سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

وبين أمية صداقة بمكة طلب أميّة من عبد الرحمن أن يخرجه من أرض المعركة لكي لا يقتل هو وولده ، او ليعدّا من الأسرى.

فرضى عبد الرحمن بذلك ، وبينما هو يقودهما إذ أبصر بلال بهم وكان اميّة هو الذي يعذب بلالا بمكة على ترك الاسلام ، فيخرجه الى رمضاء مكة إذا حميت فيضجعه على ظهره ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ثم يقول : لا تزال هكذا حتى تفارق دين محمّد فيقول بلال : أحد ، أحد.

فلما رآه بلال في الأسر وقد أقدم عبد الرحمن على حمايته والذب عنه وهو يريد نجاته وولده ، صاح مستصرخا المسلمين : يا أنصار الله رأس الكفر اميّة بن خلف لا نجوت إن نجا.

فأحاط المسلمون باميّة وولده من كل جانب وقطّعوهما بسيوفهم حتى فرغوا منهما (١).

وقد نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن قتل أبي البختري الذي كان له دور مشرف في نقض الحصار الاقتصادي الذي ضربته قريش على المسلمين في مكة ، وكان لا يؤذي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلقيه رجل من المسلمين يدعى « المجذر » فأراد أسره واستبقاءه ريثما يأخذه الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليرى فيه رأيه ، ولكنّه نازل المجذّر ، وأبى إلاّ القتال ، فاقتتلا فقتله المجذّر.

ثم ان المجذّر أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : والذي بعثك بالحق لقد جهدت عليه أن يستأسر فآتيك به فأبى إلاّ أن يقاتلني فقاتلته فقتلته (٢).

خسائر بدر في الأرواح والاموال :

لقد قتل في معركة « بدر » من المسلمين أربعة عشر رجلا ، وقتل من المشركين سبعون واسر سبعون من أبرزهم : النضر بن الحارث ، وعقبة ابن أبي معيط ، وأبو

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ١ ص ٦٣٢.

(٢) السيرة النبوية : ج ١ ص ٦٢٩ و ٦٣٠ وراجع الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ٢٣.

٨١

غرة ، وسهيل بن عمرو والعباس ، وأبو العاص بن الربيع ( صهر النبيّ ) (١).

ثم دفن شهداء بدر في جانب من أرض المعركة ، وقبورهم باقية إلى الآن.

ثم أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يلقى بقتلى المشركين في البئر.

وبينما كان يسحب عتبة بن ربيعة الى البئر نظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في وجه « أبي حذيفة » ابن عتبة فاذا هو كئيب ، قد تغيّر لونه فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا أبا حذيفة لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء؟!

فقال : لا والله يا رسول الله ، ما شككت في ابي ولا في مصرعه ، ولكنني كنت أعرف من أبي رأيا وحلما وفضلا فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الاسلام ، فلمّا رأيت ما أصابه وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الّذي كنت أرجو له ، أحزنني ذلك!!.

فدعا له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بخير (٢).

إن هذه القصة لتكشف عن مدى حبّ المسلمين لدينهم ، ورغبتهم الصادقة في أن يهتدي إليه الناس كما تكشف أيضا عن أنهم كانوا يقدّمون المعيار الديني على المعيار العائلي إذا تعارضا.

ما أنتم باسمع منهم :

لقد انتهت معركة بدر بانتصار عظيم في جانب المسلمين وهزيمة نكراء في جانب المشركين.

فقد غادر المشركون ساحة القتال هاربين صوب مكة مخلّفين وراءهم سبعين قتيلا من صناديدهم وساداتهم وفتيانهم الشجعان وسبعين أسيرا.

ولما أمر النبيّ بإلقاء قتلى المشركين في القليب (٣) وقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عند القليب وأخذ يخاطب القتلى واحدا واحدا ويقول :

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ١ ص ٧٠٦ و ٧٠٨ ، المغازي : ج ١ ص ١٣٨ ـ ١٧٣.

(٢) السيرة النبوية : ج ١ ص ٦٤٠ و ٦٤١.

(٣) القليب : البئر.

٨٢

« يا أهل القليب ، يا عتبة بن ربيعة ، ويا شيبة بن ربيعة ، ويا اميّة بن خلف ، ويا أبا جهل ( وهكذا عدّد من كان منهم في القليب ) هل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقا ، فإنّي قد وجدت ما وعدني ربّي حقّا ».

فقال له بعض أصحابه : يا رسول الله أتنادي قوما موتى؟

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله :

« ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني ».

وكتب ابن هشام يقول : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال يوم هذه المقالة :

« يا أهل القليب بئس عشيرة النبيّ كنتم لنبيّكم كذّبتموني وصدّقني الناس ، وأخرجتموني وآواني الناس ، وقاتلتموني ونصرني الناس ، ( ثم قال : ) هل وجدتم ما وعدكم ربّي حقّا؟ » (١).

الشعر يخلّد هذه القصة :

يعتبر هذا الموضوع من القضايا الثابتة والمسلّمة في التاريخ الاسلاميّ ، فقد ذكره جميع المحدّثين والمؤرخين من الشيعة والسنة ، وقد ذكرنا طائفة من مصادره في الهامش.

وقد كان من دأب حسان بن ثابت شاعر عصر الرسالة ان ينشد أبياتا في كل واقعة من وقائع الاسلام البارزة وبذلك يقوي من عزيمة المسلمين ويشد من أزرهم لأن الشعر يجلي البطولات ويكرم المواقف ويخلد الامجاد ويحافظ على المفاخر ويكسبها طابعا أبديا ولهذا يعد وسيلة جيدة لتقوية المعنويات ، وإبطال مفعول الحرب الباردة والنفسية التي يقوم بها العدوّ.

وقد طبع ديوان « حسان » لحسن الحظ ، ويمكن لنا أن نقف على الكثير من ايام الإسلام وامجاده من خلال قصائده ، وابياته المدرجة فيه.

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ١ ص ٦٣٩ ، السيرة الحلبية : ج ٢ ص ١٧٩ و ١٨٠ وغيرهما.

٨٣

وقد أنشد حسان قصيدة بائية رائعة حول وقعة بدر الكبرى يشير في بعض ابياتها الى هذه الحقيقة اعني قصة القليب إذ يقول :

يناديهم رسول الله لمّا

قذفناهم كباكب في القليب

ألم تجدوا كلامي كان حقّا

وأمر الله يأخذ بالقلوب؟

فما نطقوا ولو نطقوا لقالوا

صدقت وكنت ذا رأي مصيب!

على أنه لا توجد عبارة اشد صراحة من ما قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المقام حيث قال : « ما أنتم بأسمع منهم ».

وليس ثمة بيان أكثر إيضاحا وأشدّ تقريرا لهذه الحقيقة من مخاطبة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لواحد واحد من أهل القليب ، ومناداتهم بأسمائهم وتكليمهم كما لو كانوا على قيد الحياة.

فلا يحقّ لأيّ مسلم مؤمن بالرسالة والرسول أن يسارع الى إنكار هذه القضية التاريخية الاسلامية المسلّمة ، ويبادر قبل التحقيق ويقول : إن هذه القضية غير صحيحة لانها لا تنطبق على موازين عقلي المادي المحدود.

وقد نقلنا هنا نص هذا الحوار ، لكي يرى المسلمون الناطقون باللغة العربية كيف أنّ حديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يصرح بهذه الحقيقة بحيث لا توجد فوقه عبارة في الصراحة ، والدلالة على هذه الحقيقة.

ومن أراد الوقوف على مصادر هذه القصة فعليه أن يراجع ما ذكرناه في الهامش ادناه (١).

__________________

(١) إن تكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مع رءوس الشرك الموتى الذين القيت اجسادهم في البئر من مسلمات التاريخ والحديث ، وقد اشار الى هذا من بين المحدثين والمؤرخين : صحيح البخاري : ج ٥ في معركة بدر ص ٧٦ و ٧٧ ـ ٨٦ و ٨٧ ، صحيح مسلم : ج ٨ كتاب الجنة باب مقعد الميت ص ١٦٣ ، سنن النسائي ج ٤ باب أرواح المؤمنين ص ٨٩ و ٩٠ ، مسند الامام أحمد : ج ٢ ص ١٣١ ، السيرة النبوية : ج ١ ص ٦٣٩ ، المغازي : ج ١ غزوة بدر ص ١١٢ ، بحار الأنوار : ج ١٩ ص ٣٤٦.

٨٤

بعد معركة بدر :

يعتقد كثير من المؤرخين المسلمين أن المبارزات الفردية ومن بعدها القتال الجمعي في غزوة بدر استمر حتى زالت الشمس وانتهت المعركة بفرار المشركين وأسر جماعة منهم. ثم بعد أن فرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه من دفن شهداء المسلمين صلى بالناس العصر في بدر ثم غادر ارض بدر قبل غروب الشمس من ذلك اليوم ، هذا وقد كلّف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اشخاصا بجمع الغنائم من أيدي الناس.

وهنا واجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اول اختلاف بين أصحابه في كيفية تقسيم الغنائم ، فقد كان كلّ فريق يرى نفسه أولى من غيره بها ، نظرا لدوره في تلكم المعركة.

فالذين كانوا يحرسون عريش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مخافة أن يكرّ عليه العدو كانوا يرون أن عملهم لا يدانيه في الاهمية أي عمل آخر ، لأنهم كانوا يحرسون القائد ، ويحافظون على مقرّ القيادة.

وبينما كان الذين جمعوا الغنائم يرون أنهم الأحق لأنهم جمعوها ، فيما كان الذين قد قاتلوا العدو ولا حقوه وطاردوه يقولون : والله لو لا نحن ما أصبتموه ، إنا لنحن الذين شغلنا عنكم القوم حتى أصبتم ما أصبتم (١).

ولا ريب أن أسوأ ما يصيب أي جيش هو أن يدبّ الخلاف بين قطعاته وأفراده ، فينفرط عقده وتتلاشى وحدته.

من هنا بادر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للقضاء على هذه الآمال والمطامع المادية وبغية اسكات كل تلك الاصوات إلى إيكال جمع الغنائم وحملها ، والمحافظة عليها إلى « عبد الله بن كعب المازني » وأمر جماعة من أصحابه أن يعينوه ريثما يفكّر في طريقة تقسيمها. لقد كان قانون العدل والإنصاف يقضي بأن

__________________

(١) المغازي : ج ١ ص ٩٨ و ٩٩.

٨٥

يشترك جميع أفراد ذلك الجيش في تلك الغنائم ، لأنهم ساهموا بأجمعهم في تلك المعركة ، وكان لكل منهم دور ومسئولية فيها ، فما كان لفريق أن يحرز نجاحا من دون أن يقوم الآخرون بأدوارهم.

من هنا قسّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الغنائم بينهم ـ في أثناء الطريق ـ على قدم المساواة ، وفرز لذوي الشهداء أسهما منها.

ولقد أثارت طريقة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في تقسيم الغنائم ( وذلك بقسمتها على جميع المشاركين معه في معركة بدر بالتساوي ) سخط « سعد بن أبي وقاص » فقال : يا رسول الله أيعطى فارس القوم الذي يحميهم مثل ما يعطى الضعيف؟ فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ثكلتك أمّك ، وهل تنصرون إلاّ بضعفائكم » (١).

وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله يقصد أن هذه الحرب لم تكن إلاّ لأجل الدفاع عن الضعفاء ، ورفع الحيف عنهم ، وانه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يبعث إلاّ لإزالة هذه الفوارق والامتيازات الظالمة ، وإلاّ لاجل اقرار المساواة في الحقوق بين الناس.

هذا ورغم أن خمس الغنيمة هي بنص آية الخمس (٢) لله ولرسوله ولذي القربى واليتامى وابن السبيل من أهل بيته صلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يخمّس غنائم « بدر » بل وزّع الخمس على المشاركين في بدر أيضا.

على أنه يمكن أن تكون آية الخمس لم تنزل آنذاك بعد ، أو أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يتمتع باختيارات خاصة ، فصرف النظر عن أخذ الخمس لنفسه وقرباه ، تكثيرا لأسهم المجاهدين ، وذلك ولا ريب خطوة حكيمة جدا وخاصة في أول مواجهة عسكرية مع العدوّ (٣).

__________________

(١) المغازي : ج ١ ص ٩٩.

(٢) الانفال : ١.

(٣) وجاء في بعض المصادر التاريخية ان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ضرب من الغنائم أسهما لاشخاص لم يحضروا بدر ولم يشتركوا في القتال مع رغبتهم في ذلك وذلك إما لامور أصابتهم عند الخروج

٨٦

قتل أسيرين في اثناء الطريق :

ولما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في « الصفراء » (١) وهي أحد المنازل على طريق بدر ـ المدينة عرض عليه الاسرى فأمر بقتل النضر بن الحارث وكان من أعداء المسلمين الالداء.

وأمر بأن يضرب عنق عقبة بن أبي معيط إذ كان بعرق الظبية.

وهنا ينطرح سؤال وهو : إن حكم الاسلام في أسرى الحرب هو أنّهم عبيد للمسلمين والمجاهدين ، يباعون ويشترون باثمان مناسبة فلما ذا حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في شأن هذين الأسيرين بحكم آخر؟.

ثم إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي خاطب المسلمين في « بدر » في الأسرى الذين بأيديهم وأوصاهم بهم خيرا قائلا :

« استوصوا بالاسارى خيرا ».

كيف اتخذ مثل هذا القرار في حق بعضهم؟

يقول أبو عزيز ، وكان صاحب لواء في جيش قريش : كنت أسيرا في أيدي رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر فكانوا إذا قدّموا غداءهم وعشاءهم خصّوني بالخبز ، وأكلوا التمر والخبز عندهم قليل والتمر زادهم ، وذلك لوصية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اياهم بنا ، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلاّ نفحني بها فأستحي فاردّها على أحدهم فيردّها عليّ ، وكانوا يحملوننا ويمشون (٢)!!

مع ملاحظة هذه الامور لا بدّ من الاذعان بأن قتل هذين الأسيرين كان مما تقتضيه المصالح الاسلامية العامة ، لا أنه كان بدافع الانتقام ، فقد كان ذانك الأسيران من رءوس الكفر ، ومن مخطّطي الخطط الجهنّميّة ضد الاسلام

__________________

إلى بدر او لقيامهم بمهمات ، تتعلق بامور مراقبة العدو في الطرق او للقيام بمهمات ادارية داخل المدينة.

(١) المغازي : ج ١ ص ٦.

(٢) السيرة النبوية : ج ١ ص ٦٤٥ ، المغازي : ج ١ ص ١١٩.

٨٧

والمسلمين ، وضدّ الرسالة والرسول ، وكانا ممن يؤلبون القبائل ضدّ رسول الاسلام ، فلعله لو كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يفرج عنهم ويطلق سراحهم عادوا الى تدبير المؤمرات ضدّ الاسلام ، والمسلمين ، وعملا على تخطيط الخطط ، وتأليب القبائل ، فلم يكن بد من تصفيتهم والقضاء عليهم.

بشائر النبيّ الى المدينة :

كلّف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله « عبد الله بن رواحة » ، و « زيد بن حارثة » بأن يسبقاه الى المدينة ، ليبشّرا المسلمين بما حققه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه في بدر من الانتصار الكاسح والفتح المبين ، ويخبرا أهلها بمصرع رءوس الكفر والشرك كعتبة وشيبة وأبي جهل وأبي البختري وأميّة ، ونبيه ومنبه و .. و ..

فما قدم المبعوثان الى المدينة الا والمسلمون عائدون من دفن ابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله زوجة عثمان بن عفان فامتزجت الافراح بالاحزان ، واختلط السرور بانتصار النبيّ وأصحابه بالحزن على موت ابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وقد أرعب المشركون واليهود والمنافقون بخبر انتصار المسلمين الساحق على قريش ، وراحوا يحاولون تكذيبه ، وتفنيده حتى إذا دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المدينة ودخل بعده أسرى قريش أصبح الخبر قطيعا مسلّما ، فباءت محاولات المنافقين بالفشل.

المكيّون يعرفون بمقتل أسيادهم :

كان « الحيسمان الخزاعي » أول من قدم مكة واخبر الناس باحداث « بدر » الدامية وبمصرع طائفة كبيرة من سادة قريش على أيدي المسلمين.

يقول أبو رافع الذي كان غلاما للعباس بن عبد المطلب آنذاك ثم أصبح من أصحاب النبيّ وعلى فيما بعد : كنت غلاما للعباس ، وكان الاسلام قد دخلنا

٨٨

أهل البيت ، فأسلم العباس وأسلمت أمّ الفضل وأسلمت ، وكان العباس يهاب قومه ويكره خلافهم وكان يكتم إسلامه ، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه ، وكان أبو لهب قد تخلّف عن بدر ، فلما جاءه الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش كبته الله وأخزاه ، ووجدنا في أنفسنا قوة وعزة.

وقد كنت رجلا ضعيفا وكنت أصنع السهام والنبال أنحتها في حجرة زمزم فو الله بينما أنا جالس فيها أنحت سهامي وعندي أمّ الفضل جالسة وقد سرّنا ما جاءنا من الخبر عن هزيمة قريش ، إذ أقبل أبو لهب يجرّ رجليه بشرّ حتى جلس عند طنب (١) الحجرة فكان ظهره إلى ظهرى ، فبينما هو جالس إذ قال الناس : هذا أبو سفيان فقال أبو لهب : هلمّ إليّ فعندك لعمري الخبر.

فجلس إليه والناس قيام عليه فقال : يا ابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس؟

قال أبو سفيان : والله ما هو إلاّ أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقودوننا كيف شاءوا ، ويأسروننا كيف شاءوا ، وأيم الله مع ذلك ما لمت الناس ، لقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض ، والله ما تبقي شيئا ولا يقوم لها شيء.

يقول أبو رافع : فرفعت طنب الحجرة ، ثم قلت : تلك والله الملائكة.

فرفع أبو لهب يده فضرب بها وجهي ضربة شديدة (٢).

اشتراك العباس عمّ النبيّ في بدر :

يبقى أن نعرف أن مسألة اشتراك العباس عمّ النبيّ في غزوة بدر من مشكلات التاريخ وغوامضه ، فهو من الذين اسرهم المسلمون في بدر فهو من جانب يشارك في الحرب ، ومن جانب آخر يحضر في بيعة العقبة ، ويدعو أهل المدينة إلى حماية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ونصرته.

__________________

(١) الطنب : الطرف.

(٢) السيرة النبوية : ج ١ ص ٦٤٦ و ٦٤٧.

٨٩

فكيف يكون هذا؟

إن الحل يكمن في ما قاله أبو رافع غلام العباس نفسه : كان العباس قد أسلم ولكنه كان يهاب قومه ويكره خلافهم ويكتم اسلامه ، مثل أخيه أبي طالب لاقتضاء المصالح الاسلامية ذلك ، ومن هذا الطريق كان يساعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ويخبره بمخططات العدو ونواياه وتحركاته واستعداداته كما فعل ذلك في معركة « احد » أيضا (١). فقد كان أول من أخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بتحرك قريش وخططهم واستعداداتهم.

وقد أفجع مقتل سبعين رجلا من رجال مكة وفتيان قريش أكثر البيوت والعوائل في مكة ، وسلبهم البهجة والفرح ، والنشاط والحركة ، وتحولت مكة برمتها الى مأتم كبير ، وناحت قريش على قتلاها (٢).

المنع من النوح والبكاء في مكة :

غير أنّ أبا سفيان عمد ـ لا بقاء أهل مكة على حالة الحنق والغضب ـ الى منع النوح والبكاء على القتلى وحث الناس باستمرار على الاستعداد للثأر والانتقام من محمّد وأصحابه فقال : يا معشر قريش لا تبكوا على قتلاكم ، ولا تنح عليهم نائحة ولا يبكهم شاعر ، واظهروا الجلد والعزاء فانكم إذا نحتم عليهم وبكيتموهم بالشعر أذهب ذلك غيظكم ، فأكلّكم ذلك عن عداوة محمّد وأصحابه .. ولعلكم تدركون ثأركم.

ولكي يلهب أبو سفيان مشاعر الناس أكثر فأكثر أو يبقي على سخونتها على الأقل ، قال : والدهن والنساء عليّ حرام حتى أغزو محمّدا.

وكان « الأسود بن المطلب » اصيب له ثلاثة من ولده : زمعة وعقيل والحارث بن زمعة ، فكان يحب أن يبكي على قتلاه ، ولكنه ما كان يستطيع

__________________

(١) السيرة الحلبية : ج ٢ ص ٢١٧.

(٢) المغازي : ج ١ ص ١٢٢. قال : لم تبق دار بمكة إلاّ فيها نوح.

٩٠

ذلك لمنع أبي سفيان من النواح والبكاء على القتلى.

فبينما هو كذلك إذ سمع نائحة من الليل فقال لغلامه ـ وقد ذهب بصره وعمي ـ : هل بكت قريش على قتلاها لعليّ أبكي على زمعة ، فان جوفي قد احترق.

فذهب الغلام ورجع إليه فقال : إنما هي امرأة تبكي على بعيرها قد أضلّته ، فأنشد الأسود بن المطلب حينها يقول :

أتبكي أن يضل لها بعير

ويمنعها من النوم السهود

فلا تبكي على بكر (١) ولكن

على بدر تقاصرت الجدود

على بدر سراة بني هصيص

ومخزوم ورهط أبي الوليد

وبكّي ان بكيت على عقيل

وبكيّ حارثا اسد الاسود (٢)

القرار الأخير حول مصير الاسارى :

في هذه المعركة بالذات أعلن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن قرار تاريخي عظيم ورائع هو : أن من علّم من الاسرى عشرة من صبيان الغلمان والصبيان من أولاد الأنصار الكتابة والقراءة كان ذلك فداؤه وخلّي عن سبيله من غير أن يؤخذ منه مال (٣).

وان من دفع فدية قدرها أربعة آلاف درهم إلى ألف درهم خلي سبيله وان من كان فقيرا لا مال له افرج عنه دون فداء.

فأحدث هذا النبأ في مكة لدى عوائل الاسرى حركة عجيبة ودفعهم الى التفكير في تقديم الفداء الى المسلمين ، واطلاق اسراهم.

فهيّأ كل واحد منهم ما استطاع وقدم المدينة يفدي اسيره.

وعند ما افرج عن سهيل بن عمرو لقاء فدية قال عمر بن الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا رسول الله دعني أنزع ثنيتي سهيل بن عمرو ( أي أسنانه

__________________

(١) البكر : الفتى من الابل.

(٢) السيرة النبوية : ج ١ ص ٦٤٨.

(٣) السيرة الحلبية : ج ٢ ص ١٩٣.

٩١

الامامية ) ويدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيبا في موطن أبدا.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا امثل به فيمثل الله بي وان كنت نبيا » (١).

وتلك لفتة انسانية أخرى من لفتات النبيّ العظيم الكثيرة في المعارك.

وقد كان في الاسارى أبو العاص بن الربيع زوج ابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : زينب.

وكان أبو العاص من رجال مكة المعدودين مالا وأمانة وتجارة ، وقد تزوّج بزينب ابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الجاهلية.

ولما جاء الاسلام آمنت خديجة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وآمنت بناته ، ( ومنهن زينب ) كذلك وشهدن أن ما جاء به الحق ، ودنّ بدينه ، وثبت أبو العاص على شركه ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يقدر على أن يفرّق بينهما.

وقد اشترك أبو العاص هذا في معركة بدر مع قريش ، وأسر بأيدي المسلمين.

فلمّا بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في فداء أبي العاص بن الربيع بمال وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة قد أهدتها إليها ليلة دخول أبي العاص بها ( ليلة زفافها ).

فلما رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تلك القلادة تذكّر زوجته الوفية خديجة عليها‌السلام وما اسدته الى الاسلام من خدمات وقدمته من تضحيات ، وبكى بكاء شديدا.

فالتفت الى المسلمين وقال : إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها ، وتردوا عليها

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ١ ص ٦٤٩ ، والمغازي : ج ١ ص ١٠٧ يقول صاحب المغازي في صفحة ١٠٥ من نفس الجزء : كان عمر ( رض ) يحض على قتل الاسرى لا يرى أحدا في يديه أسير إلا امر بقتله!!

٩٢

ما لها فافعلوا.

فقالوا : نعم يا رسول الله ، نفديك بأنفسنا وأموالنا.

فأطلقوه ، وردوا عليها الذي لها وبذلك احترم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حقوق المسلمين وما يرجع إليهم من أموال بل أنها والله أعظم مظهر من مظاهر الديمقراطية ، ( ان صح التعبير ) فالنبيّ مع أن له ما له من الولاية على المسلمين يقترح عليهم الافراج عن زوج زينب ويترك الامر لاختيارهم.

ثم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذ على أبي العاص الميثاق بأن يخلي سبيل زينب ، ويبعثها الى المدينة.

ففعل أبو العاص ما تعهّد به ، وبعث زينب الى المدينة.

ثم إن أبا العاص نفسه أسلم أيضا وقدم المدينة ، وردّ عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله زينب بالنكاح الاول أو بنكاح جديد (١)

رسول الاسلام ومكافحة الامية :

كما أنه يتبين من قصة الاسرى الذين اطلق سراحهم لقاء تعليم أولاد المسلمين الكتابة والقراءة مدى اهتمام الاسلام بالثقافة والتثقيف ، والوعي والنوعية ، فان معرفة القراءة والكتابة بداية التثقيف والنوعية.

ولا بدّ أن نقول هنا أيضا أن اطلاق الاسارى العارفين بالقراءة والكتابة لقاء تعليم صبيان المسلمين تعد أول عملية لمكافحة الامية التي اهتم بها العالم الحاضر.

ففي الوقت الذي كانت الكثير من الدول في عصر الاسلام الاول تمانع من تثقيف أبنائها ورعاياها ـ كما مرّ عليك في دراسة أوضاع الامبراطوريتين الفارسية والرومية ـ أعلن رسول الاسلام ان من لم يكن معه فداء وهو يحسن الكتابة دفع إليه عشرة من غلمان المدينة ( أي صبيانها ) يعلمهم الكتابة فاذا تعلموا كان ذلك فداءه .. وما أعظمها من خطوة ثقافية وحضارية.

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ١ ص ٦٥١ ـ ٦٥٩ ، بحار الأنوار : ج ١٩ ص ٣٤٨ و ٣٤٩.

٩٣

كلام لابن أبي الحديد في المقام :

يقول العلاّمة ابن أبي الحديد : قرأت على ( استاذي ) النقيب أبي جعفر البصري العلوي هذا الخبر ، فصدّقه وقال : أترى أبا بكر وعمر لم يشهدا هذا المشهد؟ أما كان يقتضي التكريم والاحسان أن يطيّبا قلب فاطمة عليها‌السلام ، ويستوهب لها من المسلمين ( أي يستوهب فدكا من المسلمين ويردّه عليها )؟

أتقصر منزلتها عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من منزلة زينب أختها وهي سيدة نساء العالمين؟!

هذا إذا لم يثبت لها حق لا بالنحلة ولا بالارث؟

فقلت له : فدك بموجب الخبر الذي رواه أبو بكر قد صار حقا من حقوق المسلمين ، فلم يجز له أن يأخذه منهم.

فقال : وفداء أبي العاص قد صار حقا من حقوق المسلمين ، وقد أخذه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله منهم.

فقلت : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صاحب الشريعة ، والحكم حكمه ، وليس أبو بكر كذلك.

فقال : ما قلت هلاّ أخذه أبو بكر من المسلمين قهرا فدفعه إلى فاطمة عليها‌السلام وإنما قلت : هلاّ استنزل المسلمين عنه ، واستوهبه منهم لها ، كما استوهب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فداء أبي العاص؟ أتراه لو قال : هذه بنت نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وآله قد حضرت لطلب هذه النخلات افتطيبون عنها نفسا؟ كانوا منعوها ذلك؟!

فقلت له : قد قال قاضي القضاة أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد نحو ذلك. قال : إنهما لم ياتيا بحسن في شرع التكريم ، وان كان ما أتياه حسنا في الدين!!

أي ان ما فعلاه وان كان يوافق موازين الدين ـ حسب تصور القاضي ـ ولكنه لا يناسب شأن فاطمة وتكريمها لمقامها ولمكانها من أبيها رسول الله صلّى الله عليه

٩٤

وآله (١).

هذا وقد أمر الله نبيّه الكريم بأن يعلن للاسرى بأن الباب مفتوح على وجوههم لينضموا الى صفوف المسلمين ، فينعموا بالاسلام فيعيد الله عليهم أفضل مما أخذ منهم ويغفر لهم ذنوبهم ، إذ يقول تعالى :

« يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ » (٢)

وبذلك فتح الاسلام باب الأمل أمام الاسارى ، وكشف عن نزعته الانسانية ، وأيضا عن رغبته الصادقة في هداية البشرية ، ونجاتها.

كما ضرب بذلك مثلا في الحكمة وحسن السياسة لم يسبق له مثيل.

على انه هدّد الاسرى من ناحية اخرى إذا أساءوا ، وعادوا بعد الخلاص من الاسر إلى التآمر ضد الإسلام.

إذ قال :

« وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ » (٣).

وبذلك جمع بين الحزم والحكمة ، واللين الحكيم والشدّة المعقولة.

القرآن يتحدث عن بدر :

ولقد ذكّر القرآن الكريم المسلمين ، ولا يزال يذكّرهم بالانتصار الكبير الذي تحقق للمؤمنين في بدر بفضل ثبات المقاتلين ونصر الله وتأييده الغيبي إذ قال :

« إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ٣ ص ٣٣٤ ـ ٣٥٢ ولابن أبي الحديد كلام آخر يشبه هذا في اهدار من أسقط جنين زينب فراجع.

(٢) و (٣) الانفال : ٧٠ و ٧١.

٩٥

هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً ، وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ » (١).

وقال تعالى :

« قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ » (٢).

وقال تعالى أيضا :

« إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ » (٣).

وقوله تعالى :

« إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ. إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ » (٤).

وقال سبحانه أيضا :

« وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ. بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ ، هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ. وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ

__________________

(١) الانفال : ٤٢ و ٤٤.

(٢) آل عمران : ١٣.

(٣) الانفال : ٩.

(٤) الانفال : ١١ ـ ١٢.

٩٦

كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ » (١).

وفي هذه الآيات تصريحات واضحة بما كان عليه المسلمون في معركة بدر من حيث قلة العدة والعدد ، وبأبرز الامدادات الغيبية الإلهية التي ساعدت المسلمين على الانتصار على أعدائهم المشركين ، الذين كانوا يفوقونهم في العدة والعدد والسلاح والرجال مع التأكيد على أن ذلك الانتصار العظيم جاء نتيجة ثبات المسلمين واستقامتهم ، وصبرهم وإخلاصهم.

وأبرز تلك الامدادات الغيبية هي :

١ ـ مع أن الاعداء كانوا متمركزين في العدوة العليا وهي أعلى الوادي والمسلمين في أسفل الوادي ، وكان ذلك من شأنه أن يعزز موقع الكفار لإمكان مراقبة المسلمين من مكان مرتفع كما كان من شأنه أن يجعل هجوم المسلمين على الكفار أمرا صعبا ، ولكن كفة الحرب رجحت مع ذلك لصالح المسلمين.

٢ ـ إنهم لو كانوا على ميعاد مع العدو ، ومع العلم التفصيلي بحجم امكانياته البشرية والقتالية لامتنع عامة المسلمين عن مقابلة المشركين ، ولكن شاء الله أن لا يعرف المسلمون شيئا مفصلا عن المشركين ، مسبقا ، بل يواجه المسلمون الأمر الواقع ، فيتحقق ما أراد الله من الانتصار على قريش. والى هذا اشار سبحانه بقوله :

« وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ ».

٣ ـ تقليل عدد المسلمين في أعين المشركين وتقليل عدد المشركين في أعين المسلمين في أول القتال لكي يستقل الاعداء قوة المسلمين ، ولكي لا يهاب المسلمون الاعداء ويستعظموا عددهم ، وإليه يشير تعالى بقوله :

« إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ ».

٤ ـ تكبير عدد المسلمين في أعين الكفار في أثناء القتال وإليه يشير تعالى بقوله :

__________________

(١) آل عمران : ١٢٣ ـ ١٢٧.

٩٧

« يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ».

٥ ـ الإمداد بالملائكة المردفين المسوّمين.

٦ ـ النعاس الذي ألقاه الله على المسلمين فجدد نشاطهم ، وضاعف من قوتهم.

٧ ـ نزول المطر عليهم والذي طهّرهم من الاقذار ومكّنهم من الاغتسال عما أصاب بعضهم من حدث ، وثبّت الأرض الرمليّة تحت أقدامهم ، وقد أشار سبحانه إلى كل ذلك في الآية ١١ من سورة الانفال.

٨ ـ تثبيت قلوب المؤمنين بواسطة الملائكة.

٩ ـ القاء الرعب في قلوب الكفار والى هذين النوعين من الإمداد الغيبي أشار بقوله : « فثبّتوا الّذين آمنوا سألقي في قلوب الّذين كفروا الرّعب ».

كما ويشير القرآن الكريم في هذا السياق إلى دور الشيطان في هزيمة الكفار فهو الذي يغري وهو الذي يخذل عند اللقاء يقول سبحانه :

« وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ » (١).

كما أن القرآن يتحدث أيضا عن حالة المشركين عند ما أتوا إلى بدر لمواجهة المسلمين وما كانت تنطوي عليه نفوسهم فيقول :

« وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ » (٢).

كما ويعزي هزيمتهم إلى سبب رئيسي وحقيقي وهو مشاققة الله ورسوله إذ يقول :

« ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ » (٣).

__________________

(١) الانفال : ٤٨.

(٢) الانفال : ٤٧.

(٣) الانفال : ١٣.

٩٨

وينبغي الاشارة في ختام هذا العرض التفصيلي ـ نوعا ما ـ لوقعة بدر إلى تكتيكات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الحربية ، وإلى أساليبه الحكيمة في تقوية معنويات المسلمين وإلى جانب تنظيم صفوفهم ، ممّا لا يسع المجال لذكره على وجه التفصيل الكامل.

٩٩

٣٠

زواج سيدة النساء

فاطمة بنت رسول الله (١)

إن الرغبة الجنسيّة حالة تظهر عند البلوغ لدى كل انسان ، وربما تنحرف بالشاب وتهوي به في أحضان الفساد والسقوط الاخلاقي إذا لم تتوفر له أجواء التربية الصحيحة ولم تتح له الفرصة المناسبة ، والمسير الصحيح لتنفيذ تلك الرغبة ، والاستجابة لها بصورة صحيحة.

وان خير وسيلة للحفاظ على العفة الفردية والحياء العام ، وتجنيب الفرد والمجتمع مفاسد وأخطار الانحراف الجنسيّ هو الزواج.

فان الاسلام يحتّم على الرجل والمرأة ـ تأكيدا لحكم الفطرة وتمشّيا مع ناموس الطبيعة البشرية ـ أن يتزوجا طبقا لضوابط خاصّة تضمن سلامة الزيجة ودوامها.

وقد جاء هذا التأكيد ، والحديث في الكتاب العزيز ، والسنة الشريفة بمختلف الصور ، وتحت مختلف العناوين :

فقد جاء في الكتاب العزيز :

« وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ » (٢).

__________________

(١) كان زواج فاطمة بعد وقعة بدر ، راجع بحار الأنوار : ج ٤٣ ص ٧٩ و ١١١.

(٢) النور : ٣٢.

١٠٠