سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

السابقة إلاّ ليالي قلائل حتى أغار « عيينة من حصن الفزاري » بمساعدة بني غطفان ، على إبل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت ترعى في منطقة تدعى الغابة ( وهي موضع قرب المدينة من ناحية الشام ) كانت مرعى أهل المدينة ، وكان فيها آنذاك رجل من بني غفار ، وامرأة مسلمة له ، فقتلوا الرجل ، وأخذوا معهم المرأة والإبل.

وكان أول من أخبر الناس بذلك رجل يدعى سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي وكان قد غدا يريد الغابة متوشحا سيفه وقوسه ونبله ، يريد الصيد ، حتى إذا علا « ثنية الوداع » نظر إلى بعض خيول المغيرين ، فصعد على تلّة سلع وصرخ مستغيثا ومستنجدا : وا صباحاه ،

ثم خرج يشتد في آثار القوم ( المغيرين ) فجعل يردّهم بالنبل ، ولكن المعتدين لاذوا بالفرار.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أول من سمع صراخ ابن الاكوع واستغاثاته ، فصرخ صلى‌الله‌عليه‌وآله هو مستغيثا : الفزع ، الفزع. فأسرع جماعة من الفرسان برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلما اجتمعوا عنده أمّر عليهم « سعد بن زيد الاشهليّ » وقال له :

« اخرج في طلب القوم ، حتى الحقك في الناس ».

فخرج الفرسان المسلمون في طلب القوم ، وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من ورائهم ، حتى أدركوا القوم في ذي قرد ، فوقع بين المسلمين ، وبين المغيرين قتال قليل قتل فيه من المسلمين رجلان ، ومن المعتدين ثلاثة ، واستنقذت المرأة ، وبعض الابل المسروقة ، ولكن العدوّ لجأ إلى غطفان ، فأقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في تلك المنطقة يوما وليلة ، تخويفا للعدوّ ، ولم ير من الصالح ملاحقة العدوّ رغم إصرار بعض المسلمين على ملاحقتهم ، واستنقاذ بقية السرح ( الابل ).

٣٠١

ثم رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قافلا حتى قدم المدينة (١) وكانت هذه الغزوة في الثالث من ربيع الاوّل من السنة السادسة من الهجرة (٢).

النذر غير المشروع

واقبلت المرأة الغفارية المسلمة التي استنقذت من أيدي المغيرين على ناقة من إبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى قدمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخبرته بما جرى ثم قالت : يا رسول الله إني قد نذرت إن نجّاني الله على هذه الناقة ، أن أنحرها فآكل كبدها وسنامها.

فتبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال :

« بئس ما جزيتيها أن حملك الله عليها ونجاك ثم تنحرينها ، انه لا نذر في معصية ، ولا فيما لا تملكين إنّما هي ناقة من إبلي فارجعي إلى أهلك على بركة الله » (٣).

وبذلك بيّن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حكما في مجال النذر ، وهو أن النذر لا يصح في مال الغير ، فلا نذر إلاّ في ملك.

والقصة إلى جانب ذلك تكشف عن الخلق العظيم الذي كان يتحلى به قائد الاسلام الأعلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولطفه بأصحابه واتباعه ، حيث جابه المرأة المذكورة برفق ولطف ، وبصّرها بما لها وما عليها في منتهى التواضع والشفقة.

__________________

(١) تاريخ الطبري : ج ٢ ص ٢٥٥ ، المغازي : ج ٢ ص ٥٣٧ و ٥٤٩.

(٢) امتاع الاسماع : ج ١ ص ٢٦٠ و ٢٦١.

(٣) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٣٨١ ـ ٢٨٩ ، الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ١٣٣ ، امتاع الاسماع : ج ١ ص ٢٦٣ قال صاحب الامتاع : وكانت الناقة هي القصواء ، والقصواء اسم ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

٣٠٢

حوادث السنة السادسة من الهجرة

٤٠

تمرّد بني المصطلق

لقد بلغت قوة المسلمين العسكرية في السنة الهجرية السادسة حدا ملفتا للنظر ، بحيث تمكن جماعة خاصة منهم أن يترددوا على المناطق القريبة من مكة بمنتهى الحرية ، ومن دون خوف ، بيد أن هذه القوة العسكرية لم تكن كافية للسيطرة على المناطق التي كان يتواجد فيها القبائل المشركة ، ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم.

واذا كان المشركون لا ينتزعون المسلمين حريتهم ، وكانوا يسمحون لأن تجري النشاطات التبليغية من دون منع أو معارضة لما كان رسول الاسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله يقدم على شراء الاسلحة ، وبعث السرايا ، والمجموعات العسكرية ، ولكن حيث ان نشاطات المسلمين التبليغية ، ومجموعات الارشاد والدعوة كانت تتعرض باستمرار للمضايقة ، والاذى ، بل والاغتيال من قبل العدو ، لذلك كان رسول الاسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله مضطرا بحكم العقل والفطرة أن يقوي من قدرات الاسلام الدفاعية.

لقد كانت العلل والأسباب الواقعيّة لأكثر الحروب التي وقعت إلى السنة الهجرية السادسة بل حتى آخر لحظة من حياة رسول الاسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله تتلخص في إحدى الامور التالية :

١ ـ الردّ على اعتداءات المشركين الغادرة ، مثل معركة « بدر » و « احد » و

٣٠٣

« الخندق ».

٢ ـ تأديب وعقاب الظالمين الذين قتلوا رجالا أبرياء من المسلمين ، أو قتلوا جماعات الدعوة والتبليغ في البراري والقفار النائية ، أو عرّضوا كيان الاسلام للخطر بنقضهم عهودهم ، وتتمثل هذه الحروب في الغزوات الثلاثة ضدّ الطوائف اليهودية الثلاث ( بني قينقاع ، بني النضير ، بني قريظة ) وبني لحيان.

٣ ـ افشال واحباط المؤامرات ، أو محاولات التمرد التي كانت على شرف الانعقاد في القبائل التي كانت تنوي بجميع الرجال والاسلحة غزو المدينة ، واكتساح عاصمة الاسلام ، واستئصال المسلمين ، وكانت أكثر الحروب الصغيرة والمناوشات العابرة ناشئة من هذا العامل الأخير.

غزوة بني المصطلق :

كان بنو المصطلق من قبائل « خزاعة » المتحالفة مع قريش.

وقد بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن الحارث بن أبي ضرار زعيمها يعدّ العدّة ، ويجمع الرجال المقاتلين لمحاصرة المدينة وغزوها ، فقرّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يقضي على هذه المؤامرة في مهدها كما كان يفعل دائما.

ولهذا أرسل أحد أصحابه وهو : « بريدة » إلى أرض بني المصطلق ليأتي بأخبارهم ، فذهب بريدة ، ودخل فيهم وتحادث ـ في هيئة متنكرة ـ مع رئيسهم وعرف بنيته ، ثم عاد إلى المدينة واخبر رسول الاسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله بما رآه وسمعه ، وأن بني المصطلق عازمون على المسير إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمحاصرة المدينة.

فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في جمع من أصحابه حتى لقيهم عند ماء يدعى « المريسيع » ، ونشبت الحرب بينهم وبين المسلمين ، ولكن صمود المسلمين وبسالتهم التي كانت قد أرعبت قلوب قبائل العرب تسبب في أن

٣٠٤

لا يطول القتال بين المسلمين وبين « بني المصطلق » فتفرق جيش العدو بأن قتل منهم عشرة رجال ، كما وقتل رجل مسلم خطأ ، فأصاب المسلمون غنائم كثيرة وسبوا جماعة كبيرة من نساء بني المصطلق (١).

هذا وان النقاط والدروس المفيدة في هذه الواقعة تتمثل في السياسة الحكيمة التي مارسها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حوادث هذه الغزوة ، ممّا سنذكر بعضها عما قريب.

وقد شبّ في هذه المنطقة ولأوّل مرّة خلاف بين المهاجرين والأنصار ، كاد أن يأتي بنتائج مروّعة أبسطها أن توجّه ضربة قوية إلى الاتحاد الحاصل بين المسلمين نتيجة هوى البعض وهو سهم لو لا تدبير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وحكمته ، الرشيدة التي أنهت كل شيء ، وابقت على روح التآخي بين المسلمين.

وتعود جذور هذه الحادثة إلى تزاحم رجلين من المسلمين على البئر بعد ان وضعت الحرب أوزارها.

فقد ازدحم « جهجاه بن مسعود » وهو من المهاجرين و « سنان بن وبر الجهني » وهو من الأنصار على الماء فاقتتلا ، فصرخ الجهني ـ مستغيثا بقبيلته على عادة الجاهليين ـ : يا معشر الأنصار ، وصرخ جهجاه : يا معشر المهاجرين ، وكاد أن يتقاتل المسلمون من الفريقين فيما بينهم في هذه الحادثة ، وفي هذا المكان البعيد عن عاصمة الاسلام ومركزه ، ويتعرض بذلك كيانهم للسقوط والانهيار ، لأنهم تواعدوا على القتال كل فريق انتصارا الصريحة.

فلما عرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك قال :

« دعوها فإنها منتنة » (٢).

أي أن هذا النوع من الاستغاثة ولمثل هذا الدافع ما هو إلاّ من دعوى

__________________

(١) تاريخ الطبري : ج ٢ ص ٢٦٠ ، امتاع الاسماع : ج ١ ص ١٩٥ و ١٩٦.

(٢) السيرة النبوية : ج ١ ص ٢٩٠ ( الهامش ).

٣٠٥

الجاهلية ، وقد جعل الله المؤمنين إخوة وحزبا واحدا ، فانما ينبغي أن تكون الدعوة للمسلمين ، وإلاّ كانت جاهلية ، لا قيمة لها في الإسلام (١).

وبذلك قضى النبي الحكيم على الفتنة في مهدها ، وجنّب المسلمين أخطارها.

منافق حاول إشعال الموقف :

أجل لقد استطاع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بهذا الاستنكار الشديد أن يطفئ نار الاختلاف والتنازع فكيف الفريقان ( القبيلتان ) عن استئناف التنازع والتقاتل.

إلاّ أن « عبد الله بن ابي » رئيس حزب المنافقين بالمدينة ، والذي كان يكنّ حقدا كبيرا على الإسلام وقد شارك في تلك الغزوة طمعا في الغنيمة ، أظهر ـ في هذه الحادثة ـ حقده ، وضغينته على الإسلام ، وقال لرهط من أهل المدينة كانوا عنده آنذاك : هذا ما فعلتم بأنفسكم ، أحللتموهم بلادكم ، وقاسمتموهم أموالكم أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا الى غير داركم ، لقد نافرونا ( أي المهاجرين ) وكاثرونا في بلادنا ، والله ما أعدنا وجلابيب قريش إلاّ كما قال الأول : سمّن كلبك يأكلك ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل ( ويقصد بالأذل المهاجرين )!!!

فتركت كلمات « ابن ابي » أمام تلك الجماعة التي كانت لا تزال تعاني من بقايا عصبية جاهلية ، أثرها في نفوسهم ، وكادت توجه ضربة قاضية إلى صرح الوحدة الاسلاميّة ، والاخوة الايمانية التي كانت تشدّ المسلمين ـ أنصارا ومهاجرين ـ بعضهم ببعض كالبنيان المرصوص.

ومن حسن الحظ أن فتى غيورا من فتيان المسلمين هو زيد بن الارقم

__________________

(١) راجع هوامش السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٩٠.

٣٠٦

لما سمع بهذه الكلمات المثيرة للشغب والفتنة رد على « ابن ابي » بكلمات قوية شجاعة اذ قال : أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك ، ومحمّد في عزّ من الرحمن ، ومودّة من المسلمين ، والله لا احبّك بعد هذا أبدا.

ثم نهض ومشى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخبره الخبر ، فرده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثلاث مرات حفظا للظاهر ، قائلا : لعلّك وهمت يا غلام ، لعلّك غضبت عليه ، لعلّه سفّه عليك.

ولكن زيدا كان يؤكّد على صحة ما أخبر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من مقالة المنافق الخبيث « عبد الله بن ابي » ، وتحريكه للناس ضد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وهنا طلب عمر بن الخطاب من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقتل « ابن ابي » قائلا : مر به عبّاد بن بشر فليقتله (١).

ولكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أجاب عمر بقوله :

« فكيف يا عمر إذا تحدّث الناس أن محمّدا يقتل أصحابه ، لا » (٢).

ولقد مشى « عبد الله بن ابي » إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حين بلغه أنّ « زيد بن الارقم » قد بلّغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما سمع منه ، فحلف

__________________

(١) تثبت دراسة حياة الخليفة الثاني أنه لم يبد في أية معركة من معارك الاسلام قوة وبسالة ، بل كان في صف المتقاعدين دائما. ولكن كلما أسّر المسلمون أحدا كان هو اول من يقترح على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بقتله ونذكر للمثال ما يلي :

أ ـ هذا المورد الذي طلب فيه من رسول الله أن يقتل ابن أبي.

ب ـ طلبه من النبي بأن يقتل حاطب بن أبي بلتعة الذي تجسس لصالح المشركين من أهل مكة في فتح مكة.

جـ ـ طلبه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بقتل أبي سفيان الذي جاء به العباس عم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى خيمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قبيل فتح مكة ، وغير ذلك من الموارد التي سبقت أو التي تأتي.

(٢) امتاع الاسماع : ج ١ ص ٢٠٢.

٣٠٧

بالله : ما قلت ما قال ، وقال بعض من حضر من أهل الرأي من أصحابه دفاعا عن ابن ابي : يا رسول الله عسى أن يكون الغلام قد اوهم في حديثه ولم يحفظ ما قال الرجل.

ولكن الامر لم ينته إلى هذا ، فقد كان هذا نوعا من الهدوء المؤقت تماما كالهدوء الذي يسبق العاصفة ، الذي لا يمكن الاطمئنان إليه.

فقد كان يتوجب على قائد المسلمين الأعلى أن يقوم فورا بما يؤدي إلى أن ينسى الطرفان هذه القصة نهائيا ، ولهذا أمر بالرحيل في ساعة من النهار لم يكن صلى‌الله‌عليه‌وآله يرتحل فيها عادة.

فجاءه « اسيد بن حضير » ، وقال : يا رسول الله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها؟

فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

« أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟ زعم أنه إن رجع الى المدينة أخرج الاعز منها الاذل »؟

فقال اسيد : فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت ، هو والله الذليل ، وأنت العزيز ، ارفق به يا رسول الله ، فو الله لقد جاء الله بك وان قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه ، وأنه ليرى أنك قد استلبته ملكا.

ثم أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالرحيل فارتحل الناس ، وسار بهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يومهم ذاك حتى أمسى ، وليلتهم تلك حتى أصبح ، من دون أن يسمح لهم بالنزول والاستراحة ، إلاّ للصلاة ، وسار بهم في اليوم هكذا حتى آذتهم الشمس وسلبوا القدرة على مواصلة السير فأذن لهم بالاستراحة ، فنزل الناس ، ولم يلبثوا ان وجدوا مسّ الارض فوقعوا نياما من شدة التعب ، وقد نسوا كل شيء من تلك الذكريات المرّة ، وكان هذا هو ما يريده النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد سار بهم ليل نهار من دون توقف ليشغلهم عن الحديث الذي كان من

٣٠٨

« عبد الله بن ابي » المنافق المفتّن (١)

صراع بين الايمان والعاطفة :

كان عبد الله ابن « عبد الله بن ابي » من فتيان الإسلام الشجعان ، ومن فرسانه البواسل ، وكان ـ كما تقتضيه تعاليم الإسلام ـ يبر بأبيه المنافق أكثر من غيره ، ولكنه عند ما عرف بما تفوّه به أبوه في شأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وظن أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سيقتل أباه جاء الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : يا رسول الله انه قد بلغني أنك تريد قتل « عبد الله بن ابي » ، فيما بلغك عنه فإن كنت لا بدّ فاعلا فمرني به فانا أحمل إليك رأسه ، فو الله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبرّ بوالده مني ، وإني أخشى أن تامر به غيري ، فيقتله فلا تدعني نفسي انظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فاقتله ، فأقتل ( رجلا ) مؤمنا بكافر فأدخل النار!!

إن حديث هذا الفتى يعكس ـ في الحقيقة ـ أعظم تجليات الإيمان وآثاره في النفس ، والروح الانسانية.

لما ذا لم يطلب من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يعفو عن أبيه؟! لأنّه كان يعلم أن ما يفعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنما هو بأمر الله تعالى ، ولكن ابن عبد الله كان يرى نفسه في صراع روحيّ حادّ.

فمن جانب كانت تدعوه عواطف البنوة والابوّة والأخلاق العربيّة أن ينتقم ممّن يقتل أباه ، ويسفك بالتالي دم مسلم.

ومن جانب آخر توجب عوامل اخرى مثل ضرورة استتباب الأمن والطمأنينة في البيئة الاسلامية أن يقتل رأس المنافقين « ابن أبي » ، انه صورة من صور الصراع بين مقتضى الايمان ، ومقتضى العاطفة.

__________________

(١) تاريخ الطبري : ج ٢ ص ٢٦١ و ٢٦٢ ، مجمع البيان : ج ١٠ ص ٢٩٢ ـ ٢٩٥.

٣٠٩

ولقد اختار عبد الله بن عبد الله بن ابي طريقا ثالثا في هذا الصراع ، يضمن مصالح الإسلام من جهة ، ويحافظ على مشاعره من أن تجرح على أيدي الآخرين من جهة اخرى ، وذلك بأن يكون هو الذي ينفّذ حكم الاعدام في أبيه المنافق المشاغب.

وهذا العمل وان كان شاقا مؤلما إلاّ أن قوة الايمان بالله والتسليم لأمره سبحانه كانت تفيض عليه قدرا كبيرا من الطمأنينة والسكون.

ولكن النبي الرحيم صلى‌الله‌عليه‌وآله قال ردا على سؤال واقتراح عبد الله بن عبد الله بن أبي :

« بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا »!!!

وهذا الكلام الذي يكشف عن سمو أخلاق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ومبلغ رحمته ، أدهش المسلمين جميعا فتوجهوا باللوم والعتاب الحادّ إلى المنافق « عبد الله بن أبي » ، ولحقه بسبب ذلك ذل شديد بين الناس ما وراءه ذل ، وهوان ما وراءه هوان ، واحتقره الناس حتى انه لم يعد أحد يعبأ به ، ويقيم له وزنا.

لقد علّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المسلمين في هذه الحوادث دروسا مفيدة جدا ، وأظهر جانبا من سياسة الاسلام الحكمية ، والرشيدة.

فقد تحطم « عبد الله بن أبي » رئيس المنافقين بعد هذه الحادثة ، ولم يعد له أي دور ، بل عاش بقية حياته مهانا محتقرا بين الناس بعد أن رأى الناس إيذاءه المستمر لرسول الله ، وعفو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عنه ، واغضاءه عن مساوئه.

وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعمر بن الخطاب ذات يوم حين بلغه احتقار الناس لابن ابي ذلك الاحتقار ، وسقوط محله في القلوب :

« كيف ترى يا عمر ، أما والله لو قتلته يوم قلت لي : اقتله ، لارعدت له انف ، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته ».

فقال عمر : قد والله علمت لأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أعظم بركة

٣١٠

من أمري (١).

الزواج المبارك :

كانت « جويرية » بنت الحارث بن أبي ضرار رئيس بني المصطلق من جملة السبايا التي وقعت في أيدي المسلمين في غزوة بني المصطلق ، فأقبل أبوها الحارث بفداء ابنته إلى المدينة فلما كان في وادي العقيق نظر إلى الإبل التي جاء بها لفداء ابنته فرغب في بعيرين منها فغيّبها في شعب من شعاب العقيق ، ثم أتى إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : يا محمّد أصبتم ابنتي وهذا فداؤها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

« فأين البعيران اللذان غيّبتهما بالعقيق في شعب كذا وكذا »؟!

فلما سمع الحارث بهذا الخبر الغيبي على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله آمن هو ووالده به ، وأسلم اناس آخرون من قومه كانوا معه ، وأرسل إلى البعيرين فجاء بهما ، فدفع الإبل إلى رسول الله ودفعت إليه ابنته « جويرية » فأسلمت هي أيضا.

ثم خطبها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أبيها ، فزوّجه اياها ، وأصدقها أربعمائة درهم.

فلما بلغ الناس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تزوّج جويرية بنت الحارث وكان بأيديهم بعض الاسرى من بني المصطلق قالوا : أصهار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأطلقوا ما كان بأيديهم من اولئك الاسرى وكانوا مائة عائلة ، فما علم امرأة اعظم بركة على قومها منها ، فقد اعتق بتزويجه اياها مائة أهل بيت من بني

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٩٢ و ٢٩٣ وفي السيرة الحلبية : ج ٢ ص ٢٩١ : لأرغدت له أنوف ، وتعني هذه القولة النبوية الشريفة : ان النبي لو كان يأخذ باقتراح عمر بقتل عبد الله بن أبي لدافع عنه اناس حمية وعصبية ، ولكنه اليوم وبعد أن خذله الناس أنفسهم لو أمر النبي اولئك المدافعين بقتله. لقتلوه دون إبطاء.

٣١١

المصطلق.

وهكذا اطلق جميع أسرى بني المصطلق الذين كانوا بأيدي المسلمين رجالا ونساء بفضل ذلك الزواج المبارك ، أو قل بفضل هذه السياسة الاجتماعية الحكيمة ، وعادوا الى قبيلتهم (١).

الفاسق يفتضح :

كان إسلام بني المصطلق اسلاما نابعا من قناعة ورغبة لأنهم لم يجدوا من المسلمين خلال مدّة الأسر إلاّ حسن المعاملة والإحسان والعفو حتى أنه تم اطلاق جميع الأسرى ببعض الذرائع وعادوا إلى قبيلتهم وأهليهم.

ثم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أرسل إليهم « وليد بن عقبة بن أبي معيط » لجباية زكاتهم ، فلما سمعوا بقدومه خرجوا إليه راكبين ليكرموه وليؤدوا إليه ما عليهم من الزكاة ، فلما سمع بهم هابهم ، فرجع إلى رسول الله مسرعا فأخبره بأن القوم همّوا بقتله ، وأنهم منعوه ما قبلهم من صدقتهم ، فطلب المسلمون غزوهم ، وفي الاثناء قدم وفد من بني المصطلق على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقالوا : يا رسول الله سمعنا برسولك حين بعثته إلينا فخرجنا إليه لنكرمه ، ونؤدي إليه ما قبلنا من الصدقة فأسرع راجعا فبلغنا أنه زعم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّا خرجنا إليه لنقتله وو الله ما جئنا لذلك. فنزلت في هذا الشأن الآية السادسة من سورة الحجرات تؤيد مقالة بني المصطلق وتصف الوليد بالفسق ، اذ يقول تعالى :

« يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ » (٢).

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٩٥ ، امتاع الاسماع : ج ١ ص ١٩٨ و ١٩٩.

(٢) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٩٦ و ٢٩٧.

٣١٢

٤١

قصة الإفك

بقي رئيس حزب النفاق عبد الله بن ابي يواصل تجارته بالجواري ، والإماء ويضعهن تحت تصرف الرجال للزنا بهن ، ليجني من هذا الطريق أرباحا طائلة.

حتى بعد دخول الاسلام في المدينة.

فعند ما نزلت آيات تحريم الزنا كان ذلك الفاسق يمارس حرفته القذرة ، حتى أن إماءه ضقن بهذا العمل الفاجر ذرعا ، فشكين إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقالت إحداهن : إن سيّدي يكرهنى على البغاء.

فنزل قوله تعالى في شجب هذا العمل الدنيء : « وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا » (١) (٢).

ولقد أراد رجل يعبث بعفاف النساء كهذا ، أن يسيء إلى امرأة ذات مكانة وشخصية في المجتمع الاسلامي (٣) ، ويتهمها بالزنا نكاية بالمؤمنين ، والمؤمنات ، وبغيا وحسدا.

__________________

(١) النور : ٣٣.

(٢) مجمع البيان : ج ٤ ص ١٤١ ، الدر المنثور : ج ٥ ص ٤٦.

(٣) اخترنا هذا التعبير لورود نوعين من شأن النزول في المقام بحيث لم يتأكد للمؤلف من هي المقصودة هنا ، وستقرأ في الصفحات القادمة أدلة عدم ثبوت من عيّنه البعض.

إن ما يستفاد من الآيات والروايات المرتبطة بهذه القصة تفيد إجمالا أن امرأة ذات مكانة في المجتمع الاسلامي آنذاك تعرضت لاتهام المنافقين لها ، وأما من هي تلك المرأة على وجه التعيين فذلك ما لا يمكن البت فيه ، على وجه القطع واليقين.

٣١٣

حقا إن معاداة النفاق للايمان من أشدّ أنواع المعاداة ، فان العدوّ المشرك والكافر يعمد دائما إلى إشفاء غيظه واطفاء غضبه وحنقه باستخدام عدائه في جميع الموارد والاوقات.

ولكن المنافق الذي يتظاهر بالايمان ، ويتستر بالاسلام حيث انه لا يمكنه التظاهر بعدائه ، فان عداءه الباطني يتراكم ويتصاعد حتى يصل أحيانا إلى حدّ الانفجار ، لهذا ينطلق المنافق في كيل التهم من دون حساب أو ميزان تماما كما يفعل المجانين.

ونرى مثل هذه الحالة في عبد الله بن ابي.

ولقد ظهرت ذلّة « عبد الله بن ابي » رئيس حزب النفاق في واقعة بني المصطلق ، وقد منعه ابنه من دخول المدينة ، ولم يسمح له بدخولها إلاّ بوساطة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهكذا آل مصير رجل كان يحلم بالملوكية والسلطان الى أن يمنعه أخصّ أقربائه عن الدخول إلى مسقط رأسه ، فيما كان يطلب هو من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يكف عنه ولده.

إن من الطبيعي أن يعمد رجل مثل هذا إلى فعل كل ما يشفي غليله ويذهب غيظه ، ومن ذلك ترويج الشائعات الكاذبة انتقاما من المجتمع الاسلامي.

فعند ما يعجز العدوّ عن المواجهة المباشرة يعمد إلى حبك الشائعات ، وترويجها واشاعتها ليستطيع من خلال ذلك ، توجيه ضربة نفسيّة إلى المجتمع ، وكذا بلبلة الرأي العام ، وإشغاله بالتوافه وصرفه عن القضايا المهمة والمصيرية.

إن سلاح الشائعات من الأسلحة المدمرة التي يمكن أن تستخدم في تشويه سمعة الأفراد الصالحين ، وابعاد الناس عنهم.

المنافقون يتهمون شخصا نقيّ الجيب :

يستفاد من الآيات النازلة في قضيّة « الإفك » أن المنافقين اتهموا شخصا

٣١٤

بريئا كان يتمتع في المجتمع الاسلامي آنذاك بتهمة الزنا ، تحقيقا لمآربهم الدنيئة ، واضرارا بالمجتمع الاسلاميّ ، وقد ردّهم القرآن وشجب عملهم بشدّة قل نظيرها ، وأبطل خطتهم.

فمن هو ـ ترى ـ ذلك البريء؟ ان في ذلك خلافا بين المفسرين ، فالاكثرون على أنها « عائشة » زوجة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويرى الآخرون أنها « مارية » القبطية أم إبراهيم وزوجة رسول الله أيضا لقد ذكروا أسبابا مختلفة لنزول هذه الآيات لا تخلو من عن إشكال. وها نحن ندرس القول الذي يذهب إلى أن المراد في هذه الآيات هو : « عائشة » وتوضيح ما يصح وما لا يصح في هذا المجال :

دراسة القول الأوّل :

يرى المحدّثون والمفسرون من أهل السنة أن نزول آيات « الإفك » يرتبط بعائشة ، ويذكرون في هذا المجال رواية مفصّلة لا يتلاءم بعضها مع عصمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن هنا لا يمكن القبول بهذا القول على اطلاقه.

وها نحن نذكر ما يتلاءم من هذه القصة مع عصمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم نستعرض آيات الإفك ، ثم نشير إلى القسم الذي يخالف عصمته صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا القول.

إن اسناد هذه الرواية تنتهي برمتها إلى « عائشة » (١) نفسها ، فهي تقول : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ، فأيّهن خرج سهمها خرج بها معه ، فلما كانت غزوة بني المصطلق أقرع بين نسائه كما كان يصنع عادة فخرج سهمي عليهن معه فخرج بي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلما فرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من سفره ذلك وجه قافلا حتى إذا كان قريبا من المدينة نزل منزلا ، فبات به بعض الليل ، ثم أذن في الناس بالرحيل ، فارتحل

__________________

(١) راجع الدر المنثور : ج ٥ ص ٢٤ ـ ٣٤.

٣١٥

الناس وخرجت لبعض حاجتي ، وفي عنقي عقد لي ، فيه جزع ظفار ، ( أي خرز يمني ) فلما فرغت انسلّ من عنقي ولا أدري فلما رجعت إلى الرحل ذهبت التمسه في عنقي فلم أجده ، وقد أخذ الناس في الرحيل ، فرجعت إلى مكاني الذي ذهبت إليه ، فالتمسته حتى وجدته ، وجاء القوم خلا في الذين كانوا يرحّلون لي البعير ، وقد فرغوا من رحلته ، فأخذوا الهودج ، وهم يظنون أني فيه كما كنت أصنع ، فاحتملوه ، فشدّوه على البعير ولم يشكّوا أني فيه ، ثم اخذوا رأس البعير ، فانطلقوا به ، فرجعت إلى العسكر وما فيه من داع ولا مجيب ، قد انطلق الناس.

فتلففت بجلبابي ، ثم اضطجعت في مكاني ، وعرفت أن لو قد افتقدت لرجع إليّ. فو الله إني لمضطجعة اذ مرّ بي صفوان السلمي ( وهو من فرسان الاسلام ) وقد كان تخلّف عن العسكر لبعض حاجته ، فلم يبت مع الناس ، فرأى سوادي ، فأقبل حتى وقف وقد كان يراني قبل أن يضرب علينا الحجاب ، فلما رآني قال : إنا لله وإنا إليه راجعون ظعينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنا متلففة في ثيابي. قال : ما خلّفك يرحمك الله. فما كلّمته ، ثم قرّب البعير فقال : اركبي ، واستأخر عنّي فركبت ، وأخذ برأس البعير ، فانطلق سريعا يطلب الناس ، فو الله ما أدركنا الناس ، وما افتقدت حتى أصبحت ، ونزل الناس فلما اطمأنوا طلع الرجل يقود بي ، فقال أهل الإفك ما قالوا ؛ وارتعج العسكر ( أي شكوا فيّ ) وو الله ما اعلم بشيء من ذلك. حتى نزلت آيات « الإفك » تبرئني ممّا اتهمني به المنافقون.

هذا القسم من شأن النزول الذي لخصناه لك من قصّة مفصّلة يمكن تطبيقها مع آيات « الإفك » ، وليس فيه ما ينافي عصمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وإليك الآيات التي نزلت في هذا المجال :

« إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ

٣١٦

عَظِيمٌ لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ. لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ. إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ. وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ » (١).

أبرز النقاط في آيات « الإفك » :

يستفاد من القرائن أن هذه التهمة كانت نابعة أساسا من المنافقين أي أنه من كيدهم ، وإليك هذه القرائن :

١ ـ يقال : إن المراد من قوله سبحانه : « وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ » هو « عبد الله بن ابي » رئيس المنافقين ، وكبيرهم.

٢ ـ لقد عبّر تعالى في الآية الحادية عشرة عن الذين اتهموا المرأة بلفظ : « عصبة » وهذه العبارة تستعمل في الجماعة المنظّمة ، التي يربطها هدف واحد وتحدوها غاية واحدة وتفيد أنهم كانوا متعاونين ومتعاضدين في المؤامرة ولم يكن مثل هذه الجماعة بين المسلمين إلاّ المنافقون.

٣ ـ ان « عبد الله بن ابي » بسبب منعه من الدخول إلى المدينة ، بقي عند مدخل المدينة ، فلمّا شاهد عائشة وهي راكبة بعير صفوان استغل الفرصة للايقاع برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اشفاء لغيظه ، فبادر إلى استعمال سلاح التهمة والبهتان ، وقال إن زوجة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله باتت مع اجنبى في تلك الليلة وو الله ما نجا منهما من الإثم أحد.

__________________

(١) النور : ١١ ـ ١٦.

٣١٧

٤ ـ إنه تعالى يقول في نفس الآية ( أي الحادية عشرة ) : « لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ».

والآن يجب أن نرى كيف لا يكون اتّهام مؤمن طاهر الجيب شرا للمؤمنين بل يكون خيرا لهم؟

إن سبب ذلك هو أنّ هذه القصة كشفت القناع عن نوايا المنافقين ومقاصدهم الشرّيرة وافتضحوا برمّتهم ، هذا مضافا إلى أنّ المسلمين أخذوا من هذه القضية دروسا مفيدة ، مذكورة في محلها.

الزوائد في هذه القصة :

هذا القدر من القصة يمكن تطبيقه مع القرآن الكريم ، ولا يتنافى مع عصمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكن البخاري روى بين ثنايا هذه القصة امورا ـ نقلها عنه الآخرون في الاغلب ـ تعاني من إشكالين أساسيين هما :

١ ـ منافاتها لمقام النبوة والعصمة صلى‌الله‌عليه‌وآله :

فقد روى البخاري عن عائشة نفسها قولها :

لما قدمنا المدينة لم ألبث أن اشتكيت شكوى شديدة ( أي مرضت ) ولا يبلغني من ذلك شيء وقد انتهى الحديث الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإلى أبويّ لا يذكرون لي منه قليلا ولا كثيرا إلاّ أنّي قد أنكرت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعض لطفه بي ، وكنت إذا اشتكيت رحمني ولطف بي ، فلم يفعل ذلك بي في شكواي تلك ، فأنكرت ذلك منه ، كان إذا دخل عليّ وعندي امّي تمرضني قال : كيف تيكم ، لا يزيد على ذلك. حتى اذا نقهت من وجعي بلغني ما قاله المنافقون فيّ ، فمرضت مرة اخرى فقلت يا رسول الله لو أذنت لي فانتقلت إلى أمّي فمرضتني ، فقال : لا عليك ، فانتقلت إلى امّي ، فقلت لامّي : يغفر الله لك تحدّث الناس بما تحدّثوا به ، ولا تذكرين لي من ذلك شيئا ، فقالت : أي بنيّة هوّني

٣١٨

عليك الشأن فو الله لقلما كانت امرأة حسناء عند رجل لها ضرائر إلاّ كثّرن ، وكثر الناس عليها. (١)

ثم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله شاور « اسامة بن زيد » في الامر ، فأثنى عليّ خيرا وقاله ، ثم قال : يا رسول الله أهلك ولا نعلم منهم إلاّ خيرا ، وهذا الكذب والباطل!!

وشاور عليّا فقال : يا رسول الله إن النساء لكثير ، وانّك لقادر على أن تستخلف ، وسل الجارية ، فانّها ستصدّقك ( إي جارية عائشة ) فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بريرة ليسألها ، فقالت : والله ما أعلم إلاّ خيرا ، وما كنت اعيب على عائشة شيئا.

إن هذا القسم من الرواية يتنافى بقوة مع عصمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لانه يكشف عن أن النبي وقع فريسة بأيدي الشائعات الكاذبة إلى درجة أنه غير سلوكه مع عائشة ، وشاور أصحابه فيها!!

إن مثل هذا الموقف مع شخص بريء لا يوجد على تهمته أي دليل ليس فقط يتنافى مع مقام العصمة النبوية ، بل يتنافى حتى مع مقام مؤمن عادي لأنه من المؤمنين ليس من الجائز أبدا أن تغيّر الشائعات سلوك مسلم عاديّ تجاه شخص منهم ، وحتى لو تركت تلك الشائعات تأثيرا في نفس المسلم ، فليس من الجائز أن تحدث مثل ذلك التغيير والانقلاب في نظرته وسلوكه.

إن القرآن الكريم يوبّخ في الآية ١٢ و ١٤ من سورة النور اولئك الذين وقعوا فريسة الشائعات وظنّوا الظن السوء إذ يقول تعالى :

« لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ »؟!

__________________

(١) صحيح البخاري : ج ٦ تفسير سورة النور ص ١٠٢ و ١٠٣ وكذا الجزء ٥ ص ١١٨ السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٩٩

٣١٩

« وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ »؟! (١).

فاذا صحّ هذا القسم من الرواية المذكورة في شأن النزول لزم أن نقول : ان هذا العتاب الشديد وهذا التوبيخ الصارخ كان يعمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا ، والحال أن مقام النبوة الذي يلازم العصمة لا يسمح لنا بأن نقول بأن هذا الخطاب والتوبيخ موجّهين إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

من هنا لا مناص من رفض كل هذه الرواية المذكورة في شأن النزول الذي يتنافى مع عصمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أو القبول بالقسم الذي لا يتنافى منها مع عصمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ورفض ما يتنافى معها.

٢ ـ سعد بن معاذ توفي قبل حادثة « الإفك » :

ويروي البخاري في صحيحه في ذيل شأن النزول عن عائشة نفسها : بعد أن سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بريرة عن أمري ، فقالت فيّ خيرا وصعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال : « من يعذرني ممن يؤذيني في أهلي ( أي من يؤدبه ) ويقولون لرجل ، والله ما علمت على ذلك الرجل إلاّ خيرا ، وما كان يدخل بيتا من بيوتي إلاّ معي ويقولون عليه غير الحق ».

فقام « سعد بن معاذ » وقال : أنا اعذرك منه يا رسول الله إن يك من الأوس آتك برأسه ، وإن يك من إخواننا من الخزرج فمرنا بأمرك نمضي لك.

فثقل هذا الكلام على « سعد بن عبادة » وغضب منه ، فقام وقال : كذبت لعمر الله ، لا تقتله ولا تقدر على قتله (٢).

__________________

(١) أي لما ذا ـ عند ما سمعتم بهذا الافتراء ـ لم تظنوا بأنفسكم خيرا وقلتم : هذا إفك ، ولما ذا ـ عند ما سمعتم بهذا الكلام ـ لم تقولوا هذا بهتان لا يجوز ان نتكلم به.

(٢) كان « سعد بن معاذ » رئيس الاوس و « سعد بن عبادة » رئيس الخزرج ، وكانت بين هاتين ـ

٣٢٠