في مقارنة الأديان

الدكتور صائب عبد الحميد

في مقارنة الأديان

المؤلف:

الدكتور صائب عبد الحميد


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-11-0
الصفحات: ١٤٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

١

٢
٣
٤

كلمة المركز

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين ، وبعد ...

يعني علم مقارنة الأديان بدراسة نقاط الاتفاق والافتراق ، التشابه والاختلاف ، بين مضامين الأديان السماوية وتعاليمها ،ودراسة الواقع التاريخي والاجتماعي كل منها وما قد يكون أضفاه عليها من خصوصيات ، ربما يكون من أبرزها لغة الديانة وأسلوبها في الخطاب ومدى اتساع وشمول أحكامها التشريعية.

وليس من شك في أن الديانات السماوية تلتقي في أحكامها وجوهرها في وحدانية مصدرها الاصل ، فهي رسالات إلهية ، موحاة بواسطة الوحي ، إلى نبي اختاره الله تعالى في زمانه وبيئته ، وقد يكون مبعوثاً إلى الناس عامّة منذ زمنه وحتى مجيء رسالة عامة لاحقة ، وبهذا تمتاز رسالة الاسلام بكونها خامتة الرسالات السماوية إلى البشر.

وكما يمكن أن تأتي الدراسلات المقارنة شمالة لكل ما تضمنته الأديان من أحكام تشريعية وآداب إجتماعية ، فانها يمكن أن تكون مقصوة على الخطوط العريضة والمعالم الاساسية التي ميزت كل واحدة من الديانات من خلال الرجوع إلى الكتاب الأصلي لكل منها. وتمتاز الديانات السماوية الثلاث الكبرى ـ الاسلام والمسيحية واليهودية ـ باحتفاظها بالكتب الاصلية التي تدين بها ، وتدعي نسبتها إلى الوحي الإلهي ، وهي القرآن والإنجيل والتوراة. فإذا كانت هناك فوارق جوهرية ظاهرة في بعض ما تضمنته هذه الكتب من المعالم الاساسية للديانة ، أو القضايا التي تدعم انتسابها إلى الوحي ، فإن المقارنة العامة ستختص بهذه النواحي ، دون الدخول

٥

في التفاصيل التشريعية ، والظروف المحيطة بالتشريعات ، المتشابهة أو المختلفة ، في كل ديانة.

وعلى هذا الصعيد فإن أوجه المقارنة بين الديانات الكبرى الثلاث متوافرة بوضوح ، الامر الذي يقود البحث إلى ما هو جوهري في ردّ أو تأييد دعوى الانتساب التام إلى الوحي ، من بحث في تواريخ تدوين هذه الكتب ، وملابساتها ، والبحث في مضامينها التي تؤيد أو تنفي إمكان نسبتها إلى الوحي ، كالبحث في مطابقة هذه المضامين للمبادىء الاساسية في الأديان والتي على رأسها « التوحيد » ، أو مطابقتها للوقائع الثابتة تاريخياً ، أو مطابقتها للمعطيات العلمية الاكيدة ، فهذه المعايير الثلاثة هي موازين حقيقية ، تؤدي إلى نتائج حاسمة في معرفة إمكان أو عدم إمكان نسبة المعلومات المتعلقة بها إلى الوحي ، بل هي موازين حاسمة في تحقيق ثمرة أكثر أهمية ، وهي القطع بصدور هذه المعلومات عن الوحي وحده وعدم إمكان صدوره من غيره.

فما خالف أصل التوحيد أو خالف الصفات الخاصة بالذات الالهية ، لا يمكن صدوره عن الله تعالى ، الإله الواحد ، الخالق ، الذي وصف نفسه ـ جل جلاله ـ بتلك الصفات.

وما جاء مناقضاً لأوليات الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها نبيّ مختار من الله تعالى لهداية البشر وتزكيتهم ، هو الآخر لا يمكن نسبته إلى الوحي ، ولا يمكن أن يكون من بلاغات الانبياء لأقوامهم. وكذلك فإن المعلومات التي لاتنسجهم مع الثوابت التاريخية لا يمكن أن تكون صادقة في انتسابها إلى الوحي الصادر عن إله

٦

عالم ، محيط ، يدعو عباده إلى طاعته والاذعان لقدرته.

ومن ناحية أخرى فإن أنواعاً خاصة من العلوم والمعارف التي لم يتيسر لأهل زمان الوحي والنبوة المعرفة بها بشكل من الأشكال ، فإن ورودها بوضوح في نصوص هذا الكتاب أو ذاك سيدعو إلى الجزم بأنها معارف إلهية موحاة ، إذا لا يستطيع نبي أو حكيم أو عبقري أن يأتي بها على هذه القدر من الوضوح في حدود الامكانات البشرية المتاحة. فهي بلا ريب من الشواهد الأكيدة على صدق دعوى النبوة وصدق انتساب نصوصها إلى الوحي.

ولعل أهم المصادر الأساسية التي تعود إليها مثل هذه الفروقات في الكتب الثلاث هو تاريخ تدوين هذه الكتب ، وطبيعة التدوين. فإذا كان من اليسير جداً إثبات تدوين القرآن الكريم في حياة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وبإشرافه المستمر ، وتوفر الشروط الكافية لحفظ نصوصه ومفرداته ، فإن لهذا البحث مع التوراة والإنجيل مساراً آخر ، تثبت فيه الدراسات المختصة ملابسات كثيرة ، كفيلة بتفسير أوجه الاختلاف والاضطراب في بعض المعلومات الواردة فيها ، والتي لاتستقيم مع بعض المعايير الاساسية التي ينبغي أن تصدق كل ما يتضمنه كتاب ينتسب إلى الوحي ، من معارف ومقولات وأحكام.

وفي هذه الدراسة المقتضبة ، والمستفادة في معضمها من دراسات متخصصة أشار إليها الباحث ، ستكون هذه المعايير الأساسية هي محور البحث في خلاصة المعالم الأساسية للديانات التي تضمنتها الكتب الثلاثة ؛ التوراة ، والإنجيل ، والقرآن.

مع الالفات إلى أن هذا البحث يأتي في دائرة الدفاع عن الاسلام والقرآن وخاتم

٧

الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله إزاء دعوات قديمة ، متجددة ، صنعتها الروح العنصرية العدوانية ، وصاغتها في أحكام مجحفة ، أنشأت عليها أجيالاً ، وأسست عليها ثقافات ، لعبت دورها في الدوان الغربي والصهيوني الدائم ضد الاسلام والمسلمين.

ثم التأكيد على احترام الدعوات المضادة التي تبناها بعض رجال الكنيسة والفكر المسيحي الأوربي أخيراً ، للاعتراف بالروح العدوانية ضد الاسلام ونبي الاسلام ، والعودة إلى الذات للتخلي عن الصور البالية التي ورثها الماضي ، والاعتراف بالمظالم التي ارتكبها الغرب المسيحي بحق المسلمين. في محاولة منهم للاستجابة إلى دعوات الحوار بين الأديان ، والتي لا تقوم إلّا على أساس الاحترام المتبادل ، وعلى أساس الموضوعية في البحث والتفييم واستبعاد الأحكام المسبقة التي لم يكن لها غير العصبية العدوانية منشأً.

راجين أن يكون هذا الكتاب قد استوفى أغراضه في حدود المحاور التي تناولها ، مذكرين بالحديث المروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في وصف طبيعة التكامل بين رسالات السماء الحقة ومهمات الأنبياء ، إذ يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله : « وإنّما مثلي ومثل الأنبياء كرجل بنى داراً فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة ، فجعل الناس يدخلوها ويعجبون بها ويقول : هلا وضعت هذه اللبنة ؟ فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين ».

والحمد لله رب العالمين

مركز الرسالة

٨

المُقدَّمةُ

يحتل علم مقارنة الأديان أهمية كبيرة في بعديه التاريخي والعقائدي ، إذ يندرج في اطار العلمين ؛ علم التاريخ ، وعلم الالهيات (العقائد) ، وعلى الصعيدين يحظىٰ بأهميته الخاصة. فإذا كان اندراجه في علوم الالهيات واضحاً ، كون الأديان تتألف أساساً من جملة من العقائد التي تدور حولها المباحث المعروفة بعلم الكلام ، فإن البعد التاريخي فيه سيبقىٰ أساسياً هو الآخر ، لما تحتله المعرفة بتاريخ كل دين من الأديان من أهمية كبيرة في معرفة الدين نفسه ، بدونها لاتتجاوز المعرفة بالدين نفسه حدود المعارف الساذجة التي تحصل بالتلقين والمتابعة والتقليد ، ولاتسمىٰ معارف إلا تجوزاً ، وإن دخلت تحت عنوان ثقافة الشعوب والامم ، والتاريخ وحده هو الذي يمنح هذه الثقافة ، أو التعاليم المتلقاة ، عمقاً وقيمة تستحق بهما أن تدخل في دائرة المعارف.

والأديان السماوية الثلاثة ؛ اليهودية ، والمسيحية ، والاسلام ، بحسب ترتيبها التاريخي ، هي الأديان الكبرى التي تعززت بكتب سماوية شملت كل ما تستوعبه هذه الأديان من عقائد وشرائع وأخلاق ، إضافة إلى هذا فهي الأديان التي يدين بها أكثر من ثلاثة أرباع البشر ، عبر قرون عديدة ، مع ملاحظة القلة النسبية لأتباع الديانة اليهودية قياساً باتباع الديانتين الاخريين ؛ المسيحية والاسلام.

وقد بقيت الكتب السماوية الثلاثة لهذه الديانات الثلاثة : التوراة ،

٩

والانجيل ، والقرآن ، على الترتيب التاريخي نفسه ، كتباً مقدسة لايرقى إلى قداستها شيء عند أتباعها ، فهي دستور الديانة الكامل ، ورمزها الأوّل ، ومحور تكونها الاساس. وعلى مدى القرون حظي كل واحد من هذه الكتب الثلاثة باهتمام بالغ ، بالدرجة الاولى من أتباعه المتدينين برسالته ، تفسيراً وشرحاً وتحليلاً وترجمة ، حتى أصبحت مكتبة القرآن الكريم وحده ، نموذجاً ، تضم عشرات الآلاف من المجلدات في مجالات الدراسات القرآنية المتعددة ، إلى جانب هذا فإن دراسات اُخرى نقدية ومقارنة قد عُنيت بهذه الكتب الكبرى ، لاسيّما في القرن الاخير المنصرم ، حيث اشتد الاحتكاك بين أصحاب الاديان مع رسوخ القناعة بثبات هذه الأديان وعمق تأثيرها في نفوس أتباعها ، ثم ساعد على ذلك تطور مناهج البحث ، فتجاوزت الدراسات النقدية والمقارنة الحديثة مجموع المواقف المجزءة والمفرقة ، التي تناثرت في كتب الكثير من المتقدمين ، لتنحىٰ منحاً شمولي في القراءة والنقد ، وإن جانَب كثير منها الموضوعية تحت ضغط الميول الشخصية والدوافع المسبقة التي تحول دون الحيادية الايجابية ، ودون الروح العلمية في القراءة والنقد.

وكتابنا الصغير هذا ليس هو جهد جديد في مشروع دراسة مقارنة للكتب السماوية الثلاثة ، بل هو حصيلة لبعضٍ من تلك الدراسات المقارنة التي توفرت على شروط الموضوعية ، وتناولها مختصون توفروا على إحاطة حقيقية بها ، تاريخاً وعقائد ، فقدموا مواد تميزت بالجدّة والعمق والدقة في سائر مباحثها.

ونظراً لاهمية هذا الموضوع ، والحاجة الجادة لنشر ثقافة هذا النوع من

١٠

الدراسات المقارنة بين الناس ، ولتنوّع هذه المصادر في مباحثها ، واتجاهات أصحابها ، اخترنا أن نضع بين يدي القارئ خلاصة الخلاصة مما توصل إليه هؤلاء الباحثون ، بعد إعادة تنظيم وتنسيق المباحث لكي تنتظم في كتاب صغير كهذا ، تضمن ثلاثة فصول ، اختص كل منها بواحد من الكتب الثلاثة ، واستوعب الاخير منها بعض أوجه المقارنة ، إضافة إلى ما شكلته مباحثه من مادة مقارنة وافية.

وقد اعتمدنا في الفصل الأول دراسة الشيخ محمد جواد البلاغي والتي أعدها باسلوب حواري في كتابه المفصل « الرحلة المدرسية » ، وفي الفصل الثاني ، مع الانجيل ، اعتمدنا دراستين ، إحداهما ، وهي الاوسع ، دراسة محقق وباحث وعالم بالاديان ، مسيحي الديانة ، هو الدكتور موريس بوكاي ، في كتابه القيم « القرآن والتوراة والانجيل والعلم ـ دراسة في الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة ». والثاني لباحثة من أصل مسيحي قرأت الاناجيل ، وقرأت القرآن فانتقلت إلى الاسلام وكتبت حصيلة ملاحظاتها في كتاب بعنوان « نظرة عن قرب في المسيحية ». وفي الفصل الثالث احتجنا إلى كتابة المبحث الأول لعدم استيفائه جيدا في هذه المصادر الثلاثة ، ثمّ عدنا إلى موريس بوكاي بالدرجة الاولىٰ في المبحث الثاني وبعض الثالث.

راجين أن نكون قد وفقنا في هذا العمل ، والله من وراء القصد ، وهو الهادي إلى سواء السبيل.

١١
١٢

الفصل الأوّل معالم أساسية في التوراة

المبحث الأول : من صور الوثنية في التوراة

١ ـ اليوم السابع :

في شأن الله جل جلاله وخلقه السماوات والأرض ، تقول التوراة : «استراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل ، وبارك الله اليوم السابع وقدّسه ، لأنه استراح فيه من جميع عمله الذي عمل » ! (١)

ولا يخفى ما في هذا التعبير من جفوة ، إن لم يكن سوء اعتقاد ، فكيف ينسب إلى الله التعب ليكون محتاجاً إلى الاستراحة ؟

وفي القرآن الكريم تجد أجمل ما ينقض هذا الكلام ، وينزه الله تعالىٰ من كل دلالاته : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ ) (٢).

فلم يكن الله تعالىٰ بعد خلق السماوات والأرض بحاجة إلى الاستراحة.

لقد أدركت « جمعية كتاب الهداية » المطبوع باشراف المرسلين

_______________________

(١) سفر التكوين ، الفصل ٢ ، العدد ٢ و ٣.

(٢) سورة الأحقاف : ٤٦ / ٣٣.

١٣

الأمريكان ما في هذا النصّ من اشكاليات ، فكتبت تقول : « إن الله لم يقل وبارك الله اليوم السابع وقدّسه ... » ! (١)

٢ ـ شجرة الجنّة :

إن حاصل كلام التوراة من قصة آدم والشجرة الممنوعة في الجنة ينطوي على غرائب وأمور منكرة ، ففيها : « إن الله جعل آدم في جنة عدن وقال له : من جميع شجر الجنة تأكل ، وأما شجرة معرفة الحسن والقبيح فلا تأكل منها ، لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت... ثم خلق الله من آدم امرأته وكانا عريانين وهما لا يخجلان.. وكانت الحية أَحْيَل حيوانات البرية ، فقالت لحواء : أحقاً قال الله لا تأكلان من كل شجر الجنّة ؟ (٢)

فقالت حواء : من شجر الجنة نأكل ، أما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتا.

فقالت الحية للمرأة : لا تموتان ، بل إن الله عالم انه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارف في الحَسن والقبيح !

فلما أكلا منه انفتحت أعينهما وعرفا أنهما عريانان ، فصنعا لأنفسهما مآزر ! » (٣)

وهنا أكثر من رؤية منكرة عصية على التبرير :

ـ فكيف يقول الله : انكما إن أكلتما من هذه الشجرة تموتا من يومكما ،

_______________________

(١) جمعية كتاب الهداية ٤ : ١٧٤.

(٢) سفر التكوين ، العدد ٨ ، فصل ٣.

(٣) سفر التكوين ، الفصل ٣ ، العدد ٨.

١٤

وقد أكلا منها فلم يموتا ؟!

ـ وإذ استنكرنا أن ينسب الحديث إلى الحيّة ، فإن يوحنا يجعل في رؤياه مخرجاً من هذا حين يقول : « إن الحية القديمة هو المدعو إبليس والشيطان الذي يُضلّ العالم ». (١)

ـ ولكن يبقى السؤال : كيف يكون إبليس والشيطان الذي يُضلّ العالم أكثر صدقاً من الله تعالى وأكثر منه جلّ شأنه نصيحةً لآدم ؟!

لقد حاولت جمعية الهداية أن تخرج من هذا المأزق الحرج ، فأوّلت الموت الذي حذر الله منه آدم وحواء بأنه الموت الروحي ، وليس هو الموت الحقيقي. (٢)

لكن هذا التأويل لا يشفع لأصحابه ، لأن التوراة نفسها تنفيه ، فهي من ناحية نسبت إلى آدم الموت الروحي قبل أن يأكل من الشجرة ، فقد كان بحسبها لا يعرف الحسن والقبيح ، حتى أنه لا يميز أنه عريان ، ولا يخجل ، فليس له إذن حياة روحية ، فإن من يكون على حال يدرك فيها قبح المخالفة ، لا يصح السخط عليه أصلاً ، فكيف يصح السخط على من لا يعرف الحسن لكي يعرف حسن الطاعة ويرغب فيها ، ولا يعرف القبيح والشر لكي يعرف قبح المخالفة للوصية ؟

ومن ناحية ثانية ، أوجبت لآدم الحياة الروحية حيث أكل من الشجرة ، حتى صار ، بحسب عبارتها ، كالله ! عارف بالحسن والقبيح ، والخير والشر ،

_______________________

(١) الاصحاح ١٢ ـ العدد ٩.

(٢) كتاب جمعية الهداية ٢ : ١٣١.

١٥

وأصبح قابلاً بمعرفته لأن يشرق في قلبه نور العرفان والايمان ، والرغبة في الطاعة ، والاستعفاء من الخطأ.

وهذا يعني أن آدم قد اكتسب حياته الروحية بعد أن أكل من الشجرة كما وعده الشيطان ، ولم يتعرّض لموت الروح ، ناهيك عن موت الجسد ، كما حذره الله ؟!

فليس في هذا التأويل إذن مخرج من ذلك المأزق ، الذي يجعل نص التوراة هذا عرضة للتساؤل والتشكيك بمصدره.

وثمّة تأويل آخر احتجّت به جمعية الهداية في الموضوع نفسه ، فقالت قد يكون المراد من قوله تعالى لآدم إذ أكل من الشجرة : « موتاً تموت » أنه يصير ممن يعرض عليه الموت ، ولا يبقىٰ خالداً.

لكن هذا التأويل هو الآخر تردّه التوراة نفسها ، فقد صرحت في مقدمة هذه القصة بأن آدم لم يخلق للبقاء ، وإن الحراسة أقيمت على شجرة البقاء لكي لا يأكل منها آدم فتدوم حياته ، وأنه من يوم خلق قد غرس التقدير في جسمه بذور الفناء.

فلا يمكن إذن الاعتماد على مثل هذا التأويل ، وعندها لا يمكن الخروج من هذا المأزق ، كما لا يمكن تقديم الصورة المنسجمة لهذه القصة من افادات التوراة.

لكن الرجوع إلى القرآن الكريم هو الذي يوفر لنا الصورة المنسجمة ، التي ميزت بوضوح بين نصيحة الله تعالى ، وبين خداع إبليس ، ولم تنسب إلى آدم الجهل ، بل قد علمه الله تعالى الشيء الكثير قبل هذا ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ

١٦

كُلَّهَا ) (١) ثمّ حذره من الشيطان ، وبين له أنه عدوّ له ولذريته.. ولم يكن ثمّة حية تتكلّم لتكلف تأويلها بإبليس ، بل كان إبليس نفسه هو الذي ( وَسْوَسَ إِلَيْهِ ) (٢) ، ( فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ) (٣) فأكلا من الشجرة.

ولم يكونا عريانين قبل ذلك ، يجهلان قبح العري ، بل كان عليهما لباس ، فلما أكلا من تلك الشجرة أصبح ( يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ) (٤).

ففي القرآن وخلافاً لما في التوراة ، تجد تنزيه الله تعالىٰ من كل ما لا يليق ، وتجد النسق المتماسك للأحداث ودواعيها ، الذي لا يضطرك إلى البحث عن تأويلات يصعب تقبلها ، ناهيك عن أن تكون مردودة هي الأخرىٰ بما ورد في السياق من تفاصيل.

أما التوراة فتذهب إلى ما هو أغرب من ذلك كله وأكثر منه نكارة ، حين تجعل من الله شخصاً مجسماً متنقلاً ، تغيب عنه الأشياء فلا يعلمها إلّا حين يسأل عنها ! بل إنه جل شأنه سوف يخشىٰ من آدم أن يكون إلهاً ، كواحد من آلهة لهم وجود وسلطان إلى جنب الله وسلطانه !!

إنها تقول ما حاصله : أن آدم وحواء ـ بعد أن ظهرت عوراتهما ـ سمعا صوت الإله متمشياً في الجنة ! فاختبئا عنه في شجر الجنة ، فنادى الله آدم : أين أنت ؟!

_______________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٣١.

(٢) سورة طه : ٢٠ / ١٢٠.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ٢٢.

(٤) سورة الأعراف : ٧ / ٢٧.

١٧

فقال آدم : سمعت صوتك فاختبأت لأني عريان !

فقال الله : من أعلمك انك عريان ؟ هل أكلت من الشجرة ؟! (١)

وبعدئذٍ قال الله تعالىٰ : هوذا آدم صار كواحد منّا !! عارف بالحسن والقبيح ، والآن يمدّ يده فيأخذ من شجرة الحياة أيضاً ، فيأكل ويعيش إلى الأبد !!

فأخرجه الله من الجنة ، وأقام شرقيها لهيب سيف متقلّب لحراسة طريق الشجرة !! (٢)

وهكذا ترتكب التوراة أخطاءً فادحة ، وتقع في سلسلة من التناقضات الصارخة ، فتضفي على الخالق المدبر الذي آمنت به خالقاً أحداً ، صفات هي من صفات المخلوقين ، فهو بحسب الصورة المتقدمة جسم محدد الأبعاد ، يتمشىٰ في الحديقة ! ثم يختفي عنه آدم وحواء ، فلا يراهما ولا يدري أين هما ! ثم لا يعلم أنهما قد أكلا من الشجرة الممنوعة حتى يستنبط ذلك استنباطاً من قول آدم إنه عريان !

ثم انه يخشىٰ أن يأكل آدم من شجرة الخلد ، فيصبح إلهاً يشارك الله في سلطانه ! لا سيما بعد أن أصبح يشارك الاله في معرفة الحسن والقبيح !

وأكثر من ذلك يصور لنا نص التوراة الآنف الذكر أن هناك أكثر من إله عارف بالحسن والقبيح ، حتى يقول الله : « هو ذا آدم صار كواحد منّا » وكأنه يتحدث عن جماعة من الآلهة !

_______________________

(١) سفر التكوين ، الفصل الثالث ـ العدد ٨ ـ ١٢.

(٢) سفر التكوين ، الفصل ٣ ـ العدد ٢ ـ ٢٤.

١٨

وهذا ما لا يستقيم مع مبادئ التوراة نفسها التي آمنت بإله واحد ، خالق ، لا شريك له.

٣ ـ مرة أخرى يتكرر المعنى نفسه :

في قصة بابل ، وبعد اختلاف اللغات ، يقول سفر التكوين في التوراة : ان بني آدم اجتمعوا بعد الطوفان لكي يبنوا لهم مدينة حصينة عالية لئلّا يتبددوا ، فنزل الله لينظر المدينة !! وقال الله : هذا شعب واحد ، ولسان واحد ، وهذا ابتداؤهم بالعمل الآن ، لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه.. تعالوا ننزل ونبلبل لسانهم ، حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض !! (١)

فها هو الله كما تصوره التوراة ، تخفى عليه أنباء عباده ، فيحتاج الى النزول والاطلاع عليهم لتجسس أخبارهم !

ثم ها هو مرّة أخرى يخشى قوتهم وتماسكهم ، فيستعين بملائكته ـ على ما يبدو ـ ليزرع أسباب الاختلاف بين أبناء المدينة الواحدة المتلاحمين ، ليضع بينهم بذور الفتن والاضطراب بيده !

ليس في سائر الأديان ما هو أكثر غرابة من هذا التصور لصفات الله تعالى ، ولطبيعة أفعاله ، وطبيعة علاقته بعباده.

كما أنه ليس هناك ما هو أكثر سخفاً من هذا التفسير لمنشأ اختلاف الألسن وتعدد اللغات.

انها تصورات تكشف عن رؤية لاهوتية مفرطة في السلبية ، فهي حين تريد أن تنسب كل شيء لله وحده ، لا تتوانى في تصغير الله تعالىٰ ، وإدخاله

_______________________

(١) سفر التكوين ، الفصل ١١ ـ العدد ٤ ـ ٨.

١٩

المسالك التي تريد ، لتنسب إليه كل شرّ يقع بين بني البشر نسبةً مباشرة.

لكن هذا الفاعل للشر ، والذي لا يتخلف فعله ، هو في الوقت نفسه محتاج لكي يطلع على أحوال البشر إلى كل أدوات الاطلاع الطبيعية التي يحتاج إليها الانسان نفسه !

وكأنهم بنسبتهم هذه الأفعال الى الله تعالى وبهذه الطريقة الفجة ، إنما يريدون أن يوفّروا لأنفسهم الرضا والقناعة بأن التشرذم والشتات الذي أصاب بني إسرائيل إنما هو من فعل الله وحده ، وبهذه الأساليب المباشرة ، والتي يكون بعضها نتيجة « حسد » الله تعالى شأنه لعباده على ما يراهم عليه من قوة ومجد وتماسك !!

٤ ـ يعقوب يصارع الله !!

يقول العهد القديم : إن يعقوب صارعه انسان إلى طلوع الفجر ، ولما رأى أنه لا يقدر على يعقوب ضرب على فخذه فانخلع !

وقال الإنسان ليعقوب : أطلقني !

قال : لا اُطلقك إن لم تباركني !

فقال ليعقوب : لا يدعى اسمك يعقوب ، بل « يسرائيل » أي يجاهد الله ! لأنك جاهدت مع الله ومع الناس وقدرت !!

وسأله يعقوب عن اسمه ، فقال : لماذا تسأل عن اسمي ؟ وباركه هناك ، فدعا يعقوب اسم المكان : « قنئيل » أي وجه الله ! قائلاً : لأني رأيت الله .. ونجيت نفسي !! (١)

_______________________

(١) سفر التكوين ـ الفصل ٣٢ ـ العدد ٢٤ ـ ٣١.

٢٠