التقيّة في إطارها الفقهي

علي الشملاوي

التقيّة في إطارها الفقهي

المؤلف:

علي الشملاوي


الموضوع : الفقه
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٠٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

امتثال أمره فاذا امتله سقط الأمر ولا يطلب شيئا اخر ...

هذا هو معنى الاجزاء عند الفقهاء.

وهم بعد ذلك يسلمون هذا المعنى في الاحكام الاولية ، ويختلفون اختلافاً بسيطاً في الاحكام الثانوية ـ الظاهرية والاضطرارية ...

وهذا الموضوع من هذا القبيل ـ أي من الحكم الثانوي الاضطراري ـ كما مر ـ.

وبعد هذا البيان ننتقل الى نقل كلماتهم في الاكتفاء به وعدمه ، ومرادنا هو استدلالهم بأنها من الاحكام الضرورية الاضطرارية ...

ا ـ [ اما القسم الأول ـ اي ترتب الأثر عليه من حيث الأجزاء وسقوط الاعادة والقضاء ...

فالتحقيق فيه : ان كل فعل واجب من الواجبات اذا أُتي به موافقاً لمن يتقيه وكان مخالفاً للحق في بعض اجزاءه وشرائطه بل في ايجاد بعض موانعه ، فان كان مأذونا من قبل الشارع في ايجاد ذلك الواجب ـ بعنوان أنه واجب تقية ـ فهو مجز عن الواقع ، ولايجب عليه الاعادة اذا ارتفع الاضطرار في الوقت ولا القضاء اذا ارتفع خارج الوقت ، وذلك ان الأتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي الثانوي مجز عن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي الأولى ـ سواء رفع الاضطرار في الوقت او خارج الوقت .. ]. (١٥)

__________________

(١٥) البجنوردي : القواعد الفقهية : ج ٥ ص ٤٨.

٤١

ب ـ [ المقام الثاني في حكم الاعادة اذا كان المأتي به تقية من العبادات ، فنقول :

ان الشارع اذا اذن في إتيان واجب موسع على وجه التقية ـ اما بالخصوص كما لو اذن في الصلاة متكتفا ـ حال التقية ـ ، وأما بالعموم كأن ياذن بامتثاله أوامر الصلاة او مطلق العبادات على وجه التقية ـ كما هو الظاهر من امتثال قوله (ع) ـ التقية في كل شيء .. ـ ، ثم ارتفعت التقية قبل خروج الوقت فلا ينبغي الاشكال في إجزاء المأتي به وإسقاط للأمر ـ كما تقرر في محله ـ من ان الأمر بالكلي « كالصلاة مثلاً » كما يسقط بفرده الاختياري « كالصلاة في حال الأمان والاتيان بها بجميع اجزائها وشرائطها » كذلك يسقط بفرده الاضطراري « كما اذا صلى في حال الخوف متكتفاً » اذا تحقق الاضطرار الموجب للأمر به ... ] (١٦)

ج ـ [ والتحقيق : أنه بعد البناء على عدم إعتبار عدم المندوحة في صحة الوضوء الاضطراري فالظاهر من دليل مشروعيته كونه فرداً للماهية كالفرد التام ، غاية الأمر ان فرديته انما تكون في حال العذر كما ان التام انما تكون فرديته في حال عدمه ـ العذر ـ ، وعليه يكون كل منهما في عرض الآخر ـ ومساويا له ـ ، فيترتب على كل منهما مايترتب على الآخر من غير فرق بينهما .. ] (١٧)

__________________

(١٦) الانصاري : رسالة في التقية : ص ٣٢٠.

(١٧) الحكيم : مستمسك العروة الوثقى : ج ٢ ص ٤١٤.

٤٢

فان العمل المتقى به بعد ما كان بدلاً عن الواقع ووافياً بتمام مصلحته كان مجزياً عنه ولو مع ارتفاع التقية ، لان الأتيان به امتثال للأمر بالواقع كالاتيان بالواقع نفسه ، فلا موجب للاعادة بعد ارتفاع العذر .. ] (١٨)

هذا وفي مثل هذا المبحث بالنسبة لكل مقلد يرجع لمرجعه في ذلك ، والاجزاء وعدمه في موارد التقية قد ذكرها العلماء في رسائلهم العملية عند تعرضهم لكل مسألة من هذا القبيل ، فلا حاجة لذكر الاجزاء وعدمه من نفس الرسائل العملية ذلك ان المراد هو بيان خضوعها لقاعدة الضرر وحصول العذر عند الانسان ، وليس في الرسائل العملية اسنادها لذلك ، اذ ان هذا من خصوصيات المباحث الاستدلالية وان كانت تشتمل على ذكر العذر وغيره من الفاظ المورد.

وبهذا القدر من كلمات العلماء يتضح ما رمينا اليه ، اذ ان كلماتهم اشتملت على ارجاع اجزاء العمل تقية وعدم اجزائه لقاعدة الضرر كما في ـ ا ـ ان الأتيان بالمأمور به بالامر الواقعي الثانوي مجزٍ ... سواءاً رفع الاضطرار في الوقت ...

وفي ـ ب ـ كما يسقط بفرده الاختياري كذلك يسقط بفرده الاضطراري اذا تحقق الاضطرار الوجب للأمر به ...

وفي ـ ج ـ غاية الأمر ان فرديته انما تكون في حال العذر ...

وهكذا نجد ـ كما ذكرنا ـ عند تفحص كلمات العلماء في هذا المبحث ـ اثبات خضوع هذا الفرع ـ للقواعد الثانوية ... نفي الضرر والعسر والحرج ....

__________________

(١٨) المصدر السابق ص ٤١٥.

٤٣

٢ ـ المورد الثاني :

المندوحة وعدمها ...

وقبل بيان تعويلهم على الاضطرار وعدمه لا بد من بيان معنى المندوحة ...

المندوحة في اللغة :

من الفعل ـ نَدَح ـ المصدر ـ النُدْح ـ بالضم ـ : الارض الواسعة ، والجمع : أنداح ، والمناديح : المفاوز والمنتدح : المكان الواسع.

( ويقال ) لي عن هذا الأمر مندوحة ومنتدح اي سعة ... (١٩)

المندوحة في الاصطلاح :

هي تمكن المكلف من الاتيان ـ بالواجب التام الشرائط والاجزاء وذلك بان يأتي به في وقت آخر او مكان آخر ... (٢٠)

وملخص كلام العلماء هنا أنه :

إن أخذ في موضوع التقية والعمل بها تحقق الضرر ، فينبغي القول بعدم المندوحة لانه في حال ارتفاع الضرر وتمكن المكلف من رفع الضرر بأي طريقة كانت ـ يكون قد حصل على التخلص من الضرر ، وبذلك يرتفع موضوع التقية لان التقية في حال الضرر الذي لا يمكن للمكلف التخلص منه ـ فلا يكون

__________________

(١٩) الجوهري : الصحاح ص ٥٥٢ تجديد الصحاح م ٢.

(٢٠) المظفر : اصول الفقه : ج ٢ ص ٣٢٠.

٤٤

له مندوحة ـ ، وعلى هذا فيعتبر في التقية ـ عدم المندوحة ـ أي لا يستطيع المكلف التخلص مما هو فيه الى غيره فهنا يجوز له العمل بالتقية ، وعلى هذا فلا بد من اعتبار ـ عدم امكان التخلص ـ كغيرها من موارد الضرر ، واما اذا امكن التخلص فلا يصج له العمل بالتقية.

ومن يقول بان الدليل على التقية والأذن فيها هو الاخبار ، ويلتزم بالاخبار ـ تشريعاً وتفريعاً ـ فلا يقول بعدم المندوحة بل يقول بان التقية متى ما حصلت صح العمل بالتقية ـ عدم امكان التخلص منها لغيرها ، ويستدل على ذلك بعدة روايات.

ويهمنا ان ننقل كلمات من يقول بشرط عدم المندوحة ـ التخلص والسعة ـ في العمل بالتقية ...

١ ـ [ ويؤيده ـ القول باشتراط عدم المندوحة في العمل بالتقية ـ العمومات الدالة على ان التقية في كل شيء يضطر اليه ابن آدم ، فان ظاهرها حصر التقية في حال الاضطرار ، ولا يصدق الاضطرار مع التمكن من تبديل موضوع التقية ـ المندوحة ـ التخلص ـ بالذهاب الى موضوع الامن ـ مع التمكن ـ من الذهاب ـ وعدم الحرج ـ في الذهاب ـ ]. (٢١)

٢ ـ [ ان مقتضى الاخبار الواردة في المقام هو اختصاص التقية بصورة الضرورة والاضطرار ، وعدم مشروعيتها في غير مواد الضرورة ..

__________________

(٢١) الانصاري : رسالة في التقية ـ مع المكاسب ص ٣٢٣.

٤٥

الى ان يقول :

واما في حال التقية والعمل فلم يقم دليل على عدم اعتبار الضرورة والاضطرار فيبقى ظواهر الروايات بالنسبة الى حال التقية ... ] (٢٢).

ويذكر في موضع آخر ـ دليلا للمستدل على اشتراط ـ عدم المندوحة :

[ ان التقية أُخذ في مفهومها خوف الضرر ـ كما تقدم غير مرة ـ ومع تمكن المكلف من الاتيان بالوظيفة الواقعية لايحتمل الضرر في ترك التقية ، اذاً ... لا مناص من اعتبار عدم المندوحة حال العمل تحقيقاً لمفهوم التقية ، فانه مع وجود المندوحة لاتحقق للتقية ... ] (٢٣)

٣ ـ [ وهل يشترط في التقية عدم المندوحة أولا ... وجهان بل قولان ... اختار أولهما ـ اي اشتراط عدم المندوحة ـ في المدارك لانتفاء الضرر مع وجودها ـ المندوحة ـ فيزول المقتضي ـ وهو الضرر الموجب للتقية ... والاقتصار على المتيقن فيبقى مادل على التكليف الاول سالماً ولايخرج عن العهدة إلا به ... ] (٢٤).

هذا ... واخذ الضرر واضح من تعابير العلماء هنا في هذه النقطة ايضاً. كما هو صريح في النقطة ـ ١ ـ ٢ ـ من هذه النقاط.

__________________

(٢٢) الغروي : التنقيح في شرط العروة الوثقى ج ٤ ص ٣٠٩.

(٢٣) المصدر السابق : ص ٣١٠.

(٢٤) النجفي : الجواهر ج ٢ ص ٢٣٨.

٤٦

تنبيه :

بعد تتبع يسير لكلمات العلماء يظهر ان الجميع يجعلون المناط في التقية هو الضرر وقواعده الثانوية ، ولازمه اعتبار عدم المندوحة ـ عدم امكان التخلص ـ لانه عند امكان التخلص مما هو فيه لا ضرر ، وهكذا يتساوى ـ بناءاً على ذلك ـ موارد التقية وغيرها من الموارد الضررية ..

الا ان القول الآخر ـ الذي لا يشترط عدم المندوحة في العمل بالتقية ـ بل يقول بجواز العمل بالتقية حتى مع وجود المندوحة ـ والذي ربما يلوح من البعض ـ ليس بناؤه هو عدم كون اخذ الضرر في موضوع التقية ، وانما هو التوسع في امر التقية الوارد في روايات اهل البيت (ع) ، فهذه الروايات ـ التي اعتبرها العلماء ـ مفادها عدم اشتراط عدم المندوحة ... فسواء امكنه التخلص ام لا ، فيجوز له العمل بالتقية وتشرع في حقه حتى ولو امكنه التخلص منها لغيرها ، كالتورية او الانتقال الى مكان آخر او تأخير العمل ـ.

اذاً : الأصل فيها القواعد الثانوية طبقاً لهذا المبحث من العلماء .. والحكم بانه لا يحتاج الى اشتراط عدم المندوحة انما هو لروايات اهل البيت (ع) ـ كما في الفقه الاستدلالي ـ في مثل هذا المبحث. (٢٥)

__________________

(٢٥) يراجع : ا ـ الانصاري : رسالة في التقية مطبوعة مع المكاسب حجري : ص ٣٢١.

ب ـ الغروي : التنقيح في شرح العروة الوثقى ج ٤ ص ٣٠٤ فما فوق.

٤٧

٣ ـ هل الضرر ـ في التقية ـ نوعي ام شخصي ؟ :

من الموارد التي يمكن ان تدل ـ وبوضوح ـ على خضوع التقية للقواعد الثانوية وأنها أحد مصاديقها .. بحثهم في الضرر الموجب للتقية هل هو نوعي ام شخصي وهل هو ـ بالفعل ام بالقوة .... ؟ ...

ومعنى الضرر النوعي : ان يكون بحيث يتضرر امثاله منه عادة .. وان لم يتضرر منه هو ...

ومعنى الضرر الشخصي : ان يكون بحيث يتضرر منه وان كان الناس عادة لا يتضررون منه ...

وهذه الجملة من كلمات العلماء في ذلك :

آ : [ الثاني : انه لا ريب في تحقق التقية مع الخوف الشخصي ـ بان يخاف على نفسه او غيره في ترك التقية في خصوص ذلك العمل ـ ، ولا يبغد ان يكتفي بالخوف من بنائه على ترك التقية في سائر اعماله ، او بناء سائر الشيعة على تركها في العمل الخاص ، او مطلق العمل النوعي في بلاد المخالفين وان لم يحصل للشخص بالخصوص خوف ، وهو الذي يفهم من اطلاق او امر التقية ، وما ورد من الاهتمام فيها ، ويؤيده بل يدل عليه اطلاق قوله (ع) : ليس منا من لم يجعل التقية شعاره ودثاره مع من يأمنه ليكون سجية له مع من يحذره ..

نعم في حديث ابي الحسن ـ صلوات الله عليه ـ معاتباً لبعض أصحابه الذين حجهم : انكم تتقون حيث لايجب التقية وتتركون حيث لا بد من التقية ... ويحمل على بعض

٤٨

مالا ينافي القواعد ... ] (٢٦)

ب ـ [ الجهة الثامنة : في المراد بالضرر الذي يعتبر احتماله في مفهوم التقية وفي الحكم بجوازها او وجوبها.

اما في التقية بالمعنى الأعم او بالمعنى الأخص في موارد ترك الواجب أو فعل الحرام تقية فالضرر المتيقن من الضرر المسوغ احتماله للارتكاب انما هو الضرر المتوجه الى نفس الفاعل ـ سواء كان بدنياً او مالياً ام عرضياً ـ ، ويلحق بذلك الضرر المتوجه الى الاخ المؤمن لعدة من الروايات ... ] (٢٧)

[ واما اذا لم يترتب على ترك التقية ضرر على نفسه ولاعلى غيره بل كانت التقية لمحض جلب النفع ـ من المودة والتحابب والمجاملة معهم في الحياة ـ فلا تكون مسوغة لارتكاب العمل المحرم ولا ترك العمل الواجب .... لعدم تحقق مفهوم التقية حينئذٍ حيث لاضرر يترتب على تركها ]. (٢٨)

ج ـ [ نعم يختص مشروعية التقية بصورة خوف الضرر على نفسه او ماله او نفس غيره او ماله ]. (٢٩)

د ـ [ الثالث : أنه لاشك في ثبوت موضوع التقية ـ مع الخوف الشخصي ، بمعنى أنه يخاف على نفسه او عرضه او ماله لو ترك الموافقة معهم ... اذ هذا هو القدر المتيقن من ادلة التقية ...

__________________

(٢٦) الانصاري : رسالة في التقية مع المكاسب ص ٣٢٤.

(٢٧) الغروي : التنقيح في شرح العروة الوثقى ج ٤ ص ٣١٤.

(٢٨) المصدر السابق : ص ٣١٥.

(٢٩) الحكيم : مستمسك العروة الوثقى : ج ٢ ص ٤٠٦.

٤٩

واما لو لم يعلم ان مِن تركه التقية والموافقة معهم لا يترتب عليه ضرر على نفسه او ماله او عرضه ولكن يوجب فعله المخالف للتقية معرفة المخالفين مذهب الشيعة وانهم يطعنون بعد ذلك بأن مذهبهم كذا وكذا ... والظاهر ان هذا ايضاً يجب فيه التقية ، لان هذا ربما يكون موجباً لورود الضرر على نفس الامام أو على طائفة جميعاً ، والظاهر انه يفهم من الاخبار الكثيرة انه ليس امر التقية دائراً مدار الخوف الفعلي ... ] (٣٠)

الخلاصة :

١ ـ لو لم يكن الضرر مأخوذاً في موضوع التقية فلا معنى للبحث في انه ضرر نوعي او شخصي.

٢ ـ الاتفاق على ان الضرر الشخصي يبيح التقية قطعاً ، والحكم من الفقهاء بان الضرر العام النوعي يمكن ان يكون مبيحاً للتقية.

٣ ـ هناك خلاف في الضرر الفعلي والضرر الآجل ...

فقال العلماء بان الضرر الفعلي ـ سواء كان لنفسه او لماله او عرضه ـ يقتضي تشريع التقية ويوجب العمل بها.

واما اذا كان محتملاً ـ آجلاً ـ بالقوة ـ فقد اختلفوا فيه ، والاكثر قد حكموا بحسب الظاهر بامكان تأثيره في موضوع التقية وتأثيره في وجوب العمل بها ...

__________________

(٣٠) البجنوردي : القواعد الفقهية ج ٥ ص ٦٦.

٥٠

٤ ـ يلوح من البعض ان الضرر الشخصي هو المتوجه له بنفسه او عرضه او ماله.

والنوعي هو المتوجه للنوع او الطائفة ، وهذا استعمال للنوعي والشخصي في غير ما اصطلحوا عليه في عدة موارد.

وبهذا يتضح ان هذا المبحث عند علمائنا من اوضح المطالب الدالة على اخذ الضرر في موضوع التقية ....

٤ ـ التقية والأحكام الخمسة :

ومن الموارد التي تدل على خضوع التقية لعنوان الضرر تقسيمهم التقية للاحكام الخمسة طبقاً للضرر المتوجه للانسان ـ وان كان هناك خلاف في هذا التقسيم ـ (٣١).

وهناك عدة من العلماء قسموها لهذه الأحكام الخمسة ، وفيما يلي بعضهم :

١ ـ [ فالواجب منها : ما كان لدفع الضرر الواجب فعلاً ، وأمثلته كثيرة.

والمستحب : ما كان فيه التحرز عن معارض الضرر ، بأن يكون تركه مقتضياً تدريجياً الى حصول الضرر ، كذلك المداراة مع العامة وهجرهم في المعاشرة في بلادهم ، فانه ينجر غالباً لحصول المباينة الموجب لتضرره منهم.

والمباح : ما كان التحرز عن الضرر وتحمله مساوياً في نظر الشارع ، كالتقية في اظهار كلمة الكفر ـ على ماذكره جمع من الاصحاب ـ.

__________________

(٣١) الغروي : التنقيح في شرح العروة الوثقى ج ٤ ص ٢٥٥ وما فوق.

٥١

والمكروه : ماكان تركها وتحمل الضرر اولى من فعله ـ كما ذكر ذلك بعضهم في اظهار كلمة الكفر ـ وان الأولى تركها ممن يقتدى بفعله الناس اعلاءاً لكلمة الإسلام.

والمراد بالمكروه حينئذٍ مايكون ضده أفضل.

والمحرم : ما كان في الدماء ]. (٣٢)

وبمناط آخر قسم الشهيد الأول ـ في قواعده ـ التقية الى هذه الاحكام الخمسة :

٢ ـ [ المستحب : اذا كان لا يخاف ضراراً عاجلاً ، ويتوهم ضرراً آجلاً سهلاً ، او كان التقية في المستحب ـ كالترتيب في تسبيح الزهراء ـ ( صلوات الله عليها ) وترتيب بعض فصول الاذان ..

والمكروه : التقية في المستحب حيث لا ضرر عاجلاً ولا آجلاً ، ويخاف منه الالتباس على عوام المذهب.

والحرام : التقية حيث يؤمن الضرر عاجلاً وآجلاً ، وفي قتل المسلم.

والمباح : التقية في بعض المباحات التي ترجحها العامة ولا يصل بتركها ضرر ]. (٣٣)

٣ ـ [ ثم ان التقية بالمعنى الجامع ... قد يتصف بالوجوب كما اذا ترتب على تركها مفسدة لا يرضى الشارع بوقوع المكلف فيها كالقتل.

__________________

(٣٢) الانصاري : رسالة في التقية ص ٨٣٢٠ ، والمفيد : أوائل المقالات : ص ١٣٩.

(٣٣) المصدر السابق ، والبجنوردي : القواعد الفقهية ج ٥ ص ٤٦.

٥٢

وأما التقية بالمعنى الاخص فقد عرفت انها واجبة وان لم يترتب عليها الاضرر يسير (٣٤) ...

وثالثة : تتصف التقية ـ بالمعنى الجامع ـ بالحرمة الذاتية ، وهذا كما اذا اجبره الجائر بقتل النفس المحترمة فانه لا يجوز ان يقتلها تقية.

ورابعة : تتصف التقية بالمعنى المتقدم بالاستحباب وهذا كشدة المواظبة على مراعاتها حتى في موارد توهم الضرر ... فضلاً عن احتماله ...

ولااشكال في استحباب ذلك مع تحقق موضوع التقية وهو إحتمال الضرر ولو ضعيفاً.

وقد تتصف التقية ـ بالمعنى المتقدم ـ بالكراهة ومرادنا بها :

ما اذا كان ترك التقية أرجح من فعلها ، وهذا كما اذا اكره على اظهار البراءة من امير المؤمنين ( عليه السلام ) وقلنا ان ترك التقية حينئذٍ وتعريض النفس للقتل ارجح من فعلها ، واظهار البراءة منه ـ كما احتمله بعضهم ... وكما اذا ترتب ضرر على امر مستحب كزيارة الحسين (ع) فيما اذا كانت ضررية ، فان ترك التقية حينئذٍ بأتيان المستحب الضرري

__________________

(٣٤) على نطاق البحث الاستدلالي ـ يرى فخر الشيعة وكعبة علمائها الأمام الخوئي ـ دام ظله الوارف ـ وكما يكشف عنه تقرير تلميذه الغروي. يرى ان التقية حسب الروايات العامة الواردة فيها اوجبت العمل طبق التقية ـ بعنوان الحفظ العام للشيعة فتجب على كل حال ـ، وهي كما ترى لم تخرج بهذا عن عنوان الضرر ـ وان خرجت عن عنوان الضرر الشخصي ـ فانها داخلة تحت عنوان الضرر النوعي بالمعنى الثاني. يراجع في ذلك : الغروي : التنقيح في شرح العروة الوثقى. ح ٤ ص ٣١١ ـ فان فيه بحثاً موسعاً يدل على ذلك.

٥٣

ارجح من فعلها وترك العمل الاستحبابي ]. (٣٥)

هذا ... ولا نطيل في نقل كلمات العلماء في ذلك وانما نشير الى الخلاصة من ذلك :

ا ـ المناط في تقسيم التقية الى الأحكام الخمسة التكليفية هو الضرر وعدمه.

ب ـ الضرر الفعلي هو مناط الوجوب ، والآجل عند البعض مناط للاستحباب.

ج ـ عند انتفاء الضرر تكون التقية حراماً ، فان موضوع التقية مأخوذ فيه الضرر فاذا انتفى الضرر فتحرم التقية اذ لا موضوع لها ، وانتفائه يكون على نحو ان لا يكون هناك ضرر عاجلاً ولا آجلاً ؟.

د ـ والمستحب ترجيح احتمال وقوع الضرر على عدم وقوعه .. والمكروه ترجيح احتمال عدم وقوع الضرر على وقوعه .. والمباح المتساوي كما اشار لذلك الانصاري ... وغيره.

ه‍ ـ وقوع الاختلاف اليسير بين العلماء في ضرب الامثلة لكل من المستحب والمكروه ، وهذا لا يشكل اختلافاً بينهم بعد الاتفاق على المناط في ذلك.

اذاً موضوع التقية هو الضرر ولا تقية حيث لا ضرر ...

هذا مايؤكده لنا بحث العلماء في تقسيم التقية للاحكام الخمسة.

__________________

(٣٥) الغروي : التنقيح في شرح العروة الوثقى : ج ٤ ص ٢٥٥ ، ٢٥٦ ، ٢٥٨ ، ٢٥٩ ـ على التوالي.

٥٤

خلاصة البحث

لقد توصلنا بهذا البحث الموسع في تشريع التقية الى ان اساس تشريع التقية يعتمد على :

١ ـ القرآن الكريم : وذلك بعدة آيات :

ا ـ ( مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) الآية : ١٠٦ النحل.

ب ـ ( لاَّ يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ المَصِيرُ ) الاية : ٢٨ آل عمران.

ج ـ ( وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ ) الآية ٢٨ غافر.

د ـ ( فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى المَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ) الآيتين : ١٩ ـ ٢٠ الكهف.

٢ ـ السنة النبوية وسنة اهل البيت (ع) كما في بحث السنة فليراجع ....

٣ ـ الأجماع كما حكاه البعض ، بل سيرة اهل

٥٥

البيت (ع) ، والعلماء قائمة على ذلك ايضاً.

٤ ـ القواعد الثانوية : التي هي المناط في تشريع التقية ـ كما تلوح من الآيات والروايات .. حيث جعلت المناط ذلك ـ

وهي موضوع قاعدة نفي الضرر والحرج والعسر في الدين ...

ويستفاد ذلك من طيات بحوث العلماء في :

١ ـ تشريع التقية.

٢ ـ الاجزاء وعدمه.

٣ ـ المندوحة وعدمها.

٤ ـ الضرر شخصي ام نوعي وهل هو بالفعل ام بالقوة على الفاعل ام على الفرقة.

٥ ـ مصداقية التقية للاحكام الخمسة التكليفية ... التي كان المناط في تقسيمها الضرر.

وبهذا يظهر ان التقية ليست الا فرداً ومصداقاً لقاعدة عامة وقواعد اوجدها المشرع الاسلامي للحالات الخاصة التي تعتري بعض الافراد بحيث تحول هذه الظروف بينه وبين الاتيان بالفعل المكلف به الاولي.

وبما ان الشارع المقدس اهتم بالانسان وجعل دينه دين يسر وسهولة فلا يُلزم الانسان بعمل المشاق ويحيله على ما هو مخلص له مما هو فيه.

والقواعد التي جاء بها هي عامة في مناطها وهو حصول الضرر ...

فلا يفرق بين حصول الضرر ـ كما تقدم ـ من طبيعة ،

٥٦

او من الانسان نفسه ، او من الاخرين وهو موضوع التقية .. ففي كل هذه الصور يدفع الاسلام الضرر عن الانسان بقواعده التي جاء بها ناصة على ذلك الآيات التالية :

١ ـ قوله تعالى : لا يكلف الله نفساً الا وسعها .....

٢ ـ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ....

٣ ـ ما جعل عليكم في الدين من حرج ....

٤ ـ الا ما اضطررتم اليه ...

٥ ـ فمن اضطر غير باغٍ ولا عاد فلا اثم عليه ...

والروايات ....

لا ضرر ولا ضرار في الاسلام.

رفع عن امتي تسعة ... ما اضطروا اليه ... وما لايطيقون ... وما استكرهوا عليه ...

ثم جاءت الآيات والروايات لتبين ان التقية احد مصاديق هذه القواعد ...

[ الا من اكره ... ]

حيث ان موضوع الاكراه هو تحقق الضرر عند المخالفة ...

[ والا ان تتقوا منهم تقاة ... ]

وكقولهم (ع) : التقية في كل ضرورة وصاحبها اعرف بها حين تنزل به.

وغيرها من الروايات ـ كما تقدم ـ.

بقي هنا أن نشير الى نقطة مهمة ـ تتضح من طيات ما تقدم ، وهي :

٥٧

ان التقية موضوعها تحقق الضرر ، وهي انما تكون لدفع الضرر ، فسواء كان هذا الضرر ـ حاصلا بالاكراه الفعلي ـ الذي مقتضاه الضرر الفعلي ـ غالباً ـ ، او كان احتمال الضرر ـ مطلقاً ـ سواء كان آجلاً ام عاجلاً.

وبهذا يتضح ان الاكراه الفعلي احد الاسباب المحققة للضرر والمبيحة للعمل بالتقية ـ كما يتضح من موارد الاستدلال السابقة ـ.

وأسبابه الأخرى هي احتمال الضرر المتوجه اليه ـ وان لم يكن ضرر فعلي ـ كما تقدم في بحث ـ الضرر النوعي والشخصي ـ ، وكما تقدم بوضوح في تقسيم التقية للاحكام الخمسة ـ طبقا للضرر العاجل ام الآجل.

فعلى هذا .. فالضرر شامل لكل هذه الموارد.

وبهذا اردنا التنبيه : الى انه لا يُظن ان الاكراه خارج عن موضوع التقية ، بل ـ كما ذكرنا ـ هو اصل موضوعها الاساسي.

ويتبين ذلك من طيات الاستدلال بالآيات والروايات كقوله تعالى : [ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ] ، وذلك لان العلماء كافة جعلوا موردها هو نفس مورد [ إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ] ، وجعلوا موردها مطلق الضرورة ...

هذه هي صورة التقية في دائرة تشريعها عند الشيعة.

ولابأس ببيان امور اخرى ترتبط بايضاح صورة التقية اكثر فاكثر حتى ينكشف ما كان عليها من غشاء جعل اخواننا السنة يتصورونها كانها شبح مخيف ...

٥٨

|٤|

مصاديق التقية

قد يعتقد البعض ان التقية هي من عقائد الشيعة التي يجب العمل بها عندهم بدون دواعي وأسباب ، وذلك لما وجدوهم يعملون بها في اكثر الاحيان وفي شتى الميادين.

وما هذه المحاولة ـ المشتمل عليها هذا الكتيب ـ الا لكشف هذا التصور الخاطىء.

وما نريد توضيحه هنا هو أنها مسألة فرعية ـ فقهية ـ الا ان موضوعها تارة يكون من الامور العقائدية ، واخرى يكون من الامور الفرعية.

وذلك بعد ان بينا ان المناط في تشريعها هو عنوان الضرر المترتب على ارتكاب هذا الشيء او تركه ...

ويمكن ان يصدق في عدة ميادين مادام قد تحقق هذا العنوان وصدق الضرر فيه ، ولا بأس ببيان هذا الامر تفصيلاً حتى يتجلى تماماً.

١ ـ الأصول :

يمكن ان تنطبق التقية ويكون موردها مسألة اصولية ـ عقائدية ـ كالاقرار بنبوة النبي محمد (ص) او بأمامة الأمام ـ او في نفس ـ الاعتراف بالنبوة والامامة او بالمعاد وغيره.

وتأتي نفس الاحكام الخمسة ـ التكليفية ـ فيها

٥٩

فاذا توجه للانسان ضرر من الاقرار بهذا الأمر كنبوة محمد (ص) وجب عليه ان لايقر به او استحب له ذلك على الخلاف ...

وذلك ان الموضوع حينئذٍ يكون موضوع مسألة فرعية من المسائل التشريعية ... ولكن لابما ان نفس المسألة فرعية بل بما انها تعلقت بفعل هو من افعال المكلف التشريعية من لزوم الضرر وعدمه.

ويكفي ان نطوف ببعض الوقائع المروية في هذا الجانب ليعلم اباحة ذلك ووجوب عمله ...

١ ـ اوضح هذه الوقائع ـ التي تنص باقرار النبي (ص) والأئمة (ع) على هذا الجانب ـ هي قصة عمار بن ياسر التي مرت وستمر فلا نحتاج لسردها هنا.

٢ ـ وفي رواية عبدالله بن عطاء عن ابي جعفر « عليه السلام » في رجلين من اهل الكوفة اخذا وامرا بالبراءة من امير المؤمنين عليه السلام فتبرأ واحد منهما وأبى الآخر فخلى سبيل الذي تبرأ وقتل الآخر ، فقال : اما الذي تبرّأ فرجل فقيه في دينه وان الذي لم يتبرأ فرجل تعجل الجنة ... (١)

__________________

(١) الحر العاملي : وسائل الشيعة : ج ١١ ص ٤٧٦ ح ٤ باب ٢٩.

وقد اختلف العلماء في مفاد هذا الحديث وأمثاله في التقية في مثل هذا المورد فاختار البعض ان البراءة من الموارد المحرمة التقية فيها ، واختار آخرون انها من موارد الجواز.

وفي الواقع ان لسان الروايات لم يكن بلسان التقية في قول امير المؤمنين : « فلا تتبرأوا مني».

بل لسانها ـ التبرأ الواقعي ـ بعد تسليم هذه الرواية وامثالها سنداً.

فان التقية في البراءة ليس بأعظم من التقية في النبوة.

٦٠