التقيّة في إطارها الفقهي

علي الشملاوي

التقيّة في إطارها الفقهي

المؤلف:

علي الشملاوي


الموضوع : الفقه
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٠٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

الاكراه .. دفعاً للهلاك عن النفس على وجه التقية ] (٣١)

٣ ـ [ عذب المشركون عماراً حتى قال لهم كلاماً تقية ... فاشتد عليه ... ] (٣٢)

٤ ـ [ وأعلم ان نظير هذه الآية قوله تعالى : « إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ » ] (٣٣).

٥ ـ [ ويرد عليهم « منكري التقية » قوله تعالى : « مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ ... » ] (٣٤) وساق الآية.

٦ ـ [ واجراء كلمة الشرك على اللِّسان مكرهاً مع طمأنينة القلب بالإيمان من باب التقية. وقد بينا ان رسول الله (ص) رخص فيه لعمار بن ياسر ] (٣٥).

هذا .. وارجو من القاريء الكريم أن يعيد الكرة على النصوص المتقدمة ليتأكد مما ذكرنا .. وليعلم انه لا احد من العلماء يشك في دلالة هذه الآية على التقية. واتخاذها مصدراً تشريعياً لجوازها.

٣ ـ الآية الثالثة :

قوله تعالى : [ وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ ] (٣٦).

__________________

(٣١) زيدان : مجموعة بحوث فقهية ص ٢١٣.

(٣٢) العسقلاني : فتح الباري : ج ١٢ ص ٢٦٣.

(٣٣) الرازي ـ التفسير الكبير ج ٨ ص ١٣.

(٣٤) محمد رشيد رضا : تفسير المنار ج ٣ ، ص ٢٨١.

(٣٥) السرخسي : المبسوط ج ٢٤ ص ٤٥.

(٣٦) الآية : ٢٨ غافر.

١٢١

في الواقع أنني لم أكن لارغب في الإستدلال ـ بهذه الآية والآية اللاحقة ـ على تشريع التقية من طريق إخواننا السنة ، لأنني كنت اتصور أن اذهانهم بعيدة عن حملها على مورد التقية ، إلا أنني ـ بعد مراجعة التفاسير ـ وجدت ان بعض المفسرين قد استوحى منهما ـ كما هو واضح من الفاظهما ـ دلالتهما على التقية. فعزمت على إضافتهما لهذا المصدر التشريعي ـ الأول ـ ، وحاولت الإختصار فيهما.

١ ـ القرطبي :

لقد أطنب في البحث حول هذه الآية واوضحها في ضمن أربع مسائل.

الأولى: في اسم الرجل المؤمن من آل فرعون.

الثانية : في بيان أوجه اعرابها ووجوهها البيانية ، وارجاع فقرات الآية بعضها الى بعض.

[ الثالثة : قوله تعالى « يَكْتُمُ إِيمَانَهُ » ... قال القاضي أبو بكر العربي :

ظن بعضهم أن المكلف اذا كتم إيمانه ولم يتلفظ بلسانه لا يكون مؤمناً باعتقاده ..

وقد قال مالك : إن الرجل اذا نوى بقلبه طلاق زوجته ... أنه يلزمه كما يكون مؤمناً بقلبه وكافراً بقلبه ..

فجعل مدار الإيمان على القلب ، وأنه كذلك ، لكنه ليس على الإطلاق وقد بيناه في اصول الفقه بما لبابه ..

أن المكلف اذا نوى الكفر بقلبه كان كافراً وإن تلفظ بلسانه ، وأما إذا نوى الإيمان بقلبه فلا يكون مؤمناً بحال حتى

١٢٢

يتلفظ بلسانه ولا يمنعه التقية والخوف من أن يتلفظ بلسانه فيما بينه وبين الله ، إنما تمنعه التقية من أن يسمعه غيره ، وليس من شرط الايمان أن يسمعه الغير في صحته من التكليف ، وانما يشترط سماع الغير له ليكف عن نفسه وماله.

الرابعة : روي البخاري ومسلم عن عروة بن الزبير قال : قلت بينا رسول الله (ص) بفناء الكعبة اذ اقبل عقبة بن أبي معيط فاخذ بمنكب رسول الله (ص) ، ولوى ثوبه في عنقه فخنقه به خنقاً شديداً ، فأقبل ابو بكر فاخذ بمنكبه ودفع عن رسول الله (ص). وقال :

أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم.

وفي لفظ الترمذي : الى أن يقول ... فقال علي : والله ليوم أبي بكر خير من مؤمن آل فرعون. إن ذلك رجل كتم ايمانه فأثنى الله عليه في كتابه ، وهذا ابو بكر اظهر ايمانه وبذل ماله دونه لله عز وجل ..

ـ ويعلق القرطبي ـ :

قلت : قول علي (ع) أن ذلك رجل كتم إيمانه ... يريد في أول أمره. بخلاف الصديق فإنه أظهر إيمانه ولم يكتمه ، وإلا فالقرآن يصرح بأن مؤمن آل فرعون أظهر إيمانه لما ارادوا قتل موسى على ما يأتي بيانه ... ] (٣٧).

٢ ـ ابن كثير الدمشقي :

[ وقد كان هذا الرجل يكتم إيمانه عن قومه ـ القبط ـ فلم

__________________

(٣٧) الجامع لاحكام القرآن ـ له : ج ١٥ ص ٢٠٠ ، ٢٠١.

١٢٣

يظهر إلا هذا اليوم حين قال فرعون : « ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى » فاخذت الرجل غضبة الله عز وجل .. ].

ثم روى ما ذكره القرطبي من قصة أبي بكر مع الرسول (ص) (٣٨).

٣ ـ الإمام الشوكاني :

ذكر الخلاف في اسم الرجل ، وهل هو من آل فرعون ام أنه يكتم إيمانه عن آل فرعون ... وكان من القبط.

قال : [ ( مؤمن ) صفة لرجل ، و ( من آل فرعون ) صفة أخرى ، و ( يكتم إيمانه ) صفة ثالثة ] ..

وبعد بيان بعض الفقرات المشتملة عليها الآية ... ذكر الواقعة التي سبقت عن البخاري ... (٣٩)

٤ ـ الآية الرابعة :

[ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا * إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ] (٤٠)

وهذه كسابقتها لم ينص على دلالالتها ـ على ما نحن فيه ـ الا القليل ، وإن كان الاستدلال يظهر من سياق الكلام وتبادر الآية.

ونستطيع أن نوصل هذا المعنى ببعض النصوص من المفسرين ...

__________________

(٣٨) تفسير القرآن العظيم ـ له : ج ٤ ص ٨١ ، ٨٢.

(٣٩) فتح القدير. له : ج ٤ ص ٤٩٠.

(٤٠) الآية : ١٩ ، ٢٠ الكهف.

١٢٤

١ ـ القرطبي :

« وَلْيَتَلَطَّفْ » أي في دخول المدينة وشراء الطعام ، « وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا » أي لا يخبرن ، وقيل : إن ظهر عليه فلا يوقعن إخوانه فيما وقع فيه ، « إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ » قال الزجاج : معناه بالحجارة ، وهو أخبث القتل ، وقيل : يرموكم بالسب والشتم ، والاول اصح لانه كان عازماً على قتلهم ـ كما تقدم في قصصهم .... (٤١)

وبعد ذكر الوكالة التي يتصور المفسر ان الآية تشعر بها ، وانها وقعت في الجاهلية يعقب في ضمن المسألة السادسة :

[ في هذه الآية نكتة بديعة .. وهي : انما كانت ـ الوكالة ـ مع التقية خوفاً أن يشعر بهم أحد لما كانوا عليه من الخوف على أنفسهم ، وجواز توكيل ذوي العذر .. متفق عليه ، فاما من لا عذر له فالجمهور على جوازها ...

وقال ابو حنيفة وسُحنون : لا يجوز.

قال ابن العربي : وكان سُحنون تلقفه من اسد بن الفرات فحكم به أيام قضائه ، ولعله كان يفعل ذلك باهل الظلم والجبروت انصافاً منهم واذلالاً لهم. وهو الحق ، فان الوكالة معونة ولا تكون لاهل الباطل ] (٤٢).

٢ ـ ابن كثير :

[ ( وَلْيَتَلَطَّفْ ) أي في خروجه وذهابه وشرائه وإيابه ، يقولون : وليختف كل ما يقدر عليه ، « وَلا يُشْعِرَنَّ » اي ولا

__________________

(٤١) الجامع لاحكام القرآن ـ له : ج ١٠ ص ٢٤٤.

(٤٢) المصدر السابق ص ٢٤٥.

١٢٥

يعلمن « بِكُمْ أَحَدًا إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ » أي ان يعلموا بمكانكم يرجموكم ، « أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ » يعنون اصحاب دقيانوس يخافون منهم أن يطلعوا على مكانكم ، فلا يزالون يعذبوكم بانواع العذاب الى أن يعيدوكم في ملتهم التي هم عليها او يموتوا ... ، وان توافقوهم على العودة في الدين فلا فلاح لكم في الدنيا ولا في الآخرة ... ولهذا قال ( وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ) ] (٤٣).

٣ ـ الإمام الشوكاني :

[ « وَلْيَتَلَطَّفْ » أي يدقق النظر حتى لا يُعرف أو لا يغبن.

والأول أولى ، ويؤيده .. « وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا » أي لا يفعلن ما يؤدي الى الشعور ويتسبب له ، فهذا النهي يتضمن التأكيد للأمر بالتلطف ، ثم علل ما سبق من الأمر والنهي فقال : « إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ » اي يطلعوا عليكم ويعلموا بمكانكم ـ يعني أهل المدينة « يَرْجُمُوكُمْ » يقتلوكم بالرجم ، وهذه القتلة هي أخبث قتلة ، وكأن ذلك كان عادة لهم ، ولهذا خصه من بين أنواع ما يقع به القتل .. ، « أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ » أي يردوكم الى ملتهم التي كنتم عليها قبل أن يهديكم الله .. ] (٤٤).

٢ ـ السنة النبوية وسنة الصحابة والتابعين :

١ ـ الحديث المشهور الذي اطبق المفسرون على روايته

__________________

(٤٣) تفسير القرآن العظيم. له : ج ٣ ص ٨٦.

(٤٤) فتح القدير ـ له : ج ٣ ص ٢٧٦.

١٢٦

وإن اختلفت ألفاظه ، وذلك في سبب نزول الآية ـ ١٠٦ النحل ـ ، وذلك بعدة طرق ، وهذه بعضها :

أ ـ عن ابن عباس .. فيه :

قال : [ لما أراد رسول الله (ص) أن يهاجر الى المدينة .. قال لأصحابه : تفرقوا فمن كانت له قوة فليتأخر الى آخر الليل ... الى أن يقول : فاصبح بلال المؤذن وخباب وعمار وجارية من قريش كانت أسلمت ، فأخذهم المشركون وأبو جهل فعرضوا على بلال أن يكفر فأبى ... وأما عمار فقال لهم كلمة أعجبتهم تقية ، ... ثم خلوا عن بلال وخباب وعمار فلحقوا برسول الله (ص) فاخبروه بالذي كان من امرهم واشتد على عمار الذي كان تكلم به ، فقال رسول الله (ص) : كيف كان قلبك حين قلت ... أكان منشرحاً بالذي قلت ام لا ..؟ ، قال : لا ، فانزل الله : الآية (٤٥) ... ] الخ الحديث ..

ب ـ [ واخرج عبد الرزاق وأبن سعد وإبن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه ، وابن مردويه والبيهقي وابن عساكر .. من طريق ابي عبيدة بن محمد بن عمار عن أبيه ، قال :

أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سب النبي (ص) وذكر آلهتهم فتركوه ، فلما أتى النبي (ص) قال : ما وراءك ؟ ، قال : ما تُركت حتى نلتُ منك وذكرت

__________________

(٤٥) الشوكاني : فتح القدير : ج ٣ ص ١٩٨ ، وفتح الباري : ج ١٢ ص ٢٦٢.

١٢٧

آلهتهم بخير. فقال : كيف تجد قلبك ؟. قال مطمئن بالإيمان ، فقال : فإن عادوا فعد ... فنزلت الآية ... ، قال الراوي ـ ذلك عمار بن ياسر ] (٤٦).

ج ـ [ عن مجاهد عن ابن عباس قال : عذب المشركون عماراً حتى قال لهم كلاماً تقية .. فاشتد عليه .. الحديث ] (٤٧). وبهذا عدة روايات ، ويراجع جميع المصادر التفسيرية التي نقلنا عنها تفسير الآية.

٢ ـ الحديث المشهور بين الخاص والعام ، والذي استغني بشهرته عن سنده والمسمى بحديث الرفع.

[ عن النبي (ص) قال : رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] (٤٨) ...

٣ ـ ما رواه البخاري عن قتادة عن الحسن البصري قال : [ التقية الى يوم القيامة ] (٤٩).

وبرواية أخرى :

[ وصله حميد وابن ابي شيبة من رواية عوف الأعرابي عن الحسن البصري قال :

التقية جائزة للمؤمن الى يوم القيامة .. إلا أنه كان لا يجعل في القتل تقيه ] (٥٠).

ولفظ .. عبد بن حميد « الا في قتل النفس التي حرم

__________________

(٤٦) المصادر السابقة.

(٤٧) العسقلاني : فتح الباري ج ١٢ ص ٢٦٣.

(٤٨) الجصاص : احكام القرآن : ج ٥ ص ١٤.

(٤٩) صحيح البخاري : ج ٦ ص ٢٥٣٥. كتاب الاكراه. تحقيق الدكتور البغا.

(٥٠) العسقلاني : فتح الباري ج ١٢ ص ٢٦٤.

١٢٨

الله » بمعنى لا يعذر من اكره على قتل غيره ، ويكون يؤثر نفسه على غيره.

وبرواية القرطبي :

[ وقال الحسن : التقية جائزة للانسان الى يوم القيامة ولا تقية في القتل ] (٥١).

٤ ـ عن ابن مسعود أنه قال : ما كلام يدرأ عني سوطين إلا كنت متكلما به ] (٥٢).

٥ ـ [ عن ابن عباس قال : هو ان يتكلم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان ولا يقتل ولا يأتي مأثماً ] (٥٢).

٦ ـ في كتاب احكام القرآن : [ عن قتادة في قوله تعالى : ( لاَّ يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ ) قال : لا يحل للمؤمن ان يتخذ الكافر ولياً في دينه. وقوله ( إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) الا ان تكون بينه وبينه قرابة فيصله لذلك. ـ ثم يعقب ـ ... فجعل التقية صلة لقرابة الكافر ] (٥٤).

٧ ـ الرواية المشهورة في قصة مسيلمة الكذاب مع الصحابيين حيث قال الرسول (ص) بعد وصول خبرهما اليه : أما هذا المقتول فمضى على صدقه ويقينه واخذ بفضيلة فهنيئاً له ، واما الآخر فقبل رخصة الله .. فلا تبعة عليه.

__________________

(٥١) الجامع لاحكام القرآن. له : ج ٤ ص ٣٨.

(٥٢) المصدر السابق ج ١٠ ص ١٢٥.

(٥٣) القرطبي : الجامع لاحكام القرآن : ج ٤ ص ٣٨.

(٥٤) الجصاص : احكام القرآن ج ٢ ص ٢٩٠.

١٢٩

ويعلق عليها الجصاص كما علق على سابقتها بقوله : وفي هذا دليل على أن اعطاء التقية رخصة وان الأفضل ترك اظهارها. (٥٥)

وفي اعتقادي أن هذا القدر كاف في الإستدلال بالسنة النبوية وسنة الصحابة والتابعين ـ كما هو طرق الاستدلال بهذا الدليل عند إخواننا السنة ـ.

وهناك روايات كثيرة مورده الإكراه ـ بحسب لفظها ـ والذي نحن نبحث فيه ـ بما أنه محصل لموضوع التقية ـ كما سيتضح ذلك في باب ـ القواعد الثانوية ـ او عوارض الأهلية والترخيص.

ولا يبقى في هذا المبحث الا التنبيه على رفع الشك في الاستدلال بهذه الروايات ـ على تشريع التقية ..

ولا اظن أنني احتاج لسرد بعض الأدلة ـ أو الوجوه المنبهة ولو قليلا. ذلك لأنني تعمدت أن انقل عن المواضع التي استدل بها على ذلك. او اشتملت على لفظ التقية في منطوقها ـ كما في الروايات الاولى ... في قصة عمار ومن معه ..

بالاضافة الى ان مصادر النقل ـ كما هو الملاحظ ـ كانت من المصادر التفسيرية ـ وهي تستدل بهذه الروايات على تفسير الآية بهذا المورد ـ كما تقدم في آية الإكراه والتقية. وهذا أقوى دليل على التدليل على ما رمينا اليه.

٣ ـ الإجماع :

اذا عُدت التقية من الضرورات الواقعة طبق قواعد

__________________

(٥٥) المصدر السابق.

١٣٠

خاصة للشريعة فهي ـ حسب اعتباري ـ تدخل في الضروريات الإسلامية ، ولا يحتاج الاستدلال على جوازها أو وجوبها بالإجماع ، اذ أن الاجماع ناتج عن التواتر المسلم او القواعد العامة. وهو حاصل هنا ..

إلا أن الإجماع هنا ربما يطلب ... ليتبين الأتفاق على كون الموضوع الفلاني هو مما ينطبق عليه الكلي ـ وهو هنا ـ تطبيق التقية على الضرورة وجعلها احد مصاديقها ...

وبعد ذلك .. بعد تنقيح .. وتحصيل الإجماع ... يتبين أنه سيرة لجميع المسلمين عامة ... وقد يبحث بعد ذلك فيه بعنوان السيرة العملية التي ربما حصل الاتفاق على حجيتها ـ كما تقدم في بحث الإجماع عند الشيعة ـ.

وبأي شكل كان فهذه شذرات من كلمات العلماء الناصة على حصول الاجماع على ذلك ... والتي يتضح من خلالها الوجه التشريعي الأكمل لهذه المسألة بانضمام الإجماع الى المصادر التشريعية الأخرى.

١ ـ [ أجمع اهل العلم على أن من اكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل أنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالايمان ] (٥٦).

٢ ـ [ وانعقد إجماع العلماء على جواز اظهار الكفر لمن اكره عليه ... ابقاءا لنفسه بشرط اطمئنان القلب بالايمان.

مستنداً ـ هذا الإجماع ـ على هذه الآية الكريمة ـ ١٠٦ ـ

__________________

(٥٦) القرطبي : الجامع لاحكام القرآن ج ١٠ ص ١٨٠.

١٣١

النجل ـ ، ومستنداً كذلك الى تقرير الرسول لعمّار على تلفظه بالكفر مكرها مع عدم الحكم عليه بالردة ] (٥٧).

٣ ـ [ قال ابن بطال ـ تبعاً لابن المنذر ـ : أجمعوا على ان من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل فكفر وقلبه مطمئن بالايمان انه لا يحكم عليه بالكفر ] (٥٨).

٤ ـ [ ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له ان يوالي ابقاءا لمهجته ] (٥٩).

٥ ـ [ فاذا أخذ المضطر بالرخصة ونطق بالكفر فلا إثم عليه بإجماع الفقهاء لان الآية صريحة بذلك ، وجاءت السنة النبوية وأكدت ما نطقت به الآية الكريمة ] (٦٠).

٤ ـ عوارض الأهلية والترخيص :

لا أظن أن أحداً ـ من المسلمين ـ بغض النظر عن علمائهم ـ يشك في وجود عوامل ثانوية تبدل الحكم الأولي المتوجه للانسان ـ في الحالات الاستثنائية ـ ، الا ان العلماء ربما اختلفوا في تسميتها ، لكن مفاد الجميع هو : أن عنوان الضرر العام موجب للانتقال الى الحكم الآخر ـ الذي أوجده المشرع الإسلامي. وإن اسميناه سابقا ب‍ ـ القواعد الثانوية ـ وعلماء السنة أسموه بعنوان آخر ، إلا ان السبب ـ كما قلنا هو العنوان الضرري وقاعدة رفع الحرج.

__________________

(٥٧) عيسى شقره : الاكراه واثره في التصرفات ص ١١٤.

(٥٨) العسقلاني : فتح الباري ج ١٢ ص ٢٦٤.

(٥٩) ابن كثير تفسير القرآن العظيم ج ٢ ص ٦٤٨.

(٦٠) زيدان : مجموعة بحوث فقهية ص ٢٠٨.

١٣٢

فعندما نراجع كلمات فقهاء اهل السنة والجماعة في عنوان هذه القواعد نجده لا يختلف عن مفاد ـ القواعد الثانوية عند الشيعة ـ وان افرد لها علماء السنة عنواناً خاصاً مفاده شمول القواعد للضرر وغيره ، وعلماء الشيعة جعلوا موضوع القواعد الثانوية ـ موارد الضرر وغيره ـ من لواحقه ـ ، لان لارتفاع التكليف ـ في غير باب الضرر ـ عناوين أخرى تنطوي تحتها الحالة الخاصة.

والعنوان الذي جعله علماء السنة والجماعة لرفع الحكم الاول والانتقال للحكم الاستثنائي .. الثانوي ـ هو :

عوارض الاهلية ....

وعرفوها بأنها :

[ ما يطرأ على الإنسان مما يؤثر في أهليته ـ بالازالة او النقصان ـ للأهلية ـ ومما يؤثر ـ في الأحكام الشرعية المترتبة عليها ـ الأهلية ـ بالتغيير او النقص ] (٦١).

[ وسميت هذه الأمور ـ التي تؤثر في تغيير الاحكام ... عوارض : لمنعها الأحكام ـ التي تتعلق باهلية الوجوب ، واهلية الاداء ـ عن الثبوت ] (٦٢).

وقد رُبط هذا الأصل بأصل آخر وهو : الرخصة في الحكم ، والترخيص بعد ثبوته.

وعرفت الرخصة التي مفادها ـ الترخيص ـ كما ذكرنا ـ بأنها :

__________________

(٦١) عيسى شقره : الاكراه واثره في التصرفات ص ٢٧.

(٦٢) المصدر السابق ص ٢٦. عن كشف الاسرار ج ٤ ص ٢٦٢.

١٣٣

[ ما شرع لعذر شاق استثناءا من اصل كلي يقتضي المنع مع الاقتصار على مواضع الحاجة ] (٦٣).

وأدلة عوارض الأهلية والرخصة متحدة ، وهي نفس الآيات والروايات التي اعتمدنا عليها في مستند القواعد ـ في بحث القواعد الثانوية ...

ف‍ [ لقد قامت احكام الشريعة على اصل عام هو اصل رفع الحرج ـ عن المكلفين ، تشهد بذلك عمومات الكتاب والسنة وجميع احكام الشريعة ، فمن نصوص الكتاب قوله تعالى :

« وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ » (٦٤).

وقوله تعالى :

« يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ » (٦٥).

ومن السنة قوله (ص) :

« إن هذا الدين يسر ، ولن يشاد الدين احد إلا غلبه »

وقوله (ص) : « بعثت بالحنيفة السمحة » (٦٦)

وجاء تشريع الرخص موافقا لهذا الأصل ومؤكدا له ، فان الغرض الذي من اجله شرعت : هو رفع الحرج عن المكلف المعذور ، وذلك بتغيير الحكم من الحرمة الى الإباحة لما في بقاء الحكم بالحرمة مع قيام العذر من مشقة وعسر ] (٦٧).

__________________

(٦٣) المصدر السابق ص ٢٩ عن موافقات الشاطبي ج ١ ص ٢٠٥.

(٦٤) الآية ٧٨ الحج.

(٦٥) الآية ١٨٥ البقرة.

(٦٦) البحاري ج ١ ، ص ٢٣ وعيسى شقره الاكراه ص ٣٠.

(٦٧) عيسى شقره ـ الاكراه ص ٣٠.

١٣٤

وهذه القواعد الثانوية أو الموجبة للعوارض لرفع الاهلية والترخيص ... تعم الأمثلة المتقدمة في هذا المضمار في البحث الموسع السابق ـ ، فان هذه القواعد ـ قواعد العسر والحرج ـ ترفع ـ الحكم ـ وترخص في الانتقال الى الاحكام الثانوية ..

سواء كانت موجبة للضرر بدون اكراه كما في التيمم واكل الميتة (٦٨) .... أو كانت في مورد توجه الاكراه والاضرار من الغير ... إذ

[ لا شك أن حالتي الضرورة والاكراه تعتبران من الاعذار التي تكون سببا للتخفيف عن المضطر او المكره دفعا للمشقة البالغة عنهما.

ـ فحالة الضرورة ـ [ هي : بلوغ الانسان حدا إن لم يتناول الممنوع هلك او قارب ، أو ـ هي ـ الحالة الملجئة لتناول الممنوع شرعا ] (٦٩).

ـ وحالة الاكراه هي :

[ اسم لِفعل يفعله المرء بغيره فينتفي به رضاه او يفسد به اختياره ] (٧٠).

[ فإن المكره المهدد بإلحاق الضرر به .. بقتله او بقطع عضو من اعضائه أو بحبسه مدة طويلة أو بضربه ضربا شديدا او بإتلاف ماله ... ، هذا المكره وهو تحت طائلة الخوف من أن يوقع به المكرِه ما هدد به إن لم يمتثل أمره وهو مع ذلك لا

__________________

(٦٨) المصدر السابق ص ٣٢.

(٦٩) عبد الكريم زيدان : مجموعة بحوث فقيهة ص ٢٤٦.

(٧٠) السرخسي : المبسوط ج ٢٤ ص ٣٨.

١٣٥

يجد فسحة للتخلص وإنقاذ نفسه إلا بان يرتكب المحرم المأمور بارتكابه فيشق عليه الصبر واحتمال الاذى ... فلا شك ان من هذه حالة يعتبر من اصحاب الاعذار الشديدة الشاقة التي تكون سبباً للترخيص اله او التخفيف عنه ، ولقد اعتبر الشارع الاكراه سبباً للرخصة في قوله : « إلا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان » ... وجاء في السنة قوله : « رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه .. ».

الا أن الفرق بين الضرورة والاكراه أنه : تعتبر حالة الضرورة أعم من حالة الاكراه.

فالاكراه صورة من صور الضرورة.

إن الاضطرار الى فعل المحرم نتيجة للخوف أو الهلاك أو وقوع الضرر الشديد بالمضطر قد يكون يتهديد الغير للمضطر ـ كما في الإكراه ، وقد يكون ناتجا عن ظرف طارىء قهري ، او عارض شديد .. كالمخمصة وشدة الحاجة والعطش .. وهذا اعم من تهديد الغير ..

إلا ان تهديد الغير بايقاع الضرر لا يعتبر ضرورة إلا إذا بلغ الضرر حد الهلاك أو قطع الأطراف او تفويت منافع الأعضاء ، إذ الضرر اذا لم يصل الى هذا الحد لا يكون ضرورة ملجئة ـ كما في حالة المخمصة والعطش الشديدين ـ ، ولذلك ينفرد الإكراه عن الضرورة في صور كالضرب الشديد الذي لا يفضي الى الهلاك أو إهانة ذوي المروءة ممن تعتبر الإهانة في حقهم ضرراً بالغاً. فهي صور اعتبرت في الإكراه إلا أنها لم

١٣٦

تعتبر في الضرورة ] (٧١).

وهذه الأمثلة ـ المتأخرة ـ كما هو واضح ـ مما نحن فيه ـ كما أسلفنا في مثل هذا البحث.

والخلاصة : أن هذه القواعد اباحت للانسان الانتقال عن الحكم المشرع ابتداءا ـ كما هو مفاد العزيمة (٧٢) ـ الى الحكم الثانوي ـ الاستثنائي ـ المرخص فيه ، وذلك بعنوان ما ارتكزت عليه وهو حصول الضرر وطروء الرافع للأهلية السابقة.

وبعد هذا البيان الموسع ـ والذي أطلنا فيه مع كونه اوضح من أن يخفى ـ خصوصا بعد البيان السابق ـ في نفس المبحث ـ وذلك إمعاناً لإظهار صور الاتفاق واتحاد الإستدلال بهذه القواعد ..

بعد هذا كله نحاول أن ننقل كلمات الفقهاء والبحاث من طرف اهل السنة والجماعة ـ التي توضح خضوع هذا الفرع الفقهي لقواعد الضرر ـ الثانوية ـ وقواعد الرخصة ـ الاستثنائية ـ.

والعبارات التي اطلعت عليها كانت أوضح من كلمات الشيعة في ذلك ..

وهذه جملة منها :

١ ـ [ التقية جائزة لصون النفس ـ وهل هي جائزة لصون المال ؟ .. يحتمل أن يحكم فيها بالجواز ].

٢ ـ [ وهذا القول أولى ـ وهو عموم التقية لجميع

__________________

(٧١) عيسى شقره : الإكراه واثره في التصرفات ص ٣٥ ، ٣٦.

(٧٢) المصدر الساق ص ٣١. عن اصول السرخسي ج ١ ص ١١٧.

١٣٧

الأزمان ـ لان رفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان ] (٧٣).

٣ ـ [ وهي ـ التقية ـ من الرخص لأجل الضرورات العارضة. لا من أصول الدين المتبعة دائما ] (٧٤).

٤ ـ [ وكل ذلك من باب الرخص لأجل الضرورات العارضة ـ لا من اصول الدين المتبعة دائما ].

٥ ـ [ أنها مشروعة لاجل المحافظة على النفس والعرض والمال ] (٧٥).

٦ ـ [ التقية عند الخوف على النفس أو المال أو التعرض للأذى الشديد ] (٧٦).

٧ ـ [ والتقية لا تحل إلا مع خوف التقل او القطع او الايذاء العظيم ] (٧٧).

٨ ـ [ لا بأس باستعمال التقية ، وأنه يرخص له في ترك بعض ما هو فرض عند خوف التلف على نفسه ] (٧٨).

٩ ـ [ يعني أن تخافوا تلف النفس أو بعض الأعضاء فتتقوهم بإظهار الوالاة من غير اعتقاد ] (٧٩).

١٠ ـ [ وقيد الفقهاء جواز إظهار الكفر بالاكراه

__________________

(٧٣) الفخر الرازي : التفسير ج ٨ ص ١٤.

(٧٤) المراغي : التفسير : ج ١ ص ١٣٧.

(٧٥) محمد رشيد رضا : تفسير المنار ج ٣ ص ٢٨٠.

(٧٦) الصابوني : تفسير آيات الاحكام ج ١ ص ٤٠٤.

(٧٧) القرطبي : الجامع لاحكام القرآن ج ٤ ص ٣٨.

(٧٨) السرخسي : المبسوط ج ٢٤. ص ٤٧.

(٧٩) الجصاص : احكام القرآن ج ٢ ص ٩.

١٣٨

عليه ... قيدوه بحالة الضرورة بأن يضطر المكره الى إظهار الكفر لوقوعه تحت طائلة الخوف مما يتهدد حياته بالقتل او أحد أعضائه بالتلف والقطع ] (٨٠).

__________________

(٨٠) عيسى شقره : الاكراه .. ص ١١٨.

١٣٩
١٤٠