آراء وأصداء حول عبدالله بن سبأ وروايات سيف

السيد مرتضى العسكري

آراء وأصداء حول عبدالله بن سبأ وروايات سيف

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دانشكده اصول دين
المطبعة: شفق
الطبعة: ١
ISBN: 964-5841-65-8
الصفحات: ٣٩٠

يرحمه الله ـ أكثر من مرة ـ فهو يعتبر ( ابن سبأ ) أصل الرافضة ومن مناقبهم ( الفتاوى ٤ / ٤٣٥ ، ٢٨ / ٢٣٤ ) ونقل أن ( عليا ) رضي الله عنه طلب ابن سبأ أول الرافضة ليقتله فهرب منه ( الفتاوى ٢٨ / ٥٠٠ ) وقال : ثبت عن علي أنه أحرق غالية الرافضة الذين اعتقدوا فيه الإلهية ( الفتاوى ٢٨ / ٤٧٥ ).

روايات من طرق أخرى

ويقول ابن حجر : عن ابن سبأ وطائفته واحراق علي لهم بالنار : « وله ـ ابن سبأ ـ اتباع يقال لهم السبئية معتقدون الالهية في علي بن أبي طالب وقد أحرقهم علي بالنار في خلافته » ( لسان الميزان ٣ / ٢٩٠ ).

ويبقى بعد ذلك رأي المختصين المحدثين مهماً في تأكيد صلة الرافضة بعبدالله بن سبأ.

الروايات الإحدى عشر

من السفه والحمق أن ترد على شخص ـ لبطلان دعواه ـ بثمان روايات فيصر على أن يكون الرد عليه باحدى عشرة رواية لا وجود لنص فيها ، وهذه عليه لا له ، وإن أوهم القرّاء بخلاف ذلك ، فإن قيل وكيف ذلك ؟ قلت : الأصل في سياق هذه المرويات لتأكيد بطلان القول بأن أخبار عبدالله بن سبأ لم ترد إلاّ من طريق سيف بن عمر ، فإن قيل : وهل قال المالكي بذلك وأين ؟ أجيب : نعم هو ممن قطع بذلك ، كما جاء في كتاب الرياض ص ٢٦٠ وهذا نص قوله : « .. مع أن سيفا قد انفرد برواية أخبار ابن سبأ » ، وانظر كذلك ص ٥٨ من الكتاب نفسه.

ولكن المالكي حين أحس بالالزام والمحاصرة ، خرج لتحقيق المرويات

٣٦١

والتعقيب على التحقيق السابق فرفض ما رفض وقبل ما قبل ، وكل ذلك اشغال عن الهدف من سياق هذه المرويات وخروج عن دائرة الحصار ، ونقول للمالكي ومع اتساع صدورنا لوجهة النظر في التحقيق ، ومع قبولنا لمزيد من المرويات المؤكدة لعبدالله بن سبأ من غير طريق سيف ، فتظل هذه المرويات حججاً دامغة لمن زعم انفراد ( سيف ) كأخبار عبدالله بن سبأ وإن قال ما قال وزعم ما زعم.

وإن كان المالكي طالب حق ، ولا يمنعه من الاعتراف بوجود ابن سبأ إلاّ كون مروياته جاءت من طريق سيف ( المجروح ) فها هي المرويات جاءت من طرق أخرى ، وبعضها عثر عليها بنفسه أو نقلها عن الآخرين ؟ فهل يعترف بوجود ابن سبأ أم أن في الأمر شيئاً لا تكفي الحجج والبراهين لإزالته.

أليس ذلك خللاً في المنهج ، وقد صدق مع نفسه حين حدد الخلاف معه ( في أصل المنهج ) كما في مقالة في « المسلمون » وأنصح من يريد النقاش مع المالكي أن يستحضر هذه القضية جيداً.

جوهر القضية :

يشكك المالكي في وجود ابن سبأ ـ كما مرّ ـ فإذا أحس بالمحاصرة وتكاثرت عليه الأدلة فرّ إلى القول بإنكار دوره في الفتنة ـ كما قال ذلك في رده في جريدة ( الرياض ) ، وحاول في رده في جريدة « المسلمون » تركيز هذا المفهوم والتلبيس فيه ، فلماذا ؟!

وقبل الإجابة يمكن تصوير القضية بما يلي : وعلى فرض اثباته لوجود ابن سبأ شكلاً فهو ينكره حقيقة ومضموناً. كيف ذلك ؟

٣٦٢

لأن جوهر القضية في ابن سبأ دوره في الفتنة ، أما اثبات شخص يدعى ب‍ ( عبدالله بن سبأ ) مقطوع الصلة عن الأحداث والفتن التي وقعت في زمنه وتلاحقت من بعده فهذا لا قيمة له من الناحية الفعلية ، سواء أثبت أو أنكر ، فغير ابن سبأ من اليهود وجد في هذه الفترة ولم يحتفل بذكره العلماء كما احتفلوا بذكر ابن سبأ.

وهنا مكمن الخطر ، فالأمر الذي يريد أن ينتهي إليه المالكي في طروحاته ويفرضه وكأنه أمر مسلم هو انكار دور ابن سبأ في الفتنة ، ولذا تراه يشكك في نسبة ( السبئية ) إليه كما مرّ ، وإذا شكك في نسبة هذه الطائفة إليه قل وزنه وضعف أثره.

وتراه من جانب آخر يحاول عزل ابن سبأ عن ( الرافضة ) والتشكيك في بعض عقائده التي بثها وكانت بعد أصولاً عند الرافضة ، كالوصية ، وهكذا تسلخ الشخصية من مكوناتها الأساسية.

إن الأمر الذي ينبغي أن يستقر في الأذهان هو إدراك أن عناية العلماء بأخبار ابن سبأ ، ورصد كتب التراث بمختلف فنونها لدوره في الفتنة ـ برغم من أنكر أو شكك ـ كل ذلك مرتبط بدوره في الفتنة ، وبذر بذور الشقاق والفتنة في الأمة ، وليس على أنه شخص موجود لا أثر له ولا اعتبار ، كما يريد المالكي ومن سبقه ـ أن يقرر ، وهيهات ، ما بقى الاتصال بمدوناتنا العظيمة ، والثقة بعلمائنا الأفذاذ ، وسيأتي الحديث عن دوره في الفتنة كاشفاً لمجازفات المالكي وافترائه وتقوله على الأئمة على الأئمة.

لماذا يدافع عنه

٣٦٣

وفرح المالكي ـ وإن تحول بعد إلى مكروه ـ بخطأ غير مقصود ، ولبس وقع في الحديث عن ( أبي مخنف ، وعمرو بن شمر ) وانما وقع اللبس لأن سياق الكلام ورد فيه : ( أبو مخنف ، وعمرو بن شمر ، وأبو مريم ) كما جاء في تاريخ يحيى بن معين ٢ / ٥٠٠. ولكن فرحته ( تتهاوى ) على أصداء الحقيقة العلمية التي جهلها ، أو اجتزأ لبعضها عمداً لأنها لا تخدمه ، ولو كان مريداً للحق لذكرها.

لقد فات على المالكي أن ( أبا مخنف ) شرّ من ( عمرو بن شمر ) وهاك نص يحيى بن معين : سئل يحيى : أبو مخنف ، وأبو مريم ، وعمرو بن شمر ليسوا هم بشيء ، قلت ليحيى : هم مثل عمرو بن شمر ( الذي يشتم الصحابة ويروي الموضوعات عن الثقات ). قال ( ابن معين ) : هم شرّ من عمرو بن شمر !! ( التاريخ لابن معين ٢ / ٥٠٠ ، الضعفاء للعقيلي ٤ / ١٩ ).

فإذا كان أبو مخنف شرّاً من عمرو بن شمر ، والأخير يشتم الصحابة ويروي الموضوعات عن الثقات ، فماذا يكون حال أبي مخنف ؟

وفضلاً عن ذلك فإن عدي ( ينص ) على تناول ( أبي مخنف ) للسلف ، ويقول بصريح العبارة « حدّث بأخبار من تقدّم من السلف الصالحين ، ولا يبعد منه أن يتناولهم ، وإنما وصفته لاستغني عن ذكر حديثه .. وإنما له من الأخبار المكروه الذي لا أستحب ذكره ؟ » ( الكامل ٦ / ٢١١٠ ).

ولست أدري لماذا يتشبث المالكي بأبي مخنف هذا ، ويدافع عنه ، أو أدفع تهمة قد يتشبث بها المالكي ؟ ولست أدري أقناعة أم تغفيلاً للآخرين حين يقول عن الرجلين « لكنه ـ يعنيني ـ يريد أن يتساوى أبو مخنف في الجرح مع سيف بن عمر ، ووجد الجرح في سيف أقوى وأكثر .. » ( الملاحظة السابعة عشر في مقال الرياض ) ولم أقل ذلك بل قلت ولا أزال إن اشترك الاثنان في الضعف في

٣٦٤

الحديث ، فأبو مخنف اخباري تالف وسيف اخباري عارف وعمدة في التاريخ ، وأنا في ذلك تابع غير مبتدع ، والفيصل كتب الجرح والتعديل.

الجرأة على الأئمة

«كل إنسان يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هذا القبر » ، وليس عند أهل السنّة عصمة لأئمتهم كما يعتقد غيرهم ؟ إنما العصمة للأنبياء والمرسلين ـ عليهم السلام ـ المبلغين عن الله ، ولكن الجرأة في ( تخطئة ) هذا العالم ، و ( لمز ) العالم الآخر ، و ( النيل ) من ثالث دون مسوغ مشروع ، هذا هو مكمن الخطر ، وهو طريق لانتهاك أعراض العلماء ، ولحومهم مسمومة ، بل ولتجرئة الآخرين على التخطئة واللمز وإن لم يكونوا أهلاً لذلك.

وقد سبق لي القول بجرأة المالكي على الأئمة الأعلام ، فقد لمز ابن تيمية وحاول النيل من كتابه « منهاج السنّة » كما عرض بكتاب ابن العربي « العواصم من القواصم » وعرض بقول الحافظ ابن حجر في اعتماد سيف في التاريخ وقال : أظن أنه من الظلم للعلم أن نتعلق بقول موهم مشتبه للحافظ ابن حجر ونترك قول عشرات المحدثين الآخرين في تضعيف سيف بن عمر ... » ( كتاب الرياض ص ٨٥ ) مع أن كلام ابن حجر غير موهم ولا مشتبه في سيف ، لكنه لا يروق للمالكي فاضطر لهذا القول. ويستمر المالكي في التخطئة للاعلام إذا خالفوا ما يريد ، ولم يسلم ( الذهبي ) يرحمه الله من ذلك فقد قال عنه في هذا المقال الجديد ( عبدالله بن سبأ وكاسحات الحقائق ) ما نصه : « فهذا نص من الذهبي في المساواة بين سيف بن عمر وأبي مخنف ، وأظن أن الذهبي لم يوفق للصواب فأبو مخنف فوق سيف .. » ؟!

٣٦٥

ومع هذه الجرأة على الذهبي ، ففيها ظلم له ، فقد فرق الذهبي بين الرجلين ولم يسو بينهما حين قال عن سيف ( اخباري عارف ) وقال عن أبي مخنف ( اخباري تالف لا يوثق به ) وقد سبق البيان.

وبالفعل فمن يقارن بين مرويات الرجلين يجد الفرق واضحاً ، وأنا هنا أدعوا القارئ الكريم لقراءة كتاب « مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري » للدكتور يحيى بن ابراهيم اليحيى ، ليرى بنفسه نماذج التحريف والتشويه لتاريخنا وبالذات تاريخ الصحابة من قبل هذا الراوي المحترق ( أبي مخنف ) وقفوا بأنفسكم على الحقيقة ، ودعوكم من التهويش والهراء.

ولم يسلم الإمام البخاري رحمه الله من جرأة ولمز المالكي ، فقد قال في كتاب الرياض ص ٢١ « وأخرج البخاري روايات يفهم منها التقليل من بني هاشم من طريق بعض المتهمين ( بالنصب ) كقيس بن أبي حازم ، ومروان بن الحكم » قال ذلك في سياق تقريره لقبول رواية المبتدع الداعي لبدعته ؟ وستأتي مناقشة المالكي في هذه القضية.

فهل يوافق المالكي على هذه التهمة ؟

وعلى العموم فالتعريض بأعلام الأمة مسلك خطر من الكبار ، فكيف إذا وقع من الصغار ، وهو خطوة جرئية لها ما بعدها فلينتبه لهذا المسلك.

وأخطر من ذلك النيل من الصحابة.

وهذه ليست تهمة يتهم بها المالكي ، يجدها المطالع لكتبه ومقالاته بين السطور وإن جاءت بعبارات ملفوفة أحياناً لكنها لا تخفى ، وهذه نماذج لها :

١ ـ عثمان بن عفان (رض) عنه ( سبق الحديث عنه في حلقات ( الانقاذ من دعاوى الانقاذ ) وانظر كتاب الرياض ص ١٩٨.

٣٦٦

٢ ـ معاوية بن أبي سفيان (رض) ، يعرض به ولسياسته ، ويصور الأمر بينه وبين بعض الصحابة على أنه أمر عداء ؟! انظر كتاب الرياض ص ٣٠ ، ٣١ ، ٧١ ، ٧٢ ، ٢٧٩.

٣ ـ أبو بكر وعمر (رض) ولم يسلم الشيخان من قلم المالكي فقد عرّض ببيعتيهما وشمل بذلك عثمان وعليا (رض) ، كما في ص ٢٦٢ من كتاب الرياض.

بيعة أبي بكر

ودعونا نكتفي بحديثه عن أبي بكر ، فهو يوهم القارئ بالاستدلال بأحاديث في صحيح البخاري في كره بعض الصحابة لبيعته ، ويحمِّل النصوص أكثر مما تحتمل ( ص ٢٦٣ من كتاب الرياض ).

ويتزيد في القول عن ( علي ، والزبير ) (رض) حين يقول « ولا ريب أنهما لن يتخلفا عن بيعة أبي بكر إلاّ عن عدم رضى » ( الصفحة نفسها من الكتاب ) ولا وجود لهذا التفسير في الرواية التي ساقها وإنما هذا فهمه وتعليقه ؟!

بل ويعظم أمر الكراهية لبيعة أبي بكر ـ في ذهن القارئ ـ حين يقول :

« إذن فعلى سيد بني هاشم ، والزبير بن العوام كبير بني أسد ، وسعد بن عبادة سيد الخزرج ، وأبو سفيان كبير بني أمية ، وغيرهم من المتبوعين لم يرضوا ببيعة أبي بكر ، ولابد أن يكون معهم بعض قومهم على الأقل في كراهية بيعة أبي بكر .. » ( كتاب الرياض ص ٢٦٣ ).

فهل يصح هذا الزعم من المالكي حول بيعة أبي بكر ، حتى وإن اعتذر بعد ذلك وحتى لا ينكشف بأن هذه الكراهية لا تضر بيعة أبي بكر فقد انعقدت ، وبايع بعض الكارهين كالانصار وتريث بعضهم كعلي والزبير ، وامتنع بعضهم

٣٦٧

كسعد بن عبادة .. ، كما يقول في ص ٢٦٣ ، ٢٦٤ ).

ساكتفي بنقل بعض كلام الإمام الآجري المتوفى سنة ٣٦٠ ه‍ رحمه الله وفي كتابه العظيم « الشريعة » وعن بيعة علي (رض) وعن أبي بكر (رض) ، وبيعة المهاجرين والأنصار.

بيعة المهاجرين والأنصار

فقد أورد محمد بن حسين الآجري في كتابه الآنف عدداً من النصوص والآثار في بيعة علي وأبي بكر (رض) بل وفي فضله وخيرته وتقدم فضله على الصحابة ، ثم قال : « من يقول على علي بن أبي طالب (رض) في خلافة أبي بكر غير ما ذكرناه من بيعته له ، ورضاه بذلك ، ومعونته له ، وذكر فضله ، فقد افترى على علي (رض) ونحله إلى ما قد برأه الله عز وجل من مذهب الرافضة الذين قد خطى بهم عن سبيل الرشاد ».

ثم يقول ( الآجري ) فإن قال قائل بأنه قد روي أن علي بن أبي طالب (رض) لم يبايع أبا بكر إلا ّ بعد أشهر ثم بايع قيل له إن علي بن أبي طالب عند من عقل الله عز وجل أعلى قدراً وأصوب رأياً مما ينحله إليه الرافضة ، وذلك أن الذي ينحل هذا إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رض) عليه فيه أشياء لو عقل ما يقول ، كان سكوته أولى به من الاحتجاج به ، بل ما يعرف عن علي (رض) غير ما تقدم ذكرنا له من الرضى والتسليم لخلافة أبي بكر الصديق (رض) وكذا أهل بيت رسول الله (ص) يشهدون لأبي بكر بالخلافة والفضل » ( الشريعة ٤ / ١٧٣٠ ، ١٧٣١ تحقيق د. عبدالله الدميجي ).

أما عن بيعة المهاجرين والأنصار لأبي بكر الصديق فيقول ( الآجري )

٣٦٨

عنها « كان كما قال النبي (ص) ما اختلف على أبي بكر بل تتابع المهاجرون والأنصار وعلي بن أبي طالب ، وبنو هاشم على بيعته والحمد لله ، على رغم أنف كل رافضي مقموع ذليل قد برأ الله عز وجل علي بن أبي طالب أمير المؤمنين (رض) عن مذهب السوء » ( الشريعة ٤ / ١٧٣٤ ).

٣٦٩
٣٧٠

د. العودة

يعقب على طروحات المالكي

أدعوه للمحاكمة أمام لجنة علمية (٢ / ٢)

صحيفة المسلمون ـ ٢٥ جمادى الاولى ـ ١٤١٨ ه‍

استعرضت في الحلقة الماضية عدداً من المحاور المؤلفة لشخصية المالكي وأبنت عن ملامح من منهجه وأفكاره ، معتمداً في ذلك على نصوص نقلتها من كتابه ( نحو انقاذ التاريخ الإسلامي ) ، أو من مقالاته وردوده في الصحف ، وأستكمل في هذه الحلقة ملامح أخرى من منهجه وأفكار وبنفس الطريقة العلمية السابقة.

ولكنني قبل ذلك أقف عند ملاحظة تلفت النظر في أدبيات الحوار عند المالكي ، فهو يستخدم أسلوب الهجوم ، ويسيء الأدب مع من يحاور ، ويتهم

٣٧١

غيره بالتغفيل والسذاجة وعدم تحري الأمانة العلمية .. الخ مسلسل التهم.

ولربما خرج المالكي عن طوره ، واستخدم عبارات سوقية ساقطة ، ليست من حلية العلماء ولا المتشبثين بمنهج المحدثين ، ولا من سيما النقذين ، فمصطلح ( التهريب ) يزل به قلمه ، وليته سأل نفسه : وماذا يستفيد ( المهربون لشخصية ابن سبأ ) تلك الشخصية اليهودية المفسدة وهل أدرك المالكي أنه بهذه التهمة لا يتهم ( العودة ) وحده وإنما يتهم العلماء قديماً وحديثاً بتهريب هذه الشخصية فلم آت بجديد ، وانما اعتمدت في كل ما سجلت نصوص العلماء وآراءهم.

وهذا الهجوم وتلك التهم لا يمكن تفسيرها برغبة التفوق وحب الشهرة وحدها ، فهذه وإن وردت تفسيراً جزئياً ، فعندي أن هناك أمراً آخر يدعوه لمثل هذه الأساليب ، ألا وهو إبعاد شبح التهمة عنه بتهمة الآخرين والدفاع عن أخطائه وانحرافاته بالاسقاط على الآخرين ، على طريقة ( الهجوم خير وسيلة للدفاع ) ولكن هذه لن تجدي فتيلاً ، فالحق أبلج وإن أثير حوله من الغبار ما أثير فترة من الزمن ، والباطل سينكشف ولو زخرفه أصحابه بغرور القول.

أما الشحن النفسي ، والتوتر العصبي ، والحدة في النقد ، فتلك مكونات لا يكاد ، ينفك عنها قلمه ، وكنت قد نصحت له من قبل بأن الحق المدعوم بالدليل لا يحتاج لمثل هذه الاسقاطات والاتهامات ، بل يفهم الناس من حدة النقد ، وتجاوز الناقد ضعف الحجة ، وغياب الدليل المقنع ، مما يضطر معه الناقد إلى التهويش والتهم وحين تأكد لي أن رسالتي ( الأولى ) بلغته ، بل وأحفظته ، فما أردت منها ـ علم الله ـ إلاّ النصح له ولغيره ، وكان أولى به أن يقبل الحق ويرعوى إليه لا أن يظل يماري ويحاول بالباطل.

٣٧٢

ولي أو لغيري أن يفهم ان هذه الخصومة تخفي ما تخفي وراءها ، فليست القضية اختلافا في تحقيق هذه المسألة أو تلك ، أو ضعف هذه الرواية أو صحتها فتلك قضايا تتسع لها دائرة الخلاف ، وما فتئ العلماء قديماً وطلاب العلم حديثاً يختلفون ثم يتفقون ، أو يظل كل أحد منهم مقتنعاً بأدلته دون أن يتهم المخالف له.

منهج المالكي

ومن خلال التأمل في مقالاته الأخيرة أو كتاباته الأخرى أمكنني رصد عدد من محاور الخلل وسمات المنهج ، وحيث أثبت عن بعضها في الحلقة الماضية استكمل بعضها الآخر في هذه الحلقة وهذا بحدود ما قرأت له حتى الآن.

١ ـ المجازفة باصدار الأحكام ، ودعوى عدم ذكر العلماء لدور ابن سبأ في الفتنة.

لا يتورع المالكي من المجازفة بالاحكام ، والتقول بغير حق على الأئمة الاعلام ، وان اتهم غيره بذلك حين قال : « التاريخ الإسلامي مبتلى ببغض العلماء الذين يجازفون باصدار الاحكام المستعجلة حول الأحداث والمواقف والأشخاص ... » ( كتاب الرياض ص ٧ ).

وحتى تقفوا على الحقيقة ، أسوق لكم نموذجاً واحداً ، وأنقل لكم كلماته بحروفها ثم أعرض ما يبين زيفها ، وأدع لكم الحكم على أصحاب المجازفة ومثيلاتها يقول المالكي في رده في « المسلمون » :

ولذلك تكلم المحدثون والمؤرخون المتقدمون عن الفتنة ولم يذكروا عبد الله بن سبأ بحرف واحد ، حتى الذهبي وابن حجر .. لم يذكروا دور عبد الله بن

٣٧٣

سبأ في الفتنة بحرف واحد ... ».

وهذه فرية يتحمل المالكي مسؤوليتها ، وأسوق لكم ما ينقضها ، واكتفي بنموذج للمحدثين يمثله ( الآجري ، ت ٣٦٠ ) وهو من حفاظ المحدثين ـ كما قال ابن الأثير ( الكامل في التاريخ ٧ / ٤٤ ) والمحدث القدوة وشيخ الحرم الشريف كما قال الذهبي ( سير اعلام النبلاء ١٦ / ١٣٣ ) ، ومما قاله الآجرى عن دور ابن سبأ في باب : سبب قتل عثمان رضى الله عنه : « فإن قال ( قائل ) ، فمن الذي قتله قيل له : طوائف أشقاهم الله عز وجل بقتله حسداً منهم له ، وبغياً ، وأوردوا الفتنة ...

فإن قال : فمن أين اجتمعوا على قتله قيل له : أول ذلك وبدو شأنه أن بعض اليهود يقال له ابن السوداء ويعرف بعبد الله بن سبأ لعنه الله زعم أنه أسلم ...

إلى قوله : فهكذا عبد الله بن سبأ أظهر الإسلام ، وأظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وصار له أصحاب ثم ورد إلى البصرة فصار له بها أصحاب ، ثم ورد إلى مصر فصار له بها أصحاب كلهم أهل ضلالة ثم تواعدوا الوقت وتكاتبوا ... ثم ساروا إلى المدينة فقتلوا عثمان رضى الله عنه ( الشريعة ٤ / ١٩٨٧ / ١٩٧٩ ) ومن رجع إلى بقية كتب أهل العلم وجد مثل ذلك أو قريباً منه ، فهل رأيتم مثل هذه الفرية وأن الأمانة العلمية التي يدعيها المالكي ويتهم الآخرين بفقدانها ؟

أما الذهبي ، وابن حجر اللذين خصمها المالكي وحكم عليهما ظلماً وعدواناً بأنهما لم يذكرا دور ابن سبأ في الفتنة بحرف واحد فدونكم زيفها ونقضها ففي تاريخ الإسلام ٢ / ١٢٢ ، ١٢٣ ذكر الذهبي أن ابن سبأ هو المهيج

٣٧٤

للفتنة بمصر ، وباذر بذور الشقاق والنقمة على الولاة .. هذا فقط في كتاب تاريخ الإسلام.

أما ابن حجر : فيكفينا منه القول عن ابن سبأ ودوره في الفتنة : وأخبار عبد الله بن سبأ شهيرة في التواريخ .. ( لسان الميزان ٣ / ٣٤٥ ط دار الكتب العلمية ).

وإذا كان يجهل المالكي أو يتجاهل بما اشتهر ابن سبأ في كتب التاريخ فغيره لا يجهل ذلك ونقل في الفتح عن الاسفراييني خبر إحراق علي لطائفة السبئية وكبيرهم عبد الله بن سبأ اليهودي الذي أظهر الإسلام وابتدع ما ابتدع ، ثم نقل أصلا له في الجزء الثالث من حديث أبي طاهر المخلص بسند قال عنه : وهذا سند حسن ( الفتح ١٢ / ٢٧٠ ).

وإذا بطلت دعوى المالكي على الهذبي وابن حجر ، تهاوت دعاواه الأخرى على العلماء والأئمة الآخرين ، وكانت تلك واحدة من أدلة جرأة المالكي على العلماء وعلى كتب التراث ، وأوجب ذلك كله الاحتياط لما ينقله مستقبلاً.

ألا فينتبه لذلك أنصاف المثقفين الذين ربما غرهم طرح المالكى ، واعتمددوا على جزمه ولم يتبينوا كذبه على العلماء ، ومن رام فريد البيان فاليرجع إلى كتب التراث وسيجد فيها ما يشفيه وسيتبين له كذبه على مؤلفيها بعدم ذكر دور ابن سبأ في الفتنة ، وقد اكتفيت بذكر نموذج كذبه ولئن كنا غير محتاجين لرأي المالكي ، أنكر أم أثبت دور ابن سبأ ، أم ظل حائراً قلقاً بين اثبات الوجود وانكار الدور ، فلذلك لتشخيص موقفه لا أكثر.

٣٧٥

٢ ـ النيل من الصحابة

سبق في الحلقة الماضية الاشارة إلى نماذج من نيل المالكي من الصحابة وأضيف هنا وحين يتحدث المالكي عن فترة القتال على الملك يحشر عبد الله بن الزبير رضى الله عنهما فيها ، ويشير إلى قتاله مع بني أمية كنموذج من نماذجها ( انظر كتاب الرياض ص ١٨٤ ).

وهذه تهمة لا بن الزبير رضى الله عنهما ، والرد عليها بامرين :

أ ـ فإن شاء بمنهج الذي يردده كثيراً بعدم اتهام النوايا ، قلنا له : إن ابن الزبير نفسه أبان عن هدفه من القتال في حديثه مع أمه أسماء بنت أبي بكر رضى الله عنهم حين سألته عن هدفه من القتال فأجاب بقوله : « والله ما ركنت إلى الدنيا ولا أحببت الحياة فيها ، وما دعاني إلى الخروج إلا لغضب لله أن تستحل حرمته .. » ( ابن كثير : البداية والنهاية ٨ / ٣٥٤ ، ٣٥٥ ) فهل يسوغ لك أن تهتم نية صحابي كبير في العلم والشرف والجهاد والعبادة وإن كان من صغار الصحابة كما قال الذهبي ( السير ٣ / ١٦٤ ).

ب ـ وإن شاء بمنهج أهل الحق الذين قدروا ابن الزبير حق قدره ، وذكروا من مناقبه وفضائله ما يصعب معه حشره مع المقاتلين على الدنيا ، وهذه نماذج منها :

ـ أخرج البخاري في صحيحه بسنده عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال حين وقع بينه وبين الزبير قلت ( ابن عابس ) أبوه الزبير ، وأمه أسماء وخالته عائشة ، وجده أبو بكر ، وجدته صفية .. ( انظر : الفتح ٨ / ٣٢٦ ).

فماذا تفهم من كلام ابن عباس في ابن الزبير رضى الله عنهما ، وإن لم

٣٧٦

يوافقه في بعض أمره فقد ذكره ابن حجر في الفتح ٨ / ٣٢٧ ) عن ابن عباس رواية تفيد استحقاقه للبيعة ، ولماذا لم يبايعه ابن عباس.

ـ وفي صحيح مسلم أن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما ، وقف على ابن الزبير وهو مصلوب ـ مسلم عليه وكرر ، السلام عليكم يا أبا خبيب ، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا ( ثلاثا ) ما علمت :

صواماً ، قواماً ، وصولاً للرحم أما والله لأمة أنت شرها لأمة خير منهم وإن لم يوافقوه على القتال فلم يتهموه بفتنة ولم يرموه بالقتال من أجل الملك. فما مستند المالكي على هذه التهمة.

ج ـ وأكد ابن كثير أن قيام ابن الزبير بالامارة إنما كان لله ، وذلك في سياق رده لحديث منكر جدا في اسناده ( القمي ) وقد تشيع ، ومثله كما قال ابن كثير لا يقبل إذا تفرد به. إلى أن قال ابن كثير :

« وبتقدير صحته ، فليس هو بعبد الله بن الزبير ، فإنه كان على صفات حميدة وقيامه بالإمارة إنما كان لله عز وجل ، ثم هو كان الإمام بعد موت معاوية بن يزيد لا محالة .. » ( البداية والنهاية ٨ / ٣٣٩ ).

إذا ثبت هذا فأين كلامك في ابن الزبير هذا واتهامك إياه بالقتال على الملك ، وكلامك الآخر قبل ذلك وفي الكتاب نفسه ص ٤١ ، حين قلت : « بينما لم نجد من يدافع عن الخليفة الرابع أو ابن الزبير !! »

فهل هذا هو الدفاع عندك عن ابن الزبير .. أليس هذا تناقضا !

٣ ـ الهوى مع المبتدعة

يتناقض المالكي مع نفسه ، ولا يلتزم منهجاً محدداً ، فتراه حيناً يتشدد

٣٧٧

في الرواية ، ويلوذ بالثقات ، وينعى على المتساهلين ، ويلوم على المتشبثين برواية الضعفاء ، ولو لم يكونوا أصحاب دعة مذهبية.

ثم تراه يدافع عن الرواة الضعفاء ، وإن كانوا أصحاب بدع مذهبية كما صنع في دفاعه عن ابن مخنف.

وكما نص على اعجابه بدراسة مرتضى العسكرى من الرافضة المعاصرين وفوق ذلك يرد على د. عبد العزيز نور ولى في رسالته ( اثر التشيع على الروايات التاريخية في القرن الأول الهجري ).

ثم يقرر المالكي « ان الذي عليه أهل الحق من أهل الجرح والتعديل ان البدعة لا تؤثر في رواية الثقة حتى وإن كانت هذه الرواية يفهم منها تأييد لبدعته .. » ( كتاب الرياض ص ٢١٠ ).

وهذه المسألة ـ قبول رواية المتبدع الداعي إلى بدعته ـ وإن كانت خلافية بين العلماء ، فالاكثر على رفضها كما قرر أهل العلم ، وهذه بعض أقوالهم :

١ ـ ذكر أبو حاتم محمد بن بسنده أن أحمد سئل : عن القدرى والمرجئ وغيرهما من أهل الأهواء فكتب عنه قال : نعم إذا لم يكن يدعوا إليه ، ويكثر الكلام فيه ، فأما إذا كان داعيا فلا ( المجروحين ١ / ٨٢ ).

٢ ـ وادعى ابن حبان الاتفاق على رد الداعية وقبول غيره ( الثقات ٦ / ١٤٠ ) وإن لم يوافقه العراقي ، وابن حجر على هذا الاتفاق ( انظر : تدريب الراوي ٢ / ٥٤٩ ).

٣ ـ وحكى بعض أصحاب الشافعي رحمه الله خلافا بين أصحابه في قبول رواية المبتدع إذا لم يدع إلى بدعته وقال : أما إذا كان داعية فلا خلاف بينهم في عدم قبول روايته ( مقدمة ابن الصلاح ص ٥٤ ).

٣٧٨

٤ ـ وقال الحافظ ابن رجب في شرح الترمذي في الرواية عن أهل الأهواء والبدع اختلاف .. حتى قال : وفرقت طائفة بين الداعية ، وغيره فمنعوا الرواية عن الداعية منهم : ابن المبارك ، وابن مهدي ، ويحيى بن معين ، وأحمد ، وروى أيضاً عن مالك ( انظر تدريب الراوي ٢ / ٥٥٠ ).

وقال ابن الصلاح : « والمذهب الثالث ( عدم الرواية عن المبتدع الداعى إلي بدعته ) أعدلها وأولاها » وقال أيضاً : « وهذا مذهب الكثير أو الأكثر من العلماء » ( مقدمة ابن الصلاح ص ٥٤ ، ٥٥ ).

٦ ـ ويفرق الذهبي بين البدعة الصغرى والكبرى ، ثم يقول : « وبدعة كبرى كالرفض الكامل ، والحط على أبي بكر وعمر رضى الله عنهما ، الدعاء إلى ذلك ، فهذا النوع لا يحتج به ولا كرامة » ( الميزان ١ / ٦ ).

وقال في السير : « .. وترددوا في الداعية هل يؤخذ عنه ، فذهب كثير من الحفاظ إلى تجنب حديثه وهجرانه .. » ( سير أعلام النبلاء ٧ / ١٥٣ ، ١٥٤ ).

وفي ( الموقظة ) قال الذهبي : قال شيخنا : وهل تقبل رواية المبتدع فيما يؤيد مذهبه فمن رأى رد الشهادة بالتهمة لم يقبل ، ومن كان داعية متجاهراً ببدعته فليترك إهانة له واخمادا لمذهبه ، اللهم إلاّ ان يكون عنده أثر تفرد به فتقدم سماعه ، ( الموقظة ص ٨٧ ).

٧ ـ وللحافظ ابن حجر كلام عن أهل البدع عموماً ، وخاصة أهل التشيع ، فقد فرق بين مفهوم المتقدمين والمتاخرين للتشيع ، وقال بقبول رواية المتشيع في عرف المتقدمين ( تفضيل علي على عثمان ) إن كان غير داعية ، أما التشيع في عرف المتأخرين فهو الرفض المحض فلا تقبل رواية الرافضي الغالي ولا كرامة ، ( تهذيب التهذيب ( ١ / ٩٤ ).

٣٧٩

أكتفي بهذه النقول وأقول : وهل تتفق هذه مع قولة المالكي « الذي عليه الحق من أهل الجرح والتعديل أن البدعة لا تؤثر في رواية الثقة حتى وان كانت هذه الرواية يفهم منها تأييد بدعته » وأدع الحكم لأهل الاختصاص.

أما الأمر الذي ينبغي أن يعلم فهو تشدد العلماء في الرواية عن الرافضة بالذات حتى قال الشافعي رحمه الله :

« لم أر أشهد بالزور من الرافضة » ( الأم ٦ / ٢٠٦ ).

وقال يزيد بن هارن : « يكتب عن كل صاحب بدعة إذا لم يكن داعية الإّ الرافضة ».

وقال شريك : « احمل العلم عن كل من لقيت إلاّ الرافضة ».

وقال ابن المبارك : « لا تحدثوا عن عمرو بن ثابت فإنه كان يسب السلف » ( تدريب الراوي ٢ / ٥٥٣ ).

الخروج من المازق

لا يتورع المالكي عن الكذب على الآخرين واتهامهم ، فهذا لم يفهم قصده : وهذا يتهم نيته ، وثالث أساء له .. وهو في كل ذلك يعلم الحقيقة لكنه أسلوب للخروج من المازق ، وربما كان وسيلة لاستعطاف مشاعر الآخرين معه ، وكيف يتهمه الناس في نيته ـ كما يقول ـ والنقل ( حرفياً ) من كتبه أو مقالاته ولو قدر أن ( شخصاً ) أساء فهم ما كتبه ، فهل يعقل أن يجتمع الناس كلهم على سوء الفهم ضده.

والمتأمل في ( ردوده ) يرى هذه ( الشنشنة ) مقدمة يبدأ بها حديثه وتكاد تتفق في عباراتها ، وقد استجمعت ( نماذج ) لذلك كما في الملاحظة الأولى

٣٨٠