سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

بطل من أبطالهم ورأسوه عليهم ، وهو عمرو بن عبد ود العامري ليشدّوا به أزرهم ، ويحققوا بسببه ما كانوا يأملونه من الظفر.

وعلى هذا الاساس كانت معركة الأحزاب مواجهة كاملة بين كل الكفر وكلّ الايمان ، وخاصة عند ما تبارز بطل الاسلام وبطل الكفر وتواجها في ساحة القتال.

ولقد كان الخندق الذي احتفره المسلمون سلفا من عوامل إخفاق المشركين ، وكان العدوّ يحاول أن يعبر هذا الخندق فتطيف فرسانهم به ليل نهار ولكن دون جدوى ، لانهم كانوا يواجهون في كل مرة سهام الحرس الذي وكلهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بحراسة الخندق ، ورصد محاولات العدو لاجتيازه وافشالها فورا ، وأيضا بفضل تدابير النبي القائد نفسه.

كان الشتاء وبرده القارص في تلك السنة وتناقص الطعام ، والعلف يهدد جيش المشركين ، وأنعامهم ، وخيولهم فاستقرض حيي بن أخطب من بني قريظة عشرين بعيرا محملة شعيرا وتمرا وتبنا تقوية لقريش ، ولكن دورية من المسلمين صادفتها في أثناء الطريق فصادرتها وأتوا بها الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فتوسع بها أهل الخندق (١).

وذات يوم من أيام الانتظار وراء الخندق كتب أبو سفيان الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كتابا يقول فيه : إني احلف باللات والعزى لقد سرت إليك في جمعنا وإنّا نريد ألاّ نعود إليك أبدا حتى نستأصلكم فرأيتك قد كرهت لقاءنا ، وجعلت مضايق وخنادق ، فليت شعري من علمك هذا؟ فان نرجع عنكم فلكم منّا يوم كيوم احد تبقر فيه النساء (٢).

فكتب إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من محمّد رسول الله إلى أبي سفيان بن حرب ... أمّا بعد فقديما غرّك بالله الغرور ، أما ما ذكرت أنك سرت

__________________

(١) السيرة الحلبية : ج ٢ ص ٣٢٣.

(٢) المغازي : ج ٢ ص ٤٩٢.

٢٦١

إلينا في جمعكم ، وانك لا تريد أن تعود حتى تستأصلنا فذلك أمر الله يحول بينك وبينه ، ويجعل لنا العاقبة وليأتينّ عليك يوم تدافعني بالراح ، ولياتينّ عليك يوم أكسر فيه اللات والعزّى واساف ، ونائلة ، وهبل حتى اذكّرك ذلك » (١).

ولقد وقعت إجابة الرسول الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله التي كانت تنبئ عن قوة إرادته وشدة عزيمته ، وتصميمه القاطع موقع السهم في قلب زعيم المشركين ، وحيث إن قريش كانت تعتقد بصدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فانّها اصيبت بهذا الرد الحاسم في عزيمتها ونفسيتها ، ولكنها مع ذلك لم تكفّ عن مواصلة عدوانها.

وذات ليلة عزم « خالد بن الوليد » على أن يعبر بجماعته الخندق ولكنه اضطرّ الى التراجع عند ما واجه مقاومة شجاعة من مائتين من المسلمين بامرة « اسيد بن حضير » وقد كلّفهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالقيام على شفير الخندق ، ودفع المشركين ومنعهم من العبور!!

ثم ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن ليغفل عن تقوية عزائم المقاتلين المسلمين ورفع معنوياتهم ، ولهذا كان يهيّئهم بخطبه الحماسية ، وكلماته المشجعة ، الحاثة على الجهاد والاستقامة والدفاع عن حياض العقيدة والايمان ، والذود عن صرح الحرية ، والعدل.

فقد وقف ذات يوم خطيبا في اجتماع كبير من المسلمين وقال ـ بعد أن حمد الله وأثنى عليه ـ.

« أيّها النّاس إذا لقيتم العدوّ فاصبروا واعلموا أنّ الجنّة تحت ظلال السيوف » (٢).

أبطال من العرب يعبرون الخندق :

لبس خمسة من شجعان المشركين هم : « عمرو بن عبد ود العامري » ، « عكرمة

__________________

(١) امتاع الاسماع : ج ١ ص ٢٣٩ و ٢٤٠.

(٢) السيرة الحلبية : ج ٢ ص ٣٢٣.

٢٦٢

بن أبي جهل » ، « هبيرة بن وهب » ، « نوفل بن عبد الله » ، و « ضرار بن الخطاب » لامة الحرب ، ووقفوا أمام بني كنانة في غرور عجيب ، وقالوا : تهيّأوا يا بني كنانة للحرب ، فستعلمون من الفرسان اليوم؟

ثم ضربوا خيولهم فعبرت بهم الخندق من مكان ضيق قد أغفله المسلمون ، ولكنهم بادروا إلى محاصرة تلك الثغرة ومنع غيرهم من العبور.

وكان الموضع الذي وقف فيه اولئك الشجعان الخمسة الذي عبروا الخندق للمبارزة يقع بين الخندق وجبل سلع حيث تمركز جنود الاسلام (١).

ثم أخذوا يدعون المسلمين إلى البراز ، في كبرياء وغرور كبيرين ، وهم يقطعون ذلك الموضع جيئة وذهابا بخيولهم!!

بيد أنّ أشجع اولئك الخمسة وأجرأهم وأعرفهم بفنون القتال وهو : « عمرو بن عبد ود العامري » تقدم ، وأخذ يرتجز داعيا المسلمين الى النزال والبراز قائلا :

ولقد بححت من النداء

بجمعكم هل من مبارز

ووقفت إذ جبن المشجّع

موقف البطل المناجز

إنّي كذلك لم أزل

متسرّعا نحو الهزاهز

إن السماحة والشجا

عة في الفتى خير الغرائز

فأحدثت نداءات عمرو الرهيبة حالة من الرعب ، والوجل الشديدين في معسكر المسلمين ، وسكت الجميع ، ولم ينبسوا ببنت شفة رهبة وخوفا منه.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

« أيكم يبرز إلى عمرو أضمن له الجنة »؟

وقد قالها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثلاث مرات ، وفي كلّ مرة يقوم عليّ عليه‌السلام ويقول : انا له يا رسول الله ، والقوم ناكسوا رءوسهم (٢) او كأنّ المسلمين يومئذ على رءوسهم الطير لمكان عمرو وشجاعته ، كما يقول الواقدي (٣).

__________________

(١) تاريخ الطبري : ج ٢ ص ٢٣٩ ، الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ٢٨.

(٢) تاريخ الخميس : ج ١ ص ٤٨٦.

(٣) المغازي : ج ٢ ص ٤٧٠.

٢٦٣

ولا بدّ أن تحلّ هذه المشكلة بيد علي عليه‌السلام فارس ميادين الحرب المقدام ، وكان كذلك ، فلما أبدى عليّ عليه‌السلام استعداده الكامل لمقاتلة عمرو أعطاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سيفه وعممه بيده ، ووجّهه صوب عمرو وقد دعا له قائلا : اللهم أعنه عليه. وقال أيضا :

« اللهم إنّك أخذت منّي عبيدة بن الحارث يوم بدر ، وحمزة بن عبد المطلب يوم احد ، وهذا أخي علي بن أبي طالب ربّ لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين » (١).

فبرز عليّ عليه‌السلام إلى عمرو يهرول في مشيته ، مبادرا إليه دون ابطاء ، وهنا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كلمته الخالدة في تلك المواجهة :

« برز الإيمان كله إلى الشرك كلّه » (٢) وارتجز عليه‌السلام قائلا :

لا تعجلنّ فقد أتاك

مجيب صوتك غير عاجز

ذونيّة وبصيرة

والصدق منجي كل فائز

إني لأرجو أن اقيم

عليك نائحة الجنائز

من ضربة نجلاء يبقى

ذكرها عند الهزاهز

وقد كان عليّ عليه‌السلام مسربلا بالحديد لا يرى منه إلاّ عيناه من تحت المغفر ، فأراد عمرو أن يعرف من برز إليه فقال : من أنت؟

قال : أنا عليّ بن أبي طالب.

فقال عمرو : إنّي أكره أن اريق دمك ، والله إن أباك كان لي صديقا ونديما ، ما أمن ابن عمك حين بعثك إليّ أن اختطفك برمحي هذا فأتركك شائلا بين السماء والأرض لا حيّ ولا ميت.

فقال عليّ عليه‌السلام : لكنني ما أكره والله أن أهريق دمك ، وقد علم ابن

__________________

(١) كنز الفوائد : ص ١٣٧.

(٢) تاريخ الخميس : ج ١ ص ٤٨٦ و ٤٨٧ ، بحار الأنوار ، ج ٢٠ ص ٢١٥.

٢٦٤

عمي أنّك إن قتلتني دخلت الجنة ، وأنت في النّار ، وإن قتلتك فانت في النّار وأنا في الجنة.

فضحك عمرو وقال مستهزئا : كلتاهما لك يا عليّ ، تلك إذا قسمة ضيزى. ( أي ناقصة جائرة ).

يقول ابن أبي الحديد : كان شيخنا أبو الخير يقول اذا مررنا في القراءة عليه بهذا الموضع : والله ما أمر عمرو بن عبد ود عليا عليه‌السلام بالرجوع إبقاء عليه ، بل خوفا منه ، فقد عرف قتلاه ببدر واحد ، وعلم أنه إن ناهصه قتله ، فاستحيا أن يظهر الفشل فأظهر الإبقاء ، وإنه لكاذب فيه (١).

ثم إن عليا عليه‌السلام ذكّر عمرا بعهد قطعه على نفسه فقال له :

يا عمرو إنّك كنت تقول في الجاهلية : لا يدعوني أحد الى واحدة من ثلاث خصال إلا أجبته إلى واحدة منها وأنا أعرض عليك ثلاث خصال فأجبني إلى واحدة.

قال عمرو : أجل ، فهاتها يا عليّ.

قال : تشهد أن لا إله الاّ الله ، وانّ محمّدا رسول الله ، وتسلم لرب العالمين.

فقال عمرو : نحّ عني هذا.

قال عليّ عليه‌السلام : فالثانية أن ترجع إلى بلادك ، فان يك محمّد صادقا فأنتم أعلى به عينا وان يك غير ذلك كفتكم ذؤبان العرب أمره.

فقال عمرو في غرور عجيب : اذا تتحدّث نساء قريش بذلك ، وينشد الشعراء فيّ أشعارها اني جبنت ، ورجعت على عقبي في الحرب ، وخذلت قوما رأسوني عليه.

فقال له علي عليه‌السلام : فالثالثة أن تنزل إليّ فانك راكب وأنا راجل ، حتى انابذك.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ١٩ ص ٢٠.

٢٦٥

فقال عمرو : هذه خصلة ما ظننت أن أحدا من العرب يسومني عليها ، ثم وثب عن فرسه ، ولكي يرعب عليّا عليه‌السلام عرقب قوائم فرسه على عادة العرب في الجاهلية (١).

تصاول البطلين :

وهنا بدأ تصاول شديد بين البطلين ، وارتفعت بينهما عجاجة حجبت الرؤية ، وانما كان الناس يسمعون فقط صوت اصطكاك السيوف والدروع الحديدية وغيرها ، وبعد فترة من التصاول بين ذينك البطلين العملاقين ضرب « عمرو » « أمير المؤمنين عليا » عليه‌السلام بالسيف على رأسه ، فاتقاه علي عليه‌السلام بالدرقة فقطعها ، وشجّت الضربة رأسه ففاجأه عليّ عليه‌السلام بضربة قوية على ساقيه فقطعهما جميعا ، ثم انكشفت العجاجة فنظر المسلمون فاذا عليّ عليه‌السلام على صدر عدوّ الله يريد أن يذبحه. وارتفع صوت عليّ بالتكبير من بين العجاجة يعلن عن انتصاره ، ومقتل عمرو.

فألقى هلاك فارس العرب الاكبر « عمرو بن عبد ود » رعبا عجيبا في نفوس بقيه الابطال والشجعان الذين عبروا معه الخندق ، فهربوا راجعين الى معسكرهم ، إلاّ « نوفل » الذي سقط فرسه في الخندق ، وهوى هو إلى الارض بشدة ، فرماه حرس الخندق بالحجارة فقال : قتلة أجمل من هذا ، ينزل إليّ بعضكم فأقاتله ، فنزل إليه عليّ عليه‌السلام فضربه حتى قتله في الخندق (٢).

فهيمن الخوف والرعب على كل أرجاء المعسكر العربي المشرك ، وبهت أبو سفيان أكثر من غيره.

ثم إنه كان يتصور أن المسلمين سيمثّلون بجسد « نوفل » انتقاما لحمزة الذي

__________________

(١) المغازي : ج ٢ ص ٤٧٠ و ٤٧١.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٢٠ ص ٢٥٦ ، تاريخ الطبري : ج ٢ ص ٢٤٠.

٢٦٦

مثل به في احد ، فبعث إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من يشتري جثته بعشرة آلاف فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

« هو لكم ، لا ناكل ثمن الموتى » (١).

قيمة هذه الضربة :

لقد قتل عليّ عليه‌السلام ـ حسب الظاهر ـ رجلا شجاعا لا أكثر ، بيد أنه بضربته لعمرو وبقتله إياه أحيا ـ في الحقيقة ـ كل من أرعبته نداءات عمرو المهدّدة ، من المسلمين ، والقى رعبا كبيرا في نفوس جيش قوامه ( ٠٠٠ / ١٠ ) رجل تعاهدوا وتعاقدوا على محو الاسلام واستئصال الحكومة الاسلامية الفتية. ولو أن الانتصار كان يحالف عمرا لعرفنا حينئذ قيمة هذه التضحية الكبرى التي قام بها عليّ عليه‌السلام.

وعند ما عاد عليّ عليه‌السلام ظافرا منتصرا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

« ضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين ».

وقيل إنه قال :

« لو وزن اليوم عملك بعمل جميع امة محمّد لرجح عملك على عملهم وذاك أنه لم يبق بيت من المشركين إلا وقد دخله ذل بقتل عمرو ، ولم يبق بيت من المسلمين إلاّ وقد دخله عز بقتل عمرو » (٢).

وبذلك كشف عن أهمية الضربة التي أوقعها علي عليه‌السلام بعمرو في تلك الواقعة.

لما ذا التنكر لهذا الموقف؟

ويحق لنا هنا أن نستغرب تنكر بعض المؤرخين أو تجاهلهم لهذا الموقف

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٢٠ ص ٢٠٥.

(٢) بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ٢١٦ ، مستدرك الحاكم : ج ٣ ص ٣٢.

٢٦٧

العظيم الذي أدى إلى هزيمة المشركين ، والاحزاب في معركة الخندق هزيمة نكراء ، كل واحد بشكل من الاشكال وصورة من الصور :

فهذا ابن هشام رغم اسهابه في بعض الامور التاريخية ممّا لا قيمة له بعد أن يذكر مقتل « عمرو » على يد بطل الاسلام الخالد عليّ عليه‌السلام من دون أن يذكر ما قاله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عند مطالبة عمرو بالمنازل والمبارز ، ذكر أبياتا قالها عليّ عليه في المقام ثم يشكك في نسبتها إليه عليه‌السلام (١).

وهكذا ابن الاثير رغم اهتمامه بالدقائق التاريخية ووصفه لكتابه بالكامل نجده يحاول التقليل من أهمية هذا الموقف بصورة اخرى وهو أن عليّا خرج ضمن مجموعة لمقاتلة عمرو وليس وحده.

ولكن المعلّقين على الطبعة المنيرية للكامل والتي أشرف عليها فضيلة الاستاذ عبد الوهاب النجار لم يرق لهم هذا الصنيع ، وأبت عليهم ضمائرهم الحرّة أن يتركوا الرواية على حالها فقالوا في الهامش : وروى السهيلي عن ابن اسحاق أن عمرا دعا المسلمين للمبارزة وعرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الأمر ثلاث مرات ولا يقوم إلاّ عليّ كرم الله وجهه ، وفي الثالثة قال له : انه عمرو قال : وان كان عمرا ، فنزل إليه ، وقتله وكبّر فكبّر المسلمون فرحا بقتله (٢).

وهذا ابن تيمية يحاول التنقيص من هذه الفضيلة ولكن بالضرب على وتر آخر حيث قال ان قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في شأن عليّ عليه‌السلام لما قتل عمرا : « قتل عليّ لعمرو بن ود أفضل من عبادة الثقلين » من الاحاديث الموضوعة التي لم ترد في شيء من الكتب التي يعتمد عليها بسند ضعيف ، وكيف يكون قاتل كافر أفضل من عبادة الثقلين ... ثم قال : بل ان عمرو بن ود لم يعرف له ذكر إلاّ في هذه الغزوة.

فهو يحاول التقليل من شأن عمرو ، والايحاء بأنه لم يكن شيئا ، فلا يكون

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٢٥.

(٢) الكامل في التاريخ : ج ٢ ص ١٢٤.

٢٦٨

لقتله أهمية.

ولكن صاحب السيرة الحلبية الذي ينقل كل هذه العبارات عن ابن تيمية يرد عليه قائلا : ويرد قوله : « ان عمرو بن ود هذا لم يعرف له ذكر إلاّ في هذه الغزوة » قول الأصل : وكان عمرو بن عبد ود قد قاتل يوم بدر حتى اثبتته الجراحة فلم يشهد يوم احد فلما كان يوم الخندق خرج معلما ( أي جعل له علامة ) ليعرف مكانه ويرى.

ويرده أيضا ما تقدم من أنه نذر أن لا يمسّ رأسه دهنا حتى يقتل محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله .

واستدلاله : وكيف يكون إلى آخره ، فيه نظر لان قتل هذا كان فيه نصرة للدين وخذلان الكافرين (١).

وما قاله صاحب السيرة الحلبية عن مشاركة عمرو في معركة بدر يوافق ما جاء في الكامل لابن الاثير الجزء ٢ الصفحة ١٢٤ ويوافق أيضا ما جاء في السيرة النبويّة الجزء ٢ الصفحة ٢٢٥.

مروءة عليّ عليه‌السلام وشهامته :

ولقد أحجم عليّ عليه‌السلام عن سلب « عمرو بن عبد ود » درعه ، وكان درعا غالية الثمن ليس للعرب ، درع خير منها ، وقد فعل ذلك مروءة ، وترفعا ، فاعترض عليه بعض ، حتى أن عمر بن الخطاب قال له : هلا استلبته درعه فانه ليس في العرب درع مثلها؟ (٢).

ولما عرفت اخت عمرو بمقتله سألت عمن قتله ، فاخبروها بأن عليا عليه‌السلام هو الذي قتله فقالت لم يعد موته إلاّ على يد كفؤ كريم ، لا رقأت دمعتي إن هرقتها عليه ، قتل الابطال ، وبارز الاقران ، وكانت منيته على يد كفؤ

__________________

(١) السيرة الحلبية : ج ٢ ص ٣٢٠.

(٢) السيرة الحلبية : ج ٢ ص ٣٢٠.

٢٦٩

كريم من قومه ما سمعت بأفخر من هذا يا بني عامر.

ثم انشأت تقول :

لو كان قاتل عمرو غير قاتله

لكنت أبكي عليه آخر الأبد

لكنّ قاتل عمرو لا يعاب به

من كان يدعى قديما بيضة البلد(١)

وقد ذكر عليّ عليه‌السلام صنيعه هذا في أبيات أنشأها يوم الخندق إذ قال :

أعليّ تقتحم الفوارس هكذا؟

عنّي وعنها خبّروا أصحابي

أرديت عمرا إذ طغى بمهنّد

صافي الحديد مجرّب قضاب

فصددت حين تركته متجدّلا

كالجذع بين دكادك وروابي

وعففت عن أثوابه ولو انّني

كنت المقطّر بزّني أثوابي(٢)

والآن حان أن نرى إلى أيّ مصير آل أمر معسكر المشركين بعد مقتل فارس العرب وشجاعها البارز.

جيش العرب يتفرق في موقفه :

لم يكن دافع جيش العرب ومن عاونهم ومالأهم من اليهود الى محاربة الاسلام واحدا ، فاليهود كانوا يخشون من اتساع رقعة الحكومة الاسلامية الفتيّة ، المتزائد ، واما دافع قريش فكان هو العداء القديم للاسلام والمسلمين. وأما قبائل « غطفان » و « فزارة » وغيرها من القبائل فلم يحرّكها إلاّ الطمع في محاصيل « خيبر » التي وعدهم بها اليهود.

فعلى هذا الاساس لم يكن محرّك « الأحزاب » المشاركة في جيش الشرك أمرا واحدا ، فقد كان محرّك الطوائف الأخيرة أمرا ماديا ، ولو أنّ هذا الهدف تحقّق عن طريق المسلمين لعادت هذه القبائل إلى أوطانها مسرورة راضية ، وخاصّة أن البرد ، وقلّة الطعام ، والعلف ، وطول مدّة المحاصرة قد أوجدت في

__________________

(١) مستدرك الحاكم : ج ٣ ص ٣٣.

(٢) المستدرك على الصحيحين : ج ٣ ص ٣٢.

٢٧٠

نفوسهم كللا ومللا ، من جهة ، وعرّضت أنعامهم لخطر الهلاك والفناء من ناحية اخرى.

من هنا كلّف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جماعة بأن يتصلوا بهذه القبائل ( الأخيرة ) ويذكروا لهم بأنّ المسلمين مستعدّون لإعطائهم ثلث تمر المدينة إن هم تركوا قريشا وعادوا إلى ديارهم ، فأعدّوا عهدا وجاءوا به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليمضيه ، ولكنه شاور فيه سعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة قبل أن يمضيه ، فقالا : يا رسول الله إن كان أمرا من السماء فامض له ، وان كان أمرا لم تؤمر فيه فان الرأي عندنا هو السيف ، فإنهم ما طمعوا بهذا منّا قطّ في الجاهلية أن يأخذوا تمرة ، الا بشرى أو قرى ، فحين أتانا الله تعالى بك ، وأكرمنا بك ، وهدانا بك نعطي الدنيّة؟ لا نعطيهم أبدا إلاّ السيف؟

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مبيّنا علة إقدامه على مثل هذا الصلح : « إني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة ، فقلت ارضيهم ولا أقاتلهم ، الآن قد عرفت ما عندكم فكونوا على ما أنتم عليه ، فان الله تعالى لن يخذل نبيّه ، ولن يسلمه حتى ينجز له ما وعده » (١).

فمحى سعد بن معاذ ما في الصحيفة باذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : ليجهدوا علينا (٢).

وبهذا كشف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن صفحة اخرى من سياسته الحكيمة ، فقد كان إقدامه على ثني القبائل المتحالفة مع قريش في جيش الاحزاب باعطاء بعض التنازلات المادية ( لا المعنوية ) وتحييدها خطوة سياسية وعسكرية صحيحة ، ورائعة ، وكان مشورته مع أصحابه من الانصار ( خاصة ) عملا حكيما أيضا لانه استشار بذلك هممهم ، وشدّ من عزائمهم ، فوعدوا

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٢٣ ، بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ٢٥٢.

(٢) امتاع الاسماع : ج ١ ص ٢٣٦ وجاء فيه انه (ص) استشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة خفية.

٢٧١

بالصمود والمقاومة في ذلك الظرف العصيب وعدم تقديم اية تنازلات ولهذا انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ما اراد أولا ، فكان مجموع هذه الخطوات عملا حكيما جدا ، يكشف عن حنكة سياسية عظيمة ، ودراية عسكرية عميقة.

العوامل التي فرقت كلمة « الاحزاب » :

هناك عوامل عديدة تسببت في تفرق الجيش العربي الذي زحف إلى المدينة لاجتياحها ، وانقسام الاحزاب على أنفسهم ، وإليك أبرزها :

١ ـ إن أول عامل من تلك العوامل هو تكلم مبعوثي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مع سادة غطفان وفزارة ، لأن هذه المعاهدة وإن لم توقع إلاّ أنها لم تنقض ، فتسبّب ذلك في أن يختلفوا مع قريش في الرأي ، أي اجتياح المدينة وبشكل من الاشكال وان لا يقدموا على أي إجراء عسكريّ مع غيرهم انتظارا للتوقيع على تلك المعاهدة ، ولهذا كلّما طلبت القيادة القرشية منهم الهجوم الشامل اعتذروا ببعض الاعذار تملّصا من ذلك الطلب.

٢ ـ مصرع « عمرو بن عبد ود » فارس العرب الأكبر الذي كان الأغلبية في ذلك الجيش يعلّقون عليه آمالهم في الانتصار على المسلمين. فلما قتل تملّك الجميع رعب غريب وانهارت آمالهم ، وبخاصة عند ما هرب زملاؤه الشجعان من وجه عليّ عليه‌السلام خوفا ، ورهبة.

٣ ـ ما لعبه « نعيم بن مسعود » الذي أسلم حديثا ، من دور في إلقاء روح الشك والفرقة بين يهود بني قريظة وجيش « الاحزاب » ، فقد قام بهذا الدور بشكل رائع ، تماما كما يفعله الجواسيس المنظّمون في عصرنا الحاضر ، بل كان ما فعله أفضل وأكبر تأثيرا وعطاء.

فقد أتى « نعيم » هذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال يا رسول الله ؛ قد أسلمت ، وإن قومي لم يعلموا باسلامي ، فمرني بما شئت.

٢٧٢

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله « إنما أنت فينا رجل واحد ، فخذّل عنّا ما استطعت ( أي ادخل بين القوم حتى يخذّل بعضهم بعضا ). فان الحرب خدعة ».

فخرج نعيم حتى أتى بني قريظة ، وكان لهم نديما في الجاهليّة ، فقال : يا بني قريظة قد عرفتم ودّي ، وخاصّة ما بيني وبينكم.

قالوا : صدقت ، لست عندنا بمتّهم.

فقال : إنّ قريشا وغطفان ليسوا كأنتم ، البلد بلدكم ، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم ، لا تقدرون على أن تحولوا منه إلى غيره ، وان قريشا وغطفان قد جاءوا لحرب محمّد وأصحابه ، وقد ظاهرتموهم عليه ، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره ، فليسوا كأنتم ، فان رأوا نهزة أصابوها ، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم ، وخلّوا بينكم وبين محمّد ، ولا طاقة لكم به. إن خلا بكم فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم ، على أن تقاتلوا معهم محمّدا حتى تناجزوه.

فقالوا : لقد أشرت بالرأي.

ثم خرج حتى أتى قريشا ، فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش : قد عرفتم ودّي لكم ، وفراقي لمحمّد ، وانه قد بلغني أمر قد رأيت عليّ حقا أن أبلغكموه ، نصحا لكم فاكتموا عني. فقالوا : نفعل.

قال : اعلموا أنّ معشر اليهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمّد ، وقد أرسلوا إليه إنا قد ندمنا على ما فعلنا ، فهل يرضيك أن نأخذ من القبيلتين ، من قريش وغطفان رجالا من اشرافهم فنعطيكم فتضرب أعناقهم ، ثم نكون معك على من يبقى منهم حتى نستأصلهم؟ فأرسل إليهم : أن نعم ، فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم ، فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا.

ثم خرج حتى أتى غطفان فقال : يا معشر غطفان ، إنكم أصلي وعشيرتي ، وأحب الناس إليّ ، ولا أراكم تتهموني ، قالوا : صدقت ما أنت عندنا بمتهم ، قال

٢٧٣

فاكتموا عني ، قالوا : نفعل فما أمرك ، ثم قال لهم مثل ما قال لقريش وحذّرهم ما حذّرهم.

وهكذا أدّى « نعيم » وظيفته بأحسن صورة ثم دخل سرا في جيش المسلمين ، واشاع بين المسلمين أنّ بني قريظة تنوي أخذ رجال من المشركين لتسليمهم الى النبي والمسلمين.

وقد كان يقصد من اشاعة هذا النبأ أن يبلغ مسامع رؤساء العرب وقادتهم.

مبعوثو قريش يمشون إلى بني قريظة :

ولما كانت ليلة السبت قرّر أبو سفيان ان يحسم الموقف بشكل من الأشكال فأرسل إلى بني قريظة جماعة من سادة قريش وغطفان فقالوا لهم : إنا لسنا بدار مقام قد هلك الخف والحافر ، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمّدا ، ونفرغ ممّا بيننا وبينه.

فأرسل بنو قريظة إليهم : إن اليوم يوم السبت ، وهو يوم لا نعمل فيه شيئا ، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثا فأصابه ما لم يخف عليكم ، ولسنا مع ذلك بالذي نقاتل معكم محمّدا حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمّدا ، فاننا نخشى إن ضرستكم الحرب ، واشتدّ عليكم القتال أن تسرعوا إلى بلادكم وتتركونا ، والرجل في بلدنا ولا طاقة لنا بذلك منه.

فلما رجعت الرسل بما قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان : والله إن الّذي حدّثكم نعيم بن مسعود لحق.

فارسلوا إلى بني قريظة من يقول لهم : إنا والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا ، فان كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا.

فقالت بنو قريظة ـ حين انتهت الرسل إليهم بهذا : إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق ، ما يريد القوم إلاّ أن يقاتلوا فان رأوا فرصة انتهزوها ، وان كان

٢٧٤

غير ذلك أسرعوا إلى بلادهم وخلّوا بيننا وبين محمّد. في بلدنا (١).

وهكذا انسحبت بنو قريظة من الأحزاب وأوقع الله التخاذل بينهم ، وتفرّقوا ، وتمزق شملهم ، وكان ذلك من عوامل فشل الاحزاب ، وتقهقرهم ورجوعهم خائبين.

آخر العوامل لهزيمة الكفار :

لقد انضمت العوامل المذكورة إلى عامل آخر يمكن تسميته ـ في الحقيقة ـ بالامداد الغيبيّ ففرقت جماعة الاحزاب ، وشتّتّ جماعتهم وذلك العامل هو أن الله تعالى بعث عليهم فجأة الريح والعاصفة ، واشتدّ البرد ، وكان اشتداد الريح كبيرا بحيث أكفأ قدورهم ، واقتلع خيامهم ومضاربهم ، وأطفأ أضواءهم ، وأوجد حريقا في الصحراء.

وهنا أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حذيفة أن يعبر الخندق ، ويأتيه بخبر عن أحوال المشركين ومن مالأهم من الاحزاب.

يقول حذيفة : فذهبت فدخلت في القوم والريح وجنود الله تفعل ما تفعل بهم لا تقرّ لهم قدرا ، ولا نارا ولا بناء ، فسمعت أبا سفيان يقول ، وقد قام في جماعة من قريش : يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام ، لقد هلك الكراع والخفّ ، وأخلفتنا بنو قريظة ولقينا من شدّة الريح ما ترون ما تطمئنّ لنا قدر ، ولا تقوم لنا نار ، ولا يستمسك لنا بناء ، فارتحلوا إني مرتحل.

ثم قام إلى جمله ـ وهو معقول ـ فجلس عليه ثم ضربه فوثب به على ثلاث ، فو الله ما أطلق مقاله إلاّ وهو قائم من شدّة الدهش والخوف!!

ولم يسفر الصبح إلاّ وأسرعت قريش وغطفان عائدين إلى بلادهم يجرّون أذيال الخيبة ، ولم يبق منهم أحد هناك.

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٣٣٩ ـ ٢٣١ ، تاريخ الطبري : ج ٢ ص ٢٤٢ و ٢٤٣.

٢٧٥

وهكذا انتهت معركة الاحزاب في الرابع والعشرين من شهر ذي القعدة من السنة الخامسة للهجرة (١).

القرآن الكريم ومعركة الاحزاب

ولقد أشار القرآن الكريم إلى أبرز النقاط في معركة الأحزاب ( الخندق ) ضمن سبع عشرة آية وها نحن ندرجها برمتها ونشير باختصار إلى ما تضمنته من حقائق :

« يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً. إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا. هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً. وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً. وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً. قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً. أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً يَحْسَبُونَ

__________________

(١) تاريخ الطبري : ج ٢ ص ٢٤٤ ، امتاع الاسماع : ج ١ ص ٢٣٩.

٢٧٦

الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً. لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً. وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً ». (١).

ويمكن تقسيم هذه الآيات الى ثلاثة أقسام :

القسم الاول وهي الآيات التي ترسم الوضع العام للمسلمين عند ما أتتهم عساكر الاحزاب.

القسم الثاني وهي الآيات التي تتعرض لذكر موقف المنافقين وضعاف الايمان.

القسم الثالث وهي الآيات التي تتعرض لذكر موقف المؤمنين الصادقين.

وإليك بيانا لمفاد هذه الآيات على وجه الاختصار.

١ ـ تبدأ هذه المجموعة من الآيات بتذكير المؤمنين ـ في الآية الاولى ـ بنعمة الله عليهم أن ردّ عنهم الجيش الذي قصد استئصالهم لو لا عناية الله ومدده العظيم ، وفي هذا إشعار قوي بأن الله هو الذي يحمي القائمين على دعوته ومنهجه من عدوان الكافرين والمتآمرين.

٢ ـ ثم تشرح الآية الثانية الحالة العسكرية الخطيرة التي كان يواجهها المسلمون ، فهم محاصرون من قبل الاعداء والمتواطئين معهم من كل جهة محاصرة

__________________

(١) الأحزاب : ٩ ـ ٢٥.

٢٧٧

ألقت الرعب في قلوب الكثيرين من أهل المدينة فزاغت الابصار هولا ، وبلغ القلوب الحناجر خوفا ، وظنّ البعض أن ما أعطاهم الله ورسوله من الوعد بالتأييد والنصرة لم يكن صحيحا.

٣ ـ ثم تحدثت الآية الثالثة عن الابتلاء والاختبار الذي أفرزه هذا الوضع الخطير ، فقد ابتلى المسلمون في هذه الواقعة ، وتملكهم خوف شديد.

٤ ـ ولكن المنافقين ، والذين في قلوبهم مرض كانوا أشد هولا وخوفا حتى أن ذلك الكرب والهول أخرج خبيئة نفوسهم ، فشككوا في وعود الله الصادقة ، وقالوا : ما وعدنا الله إلاّ غرورا ، فهو خدعنا إذ وعدنا بالغلبة على أعدائنا.

٥ ـ ولم يكتف المنافقون باشاعة هذه التشكيكات بين المسلمين بل دعوا أهل المدينة إلى الانسحاب من الميدان إلى داخل المدينة ، وبالتالي حرّضوهم على ترك الصفوف. واحتجوا لذلك بالخوف على النساء والصبيان من كيد الاعداء قائلين : « بيوتنا عورة » وهم لا يريدون إلاّ الفرار جبنا وخوفا.

٦ ـ ثم تكشف الآية السادسة والسابعة عن حقيقة ما في نفوس اولئك المنافقين ، فهم لا يريدون الانسحاب إلى داخل المدينة للمحافظة على الذراري والصبيان ، انما هو نقض العهد ، وخلف الوعد وفقدان الايمان القلبي فهم اذا دخل عليهم العدوّ المدينة وطلبوا منهم الرجوع عن الاسلام لرجعوا إلى الكفر دون تأخير. ولكن الله سيسألهم عن العهد الذي أعطوه من قبل بأن يثبتوا امام العدو ، وكان عهد الله مسئولا ».

٧ ـ ثم إن الله تعالى يوبخهم ـ في الآية في الآيات اللاحقة ـ على موقفهم المتخاذل هذا ، ويقول لهم : بأن الفرار والانسحاب لن ينجيهم من الموت ان كان مقدّرا عليهم ، وحتى لو عاشوا أياما فلن يعيشوها في خير وأمان.

كما ويقول لهم : بأن الله لا يخفى عليه ما يقومون به من تخذيل وعرقلة لمسيرة الاسلام الصاعدة ، ولا تخفى عليه سبحانه مواقفهم في أوقات المحنة ، من كف الايدى عن مساعدة المؤمنين ، أو سلقهم بألسنتهم وتحميلهم عوامل المحنة والشدة ،

٢٧٨

حتى بعد الانتصار.

وهنا يبدو ويبرز دور المنافقين ، وتظهر حالاتهم العجيبة في الحرب والسلم.

فهم يخافون خوفا شديدا ، وهم يظنون بالله ظن السوء وهم يشيعون الخوف وروح الهزيمة في الناس وهم ينسحبون ويدعون إلى الانسحاب من الصفوف وهم مستعدون في كل وقت للارتداد والرجوع عن الاسلام الى الكفر ، وهم بالتالي اشحة بخلاء ، في نفوسهم كزازة على المسلمين كزازة بالجهد وكزازة بالمال وكزازة بالعواطف والمشاعر على السواء.

٨ ـ إنهم لكونهم لم تخالط قلوبهم بشاشة الايمان ولم يهتدوا بنوره يفقدون الشجاعة والقوة حتى بعد ذهاب عوامل الخوف والهول.

فهم ما يزالون يرتعشون ، ويتخاذلون ، ويأبون أن يصدقوا أن الاحزاب قد ذهبت وولّت مهزومة. ويودون لو أن الاحزاب دخلت المدينة أن لا يكونوا فيها مبالغة في النجاة من الأهوال!!

٩ ـ ولكن في مقابلة هذا الفريق المتخاذل الجبان يرسم القرآن الكريم في الآيات ٢١ إلى ٢٥ صورة المؤمنين الصادقين وفي مقدمتهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله القدوة الحسنة لجميع المسلمين في جميع الحالات والظروف.

فان هذه الجماعة المؤمنة الصادقة لما رأت الاحزاب قالت : هذا ما وعدنا الله ورسوله ، هذا الهول لا بد أن يجيء فيه النصر فهو وعد الله الصادق المحقق.

فصمدوا وصدقوا ما عاهدوا الله عليه ، فجزاهم الله بصدقهم إذ ردّ الذين كفروا بغيظهم ، لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال ، وكان الله قويا عزيزا خلافا لما ظنه المنافقون ، وتوهموه.

وقد كانت هذه الواقعة في منظور القرآن الكريم امتحانا عظيما ، واختبارا دقيقا للنفوس والقلوب وهو امتحان لا بد منه حتى يتميز الصادق عن المنافق ، والموفون بعهدهم والناقضون له.

كما أن هذه الواقعة وما جاء حولها من الآيات كشفت عن أن وعود الله

٢٧٩

صادقة ومحققة اذا توفرت شرائطها ، ومقدماتها ، ومنها استخدام الوسائل الطبيعية المناسبة ، والاتكال على الله واستمداد العون منه.

وفي هذه الآيات إشارة إلى دور ما يسمى الآن بالطابور الخامس وإلى خطورة الشائعات السيئة في المجتمع ، وبخاصة في ظروف الحرب.

كما أن فيها اشارة إلى كيفية مواجهة هذه الشائعات والتعامل مع فعاليات هذا الفريق الخطر.

ولقد لا حظنا خلال ما مضى من السيرة كيف أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يبطل بتكتيكاته العسكرية مفعول تلك النشاطات التخريبية والمضرة.

فقد كان يعتمد اسلوب الدعاء ، والذكر ، والتشجيع ، والتكبير ، وارسال الدوريات العسكرية والعمل المباشر والمشاركة الفعلية في عمليات الدفاع والحراسة وما شاكل ذلك ممّا ذكرناه وممّا لم تسع هذه الدراسة لذكره.

٢٨٠