الإمام موسى الكاظم عليه السلام سيرة وتاريخ

علي موسى الكعبي

الإمام موسى الكاظم عليه السلام سيرة وتاريخ

المؤلف:

علي موسى الكعبي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-37-9
الصفحات: ٢٣٤

ظُلم فغفر ، وأنت من ذلك النسل. قال : فتبسم وقال : أعد علي ، فأعدت ، فقال : مثلك فليكن زعيم القوم ، وقد عفوت عنكم ، ووهبت لكم جرم أهل البصرة ـ إلى أن قال ـ سرحنا إلى المدينة ، وكفى الله مؤنته » (١). وذلك أوضح شاهد على الأجواء الخانقة التي عاشها الإمام عليه‌السلام وعموم أهل بيته وعمومته ، وهو يكشف أيضاً مساحة واسعة من سريرة المنصور تجاه أهل البيت عليهم‌السلام.

وتلك الأجواء اضطرت الإمام الصادق عليه‌السلام إلى أن يتحاشى الصراحة في النص على إمامة ولده الكاظم عليه‌السلام إلاّ لخواص أصحابه خوفاً من السلطات الحاكمة التي شددت المراقبة عليه في السنين الأخيرة من حياته المباركة ، وهددت بقتل الإمام الذي ينص عليه ، فأوصى الإمام الصادق عليه‌السلام إلى خمسة أشخاص ـ وروي إلى ثلاثة ـ حذراً على الإمام الذي بعده وعلى شيعته ، وتوفّي الإمام الصادق عليه‌السلام مسموماً بعنب دسّه إليه المنصور لعنه الله سنة ( ١٤٨ ه‍ ) (٢).

موقفه من الطالبيين :

أعلن المنصور حرباً منظّمة في كل الاتجاهات ضد الطالبيين لم يسلم منها أحد منهم ، وقد أفرط هذا الطاغية في استخدام القوة ضدهم متبعاً سياسة السيف والنطع ، وكمّم أفواههم ، وأمعن في اذلالهم واضطهادهم ، وزجهم في السجون وأذاقهم جميع صنوف العنف والجور والعذاب.

ففي الأيام التي توارى فيها محمد النفس الزكية قبض المنصور على أبيه واثني عشر من آل بيته ، فزجّهم مصفدين بالأغلال في سجن مظلم لا يُعرف فيه

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٢٣٢.

(٢) الفصول المهمة : ٢٣٠ ، دلائل الإمامة / الطبري : ٢٤٦ ، الاعتقادات / الشيخ الصدوق : ٩٨ ، مناقب آل أبي طالب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٩٩.

٤١

الليل من النهار ، يدعى المطبق ، فكانوا لا يعرفون أوقات الصلوات إلا بأجزاء يقرؤها علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن (١) ، كما جزأوا القرآن الكريم خمسة أجزاء ، فكانوا يصلون الصلاة على فراغ كل واحد منهم لجزئه (٢).

فمكثوا في الحبس عدة سنين سلّط عليهم فيها أنواع العذاب حتى قتلوا بضروب من القتل ، فبعضهم طرح في بيت وطيّن عليه حتى مات ، وبعضهم وجدوا مسمّرين في الحيطان ، وذكر أبو الفرج أن المنصور طرح على عبد الله بن الحسن بيت فمات ، وسأل ابراهيم بن الحسن : أنت الديباج الأصفر ؟ قال : نعم. قال المنصور : أما والله لأقتلنك قتلة ما قتلتها أحداً من أهل بيتك. ثم أمر باسطوانة مبنية ففرغت ، ثم أدخل فيها فبنيت عليه وهو حي. وكان ابراهيم أشبه الناس برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في زمانه ، ويدعى الديباج الأصفر من حسنه (٣).

وقتل منهم في الحبس بأمر المنصور عدا من ذكرنا : الحسن المثلث بن الحسن ، وعلي بن الحسن بن الحسن ، والعباس بن الحسن بن الحسن وكان حدثاً ، وقد منعوا أُمه أن تودّعه ، وإسماعيل بن إبراهيم بن الحسن ، ومحمد بن إبراهيم بن الحسن ، وعلي بن محمد بن عبد الله بن الحسن ، وعلي بن الحسن بن زيد بن علي ، وحمزة بن إسحاق بن علي بن عبد الله بن جعفر (٤).

وضرب موسى بن عبد الله بن الحسن بالسياط حينما سيرهم أولاً إلى الربذة حتى غشي عليه وهو حدث ، وقال له المنصور : هذا فيض فاض مني فأفرغت عليك منه سجلاً لم استطع رده ، ومن ورائه والله الموت.

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ١٢٩ ـ ١٣١.

(٢) مروج الذهب / المسعودي ٣ : ٢٢٥.

(٣) مقاتل الطالبيين : ١٢١ و ١٣٦ و ١٤٥ و ١٥٤ ، تاريخ الطبري ٩ : ٣٩٨.

(٤) مقاتل الطالبيين : ١٢٢ و ١٢٦ ـ ١٣١ و ١٣٣ ـ ١٣٩ و ١٤٥ و ١٥٤.

٤٢

ولما حملهم من الربذة أمر المنصور بضربه خمسمائة سوط فصبر ، وقيل : إن موسى لم يزل محبوساً حتى أطلقه المهدي ، وقيل : انه توارى بعد ذلك حتى مـات (١).

وعاش عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بعد مقتل محمد النفس الزكية وأخيه ابراهيم متوارياً يتنقل أحياناً في زي الجمالين ، ولما ولي المهدي العباسي طلبه فلم يقدر عليه ، فنادى بأمانه إن ظهر ، فبلغه خبر الأمان ولم يظهر ، واستمر مختفياً إلى أن توفى سنة ( ١٦٨ ه‍ ) (٢).

وممن أخذه المنصور من آل أبي طالب وحبسه وضربه بالسوط الحسن بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، فلما قتل محمد بن عبد الله أخذه المنصور فضربه بالسوط أربعمائة سوط وحبسه فلم يزل في الحبس حتى مات المنصور فأطلقه المهدي (٣).

وتتبع بقيتهم بحرب اقتصادية طالت حتى أطفالهم ونسائهم ، فقد أمر المنصور عماله بمصادرة جميع أموالهم وبيع رقيقهم ، فصودرت بالفعل أموال بني الحسن وكثير من العلويين وبني هاشم (٤).

وروى أبو الفرج أن المنصور لما قبض أموال عبد الله بن الحسن حج فصاحت به عاتكة بنت عبد الملك ، وهي أم عيسى وسليمان وإدريس بني عبد الله بن الحسن ، وهي تطوف في ستارة : « أيتامك بنو عبد الله بن الحسن ، مات أبوهم في حبسك وأمرت بقبض ضياعهم ، فأمر بردها عليهم » (٥).

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٢٥٩.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٢٦٧ ـ ٢٨٤ ، الأعلام / الزركلي ٥ : ١٠٢.

(٣) مقاتل الطالبيين : ٢٠١.

(٤) مقاتل الطالبيين : ٢٧٣.

(٥) مقاتل الطالبيين : ٢٦٢.

٤٣

وازاء هذا الظلم المستمر واصل الطالبيون قيادة حركة المعارضة المسلحة ضد طغيان المنصور.

موقفه من الموالين لأهل البيت عليهم‌السلام :

تعامل المنصور بقسوة مع شيعة أهل البيت ومحبيهم ، فقد أجبر أهل الكوفة على لبس السواد ، روى عمر بن شبة عن علي بن الجعد ، قال : « رأيت أهل الكوفة أيام أخذوا بلبس السواد حتى ان البقالين إن كان أحدهم ليصبغ الثوب بالأنقاس (١) ثم يلبسه » (٢).

وكان ولاته يقتلون الناس خلسة على التهمة بالدعوة للثوار العلويين ، قال العباس بن سَلم مولى قحطبة : « كان أبو جعفر اذا اتهم أحداً من أهل الكوفة بالميل إلى إبراهيم أمر أبي ( سَلماً ) بطلبه ، فكان يمهل حتى اذا غسق الليل وهدأ الناس نصب سُلّماً على منزل الرجل فطرقه في بيته فيقتله ويأخذ خاتمه. فكان جميل مولى محمد بن أبي العباس يقول للعباس بن سَلم : لو لم يورثك أبوك إلاّ خواتيم من قُتل من أهل الكوفة لكنت أيسر الأبناء » (٣).

ولم يسلم من إلصاق هذه التهمة حتى قادة الدولة ، ومنهم خالد بن كثير أبو المغيرة مولى تميم ، أحد القواد الولاة في أيام المنصور ، ولي قوهستان بفارس مدة إلى أن استعمل على خراسان عبد الجبار بن عبد الرحمن ، فاتهم جماعة بالدعوة للطالبيين فقتلهم سنة ( ١٤٠ ه‍ ) ، وكان منهم خالد (٤).

__________________

(١) أي المداد.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٢١٣. وفي الطبري : حدثني أبو الحسن الحذاء ، قال : أخذ أبو جعفر الناس بالسواد فكنت أراهم يصبغون ثيابهم بالمداد.

(٣) مقاتل الطالبيين : ٢١٣.

(٤) الأعلام / الزركلي ٢ : ٢٩٨.

٤٤

وقتل الشاعر الحجازي المكي سديف بن اسماعيل بن ميمون ، مولى بني هاشم ، وكان أعرابياً بدوياً ، شديد التحريض على بني أمية ، وعاش إلى زمن المنصور ، فتشيع لبني علي عليه‌السلام ، فقتله عبد الصمد بن علي عامل المنصور بمكة سنة ( ١٤٦ ه‍ ) (١).

ونقم المنصور على ابراهيم بن هرمة الفهري المدني الشاعر ، لقوله :

ومهما اُلام على حبهم

فاني أحب بني فاطمهْ

بني بنت من جاء بالمحكما

ت وبالدين وبالسنة القائمهْ (٢)

موقفه من الإمام الكاظم عليه‌السلام :

اتخذ الإمام الصادق عليه‌السلام تدبيراً محكماً للعمل على وقاية خليفته الإمام الكاظم عليه‌السلام من شرور السلطة التي كانت تخطط لقتله والقضاء عليه ، ذكر أبو أيوب النحوي أن أبا جعفر المنصور دعاه في جوف الليل ، فلما أتاه رمى كتاباً إليه وقال : هذا كتاب محمد بن سليمان يخبرنا بأن جعفر بن محمد قد مات ، فانا لله وإنا إليه راجعون ، وأين مثل جعفر ! ثم قال له : اكتب إن كان أوصى إلى رجل بعينه فقدمه واضرب عنقه. فكتب وعاد الجواب : قد أوصى إلى خمسة أحدهم أبو جعفر المنصور ، ومحمد بن سليمان ، وعبد الله ، وموسى ، وحميدة ، قال المنصور : ما إلى قتل هؤلاء سبيل (٣).

كما سار الإمام الكاظم عليه‌السلام خلال فترة امامته في عهد المنصور ( ١٤٨ ـ ١٥٨ ه‍ ) على خطى أبيه عليه‌السلام ، فكان يوصي أصحابه بالكتمان والحذر وعدم المجاهرة بامامته ، قال لهشام بن سالم : « من آنست منهم رشداً فألق إليه وخذ

__________________

(١) الأعلام / الزركلي ٣ : ٨٠.

(٢) البداية والنهاية ١٠ : ١٨١.

(٣) الكافي ١ : ٣١٠ ، مناقب آل أبي طالب / ابن شهر آشوب ٣ : ٤٣٤.

٤٥

عليه الكتمان ، فإن أذاع فهو الذبح ، وأشار بيده إلى حلقه » (١).

وكان الإمام الكاظم عليه‌السلام على منتهى الحذر من عيون السلطة الذين يتحرّون من يجتمع إليه الناس بعد موت الإمام الصادق عليه‌السلام ، فهو لا يلتقي بأصحابه إلاّ سرّاً ، فحين سأله خلف بن حماد الكوفي عن مسألة أعيته وأصحابه قال عليه‌السلام : « إذا هدأت الرجْل وانقطعت الطريق فأقبل » (٢).

وهكذا اقتصر الإمام الكاظم عليه‌السلام على مزاولة أعماله الخاصة واعتزل الناس إلاّ خواص أصحابه الذين يلتقي بهم في ظروف هو يحدّدها ، كما أن بعض شيعة أبيه كانوا قد قالوا بإمامة أخيه عبد الله الأفطح ، وبعضهم قال بإمامة أخيه إسماعيل المتوفّى في حياة أبيه عليه‌السلام ، كل ذلك جعل المنصور في حيرة من معرفة الإمام بادئ الأمر ، فكفّ عنه سطوته واستطالته. فلم يشخصه إلى بغداد ويتهدّده بالقتل كما كان يفعل مع أبيه عليه‌السلام ، ولم يودَع السجن كما في أيام المهدي والرشيد حيث ذاع صيته وتوسعت قاعدته والتفّ حوله شيعته ورجع إليه من قال بإمامة غيره.

٢ ـ المهدي العباسي ( ١٥٨ ـ ١٦٩ ه‍ ) :

هو محمد بن عبد الله المنصور العباسي ، وهو أول من مشي بين يديه بالسيوف المصلتة والقسي والنشاب والعمد ، وأول من لعب بالصوالجة في الإسلام.

وروي ما يدل على تقصيره وعدم استحقاقه للخلافة ، قال عمرو بن عبيد إمام المعتزلة للمنصور وهو يشير إلى ابنه المهدي : ومن هذا ؟ فقال : هذا ابني محمد ، ولي العهد من بعدي. فقال عمرو : إنك سميته اسماً لم يستحقّه لعمله ،

__________________

(١) الارشاد / الشيخ المفيد ٢ : ٢٢٢ و ٢٣٥.

(٢) الكافي ٣ : ٩٢ / ١ ، المحاسن / البرقي : ٣٠٨ / ٢٢.

٤٦

وألبسته لبوساً ما هو لبوس الأبرار ، ولقد مهّدت له أمراً أمتع ما يكون به أشغل ما يكون عنه.

وقال المنصور يوماً لابنه المهدي : كم عندك من دابة ؟ فقال : لا أدري. فقال : هذا هو التقصير ، فأنت لأمر الخلافة أشدّ تضييعاً.

موقفه من الطالبيين :

أعلن المهدي العباسي في مستهل حكومته عفواً يكاد يكون عاماً عن سجناء الرأي المودَعين في سجون السلطة ، وتحدّث المؤرخون عن أنه أمر عند وفاة المنصور بإخراج من في المحابس من الطالبيين وغيرهم من سائر الناس فأطلقهم ، وأمر لهم بجوائز وصِلات وأرزاق (١).

وذلك العفو لا يعني الخروج عن النهج المألوف القاضي بقمع حركة الطالبيين الداعين إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، واستبداله بسياسة التسامح وسماع الرأي الآخر ، يتّضح ذلك من خلال موقف المهدي من قادة الطالبيين الخارجين في زمانه ، ومنهم أبو الحسن علي بن العباس بن الحسن ، وكان قدم بغداد ودعا إلى نفسه سراً ، فاستجاب له جماعة من الزيدية ، وبلغ المهدي خبره فأخذه ، فلم يزل في حبسه حتى قدم الحسين بن علي صاحب فخ فكلمه فيه واستوهبه منه فوهبه له ، فلما أراد إخراجه من حبسه دسّ إليه شربة سمّ فعملت فيه ، فلم يزل ينتقض عليه بمرور الأيام حتى قدم المدينة فتفسّخ لحمه وتباينت أعضاؤه ، فمات بعد دخوله المدينة بثلاثة أيام (٢).

وسخط المهدي على يعقوب بن داود بن طهمان وزيره الذي فوّض إليه جميع أمر الخلافة ، لأنه أمره بقتل الحسن بن ابراهيم بن عبد الله بن الحسن بن

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٩٤.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٢٦٧.

٤٧

الحسن ، فلم يمتثل لأمره وأطلقه ، فسجنه المهدي في بئر في المطبق وبنيت عليه قبّة ، ونبت شعره حتى صار مثل شعور الأنعام وعمي ، ومكث نحواً من خمس عشرة سنة في ذلك البئر لا يرى ضوءاً ولا يسمع صوتاً حتى مات سنة ( ١٨٢ ه‍ ) في أيام الرشيد (١).

موقفه من الشيعة :

وممن تعرّض لسخط المهدي من أصحاب الإمام الكاظم عليه‌السلام الثقات ، عمر ابن أذينة الكوفي ، فقد هرب من الكوفة إلى اليمن خوفاً من بطش المهدي العباسي ، ولم يزل يسكن اليمن حتى توفي بها نحو سنة ( ١٦٩ ه‍ ) (٢).

موقفه من الإمام الكاظم عليه‌السلام :

لم تشهد الفترة الاُولى من حكم المهدي أي موقف مشهود تجاه الإمام الكاظم عليه‌السلام ، لأن الإمام عليه‌السلام كان قد تمسك بالسرية التامة وابتعد عن الأضواء ، وورد ما يدلّ على أن المهدي كان لا يتحرّج من استفتائه إذا اقتضت الضرورة ذلك ، وكان الإمام عليه‌السلام يجيبه حيثما يتعلق الأمر بخدمة الدين الحنيف ، فحين أراد المهدي توسعة المسجد الحرام بقيت دار في تربيع المسجد ، فطلبها من صاحبها فامتنع ، فسأل عن ذلك الفقهاء ، فقالوا : « لا ينبغي أن يدخل شيئاً في المسجد الحرام غصباً ، فطلب علي بن يقطين من المهدي أن يكتب إلى موسى بن جعفر عليهما‌السلام ليخبره بوجه الأمر في ذلك ، فكتب إلى والي المدينة ليسأل أبا الحسن عليه‌السلام فقال : اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم ، إن كانت الكعبة هي النازلة بالناس فالناس أولى بفنائها ، وإن كان الناس هم النازلون بفناء الكعبة فالكعبة أولى بفنائها ، فلما أتى الكتاب إلى المهدي ، أمر بهدم الدار ،

__________________

(١) البداية والنهاية ١٠ : ١٣٧ و ١٥٧ و ١٩٥.

(٢) خلاصة العلاّمة : ٢١١ / ٢ ، رجال ابن داود : ١٤٤ / ١١١١.

٤٨

فأتى أهل الدار أبا الحسن عليه‌السلام فسألوه أن يكتب لهم إلى المهدي كتاباً في ثمن دارهم ، فكتب إليه : أن أرضخ لهم (١) شيئاً ، فأرضاهم » (٢).

ولم يكن الإمام الكاظم عليه‌السلام بالذي يهاب المهدي من أن يواجهه بأخطر مسألة تعرض لها أهل البيت عليهم‌السلام ، وهي قضية فدك التي تمثل عند الإمام الكاظم عليه‌السلام رمزاً للحقّ المغتصب والخلافة المسلوبة بناءً على التحديد الذي ذكره ، فقد ورد الإمام الكاظم عليه‌السلام مرة على المهدي فرآه يرد المظالم ، ولعل ذلك في موسم الحج ، فقال : « ما بال مظلمتنا لا تُرد ؟ ، فقال له : وما ذاك يا أبا الحسن ؟ قال : فدك ، قال المهدي : حدها لي ، فقال : حدّ منها جبل أحد ، وحدّ منها عريش مصر ، وحدّ منها سِيف البحر ، وحدّ منها دومة الجندل ، فقال له : كل هذا ؟ قال : نعم ، هذا كله مما لم يوجف أهله على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بخيل ولا ركاب ، فقال : هذا كثير وأنظر فيه » (٣).

ولعل قرار سجن الإمام عليه‌السلام كان هو الجواب الذي نظر فيه المهدي ، فلما اشتهر الإمام عليه‌السلام وذاع صيته وتوسعت مرجعيته ، عمد المهدي إلى استدعائه إلى بغداد ، فحبسه ليكون محاصراً ومعزولاً عن شيعته في المدينة.

روى أبو خالد الزبالي خبر اشخاصه من المدينة إلى بغداد من قبل المهدي العباسي ، فقد رآه الإمام عليه‌السلام منقبضاً تعلو وجهه سحابة قاتمة من الوجد لأنه لا يأمن عليه في مسيره إلى الطاغية ، فطمأنه الإمام عليه‌السلام قائلاً : « يا أبا خالد ، ليس عليّ بأس » (٤) ، وفعلاً أطلقه المهدي بعد أن مكث مدة في السجن ملياً.

__________________

(١) أرضخ له : أعطاه عطاءً غير كثير ، أو قليلاً من كثير.

(٢) تفسير العياشي ١ : ٣٢٣ / ٧٢٩.

(٣) الكافي ١ : ٤٥٦ / ٥ ، التهذيب ٤ : ١٤٨ / ٤١٤.

(٤) الكافي ١ : ٤٧٧ / ٣ ، اثبات الوصية : ١٦٥ ، الخرائج والجرائح ١ : ٣١٥ / ٨.

٤٩

ذكر كثير من المؤرخين أن المهدي لم يطلقه إلاّ بعد أن رأى برهان ربه ، رووا عن الفضل بن الربيع عن أبيه ، أنه لما حبس المهدي موسى بن جعفر رأى المهدي في النوم علي بن أبي طالب عليه‌السلام وهو يقول : « يا محمد ، ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ) (١) ، قال الربيع : فأرسل لي ليلاً فراعني ذلك ، فجئته فاذا هو يقرأ هذه الآية ، وقال : عليّ بموسى بن جعفر ، فجئته به فعانقه وأجلسه إلى جانبه وقال : يا أبا الحسن ، اني رأيت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في النوم يقرأ علي كذا ، فتؤمنني أن تخرج علي أو على أحد من ولدي ؟ فقال : الله لا فعلت ذاك ، ولا هو من شأني ، قال : صدقت ، يا ربيع أعطه ثلاثة آلاف دينار ورده إلى أهله إلى المدينة ، قال الربيع : فأحكمت أمره ليلاً ، فما أصبح إلاّ وهو في الطريق خوف العوائق » (٢).

وكان المهدي يقصد قتله عليه‌السلام لكن مشيئة الله سبحانه كانت تحول دون ذلك ، ذكر ابن شهر آشوب أنه في الليلة التي أمر باطلاق الإمام عليه‌السلام كان قد أمر حميد بن قحطبة أن يقتله في السحر بغتة ، فرأى في تلك علياً عليه‌السلام يشير إليه ويقرأ الآية فانتبه مذعوراً ، ونهى حميداً عما أمره ، وأكرم الكاظم عليه‌السلام ووصله (٣). وذكر ابن عنبة أن المهدي تنكر له بعد اطلاقه ، فهلك قبل أن يوصل إلى

__________________

(١) سورة محمّد : ٤٧ / ٢٢.

(٢) تاريخ بغداد ١٣ : ٣٢ ، البداية والنهاية ١٠ : ١٩٧ ، صفة الصفوة / ابن الجوزي ٢ : ١٨٤ ، تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي : ٢٤٩ ، وفيات الأعيان / ابن خلكان ٥ : ٣٠٨ ، سير أعلام النبلاء / الذهبي ٦ : ٢٧٢ ، الفصول المهمة / ابن الصباغ : ٢٣٠ ، تاريخ الطبري ٦ : ٣٩٨ ، مرآة الجنان / اليافعي ١ : ٣٩٤ ، الصواعق المحرقة / الهيتمي : ١٢٣ ، مطالب السؤول / ابن طلحة : ٨٣ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٥٣.

(٣) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٤١٨.

٥٠

الكاظم عليه‌السلام أذى (١).

وعاد الإمام عليه‌السلام إلى المدينة مع حلول الظلام فالتقاه أبو خالد الزبالي ، فاذا هو على بغلة أمام القطار ، فسلم عليه وسرّ بمقدمه وهنأه بالسلامة ، فقال عليه‌السلام : « يا أبا خالد ، ان لهم إليّ عودة لا أتخلص منها » (٢). وستكون تلك العودة إلى أرض العراق في زمن الرشيد وبالتحديد سنة ( ١٧٩ ه‍ ).

٣ ـ موسى الهادي ( ١٦٩ ـ ١٧٠ ه‍ ) :

هو موسى بن محمد المهدي بن المنصور ، استبدت أمه الخيزران بالأمر في زمانه ، وأراد خلع أخيه هارون من ولاية العهد وجعلها لابنه جعفر ، فلم ترض أمه ذلك فزجرها ، فأمرت جواريها أن يقتلنه فخنقنه في النصف من ربيع الأول أو الآخر سنة ( ١٧٠ ه‍ ) (٣).

موقفه من الطالبيين :

وقع الطالبيون تحت وطأة ظلم صارخ ووحشية مروعة في زمانه ، فقد ذكر المؤرخون أن الهادي ألحّ في طلب الطالبيين ، وأخافهم خوفاً شديداً ، وقطع ما كان المهدي يجريه لهم من الأرزاق والاُعطيات ، وكتب إلى الآفاق في طلبهم وحملهم ، وأسرف في سفك دمائهم ، فقتل أيام حكمه الحسين بن علي صاحب فخ وجماعة من أهله منهم : عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم بن الحسن ، وسليمان ابن عبد الله بن الحسن ، وضرب أعناق الأسرى صبراً ، منهم الحسن بن محمد ابن عبد الله بن الحسن.

وبلغ من حقد موسى الهادي على أهل بيت النبوة أنه كان علي بن الحسين

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٨ : ٢٤٧ / ٥٧.

(٢) الكافي ١ : ٤٧٧ / ٣ ، اثبات الوصية : ١٦٥ ، الخرائج والجرائح ١ : ٣١٥ / ٨.

(٣) الأعلام / الزركلي ٧ : ٣٢٧.

٥١

ابن علي بن الحسين عليه‌السلام الملقب بالجزري ، قد تزوج رقية بنت عمرو العثمانية ، وكانت قبله تحت المهدي ، فبلغ ذلك الهادي ، فأرسل إليه وحمل إليه ، فقال له : أعياك النساء إلاّ امرأة أمير المؤمنين ؟ قال : ما حرم الله على خلقه إلاّ نساء جدي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أما غيرهن فلا ولا كرامة ، فشجّه بمخصرة كانت في يده ، وجلده خمسمائة سوط ، وأراده أن يطلقها فلم يفعل ، وكان قد غشى عليه من الضرب (١).

موقفه من الإمام الكاظم عليه‌السلام :

رغم قصر مدة حكم الهادي العباسي التي لا تتجاوز سنة وشهراً ، فقد صمّم بعد مقتل الحسين صاحب فخ على التنكيل بالإمام الكاظم عليه‌السلام ، فاتّهمه بخروج الحسين وتوعده بالقتل ، لولا توجّه الإمام عليه‌السلام إلى الله تعالى بالدعاء للخلاص من شرّه وظلمه ، فاستجاب الله دعاءه وقصم ظهر الهادي الغشوم قبل أن ينال الإمام بسوء.

روى ابن طاوس بالإسناد عن أبي الوضاح محمد بن عبد الله النهشلي ، قال : « أخبرني أبي ، قال : لما قُتل صاحب فخ وتفرّق الناس عنه ، حمل رأسه والأسرى من أصحابه إلى موسى الهادي ...ثم أمر برجل من الأسرى فوبّخه ثم قتله ، ثم صنع مثل ذلك بجماعة من ولد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ... إلى أن ذكر موسى بن جعفر عليهما‌السلام فنال منه. وقال : والله ما خرج حسين إلاّ عن أمره ، ولا اتبع إلاّ محبّته ، لأنه صاحب الوصية في أهل هذا البيت ، قتلني الله إن أبقيت عليه. فقال له أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي ، وكان جريئاً عليه : يا أمير المؤمنين ، أقول أم أسكت ؟ فقال : قتلني الله إن عفوت عن موسى بن جعفر ،

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٠٤ ، مقاتل الطالبيين : ٢٨٨.

٥٢

ولولا ما سمعته من المهدي فيما أخبر به المنصور بما كان به جعفر من الفضل المبرز عن أهله في دينه وعلمه وفضله ، وما بلغني من السفاح فيه من تقريظه وتفضيله ، لنبشت قبره وأحرقته بالنار إحراقاً.

فقال أبو يوسف : نساؤه طوالق ، وعتق جميع ما يملك من الرقيق ، وتصدّق بجميع ما يملك من المال ، وحبس دوابه ، وعليه المشي إلى بيت الله الحرام ، إن كان مذهب موسى بن جعفر الخروج ، لا يذهب إليه ، ولا مذهب أحد من ولده ، ولا ينبغي أن يكون هذا منهم ، .... ولم يزل يرفق به حتى سكن غضبه.

قال : وكتب علي بن يقطين إلى أبي الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام بصورة الأمر ، فورد الكتاب إليه ، فأشار عليه أصحابه أن يغيب شخصه عن هذا الجبار لأنه لا يؤمن شره وعاديته وغشمه ، فتبسم موسى عليه‌السلام ثم تمثل ببيت كعب بن مالك أخي بني سلمة وهو :

زعمت سخينة أن ستغلب ربها

فليغلبن مغالب الغلاب (١)

ثم أقبل على من حضره من مواليه وأهل بيته فقال : ليفرخ روعكم ، انه لا يرد أول كتاب من العراق إلاّ بموت موسى بن المهدي وهلاكه إلى أن قال : وقال : بينما أنا جالس في مصلاي بعد فراغي من وردي ، وقد تنومت عيناي ، إذ سنح جدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في منامي ، فشكوت إليه موسى بن المهدي ، وذكرت ما جرى منه في أهل بيته ، وأنا مشفق من غوائله ، فقال لي : لتطب نفسك يا موسى ، فما جعل الله لموسى عليك سبيلاً ، فبينما هو يحدثني إذ أخذ بيدي وقال لي : قد أهلك الله آنفاً عدوك ، فليحسن لله

__________________

(١) البيت لكعب بن مالك ، وقيل : لحسان بن ثابت ، وسخينة : لقب قريش ، لأنها كانت تعاب بأكل السخينة ، وهي طعام يتخذ من الدقيق ، يأكلونه أيام القحط.

٥٣

شكرك.

قال : ثم استقبل أبو الحسن عليه‌السلام القبلة ورفع يديه إلى السماء يدعو ، قال : فسمعناه وهو يقول في دعائه : شكراً لله جلت عظمته ، إلهي كم من عدو انتضى علي سيف عداوته... إلى آخر الدعاء ـ وهو دعاء طويل جليل المضامين ، يسمى دعاء الجوشن الصغير.

وفي ذلك يقول بعض من حضر موسى بن جعفر عليهما‌السلام من أهل بيته يصف تلك الدعوة وسرعة إجابتها :

وسارية لم تسرِ في الأرض تبتغي

محلاً ولم يقطع بها العبد قاطع

تمرّ وراء الليل والليل ضارب

بجثمانه فيه سمير وهاجع

تفتح أبواب السماء ودونها

إذا قرع الأبواب منهن قارع

إذا وردت لم يردد الله وفدها

على أهلها والله راءٍ وسامع

واني لأرجو الله حتى كأنما

أرى بجميل الظن ما الله صانع » (١)

٤ ـ الرشيد ( ١٧٠ ـ ١٩٣ ه‍ ) :

هو هارون بن محمد المهدي بن المنصور العباسي الملقب بالرشيد باطلاً ، خامس ملوك الدولة العباسية وأشهرهم ، كان كثير الغزوات يلقب بجبار بني العباس ، ولم يجتمع على باب ملك ما اجتمع على بابه من علماء السوء والشعراء والكتاب والندماء ، وهو أول ( خليفة ) لعب بالكرة ، وهو صاحب وقعة البرامكة ، وهم من أصل فارسي ، وكان قد فوّض إليهم شؤون الدولة ، فقلق من تحكمهم فأوقع بهم في ليلة واحدة (٢).

__________________

(١) مهج الدعوات / ابن طاوس : ٢١٧ ، والحديث في عيون أخبار الرضا ١ : ٧٩ / ٧ ، أمالي الصدوق : ٤٥٩ / ٦١٢ ، أمالي الطوسي : ٤٢١ / ٩٤٤.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٢٩ ، البداية والنهاية ١٠ : ١٧١ ، الأعلام ٨ : ٦٢.

٥٤

وحرص قارون اللا رشيد لعنه الله على اختيار شعراء البلاط بما ينسجم مع توجهاته ، فقرب النواصب من الشعراء وعلى رأسهم مروان بن أبي حفصة ( ١٠٥ ـ ١٨٢ ه‍ ) الذي مدحه وأباه وجمع من الجوائز والهبات ثروة واسعة ، وكان رسم بني العباس أن يعطوه بكل بيت يمدحهم به ألف درهم ، وكان يتقرب إلى هارون بهجاء العلويين (١).

موقفه من الشيعة :

كان هارون يأمر بحمل الشيعة إليه بذرائع مختلفة ، فيتعرضون للحبس والضرب وشتى وسائل التعذيب ، ومن هؤلاء محمد بن أبي عمير الأزدي البغدادي ، وهو من أوثق الناس عند الخاصة والعامة وأنسكهم وأورعهم وأعبدهم ، وحكي عن الجاحظ قوله فيه : كان أوحد أهل زمانه في الأشياء كلها. حبس أيام الرشيد على التشيع نحو (١٧) سنة ، وطلب منه أن يدل على الشيعة وأصحاب موسى بن جعفر عليهما‌السلام في العراق ، وضرب على ذلك (١٢٠) خشبة حتى كاد يقر لعظيم الألم ، فسمع محمد بن يونس يقول له : اتق الله يا محمد ، فصبر ففرج الله عنه ، وذلك بعد أن أدّى من ماله واحداً وعشرين ألف درهم ، ومما يدل على مدى الظلم الذي لحق بشيعة الإمام أن اخت ابن أبي عمير دفنت كتبه حينما كان في السجن خوفاً من السلطة حتى تلفت الكتب (٢).

وقتل هارون عبد الحميد بن عواض الطائي الكسائي الكوفي بعد استدعائه مع مرازم وجرير ابني حكيم ، وهو من أصحاب الإمام الباقر والصادق

__________________

(١) الأعلام / الزركلي ٧ : ٢٠٨ ، الأغاني ٩ : ٣٤ ، تاريخ بغداد ١٣ : ١٤٢ ، النجوم الزاهرة ٢ : ١٠٦ ، الوافي بالوفيات ٢٤ : ١٥٨ ، معجم المؤلّفين ١٢ : ٢٢١.

(٢) رجال النجاشي : ٢٢٨ ، خلاصة العلاّمة : ٢٣٩ / ١٨ ، الفهرست : ١٤٢ ، شرح مشيخة الفقيه ٣ : ٥٦ ، الذريعة ٢٥ : ٣٠٦.

٥٥

والكاظم عليهم‌السلام ، وكان ثقة (١).

وروي أنه في زمانه اختفى هشام بن الحكم لطلب السلطة له بسبب مناظراته حتى توفي بعد نكبة البرامكة بمدة يسيرة متستراً ، وكان من خواص الإمام موسى بن جعفر عليهما‌السلام ، وقيل : بل توفي في زمان المأمون (٢).

موقفه من الطالبيين :

أزاد هارون من وتيرة الضغط على الطالبيين طيلة مدة حكمه التي دامت (٢٣) عاماً ، فأكثر من تتبعهم بالاقصاء والاستبعاد والقمع ، وبطش بسراتهم وساداتهم ، روى أبو الفرج عن النوفلي عن أبيه ، قال : كان الرشيد مغرى بالمسألة عن أمر آل أبي طالب وعمن له ذكر ونباهة منهم (٣).

وتعرض في زمانه كثير منهم للاعتقال ، وكان يوصي بالتضييق عليهم وزيادة التقييد والحديد ، وبعضهم مات في الحبس لطول التعذيب ، أو ضربت أعناقهم صبراً ، أو أمر بقتلهم خنقاً ، وعاش آخرون مختفين طوال حياتهم ، وقتل حميد بن قحطبة وحده ستين علوياً.

وممن تعرض لبطش هارون في زمانه : عبد الله بن الحسن بن علي بن الحسين عليه‌السلام ، سجنه اللا رشيد ثم حوله إلى جعفر بن يحيى البرمكي ، فضرب عنقه وغسل رأسه وجعله في منديل وأهداه إلى هارون مع هدايا النيروز (٤).

والحسين بن عبد الله بن اسماعيل بن عبد الله بن جعفر ، أخذه بكار الزبيري

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٤ : ٥١٩ ، جامع الرواة / الأردبيلي ١ : ٤٠٠.

(٢) الفهرست : ٢٥٨ / ٧٨٣.

(٣) مقاتل الطالبيين : ٣٢٧.

(٤) مقاتل الطالبيين : ٣٢٧.

٥٦

بالمدينة فضربه بالسوط ضرباً مبرحاً ، فمات من ذلك الضرب (١).

ويحيى بن عبد الله بن محمد بن عمر الأطرف بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، من أصحاب الصادق عليه‌السلام ، وكان يدعى بالصالح والصوفي ، لكثرة زهده وورعه وتقشفه ولبسه الصوف الخشن ، حبسه هارون ثم أمر بخنقه في الحبس ، ودفن بمقابر مسجد السهلة (٢).

ومحمد بن يحيى بن عبد الله بن الحسن ، حبسه بكار الزبيري ، وجعل هارون يتبعه برسول بعد رسول يأمره بالتضييق عليه ، ثم أمره بتقييده ، ثم أمره باثقاله والزيادة في حديده ، فمات في حبسه (٣).

وإسحاق بن الحسن بن زيد بن الحسن ، حبسه هارون فمات في حبسه (٤) ، وعلي بن الأفطس المعروف بخرزي ، قتله ظلماً وعدواناً (٥).

أما العباس بن محمد بن عبد الله بن علي بن الحسين عليه‌السلام ، فكان ممن قتلهم هارون بحضرته ليطفئ الغلّ الذي يتوقد في نفسه ، فقد دخل العباس على هارون فكلمه كلاماً طويلاً ، فأمر به فأدني فضربه بعمود من حديد حتى قتله (٦).

وجعل هارون يحيى بن عبد الله الحسني في سرداب بعد أن أعطاه الأمان ، واستمر على هذا الحال إلى أن قتل في الحبس بالجوع والعطش والتعذيب نحو

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٣٠.

(٢) عمدة الطالب / ابن عنبة : ٣٦٧ ، معجم رجال الحديث ٢١ : ٧٠ / ١٣٥٧٣ ، المجدي في أنساب الطالبيين / علي بن محمد العلوي : ٢٨١.

(٣) مقاتل الطالبيين : ٣٢٩.

(٤) مقاتل الطالبيين : ٣٣٦.

(٥) المجدي في أنساب الطالبيين : ٢١٣.

(٦) مقاتل الطالبيين : ٣٣١.

٥٧

سنة ( ١٨٠ ه‍ ) (١).

واستعمل اُسلوب الضدّ النوعي في تصفية الخصوم ، فقد ندب سليمان بن جرير الجزري أحد متكلمي الزيدية ، ليقتل إدريس بن عبد الله بن الحسن ، فسقاه السم سنة ( ١٧٧ ه‍ ) (٢).

وفرّ بعض الطالبيين من السجن ، غير أنهم عاشوا متوارين ، منهم أحمد بن عيسى بن زيد بن علي ، وكان فاضلاً عالماً بالدين والحديث ، أحضره هارون إلى بغداد وسجنه بالرافقة سنة ( ١٨٨ ه‍ ) ، ففرّ من السجن واختفى في البصرة ، فأذكى هارون عليه العيون ، وجعل لمن جاء به الأموال ، فلم يقدر عليه ، واستمر مستتراً إلى أن مات (٣).

وروي عن عبيد الله البزاز النيسابوري عن حميد بن قحطبة أنه قتل ستين علوياً بأمر هارون ، كان قد جعلهم في بيوت مغلقة ، وكانوا مقيدين وعليهم الشعور والذوائب ، وكلهم من العلوية ، وبعد أن قتلهم رمى بأجسادهم ورؤوسهم في الآبار. روى الصدوق بالإسناد عن عبيد الله البزاز ، أنه دخل على حميد بن قحطبة الطائي الطوسي فرآه يأكل في وقت الصيام من شهر رمضان ، وحينما سأله قال : إذا كان فعلي هذا ، وقد قتلت ستين نفساً من ولد رسول الله ، فما ينفعني صومي وصلاتي ؟! (٤).

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣١٣ ـ ٣٢٣ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٠٨ ، البداية والنهاية ١٠ : ١٧٨ ، الأعلام / الزركلي ٨ : ١٥٤.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٣٢٤ ـ ٣٢٦ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٠٤ ، تاريخ أبي الفداء ٢ : ١٢ ، عمدة الطالب : ١٥٧ ، الأعلام / الزركلي ١ : ٢٧٩.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٢٢ ، الأعلام ١ : ١٩١.

(٤) عيون أخبار الرضا / الشيخ الصدوق ٢ : ١٠٠.

٥٨

موقفه من الإمام الكاظم عليه‌السلام :

عاش الإمام الكاظم عليه‌السلام أطول فترة من إمامته في زمان هارون لعنة الله عليه ، فكان نصيبه من ظلم هذا الطاغية كبيراً ، اذ لم يرق لهارون ما يملك الإمام من امتداد واسع في الواقع الإسلامي ، وما يشاهده من اقبال الناس عليه ورجوعهم إليه ، وتأثرهم بروحانيته ورجاحة علمه ، فاستدعى الإمام عليه‌السلام إلى بغداد وعرضه للسجن والتعذيب بذرائع وتهم شتى ، أثبتت الوقائع براءته عن كل ما يرمى به منها ، حتى أن رأس السلطة صرح بذلك في أكثر من مناسبة ، حيث قال هارون نفسه : الناس يحملونني على موسى بن جعفر وهو برئ مما يرمى به (١). لأن الإمام عليه‌السلام كان يعتزل العمل السياسي ، فلم يخرج على حاكم ولا دعا أحداً إلى مبايعته ، ولم يتحرك ضدّ هارون ولا غيره ، ولكنها الغيرة من النجاحات الهائلة التي حققها الإمام عليه‌السلام في مختلف أوساط الأُمّة.

وشهدت هذه الفترة من جانب آخر كثيراً من المناظرات التي خاضها الإمام مع هذا الطاغية وغيره من رجال السلطة ، تتعلق بأهم الشبهات المثارة من قبل بني العباس حول الإمامة وحقوق أهل البيت عليهم‌السلام.

إشخاص الإمام إلى العراق :

ذكر كثير من المؤرخين أن الإمام عليه‌السلام أقام في المدينة بعد أن أطلقه المهدي العباسي إلى أيام هارون ، فقدم هارون منصرفاً من عمرة شهر رمضان سنة ( ١٧٩ ه‍ ) (٢) ، فحمل موسى الكاظم معه إلى بغداد وحبسه بها إلى أن استُشهد في محبسه مسموماً سنة ( ١٨٣ ه‍ ) ، وقيل : سنة ( ١٨٦ ه‍ ) (٣).

__________________

(١) الكافي ١ : ٣٦٦ / ٩٩ ، بحار الأنوار ٤٨ : ١٦٥ / ٧.

(٢) وحدد الشيخ الكليني : لعشر ليال بقين من شوال سنة ( ١٧٩ ه‍ ).

(٣) تاريخ بغداد ١٣ : ٢٩ ، وفيات الأعيان ٥ : ٣٠٨ ، الكافي ١ : ٤٧٦.

٥٩

وقد انصرف هارون من الحج على طريق البصرة ، فحمل الإمام الكاظم عليه‌السلام مقيداً ، وخرج على بغلين عليهما قبتان مغطاتان هو في احداهما ، ووجه مع كل واحد منهما خيلاً ، فأخذوا بواحدة على طريق البصرة والاُخرى على طريق الكوفة ، ليعمي على الناس أمره ، وكان الإمام في التي مضت إلى البصرة. فأمر المأمور أن يسلمه إلى عيسى بن جعفر بن المنصور ، وكان على البصرة حينئذ ، فحبسه عيسى عنده سنة ، ثم كتب إليه الرشيد في سفك دمه ، فاستشار عيسى بعض خاصته فأشاروا عليه بالتوقف عن ذلك والاستعفاء منه ، فكتب عيسى إلى هارون : قد طال أمر موسى بن جعفر ومقامه في حبسي ، وقد اختبرت حاله ووضعت عليه العيون طول هذه المدة ، فما وجدته يفتر عن العبادة ، ووضعت من يسمع منه ما يقول في دعائه ، فما دعا عليك ولا علي ولا ذكرنا في دعائه بسوء ، وما يدعو لنفسه إلاّ بالمغفرة والرحمة ، فإن أنت أنفذت إليّ من يتسلمه مني وإلاّ خليت سبيله فانني متحرج من حبسه.

وأنت تلاحظ دقة المراقبة التي تتابع الإمام عليه‌السلام حتى في انقطاعه إلى ربه ودعائه الذي يقوله في صلاته ، فوجه هارون من تسلمه من عيسى وحبسه عند الفضل بن الربيع ببغداد ، فبقي محبوساً عنده مدة طويلة ، وأراده هارون على شيء من أمره فأبى.

روى الشيخ الصدوق بسنده عن الفضل بن الربيع ، قال : « قد أرسلوا إليَّ في غير مرة يأمرونني بقتله فلم أجبهم إلى ذلك ، وأعلمتهم أني لا أفعل ذلك ، ولو قتلوني ما أجبتهم إلى ما سألوني » (١).

__________________

(١) عيون أخبار الرضا ١ : ١٠٦ / ١٠ ، أمالي الصدوق : ١٣٦ / ١٨.

٦٠