سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

هذا هو ملخص غزوة « ذات السلاسل » التي سجّلها وضبطها مفسّرو الشيعة ، ومؤرّخوهم ، ورووها بإسناد صحيحة.

غير أن مؤرّخي أهل السنة كالطبري (١) روى هذه الواقعة بنحو آخر يختلف عما ذكرناه هنا ، اختلافا شاسعا.

ولا يبعد أن يكون « ذات السلاسل » اسما لغزوتين نقل كل واحد من الفريقين : « السنّة والشيعة » واحدة منها ، واعرض عن ذكر الاخرى لأسباب خاصة.

__________________

(١) تاريخ الطبري : ج ٢ ص ٣١٥ ، السيرة الحلبية : ج ٣ ص ١٩٠ و ١٩١ ، والمغازي : ج ٢ ص ٧٦٩ ـ ٧٧٤.

٤٦١

٤٩

فتح مكّة

قصة « فتح مكّة » من قضايا التاريخ الاسلامي الجديرة بالمطالعة والتأمل ، لما تنطوي عليه هذه الحادثة من دروس وعبر ، ولكونها تعكس ـ بصدق وجلاء ـ أهداف رسول الاسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله المقدّسة ، كما تكشف عن أخلاقه العالية ، وسيرته الحسنة ، واسلوبه الانساني مع الصديق ، والعدوّ.

ففي هذا الفصل من التاريخ يتجلّى ما كان يتحلى به خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله من صدق ووفاء ، كما يتبيّن صدق أصحابه ، ووفاؤهم ، واحترامهم لكلّ ما تعهدوا ، والتزموا به للخصم في معاهدة « صلح الحديبية » ، بينما يتضح من جانب آخر نفاق المشركين من قريش ، وخيانتهم في تنفيذ بنود اتفاقية الصلح ، وبالتالي نقضهم للعهد وبالتالي عدم احترامهم لأيّ شيء من الالتزامات!!

إنّ دراسة هذا الفصل تثبت لنا حنكة النبي ، وحسن تدبيره ، وسياسته الحكيمة في فتح أصعب وآخر قلعة من قلاع العدوّ الكافر ، المتصلب في شركه ، وكفره ، والمتمادي في عناده وتعسّفه ، وكأنّ هذا الرجل الالهيّ قد أمضى شطرا من حياته في إحدى المعاهد العسكرية العليا ، فهو يخطط افضل من أي قائد محنّك قدير ، للفتح ، ويكون تخطيطه من الدقة والمتانة ، والعمق والحكمة ، بحيث يصيب المسلمين فتحا عظيما بأقلّ قدر من المتاعب والمشاكل.

وبالتالي يتجلى في هذا القسم من التاريخ الاسلامي الوجه الانسانيّ الرحيم الذي كان يتسم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي كان يحرص على دماء

٤٦٢

أعداء الرسالة الالداء ، وأموالهم ، ويسعى إلى حفظها وصيانتها ، كما لو كانوا أصدقاء لا أعداء.

فهو يعفو بمروءة كبيرة ، وبعد مدى واسع ، ورؤية مستقبليّة عميقة عن قريش ، ويغفر لهم جرائمهم وأذاهم ويصدر عفوا عامّا لم يعرف له تاريخ الفاتحين نظيرا في أسبابه ، وعلله ، وفي ظروفه وملابساته.

وإليك تفاصيل هذه الحادثة الكبرى من بدايتها إلى نهايتها.

تفاصيل فتح مكّة :

لقد قرأنا في ما مضى أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عقد في السنة السادسة معاهدة صلح مع قريش ، نصّت المادة الثالثة منها على : أنّ لكل من قريش والمسلمين أن يتحالفوا مع من شاءوا من القبائل ، فتحالفت « خزاعة » مع المسلمين ، وتعهّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لخزاعة في هذا التحالف بان يدافع عن أرضهم وأموالهم وأنفسهم كلما تعرّضوا لخطر ، وطلبوا ذلك.

وتحالفت قبيلة « بني كنانة » ـ وكانوا من أعداء خزاعة التقليديين ـ مع قريش.

ولقد تم كل هذا في ضوء عقد معاهدة صلح مدتها عشر سنوات تعهّد فيها الطرفان بالحفاظ على الأمن الاجتماعي ، والسلام الشامل في كافة أرجاء الجزيرة العربية.

ولقد تعهّد الطرفان ـ في هذه المعاهدة ـ بأن لا يقوم أي واحد منهما بعمليات عسكرية وتحركات عدائية ، لا ضدّ الآخر ، ولا ضدّ حليف الطرف الآخر ، كما لا يحرّك حليفه ضد حليف الطرف الآخر.

ولقد انقضت سنتان من تاريخ التوقيع على هذه المعاهدة ، وعاش الجانبان في هذه الفترة في سلام ورفاه ، وأمن واستقرار إلى درجة أنّ المسلمين استطاعوا ـ بعد مضيّ سنة واحدة من التوقيع على تلك المعاهدة ، أن يزوروا ـ بكامل

٤٦٣

حريتهم ـ بيت الله الحرام ، في مكة المكرمة ، ويؤدوا مناسك العمرة أمام عيون الآلاف من أعدائهم الوثنيين وهي العمرة التي سميّت بعدئذ بعمرة القضاء كما عرفت.

ولقد بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في شهر جمادى الاولى من السنة الثامنة للهجرة كتيبة قوامها ثلاثة آلاف مقاتل بقيادة ثلاثة فرسان من أركان جيشه ، إلى تخوم الشام وحدودها ، لمعاقبة وتأديب المتمردين والجناة من ولاة الروم وعمّالهم فيها ، وبالضبط أولئك الذين قتلوا دعاة الاسلام ـ الذين ابتعثهم صلى‌الله‌عليه‌وآله للدعوة والتبليغ ـ من دون ذنب أو جرم.

والجيش الاسلامي وإن استطاع أن ينجو بنفسه من هذه المعركة ، ويخرج منها بسلام ، من دون أن تكلّفه تلك المواجهة خسائر كبرى في الأرواح سوى ثلاثة هم قادة الجيش ـ على ما مر في قصة غزوة مؤتة ـ إلاّ أنه ما عاد بانتصار باهر كان يأمله جنود الاسلام المجاهدون ، بل كانت العملية في هذه المعركة اشبه ما تكون بعملية الكرّ والفرّ.

وقد أوجب انتشار هذا النبأ جرأة سادة قريش وسراتها ، فقد تصوروا أن المسلمين تضاءلت فيهم ( أو انعدمت ) روح الفروسية والاقدام ، وروح الشجاعة والبسالة.

من هنا قرّرت قريش أن تخلّ بالأمن والهدوء اللّذين استتبّا بعد اتّفاقية الحديبية ، فبادرت ـ أوّلا ـ إلى توزيع الاسلحة على قبيلة « بني بكر » من كنانة ، وإلى تحريضهم على أن يبيّتوا « خزاعة » المتحالفين مع المسلمين ، فيغيروا عليهم ليلا ، ويقتلوا فريقا ، ويأسروا آخرين!!

بل لم تكتف قريش بهذا ، إنما اشترك جماعة من رجالها في هذا العمل الغادر بصورة مباشرة ، وبذلك نقضوا عهدهم الذي أعطوه في الحديبية ، وأخلّوا عمليا بالأمن والسلام ، وأحلّوا الفوضى والقتال ، مكان الاستقرار والهدوء اللذين سادا الجزيرة خلال عامين في أعقاب عقد معاهدة الحديبية!

٤٦٤

أجل ، لقد حملت « بنو بكر » ومن ساعدهم من رجال قريش بتحريك من زعامة مكة على « خزاعة » ليلا ، وكان بعضهم نياما ، والبعض الآخر يتهجد ويعبد الله ليلا ، فقتلوا من خزاعة جماعة ، وأسروا آخرين ، وغادر ـ منهم ـ فريق منازلهم تحت جنح الظلام ، ولجئوا إلى مكة التي كانت للعرب يومئذ منطقة أمن لا يجيزون الاعتداء فيها على لاجئ إليها ، ودخل الذين لجئوا إلى الحرم دار « بديل بن ورقاء » (١) وشكوا إليه ما حلّ بهم على ايدي رجال قريش ، وحلفائهم من بني كنانة ليلا ، من قتل وأسر وتشريد!!

كما وعد المظلومون من خزاعة إبلاغ مظلمتهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فارسلوا رئيسهم : « عمرو بن سالم » فقدم المدينة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فوقف عليه وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله جالس في المسجد بين ظهرانيي الناس ، وأخبره بما لحق بحلفائه من خزاعة على أيدي بني بكر من كنانة بتحريك وتحريض من قريش ، وأنشد أبياتا يستغيث فيها برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اذ قال :

يا ربّ إني ناشد محمّدا

حلف أبينا وأبيه الا تلدا

فانصر هداك الله نصرا أعتدا

وادع عباد الله يأتوا مددا

فيهم رسول الله قد تجردا

إن سيم خسفا وجهه تربّدا

في فيلق كالبحر يجري مزبدا

إنّ قريشا اخلفوك الموعدا

ونقضوا ميثاقك المؤكّدا

وجعلوا لي في كداء رصدا

هم بيتونا بالوتير هجّدا

وقتلونا ركّعا وسجّدا

وقد كان « ابن سالم » يعيد البيت الأخير ويكرّره إثارة لمشاعر المسلمين ، ويكرّر عبارة : قتلنا وقد أسلمنا.

__________________

(١) كان بديل من شخصيات « خزاعة » من ذوي السن والشرف فيهم ، وكان يعيش في مكة ، وكان له من العمر آنذاك ٩٧ عاما ( أمالي الطوسي : ص ٢٣٩ ).

٤٦٥

فانزعج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من قريش لغدرها ونقضها للعهد ، ووعد « خزاعة » بالنصرة ، وقال :

« نصرت يا عمرو بن سالم ».

وقد أفاض هذا الوعد القاطع والقوي حالة من الطمأنينة على قلب مبعوث خزاعة : « عمرو بن سالم » اذ قد تيقّن أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سينتقم لخزاعة ممن غدروا بها وبيتوها ، وفتكوا بأبنائها ، وبخاصة من قريش التي حرّضت بني بكر على خزاعة ، واشعلت شرارة هذه الفتنة ، وبالتالي كانت السبب الحقيقي وراء هذه الجريمة النكراء ، ولكن ابن سالم ما كان يظن أن هذه المسألة ستنتهي بفتح مكة ، وتقويض دعائم الحكومة الوثنية الجاهلية ، والقضاء عليها إلى الأبد!!

ولم يلبث أن قدم المدينة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله « بديل بن ورقاء » في جماعة من « خزاعة » ، وأخبروه بما فعلته قريش وبنو بكر من قتل فتيان خزاعة ، ثم عادوا قافلين إلى مكة.

قريش تتوجس خيفة من ردّ النبيّ :

ندمت قريش بشدّة على ما صنعت من تأليب بني بكر على خزاعة ومساعدتهم العملية في العدوان على الأخيرة ، وأدركت للتوّ ، بأنّ هذا الذي صنعته هو نقض للمدّة والعهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لن يدع هذه الجريمة النكراء تمرّدون ردّ قاطع وحاسم ، ولهذا بادرت إلى إيفاد زعيمها « أبي سفيان بن حرب بن أميّة » إلى المدينة المنورة لتطييب خاطر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتسكين غضبه وتاكيد احترام قريش لمعاهدة الصلح.

فتوجّه أبو سفيان إلى المدينة ، والتقى في « عسفان » بديل بن ورقاء الخزاعيّ وهو عائد من المدينة ، فسأله : هل كان في المدينة؟ وهل أخبر محمّدا بما أصاب

٤٦٦

خزاعة؟

فقال بديل : لا ، ولكني سرت في بلاد كعب وخزاعة في قتيل كان بينهم ، فأصلحت بينهم.

قال هذا ، وواصل سيره باتجاه مكة.

ولكن أبا سفيان عمد ـ لمعرفة ما إذا كان بديل عائدا من المدينة أولا ـ إلى أبعاد لإبل « بديل » وجماعته ، ففتّها فوجد فيها نوى من تمر المدينة فايقن بأن القوم كانوا في المدينة وأنهم جاءوا محمّدا ، وأخبروه بما جرى.

قدم أبو سفيان المدينة فدخل على ابنته « أم حبيبة » زوجة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلما أراد أن يجلس على فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله طوته أم حبيبة عنه ، فقال : يا بنيّة ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش ، أم رغبت به عنّي؟!

قالت : بل هو فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنت رجل مشرك نجس ، ولم أحبّ أن تجلس على فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وفي امتاع الاسماع أن ابا سفيان لما دخل على ابنته أم حبيبة ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فطوته دونه وقالت : أنت امرؤ نجس مشرك!

فقال : يا بنيّة! لقد أصابك بعدي شرّ.

قالت : هداني الله للاسلام ، وأنت يا أبتي سيد قريش وكبيرها ، كيف يسقط عنك دخولك في الاسلام وأنت تعبد حجرا لا يسمع ولا يبصر!!

قال : يا عجباه! وهذا منك أيضا! أأترك ما كان يعبد آبائي ، واتّبع دين محمّد!؟

أجل هذا هو منطق ابنة رجل حاك مؤامرات عديدة وقاد جيوشا ضد الاسلام طيلة عشرين عاما تقريبا ، وكانت تربطه بام حبيبة رابطة الابوة والبنوة الوثيقة ، ولكن حيث إن تلك المرأة ترعرعت في مهد الاسلام ، ونشأت في مدرسة

٤٦٧

التوحيد حصل لها مشاعر دينية قوية جدا حتى أنها رجحت المشاعر الدينية على المشاعر العاطفية الشخصية مقاومة في هذا السبيل رغباتها الذاتية ، وميولها الشخصية.

لقد أنزعج أبو سفيان من سلوك ابنته التي كان يتصور أنها ملجئوها وملاذها الوحيد في المدينة ، فخرج من منزلها فورا ، حتى أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فكلّمه حول تجديد العهد ، واستمراره ، فلم يرد عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كناية عن عدم اعتنائه به.

فذهب إلى بعض أصحابه صلى‌الله‌عليه‌وآله يطلب منهم ان يشفعوا له عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأن يقنعوه بتجديد ميثاق الصلح ، ولكن دون جدوى.

وأخيرا دخل على « علي بن أبي طالب » وعنده فاطمة الزهراء عليها‌السلام والحسن والحسين وهما آنذاك غلامان يدبّان بين أيديهما فقال : يا علي ، أنك أمسّ القوم فيّ رحما ، وإني جئت في حاجة فلا أرجعنّ كما جئت خائبا فاشفع لي إلى رسول الله.

فقال عليّ عليه‌السلام : ويحك يا أبا سفيان ، والله لقد عزم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على أمر ما نستطيع أن نكلّمه فيه.

فالتفت إلى فاطمة ـ وهو يحاول إثارتها عاطفيّا ـ فقال : يا ابنة محمّد هل لك أن تأمري بنيّك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟

ولما كانت فاطمة عليها‌السلام تعرف بنوايا أبي سفيان الشريرة لذلك قالت : ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّهما صبيان وليس مثلهما يجير (١).

فقال أبو سفيان : يا أبا الحسن إني أرى الامور قد اشتدت عليّ ، فانصحني.

فقال علي عليه‌السلام : ما أجد لك شيئا أمثل من أن تقوم فتجير بين

__________________

(١) امتاع الأسماع : ج ١ ص ٣٥٩.

٤٦٨

الناس ( أي تعطي الأمان للمسلمين ) ثم الحق بأرضك.

فقال أبو سفيان : أوترى ذلك مغنيا عنّي شيئا؟ قال : لا والله ، ما أظنّه ، ولكني لا أجد لك غير هذا.

فقام أبو سفيان في المسجد ، وكان يثق بصدق عليّ في نصيحته ، فقال : أيها الناس ؛ إني قد أجرت بين الناس.

ثم ركب بعيره ، وأنطلق راجعا إلى مكّة ، وأخبر سادة قريش بما صنع ، وذكر نصيحة « عليّ » إياه ، فقال : إنّ عليّا نصحني أن اجير الناس ، فناديت بالجوار.

فقالوا : فهل أجاز ذلك محمّد؟

قال : لا.

قالوا : ويلك والله ما زاد الرجل ( ويقصدون عليّا ) على أن لعب بك ، فما يغني عنك ما قلت ، لأن النبي لم يجز أمانه ، وما لا يجيزه الطرفان لا قيمة له في ميزان العهود.

ثم إنّ سادة قريش عقدوا مجلسا من فورهم للتشاور في ما يطفئ غضب المسلمين ، ويثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن عزمه (١).

جاسوس يكتشف!

إنّ تاريخ رسول الاسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله يكشف عن انه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يسعى دائما الى أن يقنع العدوّ بالحق ، ويجعله يستسلم لمنطق الدين ، ولم يكن يهدف قط الانتقام من العدوّ وأبادته.

ففي الكثير من الغزوات والمعارك التي شارك فيها صلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه أو السرايا التي بعثها كان الهدف الأساسي هو القضاء على مؤامرة العدو ، وإفشالها ، وتشتيت شمله ، وتفريق اجتماعه قبل ان يقوم بعمل يضر بالاسلام

__________________

(١) الغازي : ج ٢ ص ٧٨٠ ـ ٧٩٤ ، السيرة النبوية : ج ٢ ص ٣٨٩ ـ ٣٩٧ ، بحار الأنوار : ج ٢١ ، ص ١٠٢.

٤٦٩

والمسلمين ، فقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يعرف جيدا أنه لو ازيلت الموانع ورفعت عن طريق الدعوة الاسلامية لترك منطق الدين الحنيف أثره في المجتمع الحرّ ، وكان يعلم بأن الذين يعقدون الاجتماعات ، ويقيمون التحالفات النظامية ليحولوا دون تقدم الاسلام ، وانتشاره ، لو جرّدوا من أسلحتهم ، وانهيت حالة الحرب بينهم وبين الاسلام ، وتركوا فكرة التغلب على الاسلام عن طريق القوة العسكرية ، وسمعوا منطق الاسلام في جوّ بعيد عن صخب القتال ، لانجذبوا إلى عقيدة التوحيد بدافع الفطرة وهدايتها ، ولاستجابوا لنداء الضمير ، وصاروا من أنصار الاسلام ، ومؤيديه المخلصين الأوفياء.

ولهذا السبب كانت الجماعات والاقوام التي يتغلب عليهم جنود الاسلام ، ثم يتسنى لهم مناخ التفكير الحرّ في العقيدة والتعاليم الاسلامية السامية في جوّ بعيد عن الضوضاء والصخب ، تنجذب إلى الاسلام ، وترغب فيه ، وتعتنق بل تشمّر عن ساعد الجدّ لنشر العقيدة الاسلامية التوحيدية.

وقد تجلّت هذه الحقيقة في موضوعنا الراهن وهو فتح مكة بصورة أكمل وأقوى ، فقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يدرك جيّدا لو أنّه فتحت مكة ، وجرّد العدوّ من السلاح ووفرت أجواء حرة آمنة بعيدة عن الكبت والاضطهاد فانه لم يلبث أن يصبح هذا الفريق المعادي والمناهض للاسلام بشدة ، من أنصار هذا الدين ، ومن المجاهدين الصادقين ، الساعين في نشره.

ولهذا يجب التغلب على هذا العدوّ ، وكسر شوكته ، ولكن يجب عدم إفنائه وإبادته ، بل ينبغي تجنب إراقة الدماء ، وازهاق الارواح ما أمكن.

ولأجل الوصول إلى هذه الغاية المقدسة ( الغلبة على العدوّ من دون إراقة الدماء ) استخدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اسلوب مباغتة العدوّ.

فقبل أن يفكّر العدوّ في الدفاع عن نفسه ، ويجمع قواه ، ويستعدّ للمواجهة ، كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يحاصر العدوّ في أرضه ، ويجرّده من سلاحه ، ويجهض محاولته ، ومؤامرته.

٤٧٠

على أنّ مبدأ « مباغتة العدو » إنما يمكن الاستفادة منه إذا بقيت جميع الاسرار العسكرية للجانب المباغت طى الكتمان ، وتمت الترتيبات اللازمة في سرية كاملة ، بحيث لم يعرف بها العدوّ ، بل لا يعرف العدو أساسا هل ينوي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الهجوم عليه ، أو لا ، وعلى فرض أنه ينوي ذلك لا يخبر أحدا شيئا عن موعد تحرك الجيش الاسلامي ، ووجهته ، إذ في غير هذه الصورة لا يمكن الاستفادة من مبدأ « مباغتة العدو ».

ولقد أعلن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن التعبئة العامة لفتح مكة ، وتحطيم أقوى قلعة من قلاع الوثنية وازالة حكومة قريش الظالمة التي كانت تمثّل أقوى مانع في طريق تقدم الدعوة الاسلامية ، وانتشارها وتوسعها ، وقد طلب من الله سبحانه في دعائه أن يعمّي على عيون قريش وجواسيسهم فلا يعرفوا بشيء عن حركة المسلمين ومقصدهم اذ قال :

« اللهم خذ العيون والأخبار من قريش حتى نباغتها في بلادها ».

أو قال :

« اللهم خذ على قريش أبصارهم ، فلا يروني إلاّ بغتة ، ولا يسمعون بي إلاّ فجأة » (١).

فاجتمع في مطلع شهر رمضان ناس كثيرون من مختلف المناطق خارج المدينة ، وداخلها.

ويذكر المؤرخون جدولا تفصيليا بالطوائف والقبائل التي شاركت في هذا الفتح العظيم ، وإليك ما ذكروه :

المهاجرون : سبعمائة مع ثلاثمائة من الخيل وثلاثة ألوية.

الأنصار : أربعة آلاف مع سبعمائة من الخيل ، وألوية كثيرة.

قبيلة مزينة : ألف مع مائة فرس ، ومائة درع ، ولواءان.

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٣٩٧ ، المغازي : ج ٢ ص ٧٩٦.

٤٧١

قبيلة جهينة : ثمانمائة مع خمسين فرسا ، وأربعة ألوية.

قبيلة بني كعب : خمسمائة مع ثلاثة ألوية.

وكان بقية الجيش من قبائل غفار ، واشجع ، وبني سليم (١).

ويقول ابن هشام : كان جميع من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة آلاف من بني سليم سبع مائة ، ويقول بعضهم : ألف ، ومن بني غفار أربع مائة ، ومن أسلم أربع مائة ، ومن مزينة ألف وثلاثة مائة نفر ، وسائرهم من قريش ، والأنصار وحلفاءهم وطوائف العرب من تميم ، وقيس وأسد (٢).

ولتحقيق مبدأ المباغتة والكتمان وضعت جميع الطرق المؤدية إلى مكة تحت المراقبة الشديدة من قبل عناصر الحكومة الاسلامية ، كما روقب بشدة تردّد المارة والمسافرين بواسطة الحرس (٣).

وبينما كان جيش الاسلام يتهيأ للتحرك باتجاه مكة ، نزل جبرئيل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخبره بأنّ أحد البسطاء من المسلمين أقدم على إرسال كتاب إلى قريش ، يخبرهم فيه بتوجّه النبي وأصحابه إلى مكة ، وأنّه أعطى ذلك الكتاب إلى امرأة تدعى « سارة » ـ وكانت مغنية من مغنيات مكة ـ لتوصله إلى مكة لقاء مال تقبضه.

ولقد كانت « سارة » ـ كما أسلفنا ـ مغنية بمكة ، تغنّي لأهل مكة ، وربما شاركت في مجالس العزاء في قريش أيضا ، وقد تعطّل عملها بعد معركة « بدر » ، ومقتل جماعة من رجال قريش ، ودخول الحزن في كل بيوت مكة ، فلم تعد تستطيع أن تغنّي وتطرب ، من ناحية ، ومن ناحية اخرى كان أبو سفيان قد أمر الناس بأن لا يبكوا ، ولا يقيموا المآتم والمناحات على قتلى بدر حتى لا يذهب

__________________

(١) المغازي : ج ٢ ص ٨٠٠ ، امتاع الاسماع : ج ١ ص ٣٦٤.

(٢) السيرة النبوية : ج ٤ ص ٦٣.

(٣) بحار الأنوار : ج ٢١ ص ١٣٠. وامتاع الاسماع : ج ١ ص ٣٦١.

٤٧٢

غيضهم على « محمّد » صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه الذين قتلوا رجالا من قريش في بدر.

من هنا تركت « سارة » مكة بعد عامين وقدمت المدينة ، وعند ما عرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بمجيئها إلى المدينة سألها : هل أسلمت؟ فقالت : لا ، فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ولما أتيت إلى المدينة؟ فقالت : إنّي مولاتكم ، وقد أصابني جهد ، وأتيتكم أتعرّض لمعروفكم (١).

فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فكسيت وحملت وجهّزت.

ومع أن هذه المرأة قد شملها الاسلام بلطفه ورحمته ولكنها خانت النبي والمسلمين عند ما تطوّعت للقيام بعملية جاسوسية ضد الاسلام والمسلمين بأخذ كتاب « حاطب بن بلتعة » واخفائه في شعر رأسها لتبلغه الى قريش لقاء عشرة دراهم ، مفشية بذلك سرّا للمسلمين ، تضيع ـ على أثره ـ جهود النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتفشل خطته!!

ولما عرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بهذا الأمر إثر خبر من السماء بعث ثلاث رجال من فرسانه الاشاوس هم علي والمقداد والزبير ، ليدركوا المرأة الخائنة ، على طريق مكة ويأخذوا منها ذلك الكتاب الذي يحذّر قريشا ممّا أجمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليه.

فخرج الرجال الثلاثة في طلبها مجدّين حتى أدركوها في منطقة تدعى « روضة الخاخ » (٢) فاستنزلوها ، وفتشوا عن الكتاب في رحلها فلم يجدوا شيئا ، فسألوها عنه فانكرت فقال لها علي عليه‌السلام.

« إني أحلف بالله ما كذب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا كذبنا ، ولتخرجنّ لنا هذا الكتاب أو لنكشفنّك » (٣).

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢١ ص ١٣٦ ، امتاع الاسماع : ج ١ ص ٣٦٢ و ٣٦٣.

(٢) وقال ابن هشام : فادركوها بالخليقة ( ج ٢ ص ٣٩٩ ).

(٣) السيرة النبوية : ج ٤ ص ٤١ ، وذكر مؤلف الامتاع شخصين فقط هما الامام على والزبير ( ج ١ ص ٣٦٢ ).

٤٧٣

ولما رأت تلك المرأة هذا الجدّ من علي عليه‌السلام وكانت تعرف أن عليّا لا يتركها حتى ينفّذ أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قالت : أعرض ، فأعرض عليّ ، فحلّت ضفائر شعرها فاستخرجت الكتاب منها ، فدفعته إليه ، فأتى به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فانزعج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لفعل « حاطب » وكان من المسلمين السابقين ، فدعاه من فوره وقال له عاتبا ومستفهما : يا حاطب ما حملك على هذا؟

فحلف حاطب بالله وبرسوله أنه لم يقصد شرا ، وقال : يا رسول الله ، أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله ، ما غيّرت ولا بدّلت ، ولكنّي كنت امرأ ليس لي في القوم من أصل ولا عشيرة ، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم عليه!!

ويستفاد من اعتذار حاطب هذا أن أسياد قريش كانوا يضغطون على من تخلّف في مكة من أقارب المهاجرين وعوائلهم ، ويؤذونهم ، ولا يتركون أذاهم إلاّ إذا حصلوا منهم على أسرار المسلمين بالمدينة.

وهذا الاعتذار وان كان غير وجيه ، لأن ذلك لا يبرر إفشاء أسرار المسلمين لأعدائهم الحاقدين ، غير أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أصفح عنه ، وخلى سبيله لمصالح معينة منها : سابقة « حاطب » في الإسلام.

إلاّ أنّ « عمر بن الخطاب » طلب من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يضرب عنقه ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

« وما يدريك يا عمر لعلّ الله اطّلع يوم بدر على أصحاب بدر فقال : أعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم » (١).

ولكي لا يتكرر مثل هذا العمل الخطر والاثيم أنزل الله سبحانه قرآنا بهذا الشأن في عدة آيات اذ يقول :

__________________

(١) امتاع الاسماع : ج ١ ص ٣٦٣ وغيره.

٤٧٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ. إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ. لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ. رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ. عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١).

النبي يتحرك باتجاه مكة :

أخذا بمبدإ « المباغتة » كتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله موعد الحركة ، ووجهتها ، فلم يكن أحد يعرف أين يريد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على وجه التحديد (٢).

__________________

(١) الممتحنة : ١ ـ ٦ ، راجع السيرة النبوية : ج ٢ ص ٣٩٩ ، مجمع البيان : ج ٩ ص ٢٦٩ و ٢٧٠.

(٢) المغازي : ج ٢ ص ٨٠٢ ، الامتاع : ج ١ ص ٣٦٢ قال : وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الناس بالجهاز وطوى عنهم الوجه الذي يريد ، فظانّ يظنّ أنه يريد الشام وظان يظنّ ثقيفا وظان يظن هوازن.

٤٧٥

وفي اليوم العاشر من شهر رمضان من السنة الثامنة أصدر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أوامره بالخروج ، وكان قد أصدر أوامره للمسلمين كافة من قبل بالاستعداد والتهيؤ للخروج.

ثم إنه استخلف على المدينة رجلا من بني غفار يدعى « أبا رهم » ثم استعرض جيشه خارج المدينة على عادته.

ثم لما كان صلى‌الله‌عليه‌وآله بمكان يدعى « الكديد » طلب شيئا من الماء امام المسلمين ، وافطر به في تلك الساعة من النهار ، وامر الجند بان يفطروا اقتداء به هم أيضا.

فافطر اكثر المسلمين ، وأمسك البعض ولم يفطر ظنا بأن الجهاد في حالة الصوم أفضل ، واكبر أجرا ، ولم يعرف هؤلاء السذّج غير المفطرين ، بان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي أمر بالافطار في شهر رمضان في تلك الحال ، هو نفسه الذي أمر بالصوم أيضا

فاذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قائد حق ودليل سعادة فانه ـ في كلتا الحالتين ـ يريد سعادة الناس ، وينشد خيرهم ، فلا معنى إذن لأن يطاع في أمره ، ولا يطاع في نهيه.

وهذا غضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لامتناع ثلة من المسلمين عن الإفطار كما أمر وقال عنهم : « اولئك العصاة »!! (١).

وأمرهم بأن يفطروا قائلا : « إنكم مصبحوا عدوّكم ، والفطر أقوى لكم ».

إنّ مثل هذا التقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتجاهل أمره ما هو في الحقيقة إلاّ نوع من الانحراف عن الحق ، وهو يكشف عن ضعف في ايمان الجماعة العاصية ، المتمردة عن أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولهذا نزل فيه قرآن يلومهم ، ويوبّخهم على عصيانهم إذ قال سبحانه :

« يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ » (٢).

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ٧ ص ١٢٤ ، السيرة الحلبية : ج ٣ ص ٩٠ ، المغازي : ج ٢ ص ٨٠٢.

(٢) الحجرات : ١.

٤٧٦

هذا وقد كان « العباس بن عبد المطلب » من المسلمين الذين بقوا في مكة بأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليتجسس له الأخبار ، ويطلعه على نوايا قريش ، وخططهم أوّلا بأوّل.

وقد تظاهر العباس ـ بعد فتح خيبر ـ بإسلامه ، ولكنه بقي محافظا على علاقاته بسادة قريش وزعمائها ، فقرّر أخيرا أن يكون آخر من يهاجر من بيوت المسلمين ، فغادر مكة متوجها إلى المدينة ، وصادف خروجه مسير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مكة ، فالتقى ببعض الطريق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولقد كان بقاء العباس بن عبد المطلب في مكة بعد هجرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مفيدا للجانبين : ( قريش والمسلمين ) فلو لم يكن العباس ، ونشاطاته السياسية ، الذكيّة ، لما تيسّر فتح مكة من دون مقاومة قريش ، ومن دون إراقة دماء وإزهاق نفوس.

من هنا لا يبعد أن يكون خروج العباس من مكة في تلك اللحظات والظروف الخطيرة قد كان هو الآخر بأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لكي يستطيع القيام بدوره الإصلاحي ، الذي سنأتي على ذكره قريبا.

العفو عند المقدرة :

لقد كانت سوابق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المشرفة ، واخلاقه الحميدة ، وصدقه وأمانته ، طوال حياته من الامور الواضحة المعلومة عند أقربائه ، وأبناء عشيرته.

فقد كان الجميع يعلم بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يرتكب طيلة حياته الشريفة إثما ، ولم يفكر في ذنب ، ولم ينو الاعتداء على أحد ، ولم يقل بلسانه سوءا ولا قبيحا ، ولا خان في امانة ، ولا افشى سرا ولا تخلف عن فضيلة.

ولهذا استجاب لدعوته ـ في الايام الاولى من دعوته العامة ـ الاكثرية الساحقة من قبيلته ( بني هاشم ) ، والتفّوا حوله ، وتحمّلوا الدفاع عنه ، ودعم

٤٧٧

مواقفه.

ولقد اشار أحد المستشرقين المنصفين إلى هذه الحقيقة ، واعتبرها دليلا على طهارة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وصدقه ونزاهته ، فهو يقول : مهما كان المرء متكتّما متسترا على أعماله وأفكاره فانه لا يستطيع بحال أن يخفي تفاصيل حياته عن ذويه وأقربائه ، ولو كان لمحمد حالات نفسية أو أفعال سيئة لما خفيت على أقربائه ، ولما كانوا ينقادون إليه بمثل هذه السرعة (١).

نعم يستثنى من بني هاشم عدة أشخاص أحجموا عن الايمان برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والاستجابة لدعوته ، ويمكن الاشارة ـ في هذا المجال ـ بعد أبي لهب المعروف بل والمصرح بعداوته في القرآن ـ إلى « أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب » و « عبد الله بن أبي أميّة بن المغيرة » اللذين خاصما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعارضا دعوته بشدة ، ولم يكتفيا بعدم الايمان برسالته ، بل منعا من انتشار الحق ، وآذيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اشدّ الأذى وألّبا عليه اكثر من أي شخص آخر.

ولقد كان أبو سفيان هذا ابن عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخاه من الرضاعة ، وكان يألف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل البعثة ، ولكنه اختلف مع النبي بعد ابتعاثه بالرسالة ، وبنى على مخالفته ومعاداته (٢).

وأما عبد الله بن أبي اميّة فهو أخو أمّ سلمة ابنة عاتكة عمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وابنة عبد المطلب.

ولقد حدى انتشار الاسلام في كل أنحاء الجزيرة العربية بهذين الرجلين إلى أن يخرجا من مكة ويلتحقا بالمسلمين.

فقد خرجا قبيل الفتح من مكة ، فلقيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه في أثناء الطريق ـ وعلى وجه التحديد في نقطة تدعى بثنية العقاب ،

__________________

(١) الأبطال : لكارليل الانجليزى.

(٢) المغازي : ج ٢ ص ٨٠٦ و ٨٠٧.

٤٧٨

والنبي قاصد مكة ، فاستأذنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليدخلا عليه ، وأصرّا على ذلك ، فابى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يأذن لهما.

وقد وسّطا أمّ سلمة ، وطلبا منها بلهجة عاطفية أن تشفع لهما عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى يرضى عنهما ، فكلّمته فيهما ، ولكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أبى وقال :

« لا حاجة لي بهما ، أما ابن عمّي فهتك عرضي وأما ابن عمّتي وصهري فهو الذي قال بمكة ما قال » (١).

ولما كان « عليّ » عليه‌السلام أعرف الناس بنفسيّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخلاقه ، وبطريقة استعطافه ، فقد كلّمه أبو سفيان في الأمر ، فعلّمه علي بن أبي طالب عليه‌السلام أن يأتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من قبل وجهه فيقول :

« قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ » (٢).

فان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سيجيبه بما قاله يوسف لاخوته اذ قال لهم :

« قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ » (٣).

لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يرضى بأن يتفوق عليه أحد في حسن القول.

ففعل أبو سفيان هذا ما أشار عليه الامام علي عليه‌السلام ودخل من الطريق الذي بيّنه له ، فعفا عنه رسول الله كما فعل يوسف باخوته ، فانشد أبو سفيان قصيدة أراد بها أن يكفّر عما سبق منه ، قال فيها :

__________________

(١) فهو ممن اقترح على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بمكة امورا غير معقولة ، وقد جاء ذكر هذه المقترحات في الآيات : ٩٠ ـ ٩٣ من سورة الاسراء راجع مجمع البيان : ج ٦ ص ٤٣٩ واسد الغابة : ج ٥ ص ٢١٣ و ٢١٤.

(٢) يوسف : ٩١.

(٣) يوسف : ٩٢.

٤٧٩

لعمرك إني يوم أحمل راية

لتغلب خيل اللات خيل محمّد

فكالمدلج الحيران أظلم ليله

فهذا أواني حين اهدى فأهتدي (١)

ويكتب « ابن هشام » في سيرته قائلا : قال أبو سفيان ومعه ابنه ، لما أعرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عنه وأبى أن يأذن له : والله ليقبلنّي ، أو لأخذت بيد ابني هذا فلأذهبنّ في الارض حتى أهلك عطشا وجوعا وأنت أحلم الناس مع رحمي بك » (٢).

وقد سبق أن قالت أمّ سلمة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد كلّمته في أبي سفيان : بأبي أنت وامّي يا رسول الله ألم تقل : أنّ الاسلام يجبّ ما كان قبله؟ فرقّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لهما ، وأذن لهما ، فدخلا ، وقبل اسلامهما (٣).

تكتيك رائع لجيش الاسلام :

تقع « مرّ الظهران » على بعد عدة كيلومترات من مكة المكرمة ، وقد قاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جيشه العظيم ( وقوامه عشرة آلاف ) حتى مشارف مكة بمهارة بالغة.

ومع أنّ عيون قريش وجواسيسها كانت تتجسّس الأخبار وكان هناك من يعمل لصالح قريش ، ولكنّهم مع ذلك لم يستطيعوا أن يعرفوا شيئا عن نوايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهدفه.

ولما وصل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مشارف مكّة عمد ـ لإرعاب أهل مكة حتى يتركوا مقاومة المسلمين عند دخول مكة وفتحها ، ويتسنّى لهم تحطيم صرح الوثنية من دون إراقة الدماء ـ إلى إصدار أمر لجنوده باشعال النيران

__________________

(١) الاصابة : ج ٤ ص ٩٠ ، واسد الغابة : ج ٥ ص ٢١٣ و ٢١٤.

(٢) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٤٠٢.

(٣) بحار الأنوار : ج ٢١ ص ١١٤ و ١١٥.

٤٨٠