الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام سيرة وتاريخ

علي موسى الكعبي

الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام سيرة وتاريخ

المؤلف:

علي موسى الكعبي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-51-5
الصفحات: ٣١١

١
٢

٣
٤

مقدمة المركز

ليس الحديث عن سيرة وتاريخ الأئمّة عليهم‌السلام حديثاً عن الماضي ، بل المقصود بذلك إغناء حركة الواقع الإسلامي في مسيرته المعاصرة من خلال معرفة العظماء وبناة الحضارة الإسلامية الذين أغنوا تلك الحركة في عصورهم بإجابات وحلول ، لا زالت هي الجواب المحكم لأكثر من سؤال معاصر ، والحل الأمثل لجلّ المشاكل القائمة. وهكذا يكون هدفنا في دراسة أيّ من عظماء الفكر وقادته ، خصوصاً من كانت له مواقع مميزة في حياته كموقع الإمامة. ذلك لأن الإمام لا ينظر ـ من منطلق إمامته ـ في طرح المفاهيم ومعالجتها ، والمشاكل العالقة وحلّها إلى مرحلة معينة ، بل يطرحها على صعيد الحياة برمّتها ، انطلاقاً من ذلك الموقع المعبّر عن نظرة الإسلام تجاه مفاهيمه وتعاليمه.

وفي هذا الصدد رأينا باقر العلم عليه‌السلام من خلال دراسة سيرته المشرقة وتاريخه الوضّاء الحافل بأنواع العطاء ، ليس كبقية العظماء من العلماء والمجدّدين في تاريخ هذه الأُمّة الذين قادوا حركة الفكر في أزمانهم ، بل رأيناه رسالة تتحرّك على أرض الواقع ، رسالة تحمل الإسلام وتحميه ، بتدبير حكيم فذّ ، وعقل منفتح على العالم بأسره ، وحلول ناجعة شافية لمشاكل الأُمّة على أكثر من صعيد لا في حاضرها فحسب ، بل في عمرها ومستقبلها إلى أن يرث اللّه الأرض ومَن عليها.

ولا عجب فيمن يصطفيه اللّه تعالى لحماية دينه ، وردّ كيد الكائدين به ، بل العجب من حثالات أدعياء العلم وجهلة هذه الأُمّة من الذين تجرّأوا على وضع باقر العلم عليه‌السلام موضع المقارنة مع غيره من رواة الحديث وحملته! مع أن قولهم (الباقر وغيره) لا معنى له ، ولا يصحّ من كل وجه؛ لأنّ المسافة التي تفصله عليه‌السلام عن غيره شاسعة تتّسع لكل الدنيا ، ولو كانت المسافة واحدة لما

٥

خُصّ الباقر عليه‌السلام بالاصطفاء والولاية والإمامة وعُدّ من مات في زمانه ولم يعرفه مات ميتة جاهلية.

و (الباقر) كلقب ، بل وسام قلّده النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لحفيده كما في حديث جابر المشهور ، يكفي وحده للإطاحة بكل مقارنة.

نعم ، إنّه عليه‌السلام بقر العلم بقرا ، وأسكت الكلّ في زمانه ، وانقادوا لحجّته ، ويحدّثنا تاريخ الإمام الباقر عليه‌السلام إن فطاحل العلماء في زمانه كانوا لا ينبسون ببنت شفة في محضره ، وكان أعظمهم علماً إذا ما حضر بين يديه صار كالحجل في كفّ البازي لا يدري ما يقول.

وأما عن مدرسته ، فقد تنوّعت مسارب العلم فيها ، وتعدّدت آفاقها المعرفية ، واتّسعت اتّساعاً هائلاً ، فكانت ضروباً وألواناً شتّى ، ناهيك عن علوم الشريعة فيها من فقه وتفسير وحديث وكلام ، حيث بلغت ذروتها في تلك المدرسة الشريفة.

وأمّا عن روّاد مدرسته عليه‌السلام ، فبفضل انفتاحها الواسع رأينا صنوفاً شتّى من تلامذتها ، إذ لم يكونوا كلهم أرباب فكر واحد أو اعتقاد واحد ، ولكن مدرسة الإسلام الباقرية جمعتهم في صعيد واحد بعد أن جمعهم الانتماء إلى الإسلام وفرّقتهم مدارس المسلمين ، الأمر الذي شهدت عليه بكل وضوح سيرة الإمام وتاريخه في هذا الكتاب.

إنّه لجهد مميّز في بابه ، حيث اقتنص مؤلّفه المحترم الكثير من الحقائق التاريخية بدراسة علمية واعية موثّقة ، ليجعلها في متناول القرّاء بأسلوبه السهل الممتنع.

سائلين المولى عزّوجلّ أن يشركنا في ثوابه إنّه سميع مجيب.

مركز الرسالة

٦

المقدمة

الحمد للّه رب العالمين ، وسلامه على عباده المصطفين محمد وآله الميامين.

إنّ سيرة أهل البيت عليهم‌السلام تكتنز تاريخاً غنياً بالعطاء وبالجهود التي بذلوها من أجل نشر معارف الدين السامية ، وإشاعة نور الإصلاح والحقّ والعلم في دياجير الانحراف والظلم والباطل ، سيّما وهم عليهم‌السلام الركيزة الراسخة التي يقوم عليها صرح الإسلام بعد رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فصاروا قبلة يهوي إليها طالبو الحقّ والعدل والعلم ، وقدوة حسنة يصبو إليها أهل التقى والمكارم.

وإمامنا الباقر عليه‌السلام واحد من أفذاذ تلك السلسلة المحمدية المعصومة ، فأبوه سيّد العابدين علي بن الحسين عليهما‌السلام حليف المحراب والدعاء والابتهال ، وجدّه الحسين عليه‌السلام شهيد الإصلاح والثورة على طغاة بني أمية ، وهو الذي سمّاه جدّه رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بـ (محمد الباقر) وأخبر عن توسعّه في العلم وتبحّره في دقائقه ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لجابر بن عبد اللّه الأنصاري رضي‌الله‌عنه : «يا جابر ، يوشك أن تلحق بولد من ولد الحسين اسمه كاسمي يبقر العلم بقراً ، فإذا رأيته فاقرأه منّي السلام» (١).

__________________

(١) هذا الحديث مروي بطرق متعدّدة ، سنأتي على ذكرها في الفصل الثاني.

٧

إنّ التفوّق العلمي ، هو أحد الظواهر البارزة في حياة إمامنا الباقر عليه‌السلام ، فقد كان كما قال الصادق الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله قد بقر العلم وعرف أصله واستنبط فرعه ، من هنا تربّع على عرش العلم في زمانه بكل ما حوى من حقول المعرفة ، حتى اعترف معاصروه بتفوّقه وسمّوه في منار العلم.

عن عبد اللّه بن عطاء ، قال : ما رأيت العلماء عند أحد أصغر علماً منهم عند أبي جعفر محمد بن علي ، لقد رأيت الحكم عنده كأنّه متعلّم (١).

وإذا كان الإمام الباقر عليه‌السلام قد نأى بنفسه عن التدخّل في معترك السياسة ، فقد نشط لاستكمال جهود سلفه المعصومين عليهم‌السلام في مجال نشر معارف الإسلام ، وتفرّغ بكلّه للعلم ، فأغنى الواقع الإسلامي علماً ومعرفة ، من خلال مدرسة علمية مفتوحة على الواقع الإسلامي ، في فترة شهدت تباشير الدعوة العباسية ، وعاش فيها المسلمون صراعاً عنيفاً انتهى بسقوط العهد الأموي وبداية العهد العباسي.

كان الإمام الباقر عليه‌السلام شخصية علمية منفتحة على واقع المسؤلية ، فقد تلمّذ له ونهل من علمه جيل من أعلام معاصريه من شتّى المذاهب والاتجاهات ، واستطاع إعداد وتربية النخبة الصالحة والصفوة من فقهاء وعلماء وثقات أهل البيت المخلصين ، فنهض لإرساء قاعدة المدرسة الفقهية المستندة على أُسس الإسلام المتينة ، في وقت بدأ الحكام بترويج فقه كل من هبّ ودبّ من وعّاظ السلاطين ، فكان سفينة النجاة التي حفظت الشريعة المقدسة من أمواج الضلال والانحراف ، والنور الذي أشرق به فجر العلم.

__________________

(١) تاريخ دمشق / ابن عساكر ٤٥ : ٢٧٨ ، صفة الصفوة / ابن الجوزي ٢ : ١٠٨ / ١٧١.

٨

وكان لتلك المدرسة ميزة عن كل المدارس التي نشأت إبّان تلك المرحلة وما بعدها ، وهي الانفتاح على الواقع الإسلامي واستيعاب كل ما فيه من تيارات فكرية ومدارس مخالفة ومناقشتها بكل هدوء من غير أن تصادر الأفكار ، أو تلغي الآخر ، وبذلك قدّمت لنا درساً في وحدة الثقافة والفكر.

ولتلك المدرسة عطاء وافر وإنجازات علمية رائعة ، لها الأثر في إغناء المعرفة الإسلامية في شتّى فنون العلم وحقول المعرفة ، كعلوم القرآن والحديث والفقه وأُصوله والعقائد والتاريخ والطب وغيرها.

واستطاع الإمام الباقر عليه‌السلام ملاحقة القضايا الفكرية التي تمثّل تحدّيات الفكر آنذاك ، سيّما ما طرأ على الواقع الإسلامي من بدع وشبهات ومفاهيم باطلة كالغلوّ والإرجاء والجبر والتفويض وغيرها ، وله احتجاجات مع أصحاب الفكر والاعتقادات المخالفة ، تركت بصماتها إلى اليوم ، إذ أجاب الإمام عليه‌السلام عن الكثير من الأسئلة التي قد تكون جواباً على أكثر من سؤال يدور في أذهان المعاصرين.

وترك لنا الإمام الباقر عليه‌السلام ثروة فكرية هائلة تهدف إلى تقويم السلوك ، وتدعو إلى الأخلاق الحميدة والصفات الكريمة ، تتجلّى في الحكم والمواعظ والوصايا والرسائل التربوية.

أما حين نتناول دراسة البعد الروحي من شخصية الإمام الباقر عليه‌السلام ، نجده كآبائه الهداة الميامين ، مثلاً أعلى في العبادة والورع والزهد والتقوى والتواضع والحلم والجود والهيبة والوقار. من هنا كان ولده الصادق عليه‌السلام يقول : حدّثني أبي ، وكان خير محمدي يومئذٍ على وجه الأرض (١).

__________________

(١) البداية والنهاية / ابن كثير ٩ : ٣٣٨.

٩

وحين نقرأ سيرة إمامنا المشرقة بالعطاء ، نأمل أن نستلهم منها دروس العظمة في الفكر والمنهج والسلوك ، لا أن نقرأ الماضي وحسب ، ذلك لأنّها تعبير عن حركة الإسلام في واقع الحياة ، والمفاهيم الإسلامية لا تعالج مرحلة معينة ، بل تعالج الحياة كلّها.

وعلى الرغم من عدم إنصاف التاريخ الذي كتبه أعوان الطغاة ، وتعمّده في طمس سيرة هذا الإمام العظيم ، فإننا تطلّعنا من نوافذ شتّى على تاريخه عليه‌السلام ، معتمدين على النزر اليسير من شتات أخباره في مصادر التاريخ ، وعلى الكم الهائل من آثاره في مصادر الحديث والتفسير ، فجاء كتابنا في ثمانية فصول ، حرصنا على أن نستوعب فيها سيرته منذ النشأة حتى قضى شهيداً وشاهداً على فصل من فصول المحنة والابتلاء بعد واقعة كربلاء الأليمة الذي كان أحد شهودها ، ومكمّلاً دوره الذي تميّز بحمل منار العلم وصيانة مسار الإسلام عقيدة وشريعة نظرية ومنهاجا. ومنه تعالى نستمدّ العون والتوفيق ، وهو من وراء القصد.

١٠

الفصل الأوّل

عصر الإمام الباقر عليه السلام ٥٧ ـ ١١٤ هـ

تاريخ الباقر عليه‌السلام :

عاش الإمام الباقر عليه‌السلام خلال الحقبة الأموية التي تميزت بالعنف والقمع ، وانتشار مظاهر الجور والظلم والفساد ، فقد امتدّت حياته عليه‌السلام من سنة ٥٧ إلى سنة ١١٤ هـ ، فأدرك جده الحسين عليه‌السلام نحو أربعة أعوام ، وهي الفترة الممتدة من غرّة رجب سنة ٥٧ إلى المحرم سنة ٦١ هـ حيث شهادة جده الحسين عليه‌السلام ، فكانت بدايات نشأته مع واقعة الطف الأليمة ، التي شهد كل فصولها ، وما جرى فيها من مشاهد القتل والترويع والسبي والأسر بشكل لم تعرفه الجريمة البشرية من قبل.

روي عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنه قال : «قتل جدي الحسين عليه‌السلام ولي أربع سنين ، واني لأذكر مقتله ، وما نالنا في ذلك الوقت» (١).

وعاش أبو جعفر الباقر عليه‌السلام في ظلّ إمامة أبيه علي زين العابدين عليه‌السلام من سنة ٦١ إلى ٩٥ هـ ، أي نحو أربع وثلاثين سنة وأشهر ، وقام بأعباء الإمامة مقام

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٢٠ ، وروي ثلاث سنين ، كما في وفيات الأعيان / ابن خلكان ٢ : ٢٣ ، الهداية الكبرى / الخصيبي : ٢٤١ ، الفصول المهمة / ابن الصباغ : ١٩٣.

١١

أبيه وهو ابن ثمان وثلاثين سنة ، من سنة ٩٥ هـ إلى شهادته في سابع ذي الحجّة سنة ١١٤ هـ ، أي نحو تسع عشرة سنة (١).

وشهد خلال هذه الفترة فصولاً أُخرى من مشاهد الفوضى والجريمة والبغي الأموي ، كوقعة الحرّة بأهل المدينة ، وغزو مكة المكرمة ، وعاصر فترة نشوء الثورات والحركات المعارضة للجبروت الأموي ، كثورة المدينة المنورة ، وابن الزبير ، والمختار ، وثورة القرّاء ، والتوّابين ، وابن الأشعث ، وبدايات تحرّك الشهيد زيد بن علي عليه‌السلام ، وتباشير الدعوة العباسية.

الحكام المعاصرون له عليه‌السلام :

أدرك الإمام الباقر عليه‌السلام قبل إمامته أواخر أيام معاوية بن أبي سفيان الذي عهد إلى ابنه الطاغية يزيد ٦٠ ـ ٦٤ هـ ، فجعل الخلافة ملكا يتوارثه آل سفيان وآل مروان ، وعهد يزيد إلى ابنه معاوية بن يزيد الذي خلع نفسه فلم يمارس الحكم ، وتوفّي بعد فترة وجيزة من البيعة له ، ومن ثم مروان بن الحكم ٦٤ ـ ٦٥ هـ ، وعبد الملك بن مروان ٦٥ ـ ٨٦ هـ ، والوليد بن عبد الملك ٨٦ ـ ٩٦ هـ.

وأدرك خلال فترة إمامته عليه‌السلام نحو سنة واحدة من أيام الوليد بن عبد الملك ، وأيام سليمان بن عبد الملك ٩٦ ـ ٩٩ هـ ، وعمر بن عبد العزيز بن مروان ٩٩ ـ ١٠١ هـ ، ويزيد بن عبد الملك ١٠١ ـ ١٠٥ هـ ، وهشام بن عبد الملك ١٠٥ ـ ١٢٥ هـ ، وقضى مسموماً بعد مضي نحو تسع سنين من أيام

__________________

(١) راجع : الكافي / الكليني ١ : ٤٧٢ ، اعلام الورى / الطبرسي ١ : ٤٩٧ ، مناقب آل أبي طالب / ابن شهر آشوب ٣ : ٣٣٩ ، دلائل الإمامة / الطبري : ٢١٥ ، تاريخ مواليد الأئمّة عليهم‌السلام / ابن الخشاب : ٢٥ ، كشف الغمّة / الإربلي ٢ : ٣٤٧.

١٢

هشام (١).

خصائص عصره :

أولاً ـ انحراف المسار :

لم يكن بنو أمية وعمالهم ممن يقيم للدين والقيم وزناً ، لذلك عملوا على انتهاك الحرمات ، والاستهانة بالمقدّسات ، وتعطيل سنن الإسلام وشرائعه والاستخفاف بها ، وأصبح زمانهم زمان الانحراف عن مسار الإسلام وإفراغه من قيمه الأخلاقية والروحية ، فنجد عبد الملك بن مروان أول من ينهى عن الأمر بالمعروف ، ويقول في خطبته بعد قتل ابن الزبير : ولا يأمرني أحد بتقوى اللّه بعد مقامي هذا إلاّ ضربت عنقه (٢).

وترضّى يزيد بن عبد الملك على أبي لهب ، وهو في مجلس طرب ، وذلك حين غنّاه أحد بني أبي لهب بشعر الفند الزمّاني ، فقال له : عمن أخذت هذا الغناء؟ قال : أخذته من أبي ، وأخذه أبي عن أبيه ، قال يزيد : لو لم ترث إلاّ هذا الصوت لكان أبو لهب رضي‌الله‌عنه ورثكم خيراً كثيراً. فقال المغنّي : يا أمير المؤمنين ، إنّ أبا لهب مات كافراً مؤذّياً لرسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله . قال يزيد : قد أعلم ما تقول ، ولكني داخلني عليه رقّة ، إذ كان يجيد الغناء (٣). هذا واللّه تعالى يقول : «تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ» (٤).

__________________

(١) الإرشاد / المفيد ٢ : ١٦٨ ، إثبات الوصية / المسعودي : ١٥٣ ، دلائل الإمامة : ٢١٥ ، الهداية الكبرى : ٢٣٧ ، التتمّة في تاريخ الأئمّة عليهم‌السلام / العاملي : ٩٤.

(٢) تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٢١٦.

(٣) شذرات الذهب / ابن العماد ١ : ١٢٩.

(٤) سورة المسد : ١١١ / ١.

١٣

ووصل الأمر بالحجّاج الثقفي ـ طاغية الأُمَويين وعاملهم ـ إلى الاستخفاف بكتاب اللّه العظيم ، بل وإنكاره أيضاً! ، قال الأعمش : واللّه سمعت الحجّاج بن يوسف يقول : يا عجباً من عبد هذيل ـ يعني عبد اللّه بن مسعود ـ يزعم أنّه يقرأ قرآناً. أو قال : يزعم أنّ قرآنه من عند اللّه ، واللّه ما هو إلاّ رجز من رجز الأعراب ، واللّه لو أدركت عبد هذيل لضربت عنقه (١).

ورمى الحجّاج بمنجنيقه الكعبة المشرفة بكيزان النار حتى احترقت ستائرها ، وصارت رماداً ، فارتجز :

أما تراها ساطعاً غبارها

واللّه فيما يزعمون جارها (٢)

وبلغ الفسوق والعصيان بالحجّاج وغيره من ولاة بني أمية ، إلى حدّ التجاوز على مقام النبوة ، روي عن الجاحظ أنّه قال : خطب الحجّاج بالكوفة ، فذكر الذين يزورون قبر رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمدينة ، فقال : تبّاً لهم ، إنّما يطوفون بأعواد ورمّة بالية ، هلاّ طافوا بقصر أمير المؤمنين عبد الملك؟ ألا يعلمون أن خليفة المرء خير من رسوله (٣).

وعلى نفس المنوال يقول خالد بن عبد اللّه القسري والي مكة في خطبة له : أيها الناس ، أيّهما أعظم ، أخليفة الرجل على أهله ، أم رسوله إليهم؟ واللّه لو لم تعلموا فضل الخليفة ، ألا إن ابراهيم خليل الرحمن استسقى فسقاه ملحاً أجاجاً ، واستسقاه الخليفة فسقاه عذباً فراتاً. يريد بذلك بئراً حفرها الوليد بن عبد الملك بالثنيّتين : ثنية طوى ، وثنية الحجون ، فكان ينقل ماؤها ، فيوضع في حوض من

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين / الحاكم ٣ : ٥٥٦.

(٢) الفتوح / ابن أعثم ٦ : ٢٧٦.

(٣) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد ١٥ : ٢٤٢ ، النصائح الكافية / ابن عقيل : ١٠٦.

١٤

أدم إلى جنب زمزم ، ليعرف فضله على زمزم ، قال : ثمّ غارت البئر فذهبت ، فلا يدرى أين هي اليوم (١).

ولما أخذ خالد القسري سعيد بن جبير وطلق بن حبيب ليرسلهما إلى الحجّاج ، خطب فقال : كأنكم أنكرتم ما صنعت ، واللّه أن لو كتب إليّ أمير المؤمنين لنقضت الكعبة حجراً حجراً (٢) ، واللّه لأمير المؤمنين أكرم على اللّه من أنبيائه (٣).

وأفرغت صلاة الجمعة من محتواها الروحي والعبادي ، فتحوّلت إلى مأدبة غداء ، فقد ورد أن خطباء بني أمية كانوا يأكلون ويشربون على المنبر يوم الجمعة ، لإطالتهم في الخطبة ، وكان المسلمون تحت منبر الخطبة يأكلون ويشربون (٤) ، وأمثلة ذلك كثيرة سوّدت صحائف التاريخ ، وكلّها تحكي انحراف البيت الأموي عما يريد اللّه ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثانياً ـ سياسة الارهاب والترويع :

اعتمد الأمويون سياسة دموية في تثبيت سلطانهم ، تعتمد القمع والإرهاب والإسراف في دماء المسلمين وإذلالهم ، فقد روي أن عبد الملك كثيراً ما يجلس إلى أُمِّ الدرداء ، فقالت : بلغني أنّك شربت الطلاء (٥) بعد النسك والعبادة! فقال : إي واللّه ، والدماء شربتها (٦).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٢٢٥.

(٢) تاريخ دمشق ٦١ : ١٦١ ، سير أعلام النبلاء / الذهبي ٥ : ٤٢٩.

(٣) الأغاني ١٩ : ٦٠.

(٤) شرح نهج البلاغة ١٥ : ٢٤٢.

(٥) الطلاء : الخمر.

(٦) تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٢١٥.

١٥

واتّخذ مروان بن الحكم مصلّى رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في جبانة المدينة مصلباً ، فبعثت عائشة إليه : تعست ، صلّى عليه رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واتّخذته مصلباً! (١).

ووصف الوليد بن عبد الملك بأنّه شديد السطوة ، لا يتوقّف عند الغضب ، ولا ينظر في عاقبة ، ولا يكلّم عند سطوته ، وتهون عليه الدماء (٢).

ولغرض الإمعان في إذلال المسلمين ، كانت بنو أمية تختم في أعناقهم ، كما توسّم الخيل ، علامة لاستعبادهم ، ونقشوا أكفّ المسلمين علامة لاسترقاقهم ، كما يصنع بالعلوج من الروم والحبشة (٣).

وامتلأت بلاد المسلمين خلال هذه الحقبة بولاة القمع والجور ، قال عمر بن عبد العزيز : كان الوليد بالشام ، والحجاج بالعراق ، وعثمان بن حيان في الحجاز ، وقرة بن شريك بمصر ، امتلأت الأرض واللّه جوراً (٤). وقائمة عمال الجور طويلة فيها الكثير من الجلادين سيئي الصيت أمثال : هشام بن اسماعيل المخزومي ، وعبد اللّه بن هشام ، وإبراهيم بن هشام ، ومحمد بن هشام ، ومحمد بن يوسف ، ومحمد بن مروان ، وخالد بن عبد اللّه القسري ، وعبد الرحمن بن الضحاك ، وخالد بن عبد الملك وغيرهم ممن ملأوا الأرض جوراً وفساداً.

قال المسعودي : كان عدّة من قتله الحجّاج صبراً سوى من قتل في زحوفه وحروبه مئة ألف وعشرين ألفاً ، منهم سعيد بن جبير ، قتله في سنة ٩٤ هـ ، وكميل بن زياد النخعي ، وتوفّي الحجّاج وفي محبسه خمسون ألف رجل ،

__________________

(١) تاريخ المدينة / ابن شبة ١ : ٦٢.

(٢) التنبيه والاشراف / المسعودي : ٢٧٤.

(٣) شرح نهج البلاغة ١٥ : ٢٤٢.

(٤) تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٢٢٣.

١٦

وثلاثون ألف امرأة ، وكان حبسه حائراً لا شيء فيه يكنّهم فيه من حرّ ولا برد ، ويسقون الماء مشوباً بالرماد (١).

من هنا يقول عمر بن عبد العزيز : لو جاءت كل أمة بمنافقيها ، وجئنا بالحجّاج ، لفضلناهم (٢).

ثالثاً ـ نصب العداء لآل البيت عليهم‌السلام :

إنّ نصب العداء لآل البيت النبوي عليهم‌السلام وبغضهم وانتقاصهم وإباحة قتلهم وسفك دمائهم ، هو سلوك مألوف درج عليه حكام بني أُمية ، فقد دأب الحاكم الأموي من عهد معاوية على لعن أمير المؤمنين الإمام علي عليه‌السلام من على منابر المسلمين بعد صلاة الجمعة ثلاث مرات ، وبعضهم يزيد ذكر الحسن والحسين عليهما‌السلام ، رغم أن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «من سبّ علياً فقد سبّني ، ومن سبّني فقد سبّ اللّه» (٣).

قال عبيد اللّه بن كثير السهمي :

لعن اللّه من يسبّ علياً

وحسيناً من سوقة وإمام

أيسبّ المطهّرون جدوداً

والكرام الآباء والأعمام

يأمن الطير والحمام ولا يأ

من آل الرسول عند المقام

طبت بيتاً وطاب أهلك أهلاً

أهل بيت النبي والإسلام

رحمة اللّه والسلام عليهم

كلّما قام قائم بسلام (٤)

__________________

(١) التنبيه والاشراف : ٢٧٤.

(٢) تاريخ ابن الوردي : ١٨٠.

(٣) المستدرك / الحاكم ٣ : ١٢١.

(٤) شرح نهج البلاغة ١٥ : ٢٥٦.

١٧

وكانوا يقتلون من يمتنع عن سبّه عليه‌السلام ، يقول جابر الجعفي : لما أفضت الخلافة إلى بني أُمية سفكوا في أيامهم الدم الحرام ، ولعنوا أمير المؤمنين عليه‌السلام على منابرهم ألف شهر ، واغتالوا شيعته في البلدان ، وقتلوهم واستأصلوا شأفتهم ، ومالأتهم على ذلك علماء السوء رغبة في حطام الدنيا ، وصارت محنتهم على الشيعة لعن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فمن لم يلعنه قتلوه (١).

ولا يختلف إثنان في كون آل مروان من أقبح النواصب ، يقول الذهبي : في آل مروان نصب ظاهر ، سوى عمر بن عبد العزيز (٢). وقد قصد الوليد بن عبد الملك سيّد الساجدين وزين العابدين عليه‌السلام ، فدسّ إليه السمّ سنة ٩٥ هـ (٣).

ووصل بهم النصب والبغض أن حاربوا حتّى مَن يتسمّى بأسمائهم ، فقد روي أن إنساناً وقف للحجّاج الثقفي فصاح به : أيها الأمير ، إنّ أهلي عقّوني فسمّوني علياً ، وإنّي فقير بائس ، وإلى صلة الأمير محتاج. فتضاحك له الحجّاج قائلاً : للطف ما توسّلت به ولّيتك موضع كذا (٤).

على أن عمر بن عبد العزيز وإن استُثني من ظاهرة النصب الأموي المرواني ، إلاّ أنّه كان ـ مع ذلك ـ محكوماً بالفكر الأموي أيضاً في تفضيل عثمان على علي عليه‌السلام ، قال ميمون بن مهران : كنت أفضل علياً على عثمان ، فقال لي عمر ابن عبد العزيز : أيّهم أحبُّ إليك ، رجل أسرع في الدماء ، أو رجل أسرع في

__________________

(١) عيون المعجزات / حسين بن عبد الوهاب : ٦٩.

(٢) سير أعلام النبلاء ٥ : ١١٣.

(٣) مصباح الكفعمي : ٥٢٢ ، الفصول المهمة : ٢٠٨ ، نور الأبصار / الشبلنجي : ١٥٧.

(٤) شرح نهج البلاغة ١١ : ٤٦ ، ونحوه في ٤ : ٤٦.

١٨

المال؟ قال : فرجعت وقلت : لا أعود (١).

وكان عهد هشام بن عبد الملك حافلاً بالتعسّف والصدام المعلن مع الإمام الباقر عليه‌السلام ، فقد أمر بإشخاصه مع ولده الصادق عليهما‌السلام إلى الشام ، ولما ورد حجبه ثلاثة أيام (٢) ، وتآمر مع أصحابه ومن كان بحضرته من بني أُميّة للنيل منه وتوبيخه ، فلما دخل عليه أبو جعفر عليه‌السلام قال بيده السلام عليكم ، فعمّهم جميعاً بالسلام ثم جلس ، فازداد هشام عليه حنقاً بتركه السلام عليه بالخلافة وجلوسه بغير إذن ، فأقبل يوبّخه ، ويقول فيما يقول له : يا محمد بن علي ، لا يزال الرجل منكم قد شقّ عصا المسلمين ، ودعا إلى نفسه ، وزعم أنه الإمام سفهاً وقلّة علم ، فلما سكت القوم نهض عليه‌السلام قائماً ، ثم قال : «أيها الناس ، أين تذهبون ، وأين يُراد بكم؟! بنا هدى اللّه أولكم ، وبنا يختم آخركم ، فإن يكن لكم ملك معجّل ، فإن لنا ملكاً مؤجلاً ، وليس بعد ملكنا ملك ، لأنا أهل العاقبة ، يقول اللّه عزّوجلّ : «وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» (٣). فأمر به إلى الحبس» (٤). وأخيراً تكشّفت سريرة هشام بدسّ السمّ إلى الإمام عليه‌السلام والقضاء على حياته (٥).

وقد عبّر الإمام الباقر عليه‌السلام عن حالة الظلم المقصود به آل محمد عليهم‌السلام ، في

__________________

(١) تاريخ دمشق ١٦ : ٣٤٨ ، سير أعلام النبلاء ٥ : ٧٢.

(٢) نوادر المعجزات / الطبري : ١٢٩ ، دلائل الإمامة / الطبري : ٢٣٣.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ١٢٨.

(٤) الكافي ١ : ٤٧١ / ٥ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٢٢.

(٥) راجع : مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٣٩ ، دلائل الإمامة : ٢١٥ و ٢١٦ ، نور الأبصار : ١٩٥ ، الصواعق المحرقة / الهيتمي : ٢٠١ ، اسعاف الراغبين / ابن الصبان : ٢٥٤ ، مصباح الكفعمي : ٥٢٢ ، أحسن القصص / الشريف علي فكري ٤ : ٢٧٢ ، الفصول المهمة : ٢٢٢ ، بحار الأنوار ٤٦ : ٢١٧ / ١٩ ، التتمة : ٩٦.

١٩

حديثه لجابر الجعفي ، قال عليه‌السلام : «لا رعى اللّه هذه الأُمّة ، فإنها لم ترعَ حقّ نبيّها صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أما واللّه لو تركوا الحق على أهله لما اختلف في اللّه تعالى اثنان ، ثم أنشأ عليه‌السلام يقول :

إنّ اليهود بحبِّهم لنبيِّهم

قد آمنوا من حادث الأزمان

وذوو الصليب بحبِّ عيسى أصبحوا

يمشون زهواً في قرى نجران

والمؤمنون بحبِّ آل محمد

يُرمَون في الآفاق بالنيران» (١)

وعبّر الشاعر أبو ثميلة الأبّار عن رزية البيت النبوي خلال الحكم الأموي ، في قصيدته التي يرثي بها زيداً :

والناس قد أمنوا وآل محمد

من بين مقتول وبين مشرّد

نصب إذا ألقى الظلام ستوره

رقد الحمام وليلهم لم يرقد (٢)

البطش بشيعتهم :

لم يترك بنو أمية وسيلة من وسائل الإيذاء إلاّ اقترفوها بحقّ آل أبي طالب وشيعة أهل البيت ومواليهم ، فأمروا العمال والولاة بتشريدهم وملاحقتهم وقطع أرزاقهم والتضييق عليهم ، وملأوا بهم السجون ، وعرضوهم على البراءة أوالسيف ، فقتل من الشيعة خلقاً كثيرا سيما في زمان الحجاج.

وعرض جابر الجعفي في حديث شكوى الشيعة إلى الإمام زين العابدين عليه‌السلام ، واقع التشيع في ذلك الوقت ، قال جابر : «اشتكت الشيعة إلى زين العابدين عليه‌السلام ، وقالوا : يابن رسول اللّه ، أجلونا عن البلدان ، وأفنونا بالقتل الذريع ، وقد أعلنوا لعن أمير المؤمنين عليه‌السلام في البلدان ، وفي مسجد رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) ينابيع المودة / القندوزي ٣ : ٤٢ ، كفاية الأثر / الخزاز : ٢٤٧.

(٢) مقاتل الطالبيين / ابو الفرج : ١٠٢.

٢٠