التقيّة في إطارها الفقهي

علي الشملاوي

التقيّة في إطارها الفقهي

المؤلف:

علي الشملاوي


الموضوع : الفقه
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٠٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

هذه النية ، أو لأنه لما عظم خوفه زال عن قلبه ذكر هذه النية ... كان ملوما ، ... وعفو الله متوقع.

البحث الثاني : لو ضيق المكره عليه ، وشرح له أقسام التعريضات ، وطلب منه أن يصرح بان ما اراد شيئا منها ، وما اراد إلا ذلك المعنى فههنا يتعين ...

اما التزام الكذب واما تعريض النفس للقتل ، فمن الناس من قال يباح له الكذب هنا ، ومنهم من يقول : ليس له ذلك ، وهو الذي اختاره القاضي ] (١٢).

ويظهر من هذه النصوص اشتراط التورية ... او التخلص من الضرر مع امكانهما.

فانه عند امكان التورية يستطيع أن يدفع الضرر بواسطة التورية ، واما عند عدم إمكان التورية ... والذي ينتفي بها المندوحة. اذ ليس له طريق لدفع الضرر إلا التقية.

وعدم امكان التورية على أنحاء :

اما لعدم خطور ما يوري به بباله.

او لعدم إمهال المكرِه له.

او لسد ابواب التورية عليه ... فلا يبقى له طريق إلا العمل بالتقية.

او لعدم امكان التورية ... لانتفاء موضوعها. فان ..

[ هناك صورة لا تحتمل التورية كالاكراه على إلقاء

__________________

(١٢) الرازي : التفسير ج ٢٠ ص ١٢٤.

١٦١

المصحف في القذر والنجاسة فلا يمكن للمكرَه على ذلك أن يوري بشيء ] (١٣).

والخلاصة من ذلك :

١ ـ لا يجوز العمل بالتقية اذا أمكن رفع الضرر بغيرها.

٢ ـ التخلص والتورية طريقان يدفع بواسطتهما الضرر ، فهما مقدمان على التقية.

٣ ـ اذا انغلق عليه باب التورية ، وانسد عليه كل الطرق التي يتخلص بها ـ كما في ما لا تورية فيه ـ جاز له العمل بالتقية لعدم وجود المندوحة من ارتكاب نفس الحكم المحرم.

وبالتالي يتضح ...

أنه عند الإكراه هناك طريقان لدفع الضرر الحاصل من الاكراه.

١ ـ ان يوري أو يتخلص بطريقة أخرى.

٢ ـ أن يأتي بالتقية حيث أنها الطريق الاخير لرفع الضرر وعند العمل بها لا ضرر ولا إكراه ، لانها ترفع موضوع الاكراه. إذ ...

[ لا ضرورة في حال إمكان الإتقاء ، لأن الغرض أن الضرورة تتنافى مع الإمكان ] (١٤).

٣ ـ التقية والأحكام الخمسة :

لقد نص الفقهاء والمفسرون على أن التقية خاضعة

__________________

(١٣) عيسى شقره : الاكراه ... ص ١١٧.

(١٤) محمد القيعي : نظرة القرآن الى الجريمة والعقاب ص ١٨٩.

١٦٢

للاحكام الخمسة التشريعية ... ويستفاد ان ذلك اجماع منهم ... وإن اختلفوا في مصاديق كل حكم من الأحكام ... واي مثال ينطبق عليه الحكم المعين ..

[ فأحكام الإكراه مختلفة على الوجوه التي ذكرنا :

١ ـ منها : ما هو واجب فيه اعطاء التقية ، وهو الإكراه على شرب الخمر واكل الميتة ، ونحو ذلك مما طريق حظره السمع.

٢ ـ ومنها : مالا يجوز فيه إعطاء التقية ، وهو الاكراه على قتل من لا يستحق القتل ، ونحوه الزنا ، ونحو ذلك مما فيه مظلمة لآدمي ولا يمكن استدراكه.

٣ ـ ومنها : ما هو جائز له فعل ما اكره عليه ، والافضل تركه ، كالاكراه على الكفر وشبهه ] (١٥).

فهنا خضعت ـ التقية ـ لاربعة أحكام ... الأول الواجب .. والثاني المحرم والثالي الإباحة. والرابع .. الكراهة ـ اذ الافضل تركها ...

وبعضهم جعل هذا الحكم تبعاً لمراتب الإكراه ..

فالأولى : ان يجب الفعل عليه ... كالمثال السابق.

والثانية : أن يصير الفعل مباحاً ولا يصير واجباً ـ كسابقه.

والثالثة : لا يجب ولا يباح بل يحرم .. كالقتل (١٦).

وآخرون جعلوا من مواضع تحريم التقية .. فيما اذا

__________________

(١٥) الجصاص : احكام القرآن ج ٥ ص ١٦.

(١٦) الرازي : التفسير ج ٢٠ ص ١٢٤.

١٦٣

كان ـ المهدد ـ المكرَه من تكون منزلته مهمة كالانبياء ومن يقتدي بهم الناس ... حيث قيل :

[ والأنبياء لا يجوز لهم استعمال التقية فيها يخص الدعوة ] (١٧).

وهذا القيد الأخير يُفيدنا في تعدي الحكم عن موضعه حيث أنه في غير ما يخص الدعوة يجوز له ذلك ـ كما في اختفاء النبي (ص) عن قريش تقية .. وفي قصة موسى ... فخرج منها خائفاً يترقب.

واما في الحكم الخامس وهو استحباب العمل بالتقية .. فقد

[ قيل الأفضل التلفظ بالكفر صيانة لنفسه.

وقيل ... إن كان ممن يتوقع منه النكاية في العدو والقيام باحكام الشرع فالافضل التلفظ لمصلحة بقاءه ] (١٨).

ويوضح ـ آخر ـ هذا المورد :

[ قيل : إن كان من العلماء المقتدى بهم فالافضل الثبات على الإيمان مهما كان التخويف ، فإن قتل مات شهيداً ـ كما قال رسول الله (ص) « من قتل دون دينه فهو شهيد » ، وحتى يكون قدوة لغيره من الناس ] (١٩).

والنتيجة من ذلك كله :

أن التقية تخضع للاحكام الخمسة التشريعية بحسب موارد الضرر ..

__________________

(١٧) السرخسي : المبسوط ج ٢٤ ص ٤٥.

(١٨) السيوطي : الاشباه والنظائر ص ٢٢٧.

(١٩) الجزيري : الفقه على المذاهب الأربعة ج ٥ ص ٢٨٩.

١٦٤

هذا من جهة ..

ومن جهة أخرى :

إذا كان المورد الذي اكره عليه سمعياً وجبت فيه التقية ـ مع تحقق الضرر ـ

وإذا كان وجوبه عقليا ـ استحب له ـ صونا للنفس ـ العمل بالتقية .. وقيل يكره ..

واذا كان له أهمية في اوساط المسلمين ... في مقابلة العدو ـ استحب له العمل بالتقية.

وإذا كان له أهمية في إقتداء المسلمين به .. فالتقية مع الضرر .. مكروهة له ... والأفضل تحمل الضرر ليكون قدوة للناس ـ كما سيأتي في فعل الإمام أحمد بن حنبل في ـ محنة خلق القرآن ـ.

٤ ـ لا تقية في الدماء :

كما استثنت الشيعة موارد خاصة من التقية كذلك استثنت علماء السنة موارد خاصة نصوا على عدم جريان التقية فيها ..

١ ـ لا تقية في القتل .. فلو اكرهه ظالم على قتل شخص لم يجز له العمل بالتقية وقتل هذا الشخص ... (٢٠).

٢ ـ شهادة الزور ، وقد فصل العلماء فيها فان كانت تقتضي قتلا أو قطعا ... الحقت بالقتل فلا تأتي فيها

__________________

(٢٠) الجصاص : احكام القرآن ج ٥ ص ١٦. والسيوطي : الاشباه والنظائر ص ٢٢٥. ووهبة الزحيلي : نظرية الضرورة الشرعية ص ٩٢. وعيسى شقره : الاكراه وأثره في التصرفات ص ٢٠٥ فما فوق.

١٦٥

التقية ... (٢١)

٣ ـ الزنا ... وقد اختلف في إمكان الإكراه حتى تأتي التقية اولا ... على اختلاف في سبب المنع ... فقد قيل ان مفسدة الزنا أفحش من الصبر على القتل ... (٢٢) ، وقيل لعدم امكان الانتشار للآلة والإدخال مع الاكراه الموجب للخوف الشديد ... (٢٣)

٤ ـ الاكراه على افعال القلوب ... معللين بأن الإكراه لا سلطان له على الضمائر ... (٢٤)

وقد اختلف في موارد أخرى بحسب ما يُكره عليه ...

٥ ـ اذا كان المهدد به لا يعتد به عرفاً بحيث لا يسبب ضررا (٢٥).

__________________

(٢١) السيوطي : الاشباه والنظائر ص ٢٢٧.

(٢٢) نفس المصدر السابق.

(٢٣) المصدر السابق ص ٢٢٨. والرازي : التفسير ج ٢٠ ص ١٢٥. والقرطبي ج ١٠ ص ١٢٠.

(٢٤) السيوطي : الأشباه والنظائر ص ٢٢٨.

والجصاص : احكام القرآن ج ٥ ص ١٢.

(٢٥) كما مر في مقدار الضرر.

١٦٦

ـ ٥ ـ

مصاديق التقية

لا فرق في العمل طبق التقية .. بين أن يكون موردها اصول الدين ـ العقيدة ـ ، او فروع الدين ـ كما تقدم ذلك واضحاً في ـ مصاديق التقية عند الشيعة ـ ..

ومن التمثيل الذي نص عليه علماء السنة يتضح أنه لا فرق بين الميدانين في جواز جريان التقية ـ وان كان على خلاف بينهم في بعض الموارد ـ في الإباحة او الوجوب. كما تقدم في التقية والأحكام الخمسة.

فأما الأصول :

١ ـ ففي اجراء كلمة الكفر الذي هو اكبر شرك على اللسان. كما في قصة عمار.

٢ ـ السجود لغير الله من صنم أو صليب. وقد تقدم في عموم التقية للقول والفعل.

٣ ـ اخفاء اصل الاسلام وعدم اظهار الشهادتين ..

ولهذا عدة شواهد يذكرها المؤرخون لحياة الصحابة ...

١ ـ قصة مسيلمة الكذاب مع الصحابيين :

[ حدثنا شريح بن يونس عن اسماعيل بن ابراهيم عن يونس بن عبيد عن الحسن : أن عيوناً لمسيلمة اخذوا رجلين من اصحاب النبي (ص) فذهبوا بهما الى مسيلمة ، فقال

١٦٧

لاحدهما : اتشهد أن محمداً رسول الله ؟. قال : نعم. قال : اتشهد أني رسول الله ؟. قال : نعم. فخلى عنه. وقال للآخر : اتشهد أن محمداً رسول الله ؟. قال : نعم. قال : وتشهد أني رسول الله ؟ .. قال : انا اصمّ لا اسمع ، فقدمه وضرب عنقه ..

فجاء هذا الى النبي (ص) فقال : هلكت ، قال ـ ص ـ : وما أهلكك ؟. فذكر الحديث. قال : اما صاحبك فاخذ بالثقة ، واما انت فاخذت بالرخصة ـ على ما انت عليه الساعة. قال : اشهد أنك رسول الله. قال ـ ص ـ انت على ما انت عليه ] (١).

٢ ـ يروي العقاد عن عمرو ابن العاص في قصة إسلامه أنه عمل بالتقية :

[ وكان لاعتداده بأبيه دخل في تعويق اسلامه وتأخير شهادته للدين الجديد الى بعد موته ، وقد كان يعلم ـ هذا ـ من نفسه ويجهر به اذا فوتح فيه.

فسأله رجل : ما أبطأك عن الإسلام وانت انت في عقلك ؟ .. فقال : كنا مع قوم لهم علينا تقدم ... ] (٢).

وأما الفروع :

فانه لا شك أن التقية اذا جازت في الاصول ـ التي هي عمود الدين ـ فلابد ان تجوز في الفروع ...

__________________

(١) القرطبي : الجامع لاحكام القرآن ج ١٠ ص ١٢٤.

والجصاص : احكام القرآن ج ٢ ص ٢٩٠.

(٢) عباس محمود العقاد : عمرو بن العاص. ص ١٩.

١٦٨

وقد اكثر علماء السنة في تعداد الموارد ـ من الفروع ـ التي تجوز فيها والتي لا تجوز وقد قسموها :

١ ـ للعبادات :

١ ـ في إفساد الصلاة ـ على خلاف في إجزاء الصلاة المكره عليها ..

٢ ـ الصوم .. على خلاف.

٣ ـ في إبدال التيمم مكان الوضوء ..

٤ ـ في الاتيان بما يفسد الحج.

وكل هذه الموارد اجازوا العمل بالتقية فيها ... الا انهم اختلفوا في الإجزاء وعدمه .... وبمعنى آخر هل أن العمل المأتي به الفاسد ... هل يكفي المكلف فلا يعيد ام لا ؟ ... (٣)

٢ ـ والمعاملات :

وقد توسعوا في البحث تحت هذا العنوان ... واكثروا من مصاديقه.

١ ـ التقية عند الإكراه على النكاح ـ اجراء العقد ـ.

٢ ـ التقية عند الإكراه على الطلاق ...

٣ ـ التقية عند الإكراه على البيع ...

٤ ـ التقية عند الإكراه على الإقرار .. (٤)

__________________

(٣) السيوطي : الاشياء والنظائر ص ٢٢٣ فما فوق.

والاكراه واثره في التصرفات ص ١٢٥ فما فوق

(٤) نفس المصادر السابقة ، ووهبة الزحيلي : نظرية الضرورة الشرعية ص ٩٩.

والقرطبي : الجامع لاحكام القرآن ج ١٠ ص ١٢١. فما فوق.

وعيسى شقره : الاكراه واثره في التصرفات ص ١٤٩. فما فوق.

١٦٩

٥ ـ التقية عند الإكراه على الحلف ـ اليمين ـ ويذكر لهذا المورد بالخصوص عدة شواهد .. ويتبين أنه اكثر الموارد إبتلاءاً واكثر من غيره في دوران التقية.

ف‍ [ الرخصة فيمن حلّفه سلطان ظالم على نفسه أو على أن يدله على رجل أو مال رجل ...

وذكر موسى بن معاوية أن ابا سعيد بن أشرس ـ صاحب مالك ـ أستحلفه السلطان ـ بتونس ـ على رجل اراد السلطان قتله أنه ما آواه ولا يعلم له موضعاً. قال : فحلف له ابن اشرس ... وابن اشرس يومئذ قد علم موضعه وآواه ... ] (٥). الى آخر القصة التي ستأتي ..

وكذلك ... حلف رجاء بن حيوة على مثل ذلك ـ كما سيأتي ... (٦)

وقد رأى الحسن البصري ان لا أثر لهذه اليمين ... لانها لدفع الضرر وبالتالي لا يحنث بمخالفتها ولا يكفر .. (٧)

وكذلك نقل في هذا المورد بالخصوص عن أنس بن مالك عند ما سُأل عن ذلك واجازه ... قال :

[ ولأن أحلف سبعين يميناً وأحنث أحب الي أن أدل على مسلم ] (٨)

وكأنه يرى ترتيب الآثار على هذه اليمين ..

__________________

(٥) القرطبي : الجامع لاحكام القرآن ج ١٠ ص ١٢٤.

(٦) نفس المصدر السابق.

(٧) نفس المصدر السابق ، وعيسى شقره الاكراه واثره في التصرفات ص ١٨٥ فما فوق.

(٨) نفس المصدر السابق.

١٧٠

وقد اختلفوا في الجملة في ترتيب الآثار على هذه المعاملات المكره فقال قوم ..

العقود في ذلك صحيحة ... إنما لا يُرتب عليها اثر ... كالعقد الفضولي ... فاذا رضي بعد ذلك بهذا العقد رتب عليه اثره ... (٩) وقال آخرون : يرتب عليها ، ولا يرى الاكراه مانعاً عن صحة العقد اساسا (١٠)

ومما يلحق بذلك الاستحلاف على عدم نصرة الرسول .. كما فُعل بحديفة ..

ف‍ [ قد ابتلى ببعض ذلك في زمن الرسول (ص) على ما روي أن المشركين اخذوه واستحلفوه على أن لا ينصر رسول الله (ص) في غزوة ، فلما تخلص منهم جاء الى رسول الله (ص) واخبره بذلك ... فقال عليه الصلاة والسلام : أوف لهم بعهدهم ونحن نستعين بالله عليهم ] (١١).

وقد طبق التقية في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ مسروق بن عكي الفقيه كما سيأتي قصته في الحاجة للتقية بين المسلمين ..

٣ ـ المأكل والمشرب :

قد اجمع علماء السنة على أن من اكره على الأكل المحرم ـ كأكل الميتة وشرب الخمر ... وغيره ... وجب عليه العمل

__________________

(٩) وهبة الزحيلي : نظرية الضرورة الشرعية ص ٩٨. وعيسى شقره : الاكراه واثره في التصرفات ص ١٤٩ فما فوق. والقرطبي : التفسير ج ١٠ ص ١٢١.

(١٠) المصدر السابق.

(١١) السرخسي المبسوط ج ٢٤ ص ٤٦.

١٧١

طبق التقية فيه ... وقد علل البعض : أن طريق حرمته السمع فترفعه الضرورة ... (١٢)

ومن اراد التوسع فليراجع بحوث الضرورة والإكراه ... في جميع كتب الفقه وكتب التفسير المتقدمة.

__________________

(١٢) الجصاص : احكام القرآن ج ٥ ص ١٦. ووهبة الزحيلي : نظرية الضرورة الشرعية ص ٩٠. وعيسى شقره : الاكراه : ص ١٩٠ فما فوق.

١٧٢

ـ ٦ ـ

شروط التقية

لقد اشترطوا ـ للتقية ـ شروطاً تختلف باختلاف الموارد ... وذلك تحت اطار البحث في شروط تحقق الاكراه الذي يوجب التقية ويوجد موضوعها ـ كما مر ... كثيراً.

وهي كالتالي :

١ ـ قدرة المكرِه على ما هَدّدَ به ... وذلك اما بولاية ـ كالسلطان ـ او تغلب ... او فرط هجوم.

٢ ـ عجز المكرَه عن دفع ما هُدد به بواسطة هرب أو استغاثة أو مقاومة ..

٣ ـ ظن المكرَه بانه إن امتنع مما اكره عليه وقع عليه الضرر المتوعد به ..

٤ ـ احتمال الضرر ـ عند المتوقع له ـ في غير الاكراه الفعلي ـ كما مر في بحث مقدار الضرر.

٥ ـ أن يكون الفعل موضوع ـ التقية ـ الاكراه ـ من المحضورات الشرعية.

٦ ـ اشترط البعض أن يكون الإكراه من السلطان فقط .. كابي حنيفة ..

اما اكراه غير السلطان فلا يوجب التقية .. بادعاء ان اكراه السلطان لا يمكن رفعه واكراه غيره يمكن رفعه .. فلا موضوع للاكراه مع اكراه غير السلطان.

١٧٣

وغيره من الفقهاء ـ بل الأكثر ـ لم يفرق بينهما .. كصاحبي ابي حنيفة ومالك.

٧ ـ اشترط البعض ان يكون الأكراه على غير المال .. وعمم آخرون .. لكون المال في رتبة النفس والعرض .. فالجميع يوجب التقية ..

٨ ـ ان لا يكون الفعل المكره عليه مساويا للضرر وموجبا لظلم الآدمي كالسرقة وغصب الأموال ... ومنه موارد الدماء كقتل الانسان فانه لا تجوز فيه التقية .. بالاجماع ... وقد اختلفوا عند الاقدام عليه ... من يتحمل الحد ـ المُكرِه او المكره. (١٣)

__________________

(١٣) يراجع لهذا البحث ما يلي :

١ ـ السيوطي : الاشباه والنظائر ص ٢٢٩ ، وص ٢٣٠.

٢ ـ القرطبي : الجامع لاحكام القرآن : ج ١٠ ص ١٢٠ وص ١٢٥.

٣ ـ السرخسي : المبسوط ج ٢٤ ص ٨٨ فما فوق.

٤ ـ عيسى شقره : الاكراه واثره في التصرفات ص ٢٤ الى ص ٦١.

٥ ـ الفخر الرازي : التفسير ج٨ ص١٤ وج ٢٠ ص ١٢٣ وص ١٢٤. وغيره من التفاسير.

١٧٤

ـ ٧ ـ

هل أن التقية نفاق ..؟

عندما نراجع مصادر علماء السنة حول موضوع التقية نجدهم يتطرقون لنفس الموضوع الذي تطرق له علماء الشيعة من التفريق بين التقية والنفاق ...

فقد نص كثير من العلماء على ذلك اشارة وتلويحاً ... وهذا يدل على عمق الفهم لهذه المسألة وتشعباتها من قبل علماء السنة ... كما يحدد لنا نقطة الاشتراك في فهم واقعها ..

واوضح عبارة على ذلك ما ذكره الامام السرخسي الحنفي ... حيث عرف التقية ... ثم أكد على نفي ذلك بقوله :

[ وقد كان بعض الناس يأبى ذلك ويقول أنه من النفاق ... والصحيح أن ذلك جائز لقوله تعالى : « إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً » ..

ثو يؤكد ان التقية عكس النفاق تماماً :

[ واجراء كلمة الشرك على اللسان تكرهاً مع طمأنينة القلب بالايمان من باب التقية ].

وعلى هذا فهو ليس بنفاق ..

ويتأكد هذا المعنى من تفريق حذيفة بينهما .. فانه عندما كان يستعمل التقية كان يقال له : انك تنافق .. فقال :

١٧٥

[ لا ولكني اشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كله ] (١٤).

فقد سمى هذا العمل ـ التقية ـ من الدين ، بحيث يحافظ على دينه الآخر به ..

ومعلوم أن النفاق من الكفر وليس من الدين ..

وبعبارة اوضح: [ إن التقية : اتخاذ ما يقي من شر العدو دون نفاق او باطل ] (١٥).

فهي مباينة تماما مع الباطل ... والنفاق ..

وهذا المعنى أكد عليه الرسول (ص) عندما نفى كفر عمار .. في قوله عندما قال المسلمون كفر عمار ... ان عماراً ملأ ايمانا من قرنه الى قدمه ..

ولو كانت نفاقاً ... لانعكس الأمر ... ولما صح مدحه من الرسول (ص) ..

__________________

(١٤) السرخسي : المبسوط ج ٢٤ ص ٤٥ ، ٤٦.

(١٥) الدكتور البُغا : تعليقة على البخاري ج ٦ ص ٢٥٤٥.

١٧٦

ـ ٨ ـ

متى شرعت التقية

لما كانت التقية لدفع الضرر المتوجه للانسان في الحالات الخاصة ـ الاستثنائية ـ ... التي يتعرض لها الإنسان المسلم ... كان لابد من تشريع يخفظهم في بدء الاسلام ، ذلك لان المسلمين كانوا يعيشون في اوساط الاعداء ... وكان لابد من زرع البذرة ورعايتها ... ليقوى عودها ... في بدء بزوعها ... وهذا لا بتحقق الا بالحفاظ ...

فكان لابد من وجود طريقة يصدرها المشرع للحفاظ على الافراد القليلة التي تعتنق الاسلام.

والطريق الوحيد ـ الذي يمكن معه الحفاظ على المسلمين القلائل في بلاد الشرك ـ هي طريقة التقية ، حيث انهم يمكنهم معايشة الكفار دون أن يعلموا بانهم اعتنقوا الاسلام ... فينشؤون محافظين على كيانهم حتى تقوى شوكتهم.

فلذلك ... قد شرعت التقية في بدء الإسلام ، وسايرة الظروف القاسية التي عاشها المسلمون.

وبهذا .. حاول الإسلام الحفاظ على وجود افراده حتى قويت شوكته بهم.

وهذه الصورة التشريعية ابتدأت مع الصحابي العظيم عمار بن ياسر مع أصحابه من المسلمين في مكة ... كما حدثتنا الآية النازلة في قصته.

١٧٧

بل نستطيع أن نقول أن هذا كان مرتكزا عند العقل الانساني يستعملها في مثل هذه الحالة. وربما يكون نص بعض العلماء على أن العقل يؤيد التقية اشارة الى هذا المعنى ـ وهذا ... كما سلف في قصة مؤمن آل فرعون ... وكذلك ما تحكيه الآية عن موسى. « فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ » ، وقد تقدم صور أخرى عن الصحابة.

فعلى هذا ... نستطيع ان نقول : أن بدء تشريع التقية وتطبيقها في بدء الاسلام.

بل ... مارسها المسلمون على نطاق البحث الفقهي. وحاولوا أن يأتوا يصورة منهجية لدراسة التقية في صورتها التشريعية ... بشروطها وفروعها ..

ويتضح ذلك .. من كلام ابن عباس في تفسير التقية ـ كما تقدم ـ.

وكذلك ما اتى به بعد ذلك الحسن البصري من شمولها للازمان.

وكثير من نصوص الصحابة والتابعين المتقدمة كتفريق حذيفة بينها وبين النفاق ، وكلام ابن مسعود.

هذه هي التقية في ظروف المسلمين مع الكفار ، والتي عرفنا تسليم وجوب العمل بالتقية في بعض الاحيان فيها.

١٧٨

ـ ٩ ـ

كيف نشأت الحاجة للتقية بين المسلمين ..؟

من خلال هذا البحث الموسع ـ والذي اوجزناه في الخلاصة ـ اتضح أساس تشريع التقية وعموم تشريعها ... وتبين من ذلك أنه لا ريب ولا شك لاحد في جعلها أساساً عند المسلمين.

والأهم من ذلك كله هو اثبات استمرارها الموضوعي العملي عند جميع المسلمين ، وانعكاس ذلك على الساحة العملية عند جميع الفرق الإسلامية.

إذ أن التقية كانت في الصورة العملية المسلمة أول بعثة الرسول (ص) ـ كما مر في بحث ـ متى شرعت التقية ـ.

وقد تطرأ عدة عوامل تجعل البعض يناقش في وجودها وجوازها العملي في الساحة الإسلامية فيما بينهم.

وذلك لعدة امور :

١ ـ أن الفاظ التشريع والوقائع ـ التي ساعدت على كشف تشريعها ـ كانت في اطار المشركين مع المسلمين.

وقد أجيب على هذا الأمر في مبحث عموم التقية لكل الازمان والأحوال.

٢ ـ لا يمكن أن يتصور أن للتقية موضوعاً بين المسلمين.

١٧٩

فمن يقول بها وهو في أحضان المسلمين ويعيش تحت حكمهم ... يُعد قوله من التهاتر.

وهذا الأمر ... هو ما نريد كشفه هنا .. لتشكل الإجابة عليه ... استمرارية السيرة العملية بالتقية بين المسلمين عامة ، وليس للشيعة فقط.

وان كنت أعلم أن هذا المبحث ليس هو من المباحث الفقهية الإستدلالية .. إلا أنه .. ليس المراد منه هو الإستدلال على تشريعها ، وإنما المراد اثبات وقوعها العملي والحاجة اليها بين المسلمين.

هذا .. ومن المفترض ـ في هذا البحث ـ أن يثير عدة جوانب من غير المستحسن إثارتها .. إلا أنه لاثبات الواقع لابد لنا من ذلك.

ولا أظن أن أحداً يشك في أن الاجابة على ذلك واضحة جلية.

إذ .. أن نشوء الحاجة للتقية بين المسلمين أنفسهم لا تختلف عن نشوء الحاجة لها ... اذا كانوا بين الكفار ..

وكما سبق ان ذكرنا .. أن التقية تخضع لعنوان الاضطرار والإكراه على الفعل مع الكفار ، وذلك عند نصوص العلماء على شمولها لكل الأحوال والأزمان.

وما يهمنا هنا أمران :

الأول : اثبات ان الحالة بين المسلمين تشبه الحالة بين الكفار والمسلمين.

الثاني : وقوع العمل بالتقية في الساحة الإسلامية وبين المسلمين أنفسهم.

١٨٠