ناقصة فلا يرتب عليها الآثار ...

٧١

اذاً ما فائدة التقية ...؟ تظهر الفائدة في جواز ارتكاب هذا الفعل لمجرد دفع الضرر المتوجه اليه ...

ففعل المكلف هنا كأنه استجابة لاكراه الغير فقط ...

وبهذا وردت روايات خاصة بباب المعاملات ...

عن ابي الحسن (ع) في الرجل يُستكره على اليمين فيحلف بالطلاق والعتاق والصدقة وصدقة ما يملك هل يلزمه ذلك ..؟ فقال لا ... قال رسول الله (ص) وضع عن امتي ما أكرهوا عليه ... الخ (١).

وعن الصادق (ع) : ما صنعتم من شيء او حلفتم من يمين في تقية فانتم منه في سعة (٢).

وعلى هذا اجمع العلماء ، فالمراجع لبحوثهم في جميع ابواب المعاملات يلاحظ هذا ظاهراً منهم ...

سواء كانت على نطاق الكتب الاستدلالية الموسعة ... كما في هذا النص ..

[ لو أوقع نكاحاً أو طلاقاً على وفق مذهبهم تقية ـ مع بطلانها عندنا ـ فمع ارتفاع التقية وحصول الأمن لا وجه لاحتمال وجود آثار النكاح والطلاق الصحيحين ... وهل الحكم بوجود اثرهما مع عدم صحتهما إلا من قبيل وجود الاثر بدون المؤثر ....؟؟! ] (٣).

__________________

(١) الحر العاملي : وسائل الشيعة باب ١٢، كتاب الأيمان.

(٢) نفس المصدر السابق.

(٣) البجنوردي : القواعد الفقهية ، ص ٥٧ ، ج ٥.

٧٢

وهو اوضح في الجواز وعدم ترتيب الاثار عليها ..

او كانت في الرسائل العملية ـ الموضوعة للناس عامة .. والمنتشرة في كل مكان (٤).

أما عدم ترتيب الآثار عليه فهو كما يقال : باعتبار ان مفاد الاحاديث والايات الواردة في الاكراه والاضطرار هو التخفيف على الناس والرحمة بهم ...

فاذا كان هذا الانسان أُكره على البيع وهو لا يريد بيع ما عنده .. فالرحمة واللطف والمن عليه انما يتحقق بالحكم ببقاء ملكة لهذا الشيء وعدم انتقاله لغيره. وكذلك الطلاق والزواج وغيره ...

اما لو رتب الشارع المقدس الآثار ونقل البضاعة في البيع للطرف الآخر .. فانه يخالف اللطف بهذا الانسان البائع وكذلك الطلاق الذي لا يريده وغيره من المعاملات.

فالخلاصة : ان التقية جارية في المعاملات كما جرت في العبادات باعتبارها دفعا للضرر ، وكان في العبادات الفعل المأتي به مجزءاً ، اما هنا ـ فيحكم على المعاملة بالبطلان فلا يترتب عليها الاثر ... والتقية اذا تحقق موضوعها هنا ـ فانها تنقل الانسان الى حكم اخر وهو جواز ايقاع المعاملة.

__________________

(٤) الخوئي : منهاج الصالحين : بيع المكره ج ٢ ص ١٩ ، وطلاق المكره : ج ٢ ص ٣١٧. وباب النكاح : ج ٢ ص ٢٨٥ م ١٢٤٦ وغيره من الرسائل العملية.

٧٣

التقية في الفتوى

من الموارد التي بحثها العلماء في مسألة التقية هو ما يكون نتيجة لهذا التساؤل : هل ان للمفتي أن يفتي خلاف ما يعلم أنه الحق طبقاً للتقية ام لا ؟

ويرى بعض العلماء ان مورد الفتوى لا يختلف ـ عن مورد الحكم التكليفي الفرعي المتقدم ...

فكما انه يجوز للانسان ان يخالف ما يعتقده من الحق في الاصول والفروع التكليفية كذلك يجوز لمن يتصدى للافتاء للناس ان يفتي للناس خلاف ما يراه اذا خاف على نفسه.

وذلك انه ـ وكما ذكر سابقا ... ـ يصبح هذا المورد مورداً للحكم الفرعي باعتبار انطباق عنوان الضرر عليه ..

وقد نصت الروايات على جواز ذلك كما اختار ذلك بعض العلماء ـ ممن بحث في مسألة التقية بحثاً موسعاً ـ

وكل ذلك اعتماداً على بعض الروايات الواردة عن الأئمة سواء كان بفعل اصحابهم او ما يحكى فعلهم (ع) ومن هذه الروايات :

١ ـ عن أبان بن تغلب قال : قلت لأبي عبدالله (ع) : اني اقعد في المسجد فيجيء الناس فيسألوني فان لم اجبهم لم يقبلوا مني واكره ان اجيبهم بقولكم وما جاء عنكم. فقال

٧٤

لي : انظر ما عملت من قولهم فاخبرهم بذلك ... (١)

٢ ـ عن ابي عبدالله (ع) قال : بلغني انك تقعد في الجامع فتفتي الناس ؟ قلت نعم ، واردت ان اسألك عن ذلك قبل ان اخرج ..

اني اقعد في المسجد فيجىء الرجل فيسألني عن الشيء فاذا عرفته بالخلاف لكم اخبرته بما يفعلون ... ويجيء الرجل اعرفه بمودتكم فاخبره بما جاء عنكم ... ويجيء الرجل لا اعرفه ولا ادري من هو فأقول : جاء عن فلان كذا وجاء عن فلان كذا فأدخل قولكم فيما بين ذلك ، فقال لي : اصنع كذا فاني كذا اصنع .. (٢)

وكما هو واضح انما جاز الافتاء على غير مذهبه دفعاً للضرر الذي يتوجه اليه من الافتاء على مذهبه ..

وقد نوقش في دلالة هذه الروايات على جواز الافتاء بغير الحق ...

ووجهوا فعل الامام ـ هذا ـ في مثل هذه الروايات بان الامان كان يخبر اصحابه بعد ذلك بالقول الحق لئلا يلتبس عليهم الحق ..

والبعض الآخر فصل بين ما اذا كان الشخص له اهمية في اتباع قوله فلا يصح له الافتاء بغير الحق لأيهام الناس ان ما يقوله الحق.

ومن لا يكون له اهمية في اتباع الناس فلا مانع من الافتاء بغير الحق.

__________________

(١) الحر العاملي : وسائل الشيعة : ج ١١ ، ص ٤٨٢ ، ح ١.

(٢) المصدر السابق ح ٢.

٧٥

بالاضافة الى انه منع الافتاء في صورة أداء هذه الفتوى ـ من اي شخص كانت ـ الى هتك الاعراض او نهب الاموال المحترمة ففي مثل ذلك لا يجوز له الافتاء بغير الحق.

ونستطيع القول بكلمة مختصرة :

انه ليس كل انسان يصح له ان يفتي بغير الحق ، وليس كل وقت وحالة يصح ان يفتى فيها بغير الحق ..

وفي بعض الحالات يجوز للمفتي ان يفتي بغير الحق. خصوصاً مع توجه الضرر اليه بحيث لا يؤدي الى ضرر الغير ...

كما انه ـ بقول مطلق ـ يجوز له الافتاء في مثل هذه الحالة اذا علم بأنه يتمكن من الاخبار بالحق .. فالايهام بالحق مدفوع بهذا .. (٣)

بالاضافة الى ما هو معلوم من حال الأئمة (ع) من استعمال التقية في الفتوى على نطاق واسع.

ويكشف لنا مدى سعة ذلك ما تسالم عليه فقهائنا الابرار في مورد قبول الرواية وحجيتها حيث أنهم اشترطوا ان لا يكون الامام قد قالها تقية.

ويظهر ذلك جلياً عند ملاحظة كثير من الاستدلالات في ابواب الفقه ، حيث أنهم يحملون كثيرا من الروايات على أنها قيلت للتقية ـ بقولهم : نحملها على التقية .. او انما قيلت تقية ، وبهذا يسقطون اعتبارها وحجيتها بمجرد احتمال التقية فيها.

__________________

(٣) البجنوردي : القواعد الفقهية ج ٥ ص ٦٧ ـ ٦٨.

٧٦

وهذا يدلنا على جواز الفتوى تقية ، والا لما صح للفقهاء أن يحملوا روايات أهل البيت (ع) على التقية وهي في حد ذاتها فتاوى كما هو معلوم.

وهذا يكشف لنا ضعف المناقشة السابقة ..

التقية في الحكم

قد يطلق الحكم ويراد به عدة معاني ..

١ ـ حكم من الاحكام التكليفية ـ وقد تقدم جواز التقية فيه .. وليس هو المراد هنا.

٢ ـ الحكم بين الناس وله صورتان :

آ ـ القضاء والفصل بين الناس.

ب ـ ادارة شؤون الناس ، وهو مرادف للرئاسة العامة على الناس ... وهو اعم من الاول.

وهذان المعنيان يمكن ان يجريا هنا .. الا ان المعنى الاول .. هو المتبادر الاكثر هنا ..

فقد وردت الايات ـ الناهية عن الحكم بغير ما انزل الله ـ كما في عدة ايات من سورة المائدة :

[ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ].

[ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ].

[ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ].

فوصفت من لم يحكم بما انزل الله بالاوصاف الثلاثة الاخيرة ، ويمكن حملها في هذه الايات على المعنين الاخيرين الا انه بالرجوع للاية يمكن انصرافها الى الحكم بين الناس ـ القضاء والفصل .. لان في بعضها ... النص على

٧٧

القصاص .. ولكن ايضا مع ذلك يمكن ان يكون كلاهما باعتبار الاعمية في الثاني ..

وعلى كل حال : فهل يجوز للقاضي ان يقضي بين الناس على خلاف الحكم الحق .. تقية عند توجه الضرر اليه ..

قد فصل بعض العلماء في ذلك .. فقال :

[ واما لو كان الحكم موجباً لقتل المسلم فلا يجوز قطعاً .. ففي الكافي .. انما جعلت التقية ليحقن بها الدم فاذا بلغ الدم فلا تقية ...

واما فيها عداه فان كان الضرر الذي يخاف منه هو انه يقتل لو لم يحكم فيكون حاله حال الفتوى بغير ما انزل الله ... وفيه صورة كثيرة من حيث اهمية ما يحكم به او ترتب الفساد عليه .. ففي بعضها لا يجوز قطعاً.

واما ان لم يكن الضرر الذي يخاف منه هو القتل ، فلا يجوز الحكم لعدم جواز دفع الضرر عن نفسه باضرار الغير ]. (٤)

ونستطيع القول : بأن الفتوى والحكم لا يجوز فيهما التقية في موارد ، ويجوز في موارد اخرى.

فاذا أدت الفتوى الى سفك دم أو أدى الحكم الى قتل المسلم لم تجز التقية فيهما كما سيأتي في مستثنيات التقية.

واما اذا لو يؤدي لذلك وكان الخطر المتوجه ـ للمفتي او القاضي .. هو القتل او غيره مما لا يحتمل فانه قد نقول بالجواز ـ

__________________

(٤) المصدر السابق : ص ٦٨.

٧٨

خصوصاً في الفتوى ـ كما اذا افتى بأمر عادي ثم اخبر اهل الحق ـ بالواقع ـ كما سبق (٥).

__________________

(٥) ويراجع : الهاشمي : بحوث في علم الاصول : تعارض الادلة الشرعية ج ٧ ص ٣٤ فما فوق. فإن فيه بحثاً موسعاً عن تعارض فتاوى الائمة والجواب عنها من قبل الائمة (ع) ، وبيان وجه صدورها منهم.

٧٩
٨٠