الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ٤

الشيخ محمّد باقر الإيرواني

الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر الإيرواني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المحبين للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 964-8991-28-6
ISBN الدورة:
964-91029-7-3

الصفحات: ٤٨٧

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين. والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى محمّد وأهل بيته الطيبين الطاهرين.

٣
٤

الاستصحاب

٥
٦

تحديد الاستصحاب

قوله ص ٢٠٩ س ١ : الاستصحاب قاعدة الخ : تكلّم قدس‌سره في الاستصحاب في نقاط ستّ أوّلها في أدلة الاستصحاب. وقبل الخوض فيها نذكر ثلاث مقدّمات ـ لتّتضح بذلك عبارة الكتاب ـ قرآناها في الحلقة الثانية.

١ ـ عرّف الشيخ الأعظم في الرسائل الاستصحاب بأنّه عبارة عن « الحكم ببقاء ما كان » ، فالحكم ببقاء الطهارة ـ التي كانت سابقا ـ عند الشكّ في بقائها في الزمان اللاحق عبارة اخرى عن الاستصحاب. وقد وجهت بعض الاعتراضات إلى هذا التعريف كما قرأناها في الحلقة الثانية فراجع.

قاعدة اليقين والمقتضي والمانع

٢ ـ هناك ثلاثة مصطلحات لا بدّ من التمييز بينها : الاستصحاب ، قاعدة اليقين ، قاعدة المقتضي والمانع.

ففي الاستصحاب يفترض اليقين بحدوث شيء سابقا والشكّ في بقائه لاحقا ، بينما في قاعدة اليقين يفترض اليقين بحدوث شيء سابقا والشكّ لا حقا في نفس الحدوث السابق. فمثلا إذا حصل اليقين صباحا بطهارة الثوب ثمّ شكّ مساء في بقائها كان ذلك موردا للاستصحاب. أمّا إذا حصل اليقين صباحا بطهارة الثوب ثمّ شكّ مساء في نفس الطهارة الصباحية بأن احتمل بطلان اليقين السابق وكون الثوب نجسا صباحا فهذا مورد قاعدة اليقين. وقد تسمّى بقاعدة الشكّ الساري أيضا حيث إنّ الشكّ عند حدوثه مساء يسري إلى نفس اليقين السابق ويزلزله

٧

بخلافه في الاستصحاب فإنّ اليقين السابق يبقى على حاله ولا يتزلزل بالشكّ.

ثمّ انّ هناك فارقا بارزا بين الاستصحاب وقاعدة اليقين ، ففي الاستصحاب يختلف متعلق اليقين عن متعلّق الشكّ ، فمتعلّق اليقين حدوث الطهارة سابقا ومتعلّق الشكّ بقاء الطهارة لاحقا ، بينما في قاعدة اليقين يكون متعلّق اليقين والشكّ واحدا ، فاليقين متعلّق بحدوث الطهارة صباحا والشكّ متعلّق بنفس حدوث الطهارة صباحا.

ثمّ انّه إذا كان الاستصحاب حجّة فلا بدّ من الحكم ببقاء الطهارة مساء بينما لو كانت قاعدة اليقين حجّة فلا بدّ من الحكم بحدوث الطهارة صباحا ، وأمّا بقائها مساء فلا يرتبط بقاعدة اليقين ؛ إذ المشكوك في قاعدة اليقين حدوث الطهارة صباحا لا بقائها إلى المساء.

هذا كلّه في الاستصحاب وقاعدة اليقين.

وأمّا قاعدة المقتضي والمانع فاليقين فيها متعلّق بوجود المقتضي والشكّ متعلّق بوجود المانع ، فإذا رأينا شخصا في منطقة الحرام من المعركة فلنا يقين بثبوت المقتضي ـ بكسر الضاد ـ لموته ، فإذا شكّ في وجود حاجز يمنع من وصول الطلقات إليه كان ذلك شكّا في تحقّق المانع ، فإذا قيل بحجّية قاعدة المقتضي والمانع فلا بدّ من الحكم بتحقّق المقتضى ـ بفتح الضاد ـ أي الحكم بموت الشخص المذكور ولا يلزم جلب الطعام والشراب له. والقاعدة المذكورة لم يثبت حجّيتها لا من الروايات كما هو واضح ولا من العقلاء ؛ إذ لم تجر سيرتهم على الحكم بتحقّق المقتضى (١) عند اليقين بتحقّق مقتضيه والشكّ في مانعه.

__________________

(١) كموت الشخص في المثال السابق

٨

أدلة الاستصحاب

٣ ـ انّ الأدلة المطروحة لإثبات حجّية الاستصحاب ثلاثة : ـ

أ ـ سيرة العقلاء حيث ادّعي انّ سيرتهم جرت على الحكم ببقاء الشيء عند اليقين بحدوثه سابقا والشكّ في بقائه لا حقا.

وهذه السيرة لم تثبت عندنا ، وعهدتها على مدّعيها.

ب ـ حكم العقل ، بمعنى انّ من تيقّن بحدوث شيء سابقا حصل له الظنّ ببقائه ولا بدّ له من الحكم ببقائه لأجل الظنّ المذكور.

والردّ على هذا الدليل واضح فإنّ الظنّ بالبقاء لو سلّم حصوله فلا دليل على حجّيته.

ج ـ الروايات الكثيرة.

والمهمّ من هذه الأدلة هو الروايات.

وقد تقدّم الحديث في الحلقة الثانية عن صحيحة زرارة الاولى (١) فقط بالتفصيل. وفي هذه الحلقة نمرّ على هذه الصحيحة مرّ الكرام ونأخذ بالتحدّث عن بقيّة الروايات بشيء من التفصيل.

__________________

(١) لزرارة في باب الاستصحاب ثلاث روايات صحاح عبّر عنها بصحيحة زرارة الاولى أو الثانية أو الثالثة.

٩

الرواية الاولى

استدل الاصوليون على حجّية الاستصحاب بصحيحة زرارة الاولى « قلت له (١) : الرجل ينام وهو على وضوء ... ». وتقدّم الحديث عنها في الحلقة الثانية في ثلاث جهات : ـ

١ ـ في فقه الرواية بمعنى توضيح المقصود منها. ويمكن الإشارة إلى نقطتين في ذلك : ـ

أ ـ كيف حكم الإمام عليه‌السلام بأنّ عدم البناء على بقاء الوضوء في زمان الشكّ نقض لليقين بحدوث الطهارة والحال انّ الحكم بارتفاع الوضوء بقاء لا يتنافى واليقين بحدوثه سابقا ، وبالتالي كيف يسند نقض اليقين إلى الشكّ؟

ب ـ انّ قوله عليه‌السلام : « وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه » يشتمل على أداة شرط ، فإنّ كلمة « وإلاّ » مركّبة من أداة شرط وأداة نفي ، أي : وإن لا. وتقدير فعل الشرط واضح أي : وإن لم يستيقن انّه قد نام. وأمّا جواب الشرط ففيه احتمالات ثلاثة يمكن مراجعتها في الحلقة الثانية.

٢ ـ في تقريب الاستدلال بالرواية على حجّية الاستصحاب.

انّ دلالة الرواية على حجّية الاستصحاب وإن كانت واضحة حيث حكم

__________________

(١) لم يذكر زرارة في الرواية انّ الموجّه له السؤال هو الإمام عليه‌السلام حيث قال : قلت له ولم يقل قلت للإمام عليه‌السلام ، ومثل هذه الرواية تسمّى بالمضمرة حيث اضمر ذكر الإمام فيها. والمعروف عدم حجّية المضمرات ، ولكن حيث انّ المضمر في هذه الرواية هو زرارة الذي لا يليق به السؤال من غير الإمام عليه‌السلام لم يكن ذلك مضرّا بحجّيتها.

١٠

الإمام عليه‌السلام بلزوم الحكم ببقاء الوضوء معلّلا بالاستصحاب وأنّه على يقين سابقا وشكّ لا حق ولا يجوز نقض اليقين بالشكّ ، إلاّ أنّ هناك شبهة تقول : انّ من المحتمل نظر الرواية إلى قاعدة المقتضي والمانع لا الاستصحاب. ويمكن مراجعة الحلقة الثانية لاستيضاح ذلك.

٣ ـ في عمومية كبرى الاستصحاب ؛ إذ قد يقال بأنّ الرواية المذكورة لا يستفاد منها حجّية الاستصحاب في جميع الموارد بل في خصوص باب الوضوء حيث انّ الإمام عليه‌السلام قيّد اليقين وقال : « وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه » ، ومن المحتمل أن تكون الألف واللام في كلمة اليقين في قوله : « ولا ينقض اليقين بالشكّ » عهدية ، أي إشارة إلى اليقين بالوضوء خاصّة وليست جنسية. وبكلمة اخرى : من المحتمل أن يكون المقصود : لا ينقض اليقين في خصوص باب الوضوء بالشكّ في باب الوضوء وليس المقصود ولا ينقض مطلق اليقين بمطلق الشكّ.

ويمكن الجواب : بأنّ ظاهر قول الإمام عليه‌السلام : « وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه ... » التعليل بأمر ارتكازي (١) ، فكأنّ الإمام عليه‌السلام يريد أن يقول كيف تنقض اليقين بالشكّ والحال انّ المرتكز في أذهان العقلاء عدم نقض اليقين بالشكّ. وما دام التعليل بأمر ارتكازي فيمكن أن يقال انّ المرتكز في أذهان العقلاء عدم جواز نقض مطلق اليقين بمطلق الشكّ لا خصوص اليقين في باب الوضوء بالشكّ في باب الوضوء خاصة.

ويؤيّد العمومية قول الإمام عليه‌السلام : « ابدأ » كما هو واضح.

قوله ص ٢٠٩ س ٦ : كقاعدة عامّة : أي لا في خصوص باب الوضوء مثلا

__________________

(١) إذ التعليل لشخص عاقل لا يصحّ إلاّ بأمر عقلائي وإلاّ لم يستفد من التعليل وكان لغوا.

١١

بل في جميع الأبواب.

قوله ص ٢٠٩ س ٨ : الخفقة : هي النعاس الذي يحصل للإنسان قبل أن يستمكن النوم منه.

قوله ص ٢١٠ س ٤ : الملحوظ فيه : أي في التعليل المشار إليه بقول الإمام عليه‌السلام : « وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه الخ ».

الرواية الثانية

لزرارة في باب الاستصحاب روايات ثلاث ، وقد تقدّمت روايته الاولى. وهذه روايته الثانية ، وهي مضمرة أيضا حيث لم يصرّح فيها بكون الشخص المسؤول هو الإمام عليه‌السلام. وتمتاز هذه الرواية بدقّتها وطولها ، فهي تشتمل على ستة أسئلة وستة أجوبة. وموطن الاستدلال جواب السؤال الثالث والسادس. ونأخذ بعرض تلك الأسئلة وأجوبتها : ـ

الأوّل

وفي السؤال الأوّل سأل زرارة عن حكم من علم بنجاسة ثوبه قبل الصلاة ثمّ طرأ عليه نسيانها وتذكّر ذلك بعد الفراغ.

وقد حكم عليه‌السلام في هذه الصورة بغسل الثوب وإعادة الصلاة من جديد.

الثاني

وفي السؤال الثاني فرض زرارة علمه بإصابة النجاسة لثوبه ولكنّه لم

١٢

يتمكّن من تشخيص موضعها فلم يدر هي في أي موضع من الثوب ، وبعد أن دخل في صلاته وفرغ منها رآها.

وقد حكم عليه‌السلام في هذه الصورة بغسل الثوب وإعادة الصلاة من جديد أيضا.

ثمّ إنّ زرارة ذكر في هذا السؤال انّه طلب موضع النجاسة فلم يقدر عليه حيث قال : « فطلبته فلم أقدر عليه ». وقد يتوهّم انّ المستفاد من هذه العبارة إبداء زرارة تشكيكه في يقينه السابق فكأنّه يريد القول بأنّي حيث طلبت موضع النجاسة ولم أره حصل لي الشكّ في أصل حدوثها السابق وسرى شكّي إلى اليقين السابق. وبناء على هذا يكون مورد الرواية قاعدة اليقين ، ويستفاد من جواب الإمام عليه‌السلام حجّية القاعدة المذكورة ، حيث حكم عليه‌السلام بوجوب إعادة الصلاة أخذا باليقين السابق الذي فرض تزلزله.

وهذا توهّم باطل ، فإنّ عدم تشخيص موضع النجاسة وعدم القدرة عليه لا يدلّ على تزلزل اليقين السابق بالنجاسة.

والصحيح في وجه ذكر جملة : « فطلبته فلم أقدر عليه » تخيّل زرارة انّ عدم عثوره على موضع إصابة النجاسة مسوّغ له في الدخول في الصلاة ، فأجابه الإمام عليه‌السلام بأنّ ذاك لا يكون مسوّغا للدخول فيها ومبرّرا لصحّتها.

الثالث

وفي السؤال الثالث المتضمّن للفقرة الاولى للاستدلال افترض زرارة ثلاثة امور ، فأوّلا افترض ظن إصابة النجاسة لثوبه ولم يتيقّن بها ، وثانيا افترض الفحص عن النجاسة فلم يجدها ، وثالثا ذكر انّه وجد بعد فراغه من

١٣

الصلاة نجاسة ولكنّه لم يفترض انّها نفس النجاسة السابقة ، حيث قال : « فرأيت فيه » ولم يقل « فرأيته » أو « فرأيتها فيه » ، فإنّ عدم ذكره للضمير يفتح مجالا لأن يكون مقصوده رؤيته بعد الفراغ نجاسة يحتمل مغايرتها للنجاسة السابقة.

وعلى ضوء فرض هذه الامور الثلاثة أجاب الإمام عليه‌السلام بصحّة الصلاة معلّلا بأنّه كان على يقين سابق بالطهارة وشكّ لا حق في زوالها ولا ينبغي نقض اليقين بالشكّ أبدا.

وفي مقصود زرارة من هذا السؤال توجد أربع فرضيات محتملة نستعرضها لنرى انّ أي واحدة منها تصلح للاستدلال على حجّية الاستصحاب.

أ ـ أن يكون مقصود زرارة انّي حينما ظننت بالإصابة وفحصت ولم أجد النجاسة حصل لي القطع بعدم إصابة النجاسة ـ فيكون قول زرارة : « فلم أر شيئا » كناية عن حصول القطع له بعدم إصابة النجاسة ـ ولمّا صلّى ووجد نجاسة حصل له القطع بأنّ هذه النجاسة عين النجاسة السابقة التي ظنّ أصابتها للثوب ، فهو قبل الصلاة قاطع بعدم إصابة النجاسة لثوبه وبعد الفراغ قاطع بأنّ ما رآه هو عين ما ظنّ إصابته سابقا.

وهذه الفرضية لا يحتمل أن تكون هي المقصودة لزرارة ، فإنّ الإمام عليه‌السلام افترض في جوابه وجود شكّ لزرارة وطبّق الاستصحاب أو قاعدة اليقين (١) ، وذلك لا يتمّ بناء على هذه الفرضية ؛ إذ لا يوجد فيها شكّ ليقول عليه‌السلام انّك كنت على يقين سابق وشكّ لا حق ، كلا انّ هذا لا معنى له فإنّ زرارة لم يكن له شكّ بل

__________________

(١) حيث انّ قول الإمام عليه‌السلام : لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت وليس ينبغي الخ يحتمل الاثنين.

١٤

كان على يقين قبل الصلاة من عدم الإصابة ، كما وكان على يقين بعد الفراغ من الصلاة من كون النجاسة المرئية عين السابقة.

وعليه فهذه الفرضية لا بدّ من حذفها من الحساب لعدم احتمال أن تكون هي المقصودة.

ب ـ أن يكون مقصود زرارة انّي حينما فحصت ولم أر نجاسة حصل لي القطع بعدم الإصابة كما كنّا نفترض ذلك في الفرضية الاولى ، بيد انّه في هذه الفرضية لما رأى زرارة نجاسة بعد الفراغ من الصلاة لم يحصل له القطع بأنّها نفس السابقة بل كان على شكّ من ذلك.

وهذه الفرضية تصلح أن تكون موردا لجريان الاستصحاب كما وتصلح أن تكون موردا لقاعدة اليقين.

امّا أنّها مورد للاستصحاب فباعتبار انّ زرارة كان قاطعا من طهارة ثوبه في الزمان السابق على ظنّ الإصابة وبعد فراغه من صلاته حصل له الشكّ في أنّ ما رآه نجاسة جديدة أو سابقة فيمكن أن يجري استصحاب الطهارة السابقة الثابتة قبل ظنّ الإصابة ويثبت به طهارة الثوب إلى اللحظة التي رأى فيها النجاسة بعد الصلاة.

وطبيعي انّ هذا الاستصحاب لا يجري في حقّ زرارة قبل الصلاة ولا حينها وإنّما يجري بعدها ، أي حين سؤاله من الإمام عليه‌السلام ورؤيته النجاسة التي يحتمل طروّها المتأخّر ، وأمّا قبل الصلاة وحينها فقد كان قاطعا حسب الفرض بعدم إصابة النجاسة ثوبه ولم يكن شاكّا ليجري الاستصحاب في حقّه.

وأمّا انّها مورد لقاعدة اليقين فلأنّ قاعدة اليقين تفترض وجود يقين طرأ

١٥

عليه التزلزل عند حدوث الشكّ ، وعلى هذه الفرضية يوجد مثل هذا اليقين المتزلزل ؛ إذ المفروض عند الفحص وعدم رؤية النجاسة حصول اليقين بعدم إصابة النجاسة للثوب ، وبعد الفراغ من الصلاة ورؤية نجاسة يحتمل أنّها عين السابقة سيطرأ التزلزل على يقينه الحاصل بالفحص وسيحتمل أنّ يقينه كان مخطئا وغير مصيب للواقع (١).

وإذا كانت الرواية على هذه الفرضية صالحة للاستصحاب ولقاعدة اليقين فقول الإمام عليه‌السلام : « لأنّك كنت على يقين من طهارتك وشككت ... » من المحتمل أن يراد به تطبيق الاستصحاب كما وانّ من المحتمل أن يراد به تطبيق قاعدة اليقين.

وما دامت الرواية صالحة لهذين الاحتمالين فلا يمكن التمسّك بها للاستدلال على حجّية الاستصحاب إلاّ إذا استظهرنا منها إرادة تطبيق الاستصحاب لا قاعدة اليقين.

ج ـ وهذه الفرضية عكس الفرضية السابقة ، ففي السابقة كنّا نفترض انّ

__________________

(١) قد تسأل لماذا حين إجراء الاستصحاب لا حظنا اليقين الثابت قبل ظنّ الإصابة بينما عند تطبيق قاعدة اليقين لا حظنا اليقين الثابت بسبب الفحص؟

والجواب واضح حيث انّ قاعدة اليقين تحتاج إلى افتراض يقين طرء عليه التزلزل ، واليقين المذكور ليس هو إلاّ اليقين الحاصل بالفحص فإنّه القابل للتزلزل عند رؤية النجاسة بعد الصلاة.

وأمّا الاستصحاب فحيث انّه يحتاج إلى يقين غير متزلزل ، واليقين المذكور بما انّه ليس إلاّ اليقين الثابت قبل ظنّ الإصابة لذا لا حظنا عند تطبيق الاستصحاب اليقين السابق على ظنّ الإصابة

١٦

الفحص ولّد اليقين بعدم إصابة النجاسة ، وبعد الفراغ ورؤية النجاسة تولّد الشكّ في أنّها نفس السابقة أو لا ، وأمّا في هذه الفرضية فيفرض انّ الفحص لم يولّد اليقين بعدم الإصابة بل ولّد الشكّ في الإصابة وبعد الفراغ تولّد اليقين بأنّ النجاسة المرئيّة هي عين السابقة.

وهذه الفرضية لا تصلح لقاعدة اليقين بل تصلح للاستصحاب فقط.

امّا أنّها لا تصلح لقاعدة اليقين فلأنّ قاعدة اليقين تحتاج إلى يقين طرأ عليه التزلزل ، وعلى هذه الفرضية لا يوجد مثل هذا اليقين ؛ إذ لم يحصل بالفحص يقين يمكن تزلزله برؤية النجاسة بعد الصلاة ، بل اليقين الثابت هو اليقين قبل ظنّ الإصابة ، ومثل هذا اليقين لا يطرأ عليه التزلزل برؤية النجاسة بعد الصلاة.

وأمّا أنّها تصلح للاستصحاب فلأنّه يوجد يقين بالطهارة ثابت قبل ظنّ الإصابة فتستصحب الطهارة حين ظنّ الإصابة والفحص وتثبت بذلك صحّة الصلاة.

وهذا الاستصحاب يجري ـ كما قلنا ـ حين ظنّ الإصابة والفحص ؛ إذ في هذا الحين يوجد شكّ في إصابة النجاسة للثوب ، ولا يجري بعد الفراغ من الصلاة ؛ إذ بعد الفراغ فرضنا حصول اليقين بأنّ النجاسة المرئية هي النجاسة السابقة ولا يوجد شكّ حتّى يمكن جريان الاستصحاب.

إذن على هذه الفرضية يتعيّن كون مقصود الإمام عليه‌السلام إجراء الاستصحاب لا قاعدة اليقين ، ويتمّ الاستدلال بالرواية على حجّية الاستصحاب ، كما ويتعيّن أن يكون إجراء الاستصحاب بلحاظ حال الفحص لا بلحاظ حال الفراغ من الصلاة الذي هو وقت السؤال.

١٧

د ـ وفي الفرضية الرابعة نفترض عكس الفرضية الاولى تماما ، ففي الفرضية الاولى كنّا نقول انّ زرارة حصل له بالفحص قبل الصلاة اليقين بعدم إصابة النجاسة ، كما وحصل له بعد الفراغ من الصلاة ورؤية النجاسة اليقين بأنّها النجاسة السابقة. وفي هذه الفرضية نفترض حصول الشكّ في كلتا الحالتين فقبل الصلاة حينما فحص زرارة حصل له الشكّ في الإصابة ، كما وأنّه بعد الفراغ من الصلاة ورؤية النجاسة حصل له الشكّ في أنّها عين السابقة.

ومثل هذه الفرضية لا تصلح أن تكون موردا لقاعدة اليقين بل للاستصحاب فقط.

أمّا انّها لا تصلح موردا لقاعدة اليقين فلأنّ قاعدة اليقين تحتاج إلى افتراض يقين طرأ عليه التزلزل ، ومثل هذا اليقين لا يوجد على هذه الفرضية ؛ إذ لا يوجد عندنا إلاّ اليقين الثابت قبل ظنّ الإصابة ومثله لا يتزلزل برؤية النجاسة بعد الصلاة.

وأمّا انّها تصلح للاستصحاب فلأنّه يوجد قبل ظنّ الإصابة يقين بطهارة الثوب فيجري استصحاب تلك الطهارة.

وإذا سألت عن زمان جريان الاستصحاب هل هو قبل الصلاة ـ أي حين الفحص ـ أو بعدها الذي هو وقت السؤال.

فالجواب انّ بالإمكان إجراء الاستصحاب بلحاظ كلا الحالين : حال الفحص التي هي قبل الصلاة وحال السؤال التي هي ما بعد الصلاة ؛ إذ في كلا الحالين فرض الشكّ وعدم اليقين.

وعليه فالرواية على هذه الفرضية صالحة للاستدلال بها على حجّية

١٨

الاستصحاب.

ومن كل هذا تجلّى انّ الفرضية الاولى لا بدّ من حذفها من الحساب لعدم احتمال انطباق السؤال والجواب عليها. ونبقى نحن والفرضيات الثلاث الاخرى ، وعلى تقدير جميعها تكون الرواية دالّة على حجّية الاستصحاب ، غاية الأمر على الفرضية الثانية تحتمل الرواية إرادة الاستصحاب وإرادة قاعدة اليقين فلا بدّ من استظهار إرادة الاستصحاب منها ليتمّ بها الاستدلال.

الرابع

وفي السؤال الرابع ذكر زرارة للإمام عليه‌السلام انّه علم إجمالا بإصابة النجاسة ثوبه ولكنّه لم يعرف موضعها فما هو حكمه؟ فأجابه عليه‌السلام بأنّ النجاسة إذا كان يحتمل إصابتها للطرف الأعلى من الثوب مثلا فيلزم غسل جميع الطرف الأعلى كيما يكون على يقين من الطهارة (١).

الخامس

وفي السؤال الخامس ذكر زرارة انّه لو احتمل إصابة النجاسة للثوب ولم يجزم بذلك فهل عليه الفحص عن تحقّقها أو يبني على الطهارة؟ فأجابه الإمام عليه‌السلام

__________________

(١) وقد استفاد البعض من قول الإمام عليه‌السلام : « حتّى تكون على يقين من طهارتك » حجّية الاستصحاب أيضا ، حيث يدلّ على أنّ المكلّف ما دام قد حصل له العلم بنجاسة الثوب فليس له حقّ الاعتناء بالشكّ بل لا بدّ من تحصيل اليقين بالطهارة وما ذاك إلاّ لأنّ اليقين لا ينقض بالشكّ بل باليقين

١٩

بعدم لزوم الفحص وإن كان الفحص جائزا لإزالة الوساوس والشكوك.

السادس

والسؤال السادس يتضمّن الفقرة الثانية من فقرتي الاستدلال على حجّية الاستصحاب. وفي هذا السؤال لم يفترض زرارة ظنّ الإصابة قبل الصلاة بل فرض انّه شرع في الصلاة وفجأة رأى نجاسة أثناء الصلاة فما هو الموقف؟ وأجابه عليه‌السلام بالتفصيل بين حالتين :

أ ـ أن يكون قد شكّ قبل الصلاة في موضع من الثوب ثمّ رأى أثناء الصلاة النجاسة التي كان يشكّ في موضعها قبل الصلاة. وفي هذه الحالة تجب إعادة الصلاة حيث قال عليه‌السلام : « تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته » (١).

ب ـ أن لا يكون شاكّا قبل الصلاة وإنّما رأى النجاسة أثناء الصلاة طرية لا جافة وفي هذه الحالة ينقطع عن مواصلة الصلاة قليلا ليغسل الثوب ويكملها بعد ذلك ، وعلّل عليه‌السلام ذلك بأنّ النجاسة الطرية التي رآها يحتمل أن تكون عارضة أثناء الصلاة وليست سابقة ، ومع وجود هذا الاحتمال لا بدّ وأن يبني على يقينه بالطهارة الثابت قبل الصلاة ولا ينقضه بالشكّ ، وقد أشار عليه‌السلام إلى هذه الحالة بقوله : « وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته ثمّ بنيت على الصلاة لأنّك لا تدري لعلّه شيء أوقع عليك فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشكّ ».

ويوجد في مقصود الإمام عليه‌السلام من هاتين الحالتين احتمالان : ـ

__________________

(١) الإتيان بالهاء يدلّ على أنّ النجاسة المرئية هي عين النجاسة السابقة المشكوكة جزما

٢٠