آراء وأصداء حول عبدالله بن سبأ وروايات سيف

السيد مرتضى العسكري

آراء وأصداء حول عبدالله بن سبأ وروايات سيف

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دانشكده اصول دين
المطبعة: شفق
الطبعة: ١
ISBN: 964-5841-65-8
الصفحات: ٣٩٠

ـ ولماذا ـ بعد السكوت ـ قبلوا رواياته في التاريخ ألا يجب أن يوضع هذا في الاعتبار ألا يدل على أنه لم يبلغ تلك الدرجة المزعومة من الانحطاط لقد استعمل المالكي هذه الحجة في الثناء على وهب بن منبه ـ لأنه يرضى عنه ـ فقال ( احتج به البخاري ومسلم في صحيحيهما !! فسبحان الله !! ) أما احتجاج امثال الطبري وابن عبد البر وابن عساكر وابن كثير والذهبي وابن حجر ، وهم من جبال العلم الشامخة ، بروايات سيف فلا يساوي قلامة ظفر ، فسبحان الله !!

ـ لقد سرد المالكي أسماء ستين مؤرخاً لم يذكروا القعقاع ولكنه لم يتدبر الإشكال الأعظم ، فهل يعقل ان يختلق سيف عشرات الصحابة والتابعين والفرسان والولاة والبلدان والمعارك والأشعار ، فلا يوجد لهذا الكذب الهائل صدى عند هؤلاء المؤرخين الستين وعند أضعاف عددهم ممن لم يذكرهم إننا كثيرا ما نقرأ أن فلاناً وضع حديثاً أو قصيدة أو بيتاً من الشعر أو وثيقة رسمية أو كلمة أو حرفاً واحداً ، وقصة الذي زاد عبارة « أو جناح » على أحد الأحاديث مشهورة. فهل يعقل أن يسكت الجميع عن هذا الطوفان من الأكاذيب ولو من باب العصبية المضادة ؟

ـ هل انفرد سيف بذكر عشرات الأسماء حقاً أم أن التهمة لا تخلو من المبالغة والتهويل ؟ لقد صنف العسكري كتابين ليقول إنه انفرد بذكر عبد الله بن سبأ ، وجعل ذلك حجر الزاوية في الكلام على سيف فإذا ثبت ان الأسطورة الكبرى ليست اسطورة على الاطلاق ، ألا يكون من الظلم العظيم والتحكم والهوى أن يقول قائل : هذا الاسم صحيح وهذا الاسم مختلق ؟

ـ أما كان يستطيع الصاق نفس الأكاذيب بآخرين ممن لا خلاف في وجودهم التاريخي وحضورهم تلك المشاهد وهذا هو المعتاد في تمرير

٢٨١

الأكاذيب ، بدلا من اختراع ( أسماء لم تخطر على قلب بشر ).

ـ هل يدل التحليل الأدبي على أن الأشعار الواردة في رواياته من النوع الركيك المعهود في المنحولات ، وهل تشبه أن تكون من نظم رجل واحد وهل كان شاعراً مجيداً بحيث يضع على لسان كل إنسان ما يلائمه فهذا جانب مهم لا بد من اعتباره لدراسة تهمة التزييف.

هذه ـ وكثير غيرها ـ اشكالات حقيقية ، لا يشتغلون بالنظر فيه ( « لقد اجاب العلامة العسكري في كتابه ( خمسون ومائة صحابي مختلق ) على هذا النوع من التساؤلات غير ان الدكتور العزام قد تجاهل ذلك. » ) ، وإنما يقفزون إلى النتائج النهائية المقررة سلفاً ، ويقولون : ( إنقاذ التاريخ ، أبحاث في غاية الدقة والموضوعية ).

(٢١) لا أريد التعنت وتكليف المالكي ما لا يطاق ، ولكن المطالبة باستيعاب جميع جوانب ليست كثيرة على من ينصب نفسه لانقاذ التاريخ وايقاظ العلماء من غفلة الأموات ، وتصحيح المسار والتجديد في الأصول والمناهج وأساليب التفكير لأن اثبات فساد القواعد الحالية واختراع قواعد جديدة ، وتطبيقها تطبيقا صحيحا على احدى القضايا ، عمل عظيم يستحق أن ينفق عليه بضع سنوات في البحث والتحقيق. إذ هو أصعب بكثير من كتابة تاريخ دولة أو سيرة رجل بالطريقة المعتادة والمسئولية الأخلاقية تقتضي ممن يتهم أحداً باختلاق أسماء الصحابة أن يبذل جهداً عظيماً زائداً على المعتاد لإثبات التهمة وابراء ذمته.

ولكنه تجنب ـ كالعسكري من قبل ـ تأصيل هذه الأصول لأن هذه الآراء في واقع الأمر مجرد أوهام وظنون غير قابلة للتأصيل. فعمد إلى ارسال

٢٨٢

الدعاوى والقفز إلى النتائج ، وشيد البناء قبل حفر القواعد ، وصور تهمة الاختلاق تصويراً سريعا في أول المقالة الأولى كأنها قضية مسلمة كمدينة الحشرة. وانطلق في الكلام المعاد المكرر على كذب سيف بدليل أنه اختلق شخصية القعقاع ، وعلى اختلاق شخصية القعقاع بدليل أنها من أكاذيب سيف القعقاع من مخترعات سيف الذي اخترع كثيرا من الشخصيات كالقعقاع !

كأننا والماء من حولنا قوم جلوس حولهم ماء !

ومما يدلك على ارسال الدعاوى والقفز إلى النتائج جزمه تقليداً للعسكري ـ بأن الأماكن العراقية المذكورة في روايات سيف أساطير ، فليتفضل مشكوراً بشرح براهينه الجغرافيه على هذه الدعوى. وطالما رأينا في كتابات اثبات العلماء ـ كالأستاذ حمد الجاسر حفظه الله ـ قولهم هذا الموضوع المذكور في التاريخ غير معروف في عصرنا ، وقد كثرت الأبحاث عن مكان سوق عكاظ مع أنه أشهر من نار على علم. فأين بحثه لهذه الأماكن واحداً فواحداً ، وما معرفته بجغرافية العراق وكيف وصل إلى اليقين بأنها أساطير ؟

٢٨٣
٢٨٤

د. محمد بن عبد الله العزام

عن القعقاع وسيف بن عمر (٣ / ٣)

صحيفة الرياض ـ ٣ ربيع الآخر ـ ١٤١٨ ه‍

تصنيف القرّاء

(٢٢) ولقد استغربت كثيراً تصنيفه للناس في المقالة الأخيرة ( دروس من معركة القعقاع ! ) إلى ثلاثة أصناف :

فالصنف الأول : ( ينفي وجود القعقاع مطلقاً !! لأن سيفاً معروف باختلاق الشخصيات والمعارك والاحداث !! ).

والصنف الثاني : ( يثبت وجوده ودوره كاملاً بكل التضخيمات

٢٨٥

والتهويلات !! ).

والصنف الثالث : ( يتوسط فيرى ان سيف بن عمر قد بالغ في دور القعقاع ابن عمرو ، ذلك الدور الذي لم يذكره غيره !! ).

ثم قال : ( وظني أن الصنف الأول والثالث متقاربان جداً ، ويمكن أن يتفقا إذا عرفا منهج سيف بن عمر بالتفصيل !! والخلاف بينهما يسير ) ، وأسقط من الاعتبار احتمال أن تكون المبالغة أو اختلاق ـ على فرض وجود أحدهما ـ ممن عاش قبل عصر سيف ، والفارق الكبير بين الاختلاق الذي يعني أن الشخص اسطورة والمبالغة التي تعني انه حقيقة تاريخيه.

فهذا الكلام يلخص نظرته إلى الأشياء ، ويدل بوضوح على أنه لا يدرك النواقص المشار اليها. فلعله يرى في ذلك مضيعة للوقت والجهد ، ويكفي سرد أقوال المحدثين في تضعيفه للوصول إلى النتيجة الكبرى وهي أنه ( معروف باختلاق الشخصيات والمعارك والأحداث !! ) فالتهمة لا تحتاج إلى برهان ، فهي راسخة في ذهنه ويجب أن تكون راسخة في أذهان الناس وإذا وجد أحدا من القدماء أو المعاصرين ينتقد سيف بن عمر في أي شيء فهو في نظره شبه مؤيد للتهمة ، ( والصنفان متقاربان جداً ، والخلاف بينهما يسير ). ولم يبق إلا صنف المغفلين كالطبري وأساتذة الجامعات السعودية. فكأنّ القدماء والمعاصرين يوافقونه من حيث لا يدرون على خراب التاريخ الإسلامي !

نماذج من المغالطات

(٢٣) فمن مغالطاته : الخلط بين اتهام الأسانيد واتهام المتون ، وهما أمران مختلفان جداً. فلو قال لك انسان : قال لي فلان إنه رءاك تصلي الجمعة في مسجد

٢٨٦

كذا ، فسوف تدرك حالا ان الخبر غير صحيح لأنك كنت في مسجد آخر ، وتظن ان أحدهما وقع في خطأ غير مقصود. فإذا تكررت الأوهام والأكاذيب فسوف تتراجع الثقة في الأشخاص ، ولعلك ستجد ان الكاذب هو الشخص الذي لم يحدثك. ومن الواضح ان الثقة توجد أو تنعدم في الاخبار أولاً ثم في الرواة ثانياً. وهذا في القضايا الحاضرة التي لا مجال للرأي فيها مثل صلاتك في ذلك المسجد ، فإذا كانت تتعلق بقضايا تاريخية تضاربت فيها الآراء والمصالح والأهواء فالأمر أعسر من ذلك وغاية المؤرخ أن يبحث عن أحسن الروايات وأجدرها بالقبول بصرف النظر عن أشخاص الرواة ، وإذا أمكن معرفة مصدر ضعف الخبر فحسن ولكنه ليس ضرورياً لا بد منه.

أما المالكي ـ تبعا للعسكري من قبله ـ فالأمر لديه على العكس فقد نظر في اخبار القعقاع فلم يجد أكاذيب تجزم العقول والفطر السليمة بانها باطلة ، وانما هي أخبار في حدود المعتاد والمعقول ، ثم نظر في الأسانيد فرأى انها وردت عن طريق سيف بن عمر ، فقرر أربعة أمور :

أن انفراده بها يكفي للجزم بأن أخبار القعقاع أكاذيب.

أن انفراده بها يكفي للجزم بأن القعقاع نفسه أسطورة ..

أن انفراده بأي شيء آخر يكفي للجزم بأنه اسطورة.

أنه لا غيره مؤلف هذه الأكاذيب والأساطير.

وجميع كلامه لاحق لهذه الأمور الأربعة ومرتب عليها ، وقد مضت الاشارة إلى انه لم يبحث شيئاً منها ويثبته بالدليل الكافي. فقد رد الأخبار لمجرد انها من رواية فلان ، ثم حكم على فلان نفسه بأنه كذاب لأنه روى تلك الأخبار .. بينما كان الواجب عليه أن يثبت أولاً ان الأخبار أكاذيب وأن الأسماء

٢٨٧

اساطير ، ثم إذا شاء يتخذ ذلك دليلا على انعدام الثقة بالرواية.

هل القعقاع كمدينة الحشرة تماماً

(٢٤) وتتضح المغالطة والقفز إلى الأحكام المقررة من المدن الأربع التي ابتدأ الكلام بها. فالمقالات منشورة تحت عنوان ( القعقاع حقيقة أم اسطورة ! ) وهذا سؤال يلخص الموضوع. ولكنه يبدأ الكلام بمدينة الحشرة التي هي مثل القعقاع تماماً ، وهذه مغالطة واضحة وقياس شيء على شيء مع الفارق العظيم ، لأنه صرح مقدماً بأن المدينة اسطورة ، والقرّاء يعلمون من الواقع انها اسطورة ، بمعنى ان عنصر « الأسطورة » فيها مقرر مفروغ منه ، فكيف تكون مثالاً للقعقاع الذي يدور التساؤل أهو حقيقة أم اسطورة لقد كان الواجب عليه ان يستشهد بمثال واقعي من التاريخ أو الجغرافيا ، فيذكر مثلا أربع مدن كبرى زعم أحد الجغرافيين ـ عن سوء نية ورغبة في التزييف من باب التعصب الاقليمي مثلاً ـ انها موجودة ، فتواتر العلماء المحققون جيلاً بعد جيل على التصديق بها ، وذكروا حدودها ومواقعها وأسماء امرائها وعدد سكانها وأشهر معالمها ورجالها ، ثم ثبت بالدليل القاطع أنها من نسج الخيال ، فهذا هو المثال الذي يشبه حالة القعقاع.

التقول على القدماء

(٢٥) تقتضي الأمانة والموضوعية من الباحث ألاّ يدعي أن الآخرين ، وبخاصة العلماء القدامى ، يوافقونه على آرائه أو أنهم سبقوا اليها ، إلا ببرهان صحيح. وإذا كان الرأي اجتهاداً منه فيجب التعبير عن ذلك بوضوح ، لتتضح

٢٨٨

الحدود والفواصل ولا يختلط الحابل بالنابل ، وليكون له الغُنم وعليه الغُرم.

فمما يدل على ضعف حجة المالكي واندفاعه للبحث عن الشبهات والأدلة انه يدعي ، بالتلميح القريب من التصريح ، أن القدماء سبقوه إلى اتهام سيف باختلاق الأشخاص والوقائع ، فيقول مثلا ( تلك الشخصيات والمعارك والأشعار والبلدان التي انفرد بها سيف لم يعرفها احد غيره ، لا في عصره ولا عرفها من سبقه. ولذلك لم يعول احد على كتابه الا بعد موته بنحو مائة سنة ) ومعنى كلمة « ولذلك » ترتيب آخر الكلام على أوله ، فأهل تلك المائة سنة ـ في زعمه ـ أعرضوا عن كتاب سيف لهذا السبب ، أي أنهم أدركوا أنها مخترعات فتركوها « لذلك ». وهذه الدعوى لا دليل عليها ، وليس بين يديه نص يدل على ان القدماء اعرضوا عنه بسبب تهمة الاختراع ، ولا انهم كانوا يتهمونه بهذه التهمة ، فكيف يقول « لذلك » والقارئ غير المتخصص يدرك كثرة الأسباب الممكنة ، فلا بد من دليل مقنع على تخصيص ذلك السبب بعينه. فهذا من إرسال الكلام على عواهنه.

ثم قال مؤكدا ومكرراً نفس الدعوى بعبارة أقوى ( أنا هنا أقرر ما اجمع المؤرخون قبل سيف على اهماله وعدم ذكره ، مما يعد إجماعاً على أن الأمر مختلق من سيف ) فلم يقف عند دعوى الاجماع على اهمال القعقاع ، بل زعم انهم أجمعوا على انه اسطورة ، وانه فقط « يقرر » ما قالوه وأجمعوا عليه وهذا فهم غريب لمعنى الاجماع ، وتقول على العلماء بغير برهان. ومن الغريب في باب الاستدلال المنطقي أن يكون المؤرخون الذين عاشوا قبل عصر سيف قد اجمعوا على ان الأسماء والوقائع التي سيرويها عندما يولد في المستقبل هي أمور مختلقة منه. ويكرر نفس المعنى مرة ثالثة فيقول ( ومترجمو الصحابة المتقدمين لم يذكروا

٢٨٩

القعقاع ، لا في الصحابة ولا في التابعين ، مما يعني انه عندهم مختلق ).

وإعاد نفس الدعوى تلميحاً في قوله عن ابن أبي حاتم ( فقد نفى ابن أبي حاتم صحبته ورد على سيف زعمه بأن القعقاع شهد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم !! ) كأن هذا الكلام يفيد في اتهامه باختلاق القعقاع وأعادها مرة خامسة في قوله الذي مضت الإشارة اليه عن الحافظ بن حجر ، وحاصله انه سبق إلى مبدأ التشكيك في صحبة كثير من الصحابة ، وانه لو عاش في عصرنا لوقف ضده نفس الخصوم يتهمونه بالطعن في السابقين والوقوف مع المستشرقين والمبتدعة فهذه خمسة مواضع في المقالة الأولى وحدها تتضمن الادعاء شبه الصريح بأن القدماء كانوا يتفقون معه على هذه الأمور ، وسمى هذه الدعوى « أكثرية القرون الفاضلة ». والرغبة ههنا واضحة في توفير الغطاء المناسب لهذه الآراء ونحن لانتهم المالكي ـ ولا العسكرى من قبله ـ بضعف الاطلاع ، ولا شك أنهما قد بذلا غاية الجهد لإثبات التهمة. فلما رأى المالكي انه قد رجع بخفي حنين لم يجد أمامه إلا هذه العبارات الغامضة التي قد لا يدرك حقيقتها كثير من القرّاء ولو عثر على دليل لوجدناه يكرره بضع مرات في كل مقالة ، ولو عثر عليه لشددنا على يديه وشكرناه على إيقاظنا من الغفلة التي كنا فيها.

ولقد قال مراراً عن اساتذه التاريخ في جامعاتنا انهم يضحكون على أنفسهم وعلى زملائهم وعلى الناس ، فماذا يكون قوله عن القدماء ( مما يعني أنه عندهم مختلق ) إذا لم يكن تلاعباً بالألفاظ واستغفالاً للقرّاء والغريب ان العسكري كان أصدق منه إذ قال : ( وإذا بي أهتدي إلى حقيقة كان التاريخ قد نسيها فانطوت في اثنائه وضاعت في تياراته ) ، فلم يزعم انها كانت موضع اجماع القدماء ، ربما لانه ليس بحاجة إلى هذا الإجماع.

٢٩٠

أما التاريخ الصحيح فيدل على أنه لا أحد من القدماء فيما أعلم ـ لا من السنة ولا من الشيعة ـ قد اتهمه بهذه التهمة المحددة ، وأن قبولهم رواياته في التاريخ تدل على ان ضعفه لم يبلغ الغاية التي يجعلها الباحثان حقيقة مقررة ، وان ذكر اللاحقين منهم للقعقاع وغيره تدل على اطمئنانهم إجمالا إلى رواياته. إن كلام المالكي يدل بوضوح ـ كما قلت أعلاه ـ على أنهم قد وقفوا عند أسماء الصحابة واحداً فواحداً ، ومنهم القعقاع. فهل يعقل عاقل أن ابن أبي حاتم مثلاً ينفي صحبته فقط إذا كان يعتقد انه اسطورة مختلقة أفلا قال عنه شخص خيالي لا وجود له وفي الكلام على سيف يختلق أسماء العشرات من الصحابة والتابعين والمعارك والبلدان ؟

فلو قال قائل : إن جميع العلماء ، على اختلاف مذاهبهم ، منذ عصر الصحابة إلى سنة ١٣٦٩ قد أجمعوا على عدم ادعاء ان القعقاع اسطورة ، فكيف يجيب المالكي على هذا الاعتراض هل يقول كما قال : سكوت بعضهم يدل على انه اسطورة.

أما تفريقه بين المتقدمين والمتاخرين فغير واضح المعالم ، والذي فهمته انه يقسم أهل القرن الثالث إلى قسمين :

فالذين عاشوا في آخره من امثال الطبري وابن أبي حاتم ـ إلى عصرنا ـ متاخرون مخدعون. فإن كان هذا هو المقصود فيجب التصريح به واقامة الدليل على وجود هذا التغير السريع وبيان أسبابه.

على ان الأمور ليست بهذه البساطة ، فالذي يفصل بينه وبين الطبري ورجال طبقته جيلان فقط ، فهما قريبان من عصر سيف ، ولا يخفى عليهما رأي

٢٩١

جيل المشايخ والجيل الذي قبله فيه ، والجميع إنما يعتمدون في الجرح والتعديل على رأي المعاصرين للشخص المقصود. ولا يعقل ان يتحول سيف في نحو خمسين عاما من قصاص وضاع إلى مصدر تاريخي مهم ، ولا أن يتحول الصحابة من أساطير إلى حقائق بهذه السهولة. ولو افترضنا ان المتقدمين قد أجمعوا على اتهام سيف بتزييف التاريخ ـ كما يدعي المالكي من غير دليل ـ فلا يعقل ان ياتي تلاميذهم بعكس ذلك من غير ايضاح ولا بيان.

(٢٦) وههنا مغالطة أشار اليها الدكتور عبد الرحمن الفريح وتدعو الحاجة للتأكيد عليها فان الطبري رحمه الله لم يذهب الى سوق الوارقين بحثاً عن كتاب مهملاً لقصاص تافه متروك يدعى سيف بن عمر ، وانما حصل كتابه أو كتبه من المشايخ بالطرق المعروفة في تحصيل العلم ، ونقل منه في تاريخه بالإسناد هكذا ( كتب الي السري عن شعيب عن سيف ).

وقد أوضح الاستاذ المالكي مشكوراً أسماء ثلاثة من الرواة عن سيف ، وان أحدهم ثقة والآخرين ـ شعيب بن ابراهيم ونصر بن مزاحم ـ ضعيفان ( كتاب الرياض ، ٦٢ ) ، وبالطبع لا يمكن ان يكون الرواة عنه ثلاثة فقط سواء أعرفناهم أم جهلناهم. فاذا كان العلماء في القرن الثاني والثالث يتناقلون رواياته بالاسناد المتصل ـ وما في ذلك من معنى التلمذه عليه ـ فكيف يندفع الاستاذ المالكي قائلاً :

( لم تكن لروايات سيف عند معاصريه أية منزلة ، لدرجة انهم لا يلتفتون اليها مضعفين ولا مصححين ، ولم يكونوا يعدونه في المؤرخين ولا الأدباء وانما كان أشبه ما يكون بالقصاص ) فهل كاتب المقالة هو كاتب الكتاب ؟

٢٩٢

ومعلوم ان نصر بن مزاحم من مؤرخي الشيعة البارزين ، وكتابه في وقعة صفين متداول بأيدي الناس ، ومع ذلك ياخذ عن سيف ويأخذ عن الناس روايات سيف ، فهل لم يدرك انه ناصبي كذاب على آل البيت ، وانه يخترع الأساطير والأسانيد والأسماء والوقائع والبلدان لنصرة بني أمية كما قال أخونا المالكي : أيهما نصدق أولئك المعاصرين ومن بعدهم ، الذين أخذوا برواياته في التاريخ ، أم الوسواس الذي خطر.

شهرة القعقاع

(٢٧) لا ينبغي أن ننسى أن جميع كتب التاريخ الأولى قد ضاعت إلا أقل القليل ، ومن يقرأ أسماءها في فهرست ابن النديم يدرك ذلك فليس من الممكن أن نجزم بأن اسم القعقاع لم يوجد إلا في كتاب سيف.

ومع ذلك ليس من الصعب تفسير هذا الأمر فلقد كانت تلك الكتب ذات نطاق محدود بأخبار رجل أو قبيلة أو ناحية ، وكان الرواة في عصر بني أمية يروون عن قومهم ورجال قبائلهم ما شهدوه من أحداث وما يدور في مجتمعهم من حكايات ، إلى جانب الرغبة المعتادة عند البعض في ابراز أمجاد القبيلة أو الاقليم. فدخلت هذه الروايات في الكتب الأولى من غير استيعاب بقية الأقوال ، وصار يوجد في الكتاب الواحد الأسماء والأخبار والأشعار التي تقل أو تنعدم في الكتب الأخرى. ثم ظهرت التواريخ الشاملة في القرن الثالث ، وهي تقوم في الغالب على اختيار رواية واحدة أو بضع روايات جديرة بالقبول وترك ما عداها.

ولقد غفل الاستاذ عن مسألة كان ينبغي أن لا تخفى عليه ، وليس من

٢٩٣

الصعب أن يتصورها القارئ الكريم. فلقد تطاحنت الأحزاب منذ الفتنة الأولى إلى سقوط الدولة الأموية ، لا يكاد المسلمون يخرجون من فتنة إلا ويدخلون في فتنة أعظم منها ، ومن لم يصدق فليقرأ تاريخ الطبري وليتحسر على تعطل الفتوح وضياع الفرصة التاريخية بسبب الانكفاء على الذات والصراعات القبلية والإقليمية. فالذي تقتضيه الأحوال والطبيعة البشرية ان يمتد الصراع إلى ساحة الفكر ولا يقف عند ساحة القتال ، وأن تتضارب الروايات وتكثر الحكايات والشائعات عن الواقعة الواحدة ، ويختلط الحابل بالنابل والصدق بالكذب ، في أثناء تلك الفتن وبعد خمودها. فما حاجة سيف مثلا ، كائنة ما كانت دوافعه وأهواؤه ، إلى اختلاق الحكايات والحوادث ، مع انه يكفيه أن يدلي بدلوه في أحد الآبار الكثيرة ليجد ما يريد وما حاجته إلى اختراع الرواة إذا كان يكفيه أن يصغي باذنيه إلى جيرانه ؟

والتاريخ الحاضر خير شاهد على صحة هذا التفسير الذي تقبله النفوس والعقول ، فلا يكاد يخلو كتاب من التحيز الشخصي والأسري والحزبي والقبلي والفكري والبلداني ، المقصود وغير المقصود.

وهذا الأمر اكثر وضوحاً في المصادر الأولية ـ مثل مذكرات السياسيين وأقاربهم وما يكتبه بعض المبتدئين عن تاريخ الأسرة أو الاقليم أو القبيلة ـ منه في كتب التاريخ المحررة. ومع ذلك فهو موجود في هذه أيضاً ، وإذا شئت فاقراً كتابا لمؤرخ بريطاني عن الحرب العالمية الثانية ، ثم انظر ما يقوله نظيره الأمريكي والفرنسي والروسي ، أو اقرأ ما كتب عن هزيمة حزيران أو حرب رمضان او حرب الخليج ، فسوف تجد التحيز القومي والبلداني والعقائدي واضحاً جداً.

٢٩٤

ولو محصنا كتب التاريخ لما خلا كتاب منها من شيء ينفرد به ، وإذا كان فيها مبالغات أو أخبار ضعيفة أو باطلة أو رجال لا يوثق بروايتهم فلا بأس بالرد عليه وبيان حاله بالأسلوب العلمي الملائم ، من غير حاجة للتهويل والمبالغة وتصوير التاريخ الاسلامي بهذه الصورة البائسة.

ليس هناك ما يمنع من النظر في الحوادث المنسوبة إلى القعقاع وغيره ، فقد تكون المبالغة قد تسربت اليها ، وإذا كان بعضها أو أكثرها باطلا فليكن.

ولكن ذلك لا يعني الشك في أصل وجود الرجال ، كما ان المبالغات والأكاذيب في سيرة عنترة لا تعني الشك في أصل وجوده. ولا يصح أبدا الخلط بين الأمرين.

فإن أراد المالكي أو غيره بحث آحاد الأخبار بالأسلوب العلمي ، واثبات ان القعقاع لم يكن من الصحابة ولم يحضر موقعة كذا ولم يكن أميرا على قرية كذا ولم يتزوج فلانة ـ فالميدان يا حميدان ! ولا ضير من ذلك على الاطلاق ، وهو ما يفعله اصحاب التاريخ قديماً وحديثاً.

(٢٨) سيقول ما قاله فعلا وهو ان القعقاع لم يكن شخصاً عادياً بحيث يجوز ان ينفرد بذكره مؤرخ واحد ، وإنما هو رجل جعله سيف مشهوراً جداً بحيث يستحيل اغفال الآخرين له. لقد ضرب للقعقاع مثالا فقال ( لو وجد أحدنا كتاباً عن المملكة ذكر فيه مؤلفه ان أكبر ثلاث مدن بالمملكة هي الرياض وجدة والحشرة ... فالقعقاع مثل مدينة الحشرة تماماً ). فيجب على ذلك أن يكون سيف جعله ثالث الصحابة في الشهرة ، وإذا تجاوزنا عن المبالغة قلنا انه كان من مشاهير الصحابة. ودرجة شهرة القعقاع مهمة جدا لديه ، لأنه بدونها لا ينفع ولا يفي بالغرض. وقد أوضح هذا المعنى بقوله ( بعض المؤرخين

٢٩٥

والجغرافيين قد ينفرد بذكر قرية أو هجرة من الهجر ، لكن لا يمكن ان توجد مدينة اسمها الحشرة مثل مدينة الرياض لا يشيرون اليها عندما يؤلفون عن مدن المملكة. فاحفظوا هذا المثال جيدا فبه يزول الاشكال ).

ومقالاته حافلة بالمبالغة في تصوير القعقاع بهذه الصورة ، وقد ـ حكم على نفسه بانه لا يوجد اشكال ولا اختلاق الا إذا كان الأمر كذلك ، مع انه قد هتك هذه القاعدة حين زعم انه اخترع عشرات الأشخاص والبلدان والمعارك ، ومعلوم بالضرورة انها ليست مشهورة كلها فلننظر في انها ليست مشهورة كلها. فلننظر في شهرة القعقاع وحقيقة علاقتها بدعوى الاختلاق ، وسوف ينتهي القارئ الكريم ان شاء الله إلى مزيد من القناعة ببطلان كلامه من اساسه.

فلقد قصر عن تحرير المقصود ، وترك القارئ يتصور أن سيفاً مسؤول عن شهرة القعقاع عبر العصور. أما من حيث الواقع فليس للمسألة أية علاقة بشهرته بعد وفاة سيف ، لأن شهرة الإنسان الواحد ترتفع وتنخفض عبر الزمان والمكان لأسباب كثيرة لا سيطرة للأموات عليها.

واعتقد أنها في عصرنا أعظم مما كانت عليه في جميع العصور بسبب الكتب المدرسية والطباعة ووسائل الإعلام وتسمية المدارس والشوارع والمحلات التجارية ودور النشر وغيرها بأسماء الصحابة. وفرق عظيم جداً بين وجود اسمه في بطون الكتب وبين رسوخه في أذهان جمهور الناس من العامة والخاصة ابتداء من سن الطفولة.

وكذلك لا علاقة للمسألة من قريب ولا بعيد بصورة القعقاع في كتاب سيف ! فلو سلمنا بأن اخباره فيها مبالغة شديدة ، فلا يلزم من ذلك أنه لا وجود

٢٩٦

له. وما ذنب القعقاع ـ وعنترة وجحا والزير سالم وغيرهم ـ إذا كان الرواة قد زادوا في أخبارهم وبالغوا فيهم والواقع ان سيف لم يقل إن القعقاع كان مشهوراً جداً ولا إنه كان من أبرز رجال عصره ، ولا ( أوصله إلى مستوى من الشهرة والبطولة والحكمة والفقه ) ، ولا قال ( البطل المشهور الفصيح الذي تولى امارتين في الصدر الأول !! ) إلى آخر التهاويل ، وإنما ساق أخباراً فقط من نوع فعل كذا وقال كذا ، وليس من الانصاف أن يحاسبه المالكي ـ وهو خصم متحامل ـ على صورة يرسمها هو.

وهذه الصورة لا تخلو من التهويل ، فما وجه الغرابة مثلاً في شجاعته وفصاحته وتأميره على قريتين في العراق وجهل المؤرخين بذلك وباسماء زوجاته وكثير من أخباره ؟

فلم يبق إذن إلاّ شهرة القعقاع في القرن الأول وبعض الثاني ، وأظن أن هذا هو مقصود المالكي. ولست أرى ههنا إلاّ ثلاثة احتمالات :

(١) فإما ان يكون في واقع الأمر من أشهر المشاهير أنذاك.

(٢) وأما أن يكون رجلاً محدود الشهرة.

(٣) وأما ان يكون انسانا لا وجود له فإن كان الاحتمال الأول فلا إشكال وينبغي محاسبة غير سيف من المؤرخين.

وان كان الاحتمال الثاني فلا إشكال لأنه حقيقة لا اسطورة.

وان كان الاحتمال الثالث ـ وهو الاحتمال الصحيح في ذهنه ـ فليست المبالغات في كتاب سيف هي الدليل على انه اسطورة ، لأنه كما قلنا إنما يتهمه باختلاق القعقاع لا بالمبالغة فيه.

فلننصرف إلى تامل مغزى شهرته في كتب جمهور المؤرخين :

٢٩٧

لقد سرد المالكي أسماء ستين مؤرخا ـ من أبان بن عثمان إلى الخطيب البغدادي ٤٦٣ ـ وأشار إلى ( بقية علماء الحديث وعلماء الجرح والتعديل والأدباء واللغويين والنسابين وغيرهم ) وسأل ( أين هؤلاء عن هذا البطل المشهور الفصيح الذي تولى إمارتين في الصدر الأول !! ).

فاقول ما خطر لي في ذلك ولا ألزم به أحداً فإذا كانت الحال كذلك فهي أقرب إلى الدلالة على الاحتمال الثاني المشار اليه ، وهو ان شهرته في الصدر الأول لم تكن كبيرة ، فلذلك لم يتواتر المؤرخون على ذكره ، ولا يمتنع أن تكون روايات سيف قد اعترتها المبالغة للأسباب المشار اليها أو غيرها. والظاهر أن ولايته على قرية بعد قرية في العراق أقرب إلى الدلالة على انه لم يكن من أهل الشهرة الشامخة وإنما رجلاً من أشراف الناس. ولا إشكال في انفراد سيف بذكر رجل هذه حاله.

خاتمة :

(٢٩) وانني في الختام لأدعو أخانا حسن بن فرحان المالكي للتخفيف من هذه الآثار العلمية الفكرية ، وتشكيك الناس في تراثهم وتاريخهم ، وترك اجتلاب أفكار الآخرين وتلميعها ، وتصوير تاريخ الأمة ـ وبخاصة عصر صدر الاسلام ـ بهذه الصورة القاتمة. وفقه الله وايانا إلى كل خير ، والحمد لله ربّ العالمين.

٢٩٨

د. سليمان العودة

يرد على المشككين في شخصية ابن سبأ

ينبغي أن لا نتسرع في اطلاق الاحكام على تراثنا

قبل استيعابه (١ / ٢)

صحيفة المسلمون ـ ٥ ربيع الآخر ـ ١٤١٨ ه‍

أثيرت مؤخراً قضية تاريخية هامة تدور حول شخصية عبد الله ابن سبأ التي تنسب السبئية إليه ، ظهر خلالها طروحات وكتابات خلصت إلى نتيجة مفادها ان عبد الله بن سبأ شخصية وهمية لم يكن لها وجود ، وحتى نقف على حقيقة الأمر واستطلاع دقائقه أجرت « المسلمون » حواراً مع الدكتور سليمان بن حمد العودة استاذ التاريخ في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالقصيم وتنشر هنا الجزء الأول من الحوار :

٢٩٩

اجرى الحوار : خالد الحسين ـ القصيم

حقيقة ابن السوداء

لقد سبق لكم أن قمتم بدراسة لعبد الله بن سبأ والسبئية ، وكان ذلك موضوع رسالتكم للماجستير ، وكانت تحت عنوان « عبدالله بن سبأ وأثره في إحداث الفتنة في صدر الإسلام » في عام ١٤٠٢ ه‍ ، وقد قمتم برصد العديد من النصوص التي تكلمت عن هذا الموضوع بشكل جيد. فهلا حدثتمونا عن سبب العودة إلى الموضوع مرة أخرى من خلال ورقة البحث التي تقدمتم بها لنيل الترقية العلمية ، والذي كان بعنوان « ابن سبأ والسبئية » من غير طريق سيف بن عمر ؟

الذي حدا بي إلى العودة إلى الموضوع ثلاثة أمور الأول : ما توفر لي من نصوص لم تتوفر لي في الماضي ، وأعتبرها إضافة جديدة في الموضوع ، فقد تمكنت خلال هذه الفترة من الاطلاع على بحوث لم تتيسر لي من قبل ، والثاني : انه بدأت تطل علينا كتابات معاصرة تنكر وجود ابن سبأ أصلاً فضلاً عن إنكارها لدوره في الفتنة ، وكتابة د. عبد العزيز الهلابي نموذج لها ، وجاء حسن المالكي بعد موافقاً له ومثنياً على دراسته في كتابه « نحو إنقاذ التاريخ الإسلامي »

٣٠٠