دراسة في تنبؤات نوستردامس

دراسة في تنبؤات نوستردامس

المؤلف:


المترجم: الدكتور شريف الدين
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مركز مكالمات وپژوهشهاى فلكى نجومى
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

١

٢

٣
٤

تاريخ المستقبل

إننا نعيش فترة أيام حاسمة في تأريخ الشرق الأوسط والمنطقة الإسلامية بل والعالم أجمع ، ونحن في هذا الکتاب نتناول هذه الفترة من تأريخ العالم والتي تبدو خطيرة جداً بما تنطوي عليه من احتمالات وامکانيات للمستقبل القريب والبعيد ، نتناولها من زاوية فيها قدر من الطرافة إلى جانب قدر مهمّ من الجدّية. وجانبُ الطرافة في هذه النظرة إنها تأتي من خلالِ رؤيةٍ تنبؤيةٍ لشخصٍ عاش في القرن السادس عشر ( ١٥٠٣ ـ ١٥٦٦ ) فرأى ماً سيحصل للعالم على مدىً من الزمن يزيد على أربعة قرون.

ولقد جاءت تنبؤاته صادقةً في کثير من الأمور کما ظهر ذلک من خلال تتبّع الأحداث التأريخية السابقة مما حصل بالفعل وکان قد تنبأ أو رأى بأنه سوف يحصل ( کما سيتضح فيما بعد ). ذلک الشخص هو مايکل دي نوسترادمس ، وإن کانت شهرته باسمه الأخير ؛

٥

نوسترادمس. أما تنبؤاته هذه فقد وضعها في عشرة فصول وسمّى کلَّ فصلٍ منها قرناً ، فهي تتکون من عشرة قرون. ولا علاقة لهذه القرون بالقرون المعهودة عندنا حيث يتکون القرن من مائة سنة ، ولکنه إنما سمّى کل فصل قرناً لأنه يتکوّن من مائة قطعة ( باستثناء الفصل السابع الذي احتوى على ٤٢ قطعة ولم يتممها مائةً لسبب ما ) وهذه القطع وضعها علي هيئة رباعيات منظومة شعراً ، فکل قطعة هي رباعية شعرية إستعمل فيها لغةً خاصة وفريدةً من نوعها ، إذ هي خليط من اللاتينية والإغريقية والبروڤ‍انسية ( مقاطعة فرنسية ) والفرنسية والإيطالية والإسبانية ، وهناک من يقول بأن لغته هذه هي اللغة الفرنسية القديمة القريبة من أصولها اللاتينية والإغريقية.

ولقد صدرت أول طبعة من کتابه هذا ( القرون ) أثناء حياته في سنة ١٥٥٥ ولکنه لم يکن يحتوي على الفصول العشرة کلها وإنما احتوى على الفصول ( القرون ) الثلاثة الأولى ونصف الرابع ، ولم يتمّ نشر المجموعة کاملةً إلا بعد وفاته بستين أي في سنة ١٥٦٨ ، وقد إعتمدتُ في کتابي هذا على ترجمات إلى اللغة الإنکليزية من الکتاب الأصلي وبلغته الأصلية الذي صدر سنة ١٥٦٨.

وإلى جانب الرباعيات المنظومة شعراً فقد احتوى

٦

کتاب القرون على بعض المنشورات والسداسيات الشعرية المتفرقة إضافة إلى رسالتين ؛ الأولى مُوجَّهةٌ من نوستردامس إلى إبنه ( قيصر ) والثانية موجهة منه إلى الملک هنري ملوک فرنسا.

أما تنبؤات نوستردامس فقد عرفتها أوربا منذ يوم صدورها وإلى يومنا هذا ولم يتوقّف الکتاب عن الصدور والنشر منذ تلک الأيام البعيدة عندما کان الکتاب ترفاً لا يقدر على اقتنائه إلا أغنياءُ الناس وإلى أيامنا هذه وإن کانت معرفة إخواننا من قراء العربية بهذا الرجل قليلة بالقياس إلى شهرته العريضة في أوساط الأوروبيين.

وقد أستُغَلَّت هذه التنبؤات لأغراض سياسية وعسکرية على مدى الزمن ، ففي الحرف العالمية الثانية اکتشفت زوجة غوبلز ( أحد کبار أعوان هتلر ) الکتاب سنة ١٩٣٦ ونبّهت زوجها إليه والذي عرف بدوره قيمته الإعلامية فرتّب الأمر مع وزارة إعلام هتلر وقاموا بتوظيف منجّم سويسري اسمه ( أرنست کرافت ) الذي قام بالتعرف على الرباعيات والمقاطع المفيدة إعلامياً لأغراض الحرب النفسية وتوطيد إذهان الناس لغزو أوروبا واحتلالها.

وابتداءاً من شهر مايس سنة ١٩٤٠ قاموا بالقاء منشورات من الطائرات على الأهالي في فرنسا وغيرها

٧

تستخدم فيها نبوءات نوستردامس بما يخدم أغراضهم. ولم تقف المخابرات البريطانية على عهد تشرتشل مکتوفة الأيدي أمام هذا النصر الإعلامي النازي فقاموا بدورهم باستخدام نبوءات نوستردامس في حملةٍ إعلامية مضادة وقاموا بالقاء منشوراتهم من الطائرات على أهالي فرنسا وبلجيکا وإن کان ردُّ فعلهم هذا قد جاء متأخراً إذ أنهم جاؤوا بذلک سنة ١٩٤٣ وصرفوا عليه ما لا يقل عن ٨٠٠٠٠ باوند إسترليني وهو مبلغ ضخم جداً في ذلک العهد إضافة إلى حالة الإفلاس التي کانت تعيشها بريطانيا آنذاک.

وبالمقابل فإن کتاباً صدر حول هذه النبؤات في فرنسا وفيه تفسير لبعض مقاطعها ورباعياتها ينبيء بهزيمة هتلر فقام الغستابو ( البوليس السري النازي ) بمصادرة الکتاب وحتى تذويب الواح الحروف الطباعية وذلک سنة ١٩٤٤.

من هو نوستردامس

ولد نوستردامس ( مايکل دي نوستردامس ) في مقاطعة [ پووڤانس Provance ] الواقعة جنوب فرنسا ظهيرة يوم ١٤ کانون أول ( ديسمبر ) من سنة ١٥٠٣ وهو مسيحي کاثوليکي ، ويقال بأن آباءه وأجداده کانوا على دين اليهودية وهو أمر يصعب إثباته فقد کان جده لأبيه ، وهو

٨

تاجر حبوب ، متزوجاً من فتاة مسيحية وکذلک فعل ابنه ( والد نوستردامس ) إذ تزوج من فتاة مسيحية کاثوليکية وهو الذي يدّعون بأنه تحول إلى الديانة النصرانية في سنة ١٥١٢ أي عندما بلغ ابنه البکر مايکل دي نوستردامس تسع سنوات من عمره ، وقد کان لنوستردامس أربعة إخوة آخرين کان هو أکبرهم سناً. وقد اعتنى جده بتثقيفه وتعليمه ، فعلمّه شيئاً من الرياضيات وعلم النجوم إضافة إلى اللغات اللاتينية واليونانية. وعندما توفي جده عاد الفتى نوستردامس إلى بيت أبويه واستمر هناک في تعليمه.

وفي سنة ١٥٢٢ أرسله أبواه إلى کلية [ مونتبليه Montpelleier ] لدراسة الطب وله من العمر ١٩ عاماً ، وبعد ثلاث سنوات حصل على البکالوريوس وبدأ في ممارسة الطب ، وکان ذلک وقت وباء الطاعون الذي اجتاح فرنسا وخصوصاً جنوبها ، وقد کان نوستردامس الطبيب معروفاً بعدم اکتراثه في مواجهة مرضى الطاعون عندما کان غيره يهربون منهم خشية العدوى ، وکان قد ابتکر وصفة خاصة لعلاج المصابين بالطاعون أعطته شهرةً في قدرته على الشفاء ( وقد أصدر کتاباً في الطب سنة ١٥٥٢ کان يحتوي على عدد من وصفاته الخاصة ). وخلال السنوات الأربعة التالية صار يتنقل بين عدد من

٩

المدن بين فرنسا وإيطاليا واطّلع في أثناء رحلاته هذه على عدد کبير من الکتب الخاصة بالسحر والتنجيم ، عاد بعدها إلى کلية الطب في ( مونتبليه ) لإکمال الدکتوراه في سنة ١٥٢٩ وکان معروفاً عنه في هذه الفترة أن له إتجاهات في العلاج تخالف ما هو متعارف عليه وخصوصاً مخالفته لإستعمال الحجامة في العلاج.

وبعد حصوله على الدکتوراه في الطب سنة ١٥٢٩ إستقر به المقام في مدينة [ آجين Agen ] في فرنسا حيث تزوج هناک من فتاة وجاءه منها ولد وبنت ، وتأتي موجة جديدة لوباء الطاعون فتجتاح المنطقة التي هو فيها وليموت فيها ولداه وزوجته ، وحيث لم يکن في قدرته إنقاذهم فقد کان ذلک کارثة عليه وعلى عمله هناک ، وزاد في الطين بلّة أن والدي زوجته أقاما عليه دعوة قضائية يطالبانه فيها بإرجاع مهر إبنتهم إليهما ، ولم تقف سلسلة مشاکله عند هذا الحد وإنما جاءه أمر من محاکم التفتيش التابعة للسلطة الکنسية الکاثوليکية القائمة آنذاک بالمثول أمامها في مدينة [ تولو Toulouse ] الفرنسية بتهمة الکفر ، وهي تهمة خطيرة جداً في ذلک الوقت ، وذلک بسبب ملاحظة کان قد أبداها قبل ذلک بسنوات عندما وقف أمام أحدهم ، وهو صانع تماثيل ، وهو يصب تمثالاً من البرونز لمريم العذراء فقال له : (إنک إنما تصنع شياطين) ، وتم

١٠

رفع التقارير بذلک إلى السلطات الکنسية التي قررت مواجهته بهذه التهمة واستدعائه لمحاکمته ولکنه لم يمتثل للأمر خشية أن يؤدي به الأمر إلى إدانته ومن ثم إلى سجنه أو إعدامه فهرب من مدينته وتنقل متخفياً حتى وصل إلى مدينة [ سالون Salon ] الفرنسية سنة ١٥٤٤ وتزوج فيها بأرملة ثرية وجاءه منها عدد من الأولاد وفي هذه المدينة قضى ما تبقى من حياته في دار مازالت موجودة إلى يومنا هذا. وکان قد اتخذ أعلى غرفة في هذه الدار مقراً لدراسته واشتغاله بکتب التنجيم والسحر والباطنية والتي أحرقها فيما بعد کما سيأتي ذکره. ويعتقد أن من أهم مصادر الهامه کان کتاباً يدعي [ الأسرار المصريه De Mysteriis Agyptorum ]. وفي غرفته هذه ابتدأ في وضع نبوءاته ومنذ سنة ١٥٤٧ ونشرها لأول مرة في سنة ١٥٥٥ وبشکل غير کامل حيث احتوت على أول ثلاثة قرون ( فصول ) ونصف الرابع کما سبق ذکره ، وانتشر صيته في کل مکان واتصل خبره بزوجة ملک فرنسا ( کاترين دي مديسي ) فأرسلت إليه ليحضر إلى البلاط في باريس وهيأت له الجياد اللازمة لسفرته تلک والتي إستغرقت مدة شهر ( وهي تستغرق عادة مدة شهرين بدون مثل تلک الإعدادات ) وقابلته کما قابله الملک وأنعما عليه بشيء بسيط من المال ومکث عندهم لمدة إسبوعين عاد بعدها إلى مدينته سالون. وکانت له زيارة

١١

أخرى أطال فيها المکوث في البلاط الملکي الفرنسي وکان التحقيق جارياً من جانب الکنسية حول ممارسته للسحر مما جعله يختفي مرة ثانية ويعتزل في داره ، وقد عاش بعدها مع مرض مفاصله المعروف بداء النقرس وهو يمارس کشف الطالع لزواره وخصوصاً الأغنياء منهم ، ومن الملاحظ أن التنجيم قد بلغ ذروة انتشاره في ذلک الوقت.

وفي سنة ١٥٦٤ تقرر زوجة الملک کاترين أن تقوم بجولة ملکية في أنحاء فرنسا مع عائلتها وقد استمرت جولتها هذه سنتين وکان من جملة محطاتها هي بيت نوستردامس في مدينة سالون حيث زارته في بيته بصحبة أبنائها وتناول معه الجميع طعام الغداء.

في يوم ٢ / ٧ / ١٥٦٦ توفي نوستردامس ودفن قائماً في حائط کنسية في سالون ، وأثناء الثورة الفرنسية نبش بعض الجنود قبر نوستردامس وأخرجوا نعشه ولکن رُمَّتَه دُفِنت مرة ثانية في کنسيةٍ أخرى في سالون (کنسية سانت لورن St. Laurent) حيث لا يزال قبره موجوداً مع رسم له يعلو الضريح.

١٢

معاني مختلفة في رؤية المستقبل

إننا ککائنات بشرية نعيش أکثر الوقت في المستقبل ، حاضرنا غالباً ما ينساق وراء رؤيتنا لمستقبلنا ، وتجري الذات الإنسانية بشکل مستمر في سبيل تحقيق أهدافٍ تتصورها لمستقبلها ، وکلما کان تصورنا لأهداف المستقبل أوضح وأجلي في تفاصيله وجزئياته ، کلما کانت همتنا وعزيمتنا وإصرارنا أقوى کلما کان بالإمکان تحقيق هذه الأهداف المرغوبة والمطلوبة بدرجة أعلى من الإمکانية. کذلک فإننا في خطوات حياتنا المهمة نحاول أن نتعرف على إمکانيات المستقبل واحتمالات ما سيحصل لنا فيما لو اتّخذنا هذه الخطوة أو تبنّينا هذه السياسة أو تلک ، فإن کانت تحفُّها المخاطر في المستقبل لأي سبب من الأسباب ترکناها وإن کانت إمکانية النجاح والسعادة فيها أخذنا بها وتبنّيناها ، ويساعدنا على هذا المنهج في حياتنا کبشر هو أن کل ما يجري من حولنا إنما يجري وفق نواميس وقوانين ، دائماً هناک علاقة قانونية أو علاقة السبب بالأثر والمقدمة بالنتيجة ، مما يعطي الإنسان قدرة فائقة للغاية في السيطرة على الطبيعة والبيئة التي تحيط به بکل أنواعها والتحکم بدرجة التأثير التي يبغيها من هذا السبب أو ذاک.

هذا الأمر إذن يدخل کجزء من ترکيبتنا الخاصة

١٣

کبشر ، ونمارسه کلنا ولکن بدرجات تختلف کبراً وصغراً بحسب کبر أو صغر هممنا وعزائمنا. ولکن هناک نوع آخر من الرؤية المستقبلية وهي ما نحن بصدده في هذا الکتاب ، وهي أن يشاهد أحدهم حوادث ستجري بعد عشرة سنوات أو بعد مائة سنة من ساعة رؤيته ، وهي قدرة ثبت وجودها لدى عدد من الناس وبدرجات متفاوتة ، ويبدو أنها قريبة من ملکة أخرى أکثر شيوعاً منها وهي ما يعرف بالإستبصار [ Clairvoyance ] والتي يقال عنها بأنها موجودة لدى کل واحد منا ولکنها إنما تنمو وتتطور لدى فئة صغيرة من الناس دون البقية منهم لعلَّةٍ غير معروفة.

والاستبصار هو الإحساس بحوادث تجري بعيداً ولمسافات قد تطول أو تقصر ويتمّ إدراکها من دون استعمال أعضاء حسٍّ معروفة وهي إما أن تکون قد حصلت في اللحظة التي تم بها إدراکها من جانب الشخص المُستبصِر أو أنها بعد لم تحصل دائماً يتم حصولها في يوم أو يومين أو أکثر من ذلک من ساعة الإحساس بها. ومن الشائع أن تجد بعض الناس ممن يحصل لديهم إحساس مفاجيء أو ومضة معرفة حول أمر يحصل بعيداً عنهم ( مثل حادث أصاب أحد أهلهم أو أصدقائهم ) ، وقد يکون هذا الإحساس أو الإدراک

١٤

الفجائي على هيئة حلم مما يراه النائم أو أثناء حالة تشبه حلم اليقظة أو أن تکرن إحساساً بديهياً أولياً.

وهى تشبه بدورها ملکة [ التلپاثي Telepathy ] أو القدرة على الإتصال على البعد أو قل أنهما من معدن واحد وينبعان من موهبة واحدة ، ولکن الفرق بينهما هو وأن التِلِپاثي أو الإتصال على البعد هو عبارة عن إنتقال فکرة أو صورة من شخص إلى آخر أو هي قدرة أحدهما على تسلم ما يدور في ذهن الآخر ، أما الإستبصار [ Clairvoyance ] فهو إدراک مباشر لحادثة وقعت في مکان آخر. وهناک عدد من التجارب التي أجريت منذ سنة ١٩٣٠ وإلى اليوم وهي تشير إلى أن الاستبصار هو قدرة بشرية موجودة بالفعل. وتشير التجربة إلى أن کلاً من الاستبصار والتلپاثي هما في الأساس إمکانية واحدة ، الأول هو إدراک فوق الحسّي لحوادث أو لحالات موضوعية والثاني هو إدراک لحالات فکرية أو نفسية أو تصوّرية عند الآخرين کما ذکرنا. ويبدو من هذه التجارب أن هذه القابلية موجودة عند البشر بشکل واسع ، وقد اکتشفوا في خصوصها عوامل تقوّيها إلى جانب عوامل أخرى تضعفها ، فمن جملة ما يضعفها هو : ـ الملل ، إنشغالُ الذهن وشروده ، إستعمال المواد المخدّرة ، الرتابة. کما أن من العوامل التي تؤدي إلى شحذ هذه

١٥

الطاقة وتقويتها هو : ـ إثابة ومکأفاة من يمارسها ، التعاون معه ، ظروف مختبرية مناسبة.

کما أن من غير المعروف ما هي طبيعة ونوعية الخصائص الشخصية والنفسية التي تصلح أن تکون دليلاً على من يمتلک هذه القدرة بشکلها النامي المتطوّر.

ومن الواضح أننا نتحدث هنا عن قدرة أو ملکة تختلف تماماً عن مسألة التنّبؤ المنطقي والعقلاني لما يمکن أن يأتي به المستقبل في مختلف المجلات العلمية منها أو السياسية أو الإجتماعية والتي مارسها المفکرون على مرّ التأريخ ، وقد اشتهر منهم في التأريخ القريب الکاتب الروائي أچ. جي. ويلز المتوفى سنة ١٩٤٦ والذي کتب عن تصوراته للمستقبل على مدى خمسين عاماً من حياته وتوقع فيها بناء الغواصة والمرکبة الفضائية ووصول الإنسان إلى القمر وغير ذلک ، کما اشتهر منهم الکاتب الروائي جورج أوروِل وخصوصاً في روايته التي إسمها (١٩٨٤) والتي کتبها سنة ١٩٤٣ ووضع فيها جملة تصوراته عن مستقبل العالم في الثمانينات ، وغيرهما.

وکما ذکرنا فقد کثرت الدراسات والبحوث في العقود الأخيرة حول هذا الموضوع وحول تفسير هذه الظاهرة ، وبالإضافة إلى ذلک فإن عدداً ممّن امتلک هذه

١٦

الموهبة ووجد في نفسه هذه القدرة الغربية على استکشاف المستقبل ورؤيته قد کتب في تجربته هذه وفي طبيعة ما يجري له أثناء عملية الرؤية هذه.

ويتخلص ما ذکروه في أن وعي المستبصِر وذاته تنشطر إلى شطرين ، شطرٌ يبقى مع جسمه وشطر يتسامى ويعلو ، وتتمثل في هذا الشطر الثاني القدرة على الاستبصار وعلى استکشاف العالم الخارجي بشکل أوسع وأعمق وأقرب إلى معدن المعرفة وهو يحسّ في نفس الوقت بأن کلا الشطرين يعودان له وأنهما مازالا من الأنا. ومن الحالات التي يعيشها هذا الوعي الثاني العُلوي هو أن يکون في حالة يکون فيها الزمان والمکان وحدةً واحدةً مما يجعله يحسّ بأنه « حرّ في البعد الزمني للفضاء » بحسب تعبير أحدهم ، فهو يحسّ بأنه قادر على رؤية مساحة زمنية أوسع من الحاضر. وهذا يقودنا إلى نظرية تحاول أن تفهم معنى الزمن وتستکشف طبيعة إدراکنا له فنقول بأن الزمن ليس هو کما يبدو لنا سلسلة متتالية من النقاط ، ثانية تتلوها ثانية ودقيقة بعد دقيقة ، وإنما هو منبسط على مساحة واسعة يجري فيها الماضي والحاضر والمستقبل بشکل متوازٍ وإنما هو وعينا الذي يتنقل بين هذه المستويات ، إننا نفهم الحاضر على أنه هذه اللحظة التي نکون فيها في وعينا اليقظ على العالم

١٧

الخارجي والداخلي ، أنه هذه الثانية التي ستصير ماضياً بعد ثانية أخرى من الحاضر. ولکن وحسب هذه النظرية فإن ما نسميه حاضراً سوف ينبسط ويمتد ويتمطّى إلى درجة کبيرة أثناء النوم حتى أن مساحته قد تشمل شهوراً أو سنين من الزمن مما هو ماضي ومستقبل وحاضر على السواء ، ومن هنا صار للأحلام والرؤى التي يراها النائم دوراً في کشف المستقبل لدى الکثيرين. وبموجب هذه النظرية فإن وعينا على الحاضر وفهمه کنقطة واحدة أو کلحظة واحدة ما هو إلا بسبب ترکيزنا لإنتباهنا على هذه اللحظة بسبب طبيعة الحياة التي نعيشها والتي تفرض علينا عملية الترشيح هذه بحيث أنها صارت عادة الجهاز العصبي عندنا أن يستبعد کل شيء ما عدا هذه اللحظة التي نکون فيها.

ومن الواضح أن هذا کله لا يصلح تفسيراً لهذه الظاهرة وإنما هو تحليل ووصف لها ويبقى أمرها مستغلقاً شأنها في ذلک شأن الفکر وشأن العقل والحس. فإننا عندما نقول «إدراک» «فکر» «تقييم» فإننا نتحدث عن أشياء هي موجودة عندنا بالفعل أو هي ملامح من وجودنا کموجودات ولکننا لا نعرف لها ماهيّةً ولا نعرف ما هي طبيعتها ، الفکر لا يعرف ما هو الفکر والفهم لا يفهم ما هو الفهم والإدراک لايدري ما هو الإدراک ، والعقل لا

١٨

يفهم ما هو العقل ، إنها أشياء وجودها هو ذاتُ نشاطِها وعملها ، فإذا أراد الإنسان أن يفهمها وجد أنها قد اختفت بمجرد أن يستدير الفکر إلى نفسه ليدرک طبيعته وليفهم ذاته ، أو لوجد أَنه إنما يشرّح جثة هامدة بلا حياة ، إنها قوى موجودةً بالفعل ، ونشاطها وعملها هو عينُ وجودِها ، وهي في نفس الوقت تأبى الإدراک والفهم على الأطلاق ، فهي من المجاهيل المستغلقة حقاً.

کيف توصل نوستردامس الى نبوءاته ومن کلامه

الذي يعنينا في هذا المقام کما لا يخفى هو أن نستمع إلى نوستردامس نفسه وهو يتحدث عن کيفية توصُّله إلى نبوءاته تلک والأسلوب الذي اتبعه في هذا السبيل ، ويأتي ذلک على لسانه في أول رباعيتين من کتابه ( القرون ) إضافة إلى ما قاله لإبنه قيصر في رسالته إليه والتي تشکل مقدمة کتابه في النبوءات ، وهذه الرسالة هي في أغلبها توجيهات له وکأنّه کان قد أعدّه إعداداً مسبقاً لممارسة مثل هذه النشاطات الباطنية. فهو يقول له أولاً إنها نور إلهي ينوّر به بصيرةَ من يتصدّى لهذا الأمر وثانياً إنها موهبة ولطف إلهي وثالثاً إنها مطالعةٌ ورصدٌ للنجوم ولحرکتها ، وحساب ذلک واستلهامه.

ويشير من طرف خفي إلى جانب رابع وهو استعمال وممارسة السحر والعلوم الخفية ( Occult ) التي

١٩

برع بها وطوّرها الحکماءُ الأقدمون في مصر وبابل واليونان وذلک عندما أخبره بأنه قد أحرق عدداً من الکتب الخاصة بها ، وقد بات من المؤکد عند الکثيرين من دارسي هذا الرجل بأنه کان يقتني من تلک الکتب العدد الکثير. وقد کاد أن يصرح باستعماله للسحر عندما قال لإبنه ( في النص الذي سنذکره أدناه ) بأنه يجب أن يتجنب استعمال السحر المقيت الذي استنکره الکتاب المقدس ، وهو کلام يحمل معنىً ضمنيّ وهو أن من السحر ما هو مطلوب مباح وجائز في نظره ولکنه خشي من أن تقع هذه العلوم بيد من يسيء إستعمالها أو تخلط عنده الأمور ولذلک فإنه أحرق الأخضر واليابس وتخلص منها.

يقول نوستردامس في رسالته لإبنه قيصر : ـ

[ قبل کلِّ شيء تجنّب الباطل في ذلک السحر المقيت الذي استنکره الکتابُ المقدس ، واستثن فقط إستعمال التنجيم المرخَّص به ، لأنني بواسطة الأخير وبمساعدة الکشف والوحي الإلهي والحسابات المستمرة فقد وضعتُ تنبؤاتي. وخشيةَ أن تُدانَ فلسفةُ المعارف الخفيّة هذه وتُتَّهمَ بسوء فإنني لم أرغب في أن أجعل مضمونها المرعب الرهيب مکشوفاً أو معلوماً. وکذلک فخوفاً من أن تُکشَف تلک الکتب العديدة التي أُخفيت

٢٠