سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

علماء الرجال ، نظراء :

١ ـ محمّد بن أحمد بن مخزوم استاذ التلّعكبريّ في الحديث فهو ممن لم يوثّق (١).

٢ ـ الحسن بن على العدويّ وقد ضعّفه العلامة (٢).

٣ ـ محمّد بن صدقة العنبرى وقد وصفه الشيخ الطوسى بالغلوّ (٣).

وقد ذكر المرحوم السيد ابن طاوس في كتاب « الاقبال » امورا تتعلق بالمباهلة نقلا عن كتاب أبي المفضل وقد ذكرنا في الهامش ( ص ٢٠٧٣ ) أن ابا المفضل له فترتان في حياته ، فهو موثق في حال وغير موثق في حال آخر ، ولا يدرى في أي حال من الحالين كتب أبو المفضل قضايا المباهلة ، واخذها عنه العلماء.

كما ان السيّد استند في كتابه المذكور ( ص ٧٤٣ ) على حديث مرفوع ( وهو ما فيه نقص في رجال سنده ) ، وذكر في ضوئه ان يوم المباهلة هو اليوم الرابع والعشرون على حين لا تقوم مثل هذه الرواية باثبات المدعى.

__________________

(١) وان حاول المامقاني في تنقيح المقال توثيقه لكونه استاذ حديث.

(٢) تنقيح المقال : ج ١ ص ٢٩٤.

(٣) رجال الشيخ الطوسي : ص ٣٩.

٦٢١

٦٠

١ ـ تقييم البراءة من المشركين

٢ ـ وفود القبائل في المدينة

تركت البراءة القوية التي أعلنها امير المؤمنين علي عليه‌السلام في موسم الحج في السنة التاسعة بمنى بامر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والتي أعلن فيها بصراحة وبصورة رسمية ان الله ورسوله بريئان من المشركين والوثنيين ، وأن على المشركين أن يضعوا حدّا لشركهم خلال أربعة أشهر فإما أن يسلموا ويكفّوا عن عبادة الاصنام ويهجروها ، وإما أن يستعدوا لمواجهة شاملة.

لقد ترك إعلان هذه البراءة الصريحة أثرها العميق والسريع ، فقد ارتبكت القبائل العربية القاطنة في شتى أنحاء الجزيرة العربية التي كانت بسبب عنادها ولجاجتها ترفض الخضوع لمنطق القرآن والاستجابة لنداء التوحيد وتصر على المضي في عاداتها الشنيعة ، والعكوف على الاوهام والخرافات وعبادة الاصنام والأوثان.

لقد ارتكبت هذه القبائل ، على اثر تلك البراءة الصريحة القوية ، فعمدت إلى إيفاد وفود ومندوبين من جانبها إلى المدينة عاصمة الإسلام ، وقد دار بين كل واحد من هذه الوفود وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حوار خاص.

وقد ذكر ابن سعد في الطبقات الكبرى (١) مواصفات وخصوصيات اثنين

__________________

(١) الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ٢٩١ ـ ٣٣٠.

٦٢٢

وسبعين وفدا من تلك الوفود.

إن توافد هذه البعثات والوفود العجيب وخاصة في أعقاب إعلان البراءة يكشف عن أن مشركى العرب فقدوا في السنة العاشرة من الهجرة كل حصين يمنعهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والاّ لكانوا يلجئون إليه ، ويتظاهرون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولم تنته المدة المضروبة ( اربعة أشهر ) بعد إلاّ ودخلت كل مناطق الحجاز وكل أقوامها تحت راية التوحيد ، ولم يبق في الحجاز بيت تعبد فيه للاصنام والاوثان ظاهرا حتى أن فريقا من سكان اليمن والبحرين واليمامة انتبهوا الى الاسلام فاقبلوا عليه واعتنقوه.

محاولة اغتيال النبي :

عرفت قادة بني عامر من بين القبائل العربية ـ يومئذ ـ بالشر والطغيان ، وقد اعتزم ثلاثة اشخاص منهم هم : « عامر » و « أربد » و « جبار » على أن يدخلوا المدينة راس وفد من بني عامر ، ويتظاهروا بالتفاوض مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم يغدروا به في المجلس ويغتالوه.

وكانت الخطة تقضى : بأن يتحدث « عامر » الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويفاوضه ، وفيما هو يفعل ذلك يبادر « أربد » الى ضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بسيفه.

ولم يخبر بقية اعضاء الوفد بنوايا هؤلاء الثلاثة وخطتهم ، ولهذا أعلنوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن رغبتهم الصادقة في الاسلام ، ووفائهم لشخص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن « عامرا » احجم عن أي نوع من انواع

٦٢٣

التظاهر بالإسلام في ذلك المجلس وكان يصرّ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يخلو به في مكان آخر ليتحدث معه على انفراد تمهيدا لتنفيذ الخطة المشؤومة وهو ينظر الى أربد وينتظر منه ما كان أمره به واتفقا عليه ، ولكنه لا يزداد نظرا إلى « اربد » إلاّ ويزداد « اربد » حيرة ودهشة هذا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول لعامر كلما قال : خالّني : لا والله حتى تؤمن بالله وحده لا شريك له.

فلما أيس « عامر » من « اربد » ، وكأنّ « اربدا » كلما عزم أن يجرد سيفه ويهجم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هاب النبي ، ومنعته عظمته ومهابته ، فانصرف عن نيته ، قال عامر وهو يترك مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أما والله لأملأنّها عليك خيلا ورجالا وهو بذلك يكشف عن عناده وعتوه.

فقابله رسول الله بحلم كبير ، ولم يرد على كلامه وتهديده وانما اكتفى بأن دعا عليه وعلى صاحبه بعد أن غادر مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولقد استجاب الله لدعاء نبيه سريعا فقد خرج هو وصاحبه راجعين إلى بلادهم حتى اذا كانوا في اثناء الطريق بعث الله الطاعون في عنق « عامر » فقتله ذلك المرض الوبيء في بيت امرأة من بني سلول في صورة فضيعة ، وحالة سيئة.

وأما « اربد » فارسل الله عليه وعلى جمله صاعقة وهو في الصحراء فاحرقتهما ، وقد تسببت هاتان الحادثتان الفضيعتان اللتان أصابتا عدوّين لدودين من أعداء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في أن يزداد تعلق بني عامر برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويتضاعف حبهم له صلى‌الله‌عليه‌وآله .

أمير المؤمنين في ربوع اليمن :

لقد مكّن اقبال اهل الحجاز على الاسلام ، وأمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

٦٢٤

جانب القبائل العربية ، مكّن النبي من العمل على مدّ شعاع الاسلام إلى البلاد المتاخمة للحجاز.

فكان أول ما فعل صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا الصعيد هو بعث أحد أصحابه العلماء وهو « معاذ بن جبل » الى اليمن ليبلّغ إلى اهلها نداء التوحيد ويشرح لهم معالم الاسلام وتعاليمه المقدسة ، وقد أوصاه بوصايا كثيرة ومفصلة منها قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

« يسّر ولا تعسّر وبشّر ولا تنفّر وإنك ستقدم على قوم من أهل الكتاب يسألونك ما مفتاح الجنة : فقل شهادة أن لا إله الاّ الله وحده لا شريك له ».

ويبدو أن معاذا رغم انه كان ملمّا بالكتاب العزيز والسنة النبوية وتعاليمها واحكامها ، إلا انه لما سألته امرأة عن حق الزوج على الزوجة لم يملك لها جوابا مقنعا ، ولهذا رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يوجه الى اليمن تلميذه المتميز « علي بن أبي طالب » عليه‌السلام حتى يتمكن في ضوء دعوته الدائبة ، واحاديثه المبرهنة ، وما يمتلك من شجاعة أدبية نادرة ، وقوة عقلية متميزة من نشر الإسلام العظيم في تلك الربوع.

هذا مضافا إلى أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان قد بعث « خالد بن الوليد » (١) الى اليمن من قبل ليزيل المشكلات التي كانت تعرقل تقدّم الاسلام في تلك الديار ولكنه لم يوفّق في مدة بقائه لعمل شيء في هذا المجال (٢).

فاستدعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عليا عليه‌السلام وأخبره بأنه يريد أن يذهب الى اليمن ليدعو أهلها إلى الإسلام ، وليخمّس ركازهم ، ويعلّمهم

__________________

(١) صحيح البخاري : ج ٥ ص ١٦٣.

(٢) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ٢٦٤.

٦٢٥

الاحكام ، ويبين لهم الحلال والحرام ، وإلى أهل نجران ليجمع صدقاتهم ويقدم عليه بجزيتهم ، فقال علي عليه‌السلام بتواضع بالغ :

« يا رسول الله تبعثني وأنا شاب أقضي بينهم ولا أدري ما القضاء » أي ما فعلته قبل هذا.

فضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بيده في صدر عليّ عليه‌السلام وقال :

« اللهم اهد قلبه وثبّت لسانه ».

ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله :

« يا عليّ لا تقاتلنّ أحدا حتى تدعوه وأيم الله لئن يهدي الله على يديك رجلا خير لك ممّا طلعت عليه الشمس وغربت ولك ولاؤه يا علي ».

ثم أوصاه صلى‌الله‌عليه‌وآله بوصايا أربع هامة إذ قال :

يا علي أوصيك :

١ ـ بالدّعاء فإن معه الإجابة.

٢ ـ وبالشكر فانّ معه المزيد.

٣ ـ وإيّاك أن تخفر عهدا أو تعين عليه.

٤ ـ وأنهاك عن المكر ، فانه لا يحيق المكر السيّئ إلاّ بأهله ، وأنهاك عن البغي ، فانه من بغي عليه لينصرنه الله ».

ولقد بقي علي عليه‌السلام يقوم بالقضاء طيلة ايام اقامته في اليمن بصورة عجيبة محيّرة ، وقد دونت اكثر اقضيته في كتب التاريخ والحديث.

هذا ويروي « البراء بن عازب » وكان من الذين صحبوا عليا عليه‌السلام في سفره هذا الى اليمن انه لما انتهى علي عليه‌السلام ومن معه إلى أوائل أهل اليمن ، وبلغ القوم الخبر ، فخرجوا إليه صفّ عليّ عليه‌السلام الجنود الذين كانوا

٦٢٦

قد استقروا هناك من قبل بقيادة خالد بن الوليد ، ثم صلّى بهم صلاة الفجر ، ثم دعا قبيلة همدان كلّها ، وكانت اكبر القبائل اليمنية ، ليقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فحمد الله ، واثنى عليه ، ثم قرأ على القوم كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فاسلمت همدان كلها في يوم واحد متأثرة بجلال المشهد ، وحلاوة البيان ، وعظمة المنطق النبوي ، فكتب امير المؤمنين عليه‌السلام بذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلمّا قرأ كتابه استبشر وابتهج وخرّ ساجدا شكرا لله تعالى ثم رفع رأسه وجلس وقال :

« السلام على أهل همدان. السلام على أهل همدان ».

ثم تتابع ـ على أثر اسلام همدان ـ أهل اليمن على الاسلام (١).

__________________

(١) الكامل في التاريخ : ج ٢ ص ٣٠٥ ، بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٣٦٠ ـ ٣٦٣.

٦٢٧

٦١

حجة الوداع

تعتبر مراسيم الحج ومناسكه من أعظم العبادات الاسلامية الجماعية التي يؤديها المسلمون ، جلالا وابهة ، وذلك لأنّ أداء مراسيم الحج ومناسكه في كل سنة مرة واحدة يمثّل بالنسبة للامة الإسلامية أكبر مظاهر الاتحاد ، والوحدة ودليلا كاملا على الترفع على المناصب والدرجات وتكون نموذجا بارزا للمساواة بين جميع أبناء البشر ، وسبيلا إلى تقوية أواصر الاخوة المتينة بين المسلمين ، فاذا كان المسلمون لا ينتفعون بهذه المائدة الكبرى التي منحها ربهم لهم ، واذا كانوا لا يستفيدون من هذا المؤتمر الاسلامي السنوي العظيم ( الذي يمكنه بحقّ أن يجيب ويعالج الكثير من مشكلاتنا الاجتماعية ، ويكون نقطة تحول عميق في حياتنا ) استفادة كاملة لائقة ، فانّ ذلك ليس ـ وبدون ريب او شك ـ ناشئا من قصور في القانون الاسلامي ، بل هو دليل على قصور قادة المسلمين وتقصير حكامهم الذين لا يولون هذه المراسم وهذا الموسم العظيم اهتماما مناسبا ، ولا يفكرون في استغلاله على الوجه المطلوب.

فمنذ أن فرغ إبراهيم الخليل عليه‌السلام من اقامة صرح الكعبة المعظّمة ودعا الموحّدين إلى زيارتها ، والحج إليها لم تزل هذه البنية الشريفة كعبة القلوب ، ومطاف الشعوب والاقوام والجماعات الموحّدة التي تأتي إليها كل عام من شتى نقاط العالم ، ومن مختلف انحاء الجزيرة العربية ، ويؤدّون عندها المناسك التي علّمها إياهم النبي العظيم إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا السّلام.

٦٢٨

ولكن تقادم العهد ، وانقطاع شعب الحجاز عن قيادة الأنبياء ، وأنانية قريش ، وسيادة الوثنية على عقول العرب أوجب أن تتعرض مراسم الحج ومناسكه ـ من حيث الزمان والمكان ـ لعملية تحريف وتغيير ، وان تفقد صبغتها الحقيقية ووجهها الواقعيّ.

لهذه الجهات امر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في السنة العاشرة من الهجرة ، ومن قبل الله سبحانه ان يشارك في مراسم الحج شخصيا ، ويقوم بتعليم مناسك الحج للناس ، ويوقفهم على واجباتهم في هذه العبادة الكبرى عمليا ، كما يقوم بإزالة كلّ ما علق بها من زوائد طيلة السنوات الغابرة ، ويعيّن حدود « عرفات » و « منى » ويوم الإفاضة منها ولهذا فانّ السفر كان سفرا ذا طابع تعليمي ، قبل أن يكون ذا طابع سياسيّ واجتماعي.

أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الشهر الحادي من العام العاشر للهجرة ( أي شهر ذي القعدة ) بأن ينادى في المدنية وبين القبائل بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقصد مكة للحج هذا العام ، فاحدث هذا الاعلان شوقا وابتهاجا عظيمين في نفوس جمع كبير من المسلمين ، فتهيّأ عدد هائل منهم لمرافقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وضربت مضارب وخيم كثيرة خارج المدينة المنورة بانتظار حركة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتوجّهه الى مكة (١).

وفي اليوم السادس والعشرين من شهر ذي القعدة خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من المدينة متوجها الى مكة وقد استخلف مكانه في المدينة أبا دجانة الانصاري ، وقد ساق معه ما يزيد عن ستين بدنة.

وعند ما بلغ الموكب النبوي العظيم إلى « ذي الحليفة » ( وهي نقطة فيها مسجد الشجرة أيضا ) أحرم بلبس قطعتين عاديتين من القماش الأبيض من مسجد الشجرة ، ودخل الحرم ، ولبّى عند الاحرام قائلا :

__________________

(١) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ٣٨٩.

٦٢٩

« لبّيك اللهم لبّيك لبّيك لا شريك لك لبّيك إنّ الحمد والنعمة لك والملك لبّيك لا شريك لك لبّيك ».

وهو بذلك يلبي نداء إبراهيم ، كما أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يكرّر هذه التلبية كلّما شاهد راكبا ، أو علا مرتفعا من الأرض ، أو هبط واديا.

ولما شارف مكة قطع التلبية المذكورة.

وفي اليوم الرابع من شهر ذي الحجة ، دخل صلى‌الله‌عليه‌وآله مكة المكرمة وتوجّه نحو المسجد الحرام رأسا ، ثم دخله من باب بني شيبة وهو يحمد الله ويثني عليه ويصلي على إبراهيم عليه‌السلام.

ثم بدأ من الحجر الأسود فاستلمه (١) أولا ، ثم طاف سبعة أشواط حول الكعبة المعظمة ، ثم صلى ركعتين خلف مقام إبراهيم وعند ما فرغ من صلاته سعى بين الصفا والمروة (٢) ثم التفت إلى حجاج بيت الله الحرام وقال :

« من لم يسق منكم هديا فليحلّ وليجعلها عمرة ( أي فليقصّر أي يأخذ من شعره وظفره فيحلّ له ما حرم عليه بالاحرام ) ومن ساق منكم هديا فليقم على إحرامه ».

وقد كره البعض هذا واعتذروا بانه يعزّ عليهم ( أولا يلذّ لهم ) أن يخرجوا من الاحرام فيحلّ لهم ما يحرم على المحرم فيلبسوا الثياب ويقربوا النساء ويتدهنوا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على إحرامه أشعث أغبر.

__________________

(١) المراد من الاستلام هو مسح الحجر الاسود باليدين قبل الشروع بالطواف وفلسفة هذا العمل هي أن هذا الحجر كان يقف عليه ابراهيم لدى بناء جدران الكعبة واقامتها ورفعها ، واستلامه نوع من تجديد الميثاق مع الخليل عليه‌السلام والعمل على نصرة عقيدة التوحيد على نحو ما فعل ابراهيم.

ولقد اعتمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الفترة المدنية مرتين ، إحداهما في السنة السابعة والاخرى في الستة الثامنة بعد فتح مكة ، وكانت هذه ثالث عمرة يقوم بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مع الحج ( الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ١٧٤ ).

(٢) الصفا والمروة جبلان على مقربة من المسجد الحرام والسعي هو المشي بينهما ابتداء من الصفا وانتهاء بالمروة.

٦٣٠

وربّما قالوا : لا يصحّ هذا ، كيف تقطر رءوسنا من الغسل (١) ونحن زوّار بيت الله؟

فالتفت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الى عمر وكان ممن بقى على احرامه وقال له : ما لي أراك يا عمر محرما؟ أسقت هديا؟

قال عمر : لم أسق.

فقال النبي : فلم لا تحلّ وقد أمرت من لم يسق بالإحلال؟

قال عمر : والله يا رسول الله لا أحللت وأنت محرم.

فغضب النبي لموقف الناس المتلكي هذا وقال :

« لو كنت استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كما أمرتكم ».

وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله يعني : أنني لو كنت أعلم بالمستقبل ولو عرفت بموقف الناس المتردّد وخلافهم هذا من قبل لما سقت الهدي ، ولفعلت ما فعلتموه من عدم سوق الهدي ، ولكن ما ذا عساي أن أفعل الآن وقد سقت الهدي ، ولا يمكنني الإحلال من الإحرام ، فيجب عليّ أن أبقى على إحرامي « حتى يبلغ الهدي محلّه » أي أنحر هديي بمنى كما أمر الله سبحانه ، وأما أنتم فمن لم يسق الهدي منكم فانّ عليه أن يحلّ إحرامه ، واحسبوها عمرة ، ثم أحرموا للحج مرة اخرى (٢).

الامام علي يعود من اليمن :

لما علم علي عليه‌السلام بتوجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الى مكة

__________________

(١) هذه العبارة كناية عن مقاربة الازواج وغسل الجناية لان مقاربتهن هي أحد محرمات الحرام وترتفع هذه الحرمة بالتقصير وهو أخذ شيء من شعر الرأس أو اللحية أو تقليم الظفر.

(٢) بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٣١٩ ، وهذه القصة توقفنا على تعنّت فريق من الصحابة وتمرّدهم على تعليمات النبي وأوامره الاكيدة وهم يعلمون أنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وثمة شواهد وموارد اخرى كثيرة على الموضوع ، وقد جمعها المغفور له العلامة السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي في كتاب اسماه « النص والاجتهاد ».

٦٣١

للمشاركة في مراسم الحج خرج هو وجنوده وقد ساق معه (٣٤) هديا للمشاركة في الحج ، واصطحب حللا من بزّ اليمن وحريرها قد أخذها من اهل نجران وهي الجزية التي تقرّر دفعها الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولقد تعجل عليّ عليه‌السلام إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله واستخلف على جنده الذين خرجوا معه إلى الحج رجلا من أصحابه لقيادتهم حتى مكة ، فالتحق برسول الله ولقيه على مشارف مكة فسر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله به ، وبما أحرزه من نجاحات في مهمته التي بعثه بها إلى أرض اليمن ، وقد أخبر بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على وجه التفصيل.

فلما فرغ من بيان اخبار سفره قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : انطلق فطف بالبيت ، وحلّ كما حلّ أصحابك.

فقال علي : يا رسول الله إني اهللت كما أهللت.

فسأله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن كيفية إهلاله ساعة أحرم للحج فقال علي عليه‌السلام : يا رسول الله إني قلت حين أحرمت : اللهم إني اهلّ بما أهلّ به نبيّك وعبدك ورسولك محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله .

قال النبي وقد أخبره بانه يشاركه في الحكم ما دام أهلّ بهذه الكيفية : فهل معك هدي؟

قال علي : نعم وهو يشير إلى الهدي الذي ساقه معه من اليمن.

فاشركه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الحكم ، وثبت على إحرامه مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى فرغا عن الحج ونحر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الهدي عن نفسه ، كما نحر علي هديه أيضا (١).

ثم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر عليا عليه‌السلام بأن يرجع إلى جنوده الذين فارقهم ، ويصطحبهم الى مكة ، فلما رجع علي عليه‌السلام إليهم

__________________

(١) الارشاد : ص ٩٢ ، ان هذا يدل على أن النية الاجمالية كافية ولا يلزم وقوف الناوى على تفاصيل العمل وجزئياته.

٦٣٢

وجد أن الرجل الذي استخلفه على اولئك الجنود قد عمد فكسا كلّ رجل من القوم حلة من البزّ الذي كان قد أخذه علي من أهل نجران ليسلّمها الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فانزعج من هذا التصرّف غير المشروع وقال له : ويلك ما هذا؟

قال : كسوت القوم ليتجملوا به اذا قدموا في الناس بمكة فقال علي عليه‌السلام : ويلك! أنزع قبل أن تنتهي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فانتزع ذلك الرجل الحلل من الجنود ، وردّها إلى مكانها مع الأشياء الاخرى من جزية أهل نجران.

فانزعج جماعة من اولئك الجنود ممن يزعجهم العدل والنظام دائما ويريدون أن تسير الامور وفق أهوائهم ومشتهياتهم وان خالفت سنن الحق ومبادئ العدالة ، وأبدوا شكواهم من ما صنع بهم من استرداد الحلل والثياب.

ولما قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بمكة اشتكوا عليا عليه‌السلام فقام رسول الله خطيبا في الناس وقال :

« أيّها الناس ، لا تشكوا عليا ، فو الله إنه لأخشن في ذات الله ( أو في سبيل الله ) من أن يشكى » (١).

مراسم الحج تبدأ :

انتهت أعمال العمرة ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يكره أن ينزل ويمكث في دار أحد في المدة التي بين العمرة والحج ولهذا أمر بأن تضرب له خيمة خارج مكة.

لقد حلّ اليوم الثامن من شهر ذي الحجة ، فخرج زوّار بيت الله الحرام في ذلك اليوم من مكة إلى أرض عرفات ليقفوا في اليوم التاسع وهو يوم عرفة من ظهر ذلك اليوم وحتى الغروب منه.

__________________

(١) السيرة النبوية : ح ٤ ص ٦٠٣ وفي البحار : ج ٢١ ص ٣٨٥ : أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مناديا أن ينادي في الناس : « ارفعوا ألسنتكم عن عليّ فانه خشن في ذات الله غير مداهن في دينه ».

٦٣٣

وقد قصد النبي عرفات أيضا في اليوم الثامن من شهر ذي الحجة ( الذي يدّعى يوم التروية أيضا ) من طريق منى ، وتوقّف في « منى » إلى طلوع الشمس من اليوم التاسع ثم ركب بعيره ، وتوجه نحو عرفات ، ونزل في خيمة كانت قد ضربت له في مكان يدعى « نمره ».

وقد ألقى في ذلك الاجتماع الهائل خطابا تاريخيا هاما وهو على ناقته.

خطاب النبيّ التاريخي في حجة الوداع :

... في ذلك اليوم الذي كانت عرفات تشهد فيه اجتماعا عظيما وحشدا بشريا هائلا ، لم يشهد مثله شعب الحجاز من قبل حتى ذلك اليوم ، كان نداء التوحيد وشعار الاسلام يدوّي في ربوع تلك المنطقة التي كانت فيما مضى من الزمان موطن المشركين ومسكن الوثنيين ولكنها قد تحولت الآن إلى قاعدة الموحّدين ، وملتقى عباد الله المؤمنين.

في هذه المنطقة بالذات ( أي أرض عرفات ) نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وصلّى الظهر والعصر وهو يؤم مائة الف ، ثم خطب فيهم خطابه التاريخيّ وهو راكب على راحلته ، وكان أحد اصحابه ـ وكان رفيع الصوت قويه ـ يكرر كلماته صلى‌الله‌عليه‌وآله ليسمعه آخر من في ذلك الحشد.

لقد بدأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك الخطاب هكذا :

« أيّها الناس اسمعوا قولي واعقلوه فاني لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا.

أيّها الناس إنّ دماءكم واموالكم (١) عليكم حرام إلى أن تلقوا ربّكم ».

وتأكيدا لحرمة أموال المسلمين ودمائهم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله لربيعة بن أميّة :

__________________

(١) في الخصال : ج ٢ ص ٤٨٧ أيضا : وأعراضكم.

٦٣٤

« قل يا أيّها الناس إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : هلاّ تدرون أيّ شهر هذا »؟

فاجابوا : الشهر الحرام الذي يحرم فيه القتال واراقة الدماء. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لربيعة :

« قل لهم : إن الله قد حرّم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة شهركم هذا ».

ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله لربيعة :

« قل : يا أيّها الناس إن رسول الله يقول هل تدرون أيّ بلد هذا؟ »

فاجابوا جميعا : البلد الحرام ، الذي يحرم فيه القتال والعدوان. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لربيعة :

« قل لهم : إن الله قد حرّم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربّكم كحرمة بلدكم هذا ».

ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله لربيعة :

« قل لهم : هل تدرون أي يوم هذا؟ ».

فأجابوا بأجمعهم : يوم الحج الاكبر.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لربيعة :

« قل لهم : إنّ الله قد حرّم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربّكم كحرمة يومكم هذا.

أيّها الناس : إن كل دم كان في الجاهلية موضوع ، وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث ( وكان من أقرباء النبي ) ».

وهكذا ألغى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عادة الثارات الجاهلية المشؤومة وبدأ بأقربائه.

ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله :

« إنّكم ستلقون ربّكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلّغت فمن كانت

٦٣٥

عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها.

أيّها الناس إنّ كل ربا موضوع ولكن لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون وإنّ ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله.

أيها الناس إن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا ، ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضي به ممّا تحقرون من أعمالكم ( أو رضي منكم بمحقّرات الأعمال ) ، فاحذروه على دينكم.

أيّها الناس إن النسيء (١) زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا يحلّونه عاما ويحرّمونه عاما ليواطئوا عدّة ما حرّم الله فيحلّوا ما حرّم الله ويحرّموا ما أحلّ الله وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متوالية ( ذو القعدة وذو الحجة وشهر المحرم ورجب ).

أيّها الناس إن لكم على نسائكم حقا ولهنّ عليكم حقا :

لكم عليهم أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ( أي لا تضيّفن في بيوتكم من تكرهونه ).

وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبيّنة فإن فعلن فان الله قد أذن لكم أن تهجروهنّ في المضاجع ، وتضربوهنّ ضربا غير مبرّح ، فان انتهين فلهنّ رزقهنّ وكسوتهن بالمعروف واستوصوا بالنساء خيرا فإنّهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهنّ شيئا ، وإنكم انما أخذتموهنّ بأمانة الله واستحللتم فروجهنّ بكلمات الله فاعقلوا أيها الناس قولي فاني قد بلّغت وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلّوا أبدا أمرا بيّنا كتاب الله وسنة نبيّه (٢)

أيها الناس اسمعوا قولي واعقلوه تعلّمنّ أنّ كل مسلم أخ للمسلم وإنّ

__________________

(١) شرحنا النسيء في ص ٨٣ من هذا الكتاب فراجع.

(٢) لقد اوصى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الامة في هذه الخطبة التاريخية بالكتاب والسنة ،

٦٣٦

المسلمين إخوة فلا يحلّ لامرئ من أخيه إلاّ ما أعطاه عن طيب نفس منه فلا تظلمنّ أنفسكم ألا فليبلّغ شاهدكم غائبكم لا نبيّ بعدي ولا أمّة بعدكم (١).

« ألا كل شيء من أمر الجاهليّة تحت قدمي موضوع » (٢).

وهنا قطع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خطابه ، ورفع سبّابته نحو السماء ( كعلامة على الشهادة ) وهو ينكتها الى الناس وقال :

« اللهم اشهد

اللهم اشهد

اللهم اشهد » (٣)

ولقد مكث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في عرفات حتى غروب اليوم التاسع ، وعند ما اختفى قرص الشمس عن الافق ، واظلمّ الفضاء بعض الشيء ركب ناقته ، وافاض إلى المزدلفة وامضى فيها شطرا من الليل ولم يزل واقفا من الفجر إلى طلوع الشمس في المشعر ، ثم توجّه في اليوم العاشر إلى « منى » وأدّى مناسكها من رمي الجمار والذبح والتقصير ثم توجّه نحو مكة لأداء بقية مناسك الحج.

__________________

ولكنه أوصى في خطبة الغدير وفي اخريات حياته بالكتاب والعترة ، وحيث ان هذين الحديثين وردا في واقعتين فلا تنافي بينهما ، لانه يصح ان يجعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله السنة عدلا للكتاب في واقعة ، ويوصى بالعترة والخلفاء من أهل بيته في موضع آخر ويؤكد على اتباعهم الذي هو أخذ بالسنّة أيضا.

وقد تصور بعض اعلام السنة كالشيخ محمود شلتوت في تفسيره ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تحدث بمثل هذا الكلام في واقعة واحدة فقط ، ولهذا جعل لفظ « عترة » في الهامش نسخة بدل في حين لا نحتاج الى مثل هذا التصحيح ابدا لانه لا تعارض بين النقلين أساسا ليعالج بهذه الطريقة.

(١) الخصال : ص ٤٨٧.

(٢) بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٤٠٥.

(٣) امتاع الاسماع : ج ١ ص ٥٢٣ والطبقات الكبرى : ج ٢ ص ١٨٤.

٦٣٧

وهكذا علّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الناس مناسك الحج بصورة عملية ، وحدّد أو أكّد على مشاعره بصورة دقيقة.

ويطلق على هذه الحجة التاريخية في كتب التاريخ والحديث « حجة الوداع » تارة ، و « حجة البلاغ » اخرى ، و « حجة الإسلام » ثالثة ، وإنما يطلق كل عنوان من هذه العناوين على هذه الحجة لمناسبة لا تخفى على القارئ البصير (١).

هذا ونلفت نظر القرّاء الكرام في خاتمة هذا الفصل إلى أن المشهور بين المحدثين هو أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ألقى هذا الخطاب التاريخي الخالد في يوم عرفة ولكن يذهب بعض المؤرّخين إلى أن هذه الخطبة القيت في اليوم العاشر من شهر ذي الحجة ، ويرى آخرون أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خطب خطبا عديدة في هذه الحجة مستغلا كل فرصة سانحة لابلاغ مبادئ رسالته الإلهية.

هذا وقد وقعت في أثناء هذه الرحلة المقدسة قضايا ووقائع لطيفة وجديرة بالدرس والتأمل والتملي ، وقد تركنا ذكرها هنا رعاية للاختصار (٢).

__________________

(١) راجع امتاع الاسماع : ج ١ ص ٥١٠ هذا ولعلّ الوجه في تسمية هذه الحجة بالوداع لانها آخر حجة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبالبلاغ هو نزول قوله تعالى « يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ » في أعقابها وبالتمام والكمال هو نزول قوله تعالى : « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ».

(٢) راجع بحار الأنوار : ج ١ ص ٣٧٨ ـ ٤١٣ ، امتاع الاسماع : ج ١ ص ٥١٠ ـ ٥٣٤.

٦٣٨

٦٢

إكمال الدين الإسلامي بتعيين الخليفة

الخلافة حسب عقيدة علماء الشيعة الإمامية منصب إلهيّ يعطى من قبل الله تعالى لأفضل أفراد الامة ، وأصلحهم ، وأعلمهم ، والفرق الواضح بين الامام والنبيّ هو : أن النبي مؤسس قواعد الشريعة ، وهو الذي يوحى إليه ، وينزل عليه الكتاب من السماء ، والامام وان كان لا يتمتع بأي واحد من هذه الشؤون إلاّ أنه مضافا إلى شئون الحكومة والقيادة هو المبيّن لما جاء به رسول الله من الدين ممّا لم يوفق ـ بسبب الظروف المعاكسة او عدم الفرص المناسبة ـ لبيانه أو اظهاره ، وترك مهمة بيانه على عاتق اوصيائه وخلفائه.

وعلى هذا الاساس فان الخليفة ـ من وجهة نظر عقيدة الشيعة الإمامية ليس مجرد حاكم زمنيّ للمسلمين وليس المطبق لقوانين الشريعة المقدسة والحافظ للحقوق الاجتماعية ، والحارس لثغور المسلمين وحدود بلادهم المدافع عنها ، فحسب بل هو علاوة على كل ذلك الموضح لما خفي من معالم الدين ، والمكمّل المبيّن لذلك الجانب من أحكام الشريعة وقوانينها الذي لم يبيّن من قبل مؤسس الشريعة لبعض الاسباب.

أمّا الخلافة في عقيدة أهل السنة فهي منصب عاديّ وليس الهدف منها إلاّ حفظ الكيان الظاهري والشؤون المادية للامة الإسلامية ، ولخليفة لا ينصب إلاّ باختيار الناس وانتخابهم أحدا لشغل منصب الحكم والقضاء وإدارة الامور السياسية والاقتصادية وما شابهها ، وذكر تفصيل ما بيّنه صاحب الشريعة من

٦٣٩

الأحكام على نحو الاجمال.

وأما بيان ما لم يوفق النبي لبيانه لأسباب خاصة فهو يرتبط بعلماء الإسلام وفقهاء المسلمين فهم يعالجون ما يستجدّ للناس من مشكلات فقهية ودينية من هذا النوع عن طريق الاجتهاد ، والرأى.

وعلى أساس هذا الاختلاف في الموقف من قضية الخلافة وحقيقتها والنظرة إليها انشطرت الامة الاسلامية إلى طائفتين واتجاهين لا يزالان باقيان إلى هذا اليوم.

وبناء على النظرية الاولى يكون الامام مشاركا للنبيّ في بعض شئونه ، فيشترط في الإمام أيضا ما يشترط في النبي. وإليك الشرائط المعتبرة في النبي ، التي تشترط في الإمام أيضا :

١ ـ يجب أن يكون النبي معصوما ، يعني أن لا يحوم حول الإثم والمعصية طول حياته أبدا ، ولا يزلّ أو يخطأ في بيان أحكام الدين وحقائقه ، وعند الاجابة على أسئلة الناس واستفساراتهم الدينية ، ويشترط في الامام ذلك أيضا ، والدليل في الموردين واحد.

٢ ـ يجب أن يكون النبي أعلم الناس بالشريعة ، ويجب أن لا يخفى عليه شيء من مسائل الشريعة مطلقا ، وهكذا يجب أن يكون الامام اعلم الناس باحكام الدين ومسائله لكونه مكمّلا أو مبينا لما لم يبيّن من مسائل الشريعة في زمن النبي.

٣ ـ إن النبوة منصب تعيينى وليس منصبا انتخابيا ، بمعنى أنّ النبي لا يكون نبيا إلاّ اذا عيّنه الله وابتعثه ، ونصب في مقام النبوة من جانبه سبحانه ، لأنه تعالى دون سواه يميّز المعصوم عن غير المعصوم ، وهو سبحانه دون غيره يعلم من بلغ درجة العصمة عن الخطأ والمعصية في ظل العناية الربانية الغيبية الخاصة ، بحيث يعرف كل تفاصيل الدين وجزئياته.

إن هذه الشرائط الثلاثة كما هي معتبرة في النبي ، كذلك هي معتبرة ومشترطة في خليفته والقائم مقامه.

٦٤٠