سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

فهل ينتظر هواة الغرب بعد هذا البيان الواضح والتحريم الصريح بيانا كافيا شافيا؟!

وفي الحقيقة نحن لا نحتاج إلى مثل هذا الاستدلال أبدا فالآيات الأربع المتقدمة التي وصفت الخمر بأنها « رجس » وأنها نظير « الميسر » ، وأنها « عمل شيطاني » ، مناقض للفلاح ، وسبب « للعداوة » و « البغضاء » ، قد أعلنت عن حرمتها بصورة واضحة لا إبهام فيها ، ولا غموض ، وهي بالتالي أقوى بيان لمن تدبّر وأنصف ، وتجرّد عن الاهواء والأغراض المريضة.

وهنا لا بدّ أن نذكّر بنقطة هامة وهي أن النبيّ الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله استطاع ان يطهّر في هدى هذه الآيات الأربع ، بيئته ومجتمعه من أدران هذه العادة الشريرة ، ويقوم المؤمنون أنفسهم بتنفيذ هذا الحكم من دون قهر أو إجبار ، بينما لم يستطع العالم الغربي رغم كل ما يملك من الإمكانات الماديّة العريضة ، وأجهزة الدعاية الواسعة أن يخطو خطوة ناجحة في هذا الطريق ، فقد اخفقت كل خططه ، أمام هذا السمّ القاتل ، والفشل الذي أصاب الولايات المتحدة في مكافحة المشروبات الروحية في أعوام ١٩٣٣ ـ ١٩٣٥ أمر معروف للجميع ، وله قصة عجيبة يمكن أن يقف عليها القارئ الكريم في مصادرها (١).

رواية مختلقة :

ومن عجيب الأمر أن يروي بعض المفسرين عند تفسير قوله تعالى : « ولا تقربوا الصلاة وانتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون » رواية جاء فيها أن امام المتقين علي بن أبي طالب عليه‌السلام كان ضمن جماعة شربوا الخمر ثم قاموا الى الصلاة فقرأ أمامهم غلطا : « اعبد ما تعبدون » فانزل الله تعالى هذه الآية : « لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ».

نقول إن من العجيب أن تنسب إلى الامام علي عليه‌السلام مثل هذه

__________________

(١) راجع ما ذا خسر العالم بانحطاط المسلمين : ص ٨٠ وغيره.

٢٢١

النسبة وهو الطاهر المطهّر بحكم آية التطهّر (١) وهو الذي نشأ وترعرع في احضان سيد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي كان يتجنب الخمر ، حتى قبل نزول النهي الصريح عنها ، هذا وعلي عليه‌السلام المعروف بحكمته وفهمه وعلمه عارف بما للمسكر من تبعات خطيرة.

نعم من العجيب أن نصدق بأن عليا عليه‌السلام شرب الخمر ، وهناك في الجاهلية ( وقبل الاسلام ) من حرّم الخمر على نفسه لكونه يذهب بالعقل ، ويؤول بالمرء الى ما لا يحمد.

ففي السيرة الحلبية كان عبد الله بن جدعان من جملة من حرّم الخمر على نفسه في الجاهلية أي بعد ما كان مغرما بها وسبب ذلك أنه سكر ليلة فصار يمدّ يده على ضوء القمر ليمسكه فضحك منه جلساؤه ثم اخبروه بذلك حين صحا فحلف أن لا يشربها أبدا.

وكان عثمان بن مظعون ممّن حرّم الخمر على نفسه في الجاهلية أيضا وقال : لا أشرب شيئا يذهب عقلي ، ويضحك بي من هو أدنى مني ، ويحملني على أن انكح كريمتي من لا اريد (٢).

وورد عن الامام محمد الباقر عليه‌السلام قال : أوحى الله تعالى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اني أشكر لجعفر بن أبي طالب عليه‌السلام أربع خصال.

فدعاه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبره فقال : لو لا أن الله تبارك وتعالى أخبرك ما أخبرتك :

ما شربت خمرا قط لاني لو شربتها زال عقلي.

وما كذبت قط لان الكذب ينقص المروة.

وما زنيت قط لأني خفت إذا عملت عمل بي.

__________________

(١) الاحزاب : ٣٣ ، راجع تفاسير الفريقين ومجاميعهم الحديثية.

(٢) السيرة الحلبية : ج ١ ص ١٣٠.

٢٢٢

وما عبدت صنما قط لأني علمت أنه لا يضر ولا ينفع.

فضرب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على عاتقه وقال : « حق لله تعالى أن يجعل لك جناحين تطير بهما مع الملائكة في الجنّة » (١).

نعم هذا هو موقف من هو أقل مرتبة ومنزلة من الإمام علي عليه‌السلام من الخمر ، ولو في العهد الجاهلي ، وقبل تحريمها في الاسلام.

لكن يد الوضع والدس أبت إلاّ أن تختلق رواية في المقام ، فقد جاءت في جامع البيان للطبري روايتان نذكرهما سندا ومتنا ليقف القارئ على ما تعانيان من مآخذ :

١ ـ حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا عبد الرحمن قال حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن عن علي أنه كان هو وعبد الرحمن ورجل آخر شربوا الخمر فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ : يا أيها الكافرون فخلط فيها فنزلت : لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى.

٢ ـ حدثني المثنى قال حدثنا الحجاج بن المنهال قال حدثنا حماد عن عطاء بن السائب عن عبد الله بن حبيب أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاما وشرابا فدعا نفرا من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فأكلوا وشربوا حتى تملّوا فقدّموا عليا يصلّي بهم المغرب فقرأ : قل يا أيها الكافرون اعبد ما تعبدون وأنتم عابدون ما أعبد وأنا عابد ما عبدتم. لكم دينكم ولي دين. فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية : « لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ » (٢).

والروايتان ـ مضافا إلى ما يرد عليهما من الاشكال ـ تعانيان من مؤاخذات متعددة أبرزها الاشكال في سندهما ، فكلتا الروايتان تنتهيان إلى عطاء بن السائب ، وهو مطعون في وثاقته وديانته ، وفي حفظه وحديثه ، وإليك ما قال عنه أئمة علم الرجال :

__________________

(١) الدرجات الرفيعة : ص ٧٠ نقلا عن الامالي لابن بابويه.

(٢) جامع البيان في تفسير القرآن للطبري : ج ٥ ص ٦١.

٢٢٣

قال عنه الذهبي : عطاء بن السائب أحد علماء التابعين ، تغيّر بأخرة وساء حفظه.

قال عنه أحمد : من سمع منه قديما فهو صحيح ، ومن سمع منه حديثا لم يكن بشيء.

وقال عنه يحيى بن معين : لا يحتج به.

وقال أحمد بن أبي خيثمة عن يحيى : حديثه ضعيف.

وقال عنه أبو حاتم : محلّه الصدق قبل أن يخلّط.

وقال النسائي : ثقة في حديثه القديم لكنه تغيّر.

وقال ابن عليّة : قدم علينا عطاء بن السائب البصرة ، فكنا نسأله ، فكان يتوهّم ، فنقول له : من؟ فيقول : اشياخنا ميسرة ، وزاذان ، وفلان.

وقال الحميدي ، حدثنا سفيان ، قال : كنت سمعت من عطاء بن السائب قديما ، ثم قدم علينا قدمة فسمعته يحدث ببعض ما كنت سمعت ، فخلّط فيه ، فاتقيته واعتزلته.

واضاف الذهبي : « ومن مناكير عطاء ... » (١).

أجل هذا هو عطاء في منظار علماء الرجال ، انه سيئ الحفظ ، ضعيف مخلّط له مناكير ، يتوهّم ، تغيّر بأخرة ، وقد ظهرت آثار الوهم وسوء الحفظ والتخليط هذا في روايتيه هاتين. فهو تارة يقول أن عليا عليه‌السلام كان مأموما في هذه القصة ( كما في الرواية الاولى ) وتارة يقول كان عليه‌السلام إماما للجماعة.

وهذه الرواية من مناكيره ، وأوهامه بلا ريب ، إذ كيف يصح أن ينسب إلى رجل لازم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الطيّب الطاهر منذ نعومة أظفاره ، شرب الخمر ، والائتمام برجل دونه في الفضل ، أو إمامته للجماعة وتخليطه في قراءة سورة عظيمة من سور القرآن الكريم؟!

ولنستمع معا إلى ما يقوله إمام المتقين علي بن أبي طالب عليه‌السلام عن

__________________

(١) ميزان الاعتدال : ج ٣ ص ٧٠ ـ ٧٣.

٢٢٤

فترة صباه في كنف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فانه أفضل ردّ على هذه الرواية ونظائرها : قال عليه‌السلام :

« قد علمتم موضعي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالقرابة القريبة ، والمنزلة الخصيصة ، وضعني في حجره وأنا ولد يضمّني الى صدره ، ويكنفني في فراشه ، ويمسّني جسده ويشمّني عرفه ، وكان يمضغ الشيء فيلقمنيه وما وجد لي كذبة في قول ، ولا خطلة في فعل ، ولقد قرن الله به صلى‌الله‌عليه‌وآله من لدن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ، ومحاسن أخلاق العالم ، ليله ونهاره ، ولقد كنت اتبعه إتباع الفصيل أثر أمه ، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما ، ويأمرني بالاقتداء به » (١).

هذا وأغلب الظن ان الذين اختلقوا هذه الرواية لما وجدوا أمثال هذه القبائح في حياة بعض الصحابة أرادوا ان يساووا بين الامام علي عليه‌السلام وغيره ، فاختلقوا هذه الفرية الوقحة.

ومما يثير الاستغراب أن يقع بعض الكتّاب والمفكّرين المعاصرين في نفس ما وقع القدامى من الخطأ في هذا المجال ، ويذكر هاتين الروايتين في تفسيره للقرآن الكريم ، مع كل هذه المؤاخذات عليهما حتى في صورة النقل ، كما فعل سيد قطب في تفسيره « في ظلال القرآن » (٢) ، إذ ليس كل ما هو مذكور في كتب الاقدمين يصح نقله ، ويجوز تكراره. وبخاصة من دون تعليق وتكذيب.

غزوة ذات الرقاع :

قيل إنما سمّيت هذه الغزوة ، وهذا الجهاد المقدس بالرقاع ، لأنّ المسلمين مرّوا بأرض بقع سود ، وبقع بيض كأنها مرقعة برقاع مختلفة.

وربما قيل لأن الحجارة أوهنت أقدام المجاهدين فكانوا يلفّون على أرجلهم

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة رقم ١٩٢.

(٢) عند تفسير قوله تعالى : « لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ».

٢٢٥

الخرق ، والرقاع فسمّيت هذه الغزوة بذات الرقاع (١).

وعلى كل حال فان هذه الغزوة لم تكن ابتدائية تماما مثل بقية الغزوات ، بل كانت لإطفاء شرارة كانت على شرف الاشتعال ، والانفجار ، وبالضبط جاءت لتقضي على تحركات واستعدادات عدائية كان يقوم بها بنو محارب وبنو ثعلبة وكلاهما من قبائل غطفان.

وقد كان من دأب النبيّ وسياسته أن يبثّ أشخاصا أذكياء إلى المناطق المختلفة ليأتوا له بالأخبار عن كل ما يستجدّ على ساحة الجزيرة العربية ، وفي أوساط القبائل.

فأتاه الخبر ذات مرة أن القبيلتين المذكورتين تنويان جمع الاسلحة والرجال لاجتياح المدينة وغزوها ، فسار إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على رأس مجموعة من رجاله وأصحابه حتى نزل نخلا بنجد قريبة من مكان العدو (٢).

فدفعت سوابق المسلمين الجهادية ، وما سطروه في المعارك والمواقف من قصص المقاومة والصمود والبسالة والاستقامة ، وما حققوه من انتصارات ساحقة حيّرت سكّان الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها.

لقد دفعت كل هذا العدوّ إلى الانسحاب ، واللجوء الى رءوس الجبال ، وقد خافوا ألاّ يبرح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى يستأصلهم.

وقد صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمسلمين في هذه الغزوة صلاة الخوف ، التي بيّن الله تعالى كيفيتها في سورة النساء الآية ١٠٢.

وأغلب الظن أن العدوّ كان في هذه الغزوة قويا في تجهيزاته وقواه ، وان الاوضاع العسكرية قد وصلت الى مرحلة خطيرة مما سبّب الخوف ، ولكن الانتصار كان في المآل من نصيب المسلمين.

__________________

(١) السيرة النبوية ، الهوامش : ج ٢ ص ٢٠٤.

(٢) امتاع الاسماع : ج ١ ص ١٨٨.

٢٢٦

مواقف خالدة في هذه الغزوة :

يروي المؤرخون والمفسرون المسلمون كابن هشام (١) وأمين الاسلام الطبرسي (٢) قصصا عجيبة ، وحوادث مثيرة للاعجاب وقعت في هذه الغزوة تكشف عن عمق مروءة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مع أعدائه ، وقد نقلنا نظير هذا في غزوة ذي أمر ، من هنا نحجم عن ذكر ذلك في هذه الدراسة رعاية للاختصار ، ولكن نلفت نظر القارئ الكريم إلى القصة التالية التي تكشف عن صمود المسلمين واخلاصهم لدينهم.

الحرّاس الصامدون :

مع أن جيش الاسلام قد عاد الى المدينة من هذه الغزوة من دون قتال ولكنّه أصاب مع ذلك بعض الغنائم ، واستراح في شعب في أثناء الطريق ، وبات ليلته هناك ، ثم كلّف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رجلين بحراسة الجيش ليلا يدعيان : « عباد » و « عمار » ، فقسم الرجلان الليل بينهما ، فنام أحدهما وسهر الآخر يحرس الجيش ، وكان الذي سهر أول الليل هو « عباد ».

ثم إن رجلا من العدوّ خرج في أثر المسلمين ، وكان يقصد أن يريق دما أو يصيب شيئا ويعود الى محله.

وقام « عباد » يصلّي ، وأقبل ذلك الرجل يطلب غرّة فلما رأى « عباد » سواده من قريب قال ذلك الرجل في نفسه : نعلم الله أنّ هذا لطليعة القوم ، وحرسهم ففوّق له سهما ورماه به فأصاب عبادا ولكن عبّادا نزع السهم ووضعه ، وثبت قائما يصلّي فرماه العدوّ بسهم آخر ، فأصابه فانتزعه وثبت قائما فرماه بثالث فنزعه ، فلما غلب عليه الدم ركع وسجد ، ثم قال لصاحبه : اجلس فقد اصبت ، فجلس عمّار ، فلمّا رأى الاعرابي أن عمارا قد قام علم أنهما قد علما

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٠٥ ـ ٢٠٩.

(٢) مجمع البيان : ج ٣ ص ١٠٣.

٢٢٧

به ، : فقال عمّار : أي أخي ما منعك أن توقظني به في أول سهم رمى به؟!

قال : كنت في سورة أقرأها وهي سورة الكهف ، فكرهت أن أقطعها حتى أفرغ منها ، ولو لا أني خشيت أن اضيّع ثغرا أمرني به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما انصرفت ولو أتى على نفسي (١).

وهكذا صمد هذا المسلم واستمر في صلاته غير مبال بما اصابته من السهام.

بدر الثانية :

لما أراد أبو سفيان أن ينصرف يوم « احد » نادى : موعدنا وموعدكم بدر الصفراء العام القابل نلتقي فيه فنقتتل.

ولهذا أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المسلمين بأن يتهيّئوا للدفاع على أنفسهم وقد مر على وقعة « احد » عام واحد.

وكان أبو سفيان الذي كان يرأس قريش آنذاك يواجه في ذلك الوقت مشاكل داخلية مختلفة فكره الخروج الى رسول الله في الموعد الذي ضربه لمقاتلة المسلمين ، واتفق أن قدم مكة في تلك الايام « نعيم بن مسعود » الذي كانت بينه وبين أبي سفيان علاقات صداقة خاصة ، فجاءه أبو سفيان وقال له : إنّي وعدت محمّدا وأصحابه يوم « احد » أن نلتقي نحن وهو ببدر الصفراء على رأس الحول ، وقد جاء ذلك ، ولا يصلح أن نخرج إليه العام.

فقال نعيم : ما أقدمني إلاّ ما رأيت محمّدا وأصحابه يصنعون من إعداد السلاح والكراع ، وقد تجلّب إليه حلفاء الأوس ، فتركت المدينة أمس وهي كالرمّانة.

فزاد ذلك من مخاوف أبي سفيان ، وضاعف من كراهته للخروج الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله . وتقرر بالتالي أن يعود نعيم إلى المدينة ويحذر المسلمين من الخروج للموعد ، ويخذّلهم.

وعاد « نعيم » إلى المدينة ، وراح يرعّب أصحاب رسول الله صلّى الله عليه

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٠٨ ، المغازي : ج ١ ص ٣٩٧.

٢٢٨

وآله ويخوّفهم من الخروج إلى أبي سفيان إلاّ أن كلامه لم يترك أي أثر في نفس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فخرج صلى‌الله‌عليه‌وآله في ألف وخمسمائة مقاتل من أصحابه ، وقد خرجوا ببضائع لهم ، وتجارات حتى انتهوا الى « بدر » وقام السوق السنوي هناك فباعوا واشتروا في موسم بدر وربحوا كثيرا ثم تفرّق الناس ، ولكن النبيّ وأصحابه بقوا هناك ثمانية أيام ينتظرون أبا سفيان وجيشه.

وقد كان هذا الاجراء اجراء عسكريا حكيما ورائعا إذ أظهر قوة النبيّ وعزيمته وقوة أصحابه وعزيمتهم ، ولهذا كان له أثر قوي في نفوس الاعداء.

فلما بلغت أنباء خروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه الى بدر ، لم ير حكّام مكة المشركون بدّا من الخروج إلى بدر حفاظا على ماء الوجه ، فخرج أبو سفيان والمشركون بتجهيزات كافية إلى مرّ الظهران ، ولكنهم عادوا من منتصف الطريق إلى مكة بحجة الغلاء والقحط ، فاعترض صفوان بن اميّة على أبي سفيان وقال : قد والله نهيتك يومئذ أن تعد القوم ، وقد اجترءوا علينا ، ورأوا انا

قد أخلفناهم ، وانما خلفنا الضعف عنهم (١).

ولادة السبط الأصغر لرسول الله :

وفي الثالث من شهر شعبان من هذه السنة ( الرابعة من الهجرة ) ولد السبط الثاني لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الامام الحسين بن عليّ (٢) ، كما توفيت « فاطمة بنت أسد » والدة الإمام علي عليه‌السلام (٣).

وفي هذا العام بالذات أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله زيد بن حارثة أن يتعلم السريانية من اليهود (٤).

__________________

(١) المغازي : ج ١ ص ٣٨٤ ـ ٣٩٠ ، وقد وقعت هذه الحادثة في الشهر الخامس والاربعين بعد الهجرة.

وتسمى هذه الغزوة « بدر الموعد ».

(٢) و (٣) تاريخ الخميس : ج ١ ص ٤٦٧.

(٤) إمتاع الاسماع : ص ١٨٧ ، تاريخ الخميس : ج ١ ص ٤٦٤.

٢٢٩

حوادث السنة الخامسة من الهجرة (١)

٣٦

من أجل تحطيم التقاليد الخاطئة

تعتبر معركة « الاحزاب » ، وقصة بني قريظة ، وزواج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بزينب بنت جحش من أروع الحوادث التاريخية التي وقعت في السنة الخامسة من الهجرة.

وأوّل هذه الحوادث ـ كما عليه المؤرخون المسلمون ـ هو زواج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمرأة المذكورة.

وقد ذكر القرآن الكريم تفاصيل هذه القضية ضمن الآيات ( ٤ ، ٦ ، ٣٦ ، الى ٤٠ ) من سورة « الاحزاب » ، ولا يبقى ـ حينئذ ـ مجال لأكاذيب المستشرقين ودسائسهم ومختلقاتهم الواهية.

ونحن هنا ندرس هذه القضية على ضوء أصح المصادر والينابيع التاريخية الاسلامية التي لم تطلها أيدي العبث والتحريف ، والمسخ ، والتشويه ، ألا وهو القرآن الكريم ، ثم بعد ذلك نتحدث حول ما قاله المستشرقون ومن لف لفهم ،

__________________

(١) يرى مؤلف كتاب تاريخ الخميس أن هذه الحادثة وقعت في شهر ذي القعدة من السنة الخامسة للهجرة ولكن هذا الرأي يبدو غير صحيح من وجهة نظر المحاسبة الاجتماعية ، لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان منشغلا بغزوة « الاحزاب » ، و « بني قريظة » من ٢٤ شهر شوال من السنة الخامسة الى ١٩ من شهر ذي الحجة من نفس السنة فيكون تحقق مثل هذا الزواج في مثل هذه الظروف أمرا مستبعدا جدا ، واذا كان الزواج من زينب يعدّ من حوادث السنة الخامسة لزم ان يكون قد تحقق قبل الحادثتين المذكورتين ، ولهذا عمدنا الى ذكر هذه الحادثة قبل تينيك الواقعتين.

٢٣٠

ونحى منحاهم في التعامل مع تاريخ السيرة النبوية.

من هو زيد بن حارثة؟

كان زيد شابا سرقه قطّاع الطرق من الأعراب وهو صغير من قافلة ، وباعوه عبدا في سوق عكاظ ، وقد اشتراه حكيم بن حزام لعمّته خديجة بنت خويلد ، وقد أهدته خديجة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد زواجها منه.

ولقد دفعت سيرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الحسنة ، وأخلاقه الفاضلة وسجاياه النبيلة زيدا هذا في أن يحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حبا شديدا ، حتى أنه عند ما جاء أبوه الى مكة يبحث عنه ، وعلم بوجوده عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مشي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وطلب منه أن يعتقه ، ويعيده إليه ، ليعيده بدوره إلى أمه ويلحقه بأقربائه ، فابى زيد إلاّ البقاء عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفضّل ذلك على المضي مع أبيه ، والعودة إلى وطنه ، وعشيرته ، وقد خيّره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المكث عنده أو الرحيل مع أبيه إلى وطنه.

على أن ذلك الانجذاب والحب كان متبادلا بين زيد ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فكما أن زيدا كان يحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويحب أخلاقه وخصاله ، كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يحب زيدا كذلك لنباهته وأدبه حتى أنه أعتقه وتبنّاه ، فكان الناس يدعونه زيد بن محمد بدل زيد بن حارثة ، ولكي يتأكد ذلك وقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذات يوم وقال لقريش :

« يا من حضر اشهدوا أن زيدا هذا ابني » (١).

وقد بقي هذا الحب المتبادل بين زيد ، وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أن استشهد هذا المسلم الصادق والمؤمن المجاهد في معركة مؤته ، فحزن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمصرعه كما حزن لولد من أولاده.

__________________

(١) اسد الغابة : ج ٢ ص ٢٣٥ وكذا الاستيعاب والإصابة مادة : زيد.

٢٣١

زيد يتزوج بابنة عمة النبيّ :

لقد كان من أهداف رسول الاسلام العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله هو أن يخفف من الفواصل بين طبقات المجتمع وفئاته ، ويقارب بينها قدر الامكان ، ليعيش البشر جميعا تحت لواء الانسانية والتقوى إخوة متحابّين لا تبعد بعضهم عن بعض مقاييس الثروة والنسب ، بل يكون الملاك في التفاضل هو الأخلاق الفاضلة والسجايا الانسانية.

من هنا كان يجب التعجيل في ازالة التقاليد العربية البالية التي كانت تقضي بأن لا يتزوج بنات السادة والاشراف بأبناء الطبقات الضعيفة والفقيرة.

وأي وسيلة لضرب هذا التقليد القبيح الظالم وتحقيق المساواة الكاملة أفضل من أن يبدأ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في تحطيم هذا التقليد بأقربائه وذويه ليقدّم بذلك درسا عمليا للامة في هذا المجال ، فقام بتزويج عتيقه « زيد بن حارثة » من شريفة من بني هاشم وهي ابنة عمته زينب بنت جحش حفيدة عبد المطلب ليعلم الناس أنه يجب عليهم الاقلاع عن تلك التقاليد الجاهلية الظالمة بسرعة ، ويعرفوا أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله هو أوّل من نفّذ في حق ذويه ما كان يردّده من قوله : « لا فضل لأحد على أحد إلاّ بالتقوى » و « إنّ المؤمن كفؤ المؤمن ».

ولأجل تحطيم ذلك التقليد الجاهليّ الخاطئ ذهب رسول الله بنفسه إلى منزل زينب ، وخطبها لزيد ، فلم تبد زينب وأخوها رغبة في هذا الأمر في الوهلة الاولى لأنّ الأفكار الجاهلية كانت لا تزال مترسبة في قلوبهم ، ومن ناحية اخرى كان الرد على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أمرا صعبا ولهذا تذرّعا بعبودية « زيد » السابقة وحاولا بذلك التخلّص من مطلب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فلم يلبثا أن نزل قوله تعالى يشجب رد زينب وأخيها لطلب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله :

« وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ

٢٣٢

مِنْ أَمْرِهِمْ ، وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً » (١).

فتلاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليهم فورا فدفع إيمان زينب وأخيها الصادق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهدافه المقدسة إلى أن تبادر زينب إلى الاعلان عن رضاها ورضا أخيها بهذا الزواج ، فتزوّجت ابنة شريف قوم « زينب » بعتيق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله زيد وبذلك طبّق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله واحدا من أعظم مناهج الاسلام الحيّة ، وآدابه الانسانية الرفيعة ، وحطّم عمليا واحدة من أقبح السنن الجاهلية ، وأكثرها تخلفا واجحافا.

زيد يطلق زوجته :

إلا أن هذا الزواج لم يدم طويلا ، فقد آل إلى الطلاق ، والافتراق ويعزى البعض ذلك إلى نفسيّة « زينب » وسلوكها الحاد حيث كانت ربما تذكر لزيد دنوّ حسبه ، وعلوّ حسبها ، وبذلك كانت تمرّ في ذائقته طعم الحياة وتسبب انزعاجه.

ولكن يحتمل أن السبب وراء هذا الطلاق كان هو زيد نفسه ، فان تاريخ حياته يشهد بأنه كان يعاني من روح العزلة ، وعدم الالفة ، فقد اتخذ أزواجا متعددة وطلقهنّ ( إلا الاخيرة منهن حيث استشهد عنها وهي في حبالته ) فيكون هذه الطلقات المتعددة دليلا على عدم القدرة على الانسجام مع زوجاته ، لحالة نفسيّة كان يعاني منها.

ويشهد بذلك أيضا خطاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الحادّ ، له ، فان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا عرف بأن زيدا يبغي طلاق زوجته زينب غضب وقال : « أمسك عليك زوجك واتّق الله » (٢).

ولو كان الذنب كلّه ذنب زوجته زينب لما كان يعدّ تطليقها عملا مخالفا للتقوى.

__________________

(١) الاحزاب : ٣٦.

(٢) الاحزاب : ٣٧.

٢٣٣

ومهما يكن فقد طلق زيد زينبا وافترقا ، ثم تزوج بها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ذلك.

زواج النبيّ بمطلقة متبناه لابطال سنة جاهلية اخرى :

ولكن قبل أن ندرس العلة الاساسية لهذا الزواج لا بد أن نلقي نظرة فاحصة إلى مسألة النسب الذي يعدّ مقوما مهما من مقومات المجتمع الصحيح.

وبعبارة اخرى وأكثر تحديدا لا بد أن ندرس الفرق الجوهري بين الولد الحقيقي ، وبين المتبنى.

وتوضيحا لهذا الأمر نقول :

كان يوجد في المجتمع العربي الجاهلي أبناء لا يعرف لهم آباء أو لهم آباء معروفون ، وكان الرجل يعجبه أحد هؤلاء فيتبناه ويدعوه ابنه ، ويلحقه بنسبه وتصير له حقوق البنوة وملحقاتها.

ولما كان هذا شذوذا عن الاساس الطبيعي للاسرة أبطله الاسلام وذلك لأن الولد الحقيقي ينتمي إلى أبيه بجذور تكوينية ، فالوالد هو ـ في الحقيقة ـ المنشأ المادي لوجود ابنه ، ويرث الولد من والده ووالدته الكثير من صفاتهما الجسمية والروحية ، وبذلك يكون امتدادا طبيعيا لوالديه.

وعلى أساس هذه الوحدة الطبيعية ، ووحدة الدّم يتوارث الآباء والأبناء ، وتترتب أحكام خاصة في مجال الزواج والطلاق ، والتحليل والتحريم.

وبناء على هذا فان مثل هذا الموضوع الذي ينشأ من جذور تكوينية واقعية ، لا يوجد أبدا باللفظ واللسان.

ولهذا قال الله سبحانه في الكتاب العزيز في معرض الردّ على من يتصور المتبنّى ولدا حقيقيا لمجرد ادعاء البنوة :

« وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ

٢٣٤

ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً » (١).

فلا يكون الابن المتبنى والولد الحقيقي في صعيد الموضوع سيان أبدا ، فكيف في صعيد الاحكام كالتوارث ، والزواج والطلاق وما شابه ذلك.

فاذا ورث الولد الحقيقي من ابيه او بالعكس أو حرمت زوجة الولد الحقيقي على أبيه بعد طلاقها من زوجها لا يمكن أن نقول أن الابن المتبني يشبهه ويشترك معه في هذه الاحكام أبدا.

ومن المسلم به أنّ مثل هذا التشريك في الحقوق والشؤون مضافا إلى كونه لا يستند الى أساس معقول وصحيح هو نوع من العبث بعامل النسب ، وهو العنصر المهم في المجتمع السليم الصحيح.

وعلى هذا الاساس إذا كان التبني بدافع العاطفة أمرا مستحسنا ومقبولا ، إلاّ أنّه إذا كان بهدف إشراكه في سلسلة من الأحكام الاجتماعية التي هي من شئون الولد الحقيقي وحقوقه يعد أمرا بعيدا وغريبا جدا عن المحاسبات العلمية ، والاسس الموضوعية.

ولقد كان المجتمع العربي ـ كما اسلفنا ـ يعدّ الابن بالتبني كالولد الحقيقي دون فرق ، وقد كلّف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من جانب الله تعالى بأن يقضي على هذا التقليد الجاهلي والسنة الخاطئة باجراء عملي صارخ وذلك بالتزوج بزينب مطلّقة متبناه « زيد » ، ويمحي من حياة المجتمع العربي هذا التقليد القبيح بالعمل الذي يفوق القول ، ووضع القانون ، في التأثير ، والفاعلية. ولم يكن لهذه الزيجة غير هذا السبب.

لقد كان هذا التقليد أمرا مقدّسا في المجتمع العربي بشكل كبير جدّا بحيث لم يكن أحد ليجرأ على نقضه ومخالفته والتزوج بمطلّقة دعيّه (٢) لقبحه في نظر العرب لذلك دعا الله سبحانه نبيّه الى القيام بهذا العمل الخطير ، إذ قال :

__________________

(١) الأحزاب : ٤ و ٥ ، راجع تفسير الميزان : ج ١٦ ص ٢٩٠ و ٢٩١.

(٢) الدعيّ هو الابن المتبنى وجمعه أدعياء.

٢٣٥

« وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً » (١).

إن هذا الزواج مضافا إلى كونه استهدف منه تحطيم سنّة جاهليّة مقيتة ( سنة عدم الزواج بمطلقة المتبنى ) واعادة العلاقات العائلية الى وضعها الصحيح يعتبر من أقوى مظاهر المساواة في الإسلام ، لأن النبيّ الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله تزوّج بمطلّقة عتيقه وقد كان مثل هذا العمل مخالفا لشؤون المجتمع يومذاك.

ولقد أثار هذا الاقدام الشجاع موجة من الاعتراض والنقد من جانب المنافقين ، وأصحاب العقول الضيّقة ، فقد طرحت هذه المسألة في الاوساط والنوادي وأخذوا يشنعون بها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويقولون : لقد تزوّج محمّد بمطلّقة دعيّه.

فأنزل الله تعالى في الرد على تلكم الافكار والاقوال الباطلة قوله :

« ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً » (٢).

على أن القرآن لم يكتف بهذا البيان بل امتدح نبيّه الذي نفّذ حكم الله بشجاعة كاملة بقوله :

« ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً. الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً » (٣).

وخلاصة المفاد لهاتين الآيتين هي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كغيره من الأنبياء يبلّغ رسالات الله ولا يخاف لوم اللائمين ، وكيد المنافقين ، وإرجاف المرجفين.

__________________

(١) الأحزاب : ٣٧.

(٢) الأحزاب : ٤٠.

(٣) الأحزاب : ٣٨ و ٣٩.

٢٣٦

هذه هي فلسفة تزوّج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بزينب بنت جحش مطلّقة دعيّه ومتبناه وعتيقه زيد بن حارثة في ضوء القرآن الكريم.

المستشرقون وقضية تزوّج النبيّ بزينب :

إن زواج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بزينب مطلّقة زيد بن حارثة ـ كما لاحظت ـ قضية بسيطة خالية عن أي إبهام أو غموض.

ولكنّ جماعة من المستشرقين تذرّعوا بها لإغراء البسطاء ومن شاكلهم غير الملمّين بالتاريخ الاسلامي وأرادوا بذلك إضعاف إيمان الذين لا يعرفون السيرة النبويّة حقّ المعرفة ، فانّنا يجب أن ندرس ما قالوه في هذا المجال ، ونكشف للقارئ الكريم عن مواطن الدسّ والتحريف فيه.

ولا يخفى أن الاستعمار البغيض لم يكتف للسيطرة على بلادنا باستخدام القوة العسكرية ، والسلاح الاقتصادي بل ربما دخلها متسترا بقناع العلم والتحقيق ، فقد سعى ـ ولم يزل ـ لفرض أسوأ هيمنة فكرية شاملة وتبعيّة ثقافيّة مقيتة على شعوبنا وفق تخطيط دقيق ومدروس وهذا هو ما يسمّى بالاستعمار الفكري ، والثقافي.

وفي الحقيقة فان المستشرق هو طليعة ذلك الاستعمار ، بل وجيشه المتقنع بقناع العلم والمعرفة الذي ينفذ إلى أعماق المجتمع ، ويتسلسل إلى اوساط المفكرين والمثقفين وينفث سمومه القاتلة ، ويحذر العقول ، ويمهّد النفوس للاستعمار السافر ، والمكشوف.

ويمكن أن لا يرتضي كثير من الكتّاب وعشّاق القلم والثقافة في الغرب منطقنا هذا فيعمدوا الى رمينا بالتحجر ، والعصبيّة والتخلف ويتصوروا باننا نقول ما نقوله بدافع العصبيّة القومية أو الدينية ، ولكنّ كتابات المستشرقين وإخفاءهم المتعمّد والكثير للحقائق ، وتحريفهم ودسّهم المكشوف في تاريخ الاسلام حينا والخفيّ حينا آخر يشهد بوضوح أنّ دافعهم في كثير ممّا كتبوا ليس حبّ العلم وتحرّي المعرفة ، فان أكثر ما كتبوه ممزوج بطائفة من أفكارهم المعادية للاسلام ، ولرسول

٢٣٧

الله والمسلمين (١).

ويشهد على هذه النزعة ـ بجلاء ووضوح ـ موقفهم من زواج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بزينب بنت جحش وما نسجوه من قضايا خياليّة حول هذه القضية ، التي وقعت بهدف إبطال سنة باطلة ، فأعطوها صبغة قصص الحب وأساطير الغرام على طريقة القصّاصين والروائيين وديدنهم ، وعمدوا إلى حكاية تاريخية مختلقة وضخّموها ونفخوا فيها ونسبوه إلى أطهر إنسان عرفه العالم البشري.

وعلى كل حال فان أساس هذه الاسطورة عبارات نقلها ابن الأثير (٢) ومن قبله الطبري (٣) وبعض المفسّرين ، وهي أنه : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يريد زيدا وعلى الباب ستر من شعر فرفعته الريح فرآها وهي حاسرة فأعجبته!!!

ولكن المستشرقين بدل أن يتحققوا من سند هذه الأقوال ، لم يكتفوا بنص ما ذكره اولئك المؤرّخون والمفسرون ، بل الصقوا به الكثير الكثير حتى تحوّلت تلك الجمل العابرة إلى قصة تشبه أقاصيص ألف ليلة وليلة.

إنّ من المؤكّد أنّ الذين يعرفون سيرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الطاهرة يدركون أنّ هذا التاريخ إنّما هو في أصله وفرعه من نسج الخيال ، وصنع الأوهام ، وانها تخالف ما في صفحات التاريخ النبويّ الوضاءة النقيّة مخالفة كاملة ، الى درجة أن علماء معروفين كالفخر الرازي والآلوسي كذّبوا هذه القصة بشكلها الذي ذكرها ابن الاثير والطبري بصراحة كاملة وقالوا : إن هذه الرواية رواية باطلة زوّرها واختلقها أعداء الاسلام ، وراجت في كتب المؤلفين المسلمين (٤).

فكيف يمكن القول بأنّ هذه القصة وبهذه الكيفية كانت مما يعتقد بصحته

__________________

(١) للتاكّد الأكثر من هذا الأمر ( راجع كتاب المستشرقون ).

(٢) و (٣) الكامل في التاريخ : ج ٢ ص ١٢١ ، جامع البيان في تفسير القرآن : ج ٢٢ ص ١٠.

(٤) مفاتيح الغيب : ج ٢٥ ص ٢١٢ ، روح المعاني : ج ٢٢ ص ٢٣ و ٢٤.

٢٣٨

ابن الأثير ، والطبريّ في حين أن هناك العشرات ممن نقلوا خلافها وبرّأوا ساحة النبيّ العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله من هذه المساوئ.

وعلى أية حال فإننا نشير في الصفحات التالية دلائل اختلاق هذا القسم من التاريخ ، ونعتقد أن القضية في واقعها وحقيقتها واضحة جدا ، واغنى من ان ندافع عنها.

وإليك أدلّتنا :

أولا ـ ان التاريخ المذكور يخالف المصدر الاسلامي الاصيل وهو ( القرآن الكريم ) لأنّ القرآن بشهادة الآية (٣٧) من سورة الأحزاب تصرّح بأنّ زواج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من زينب كان لأجل إبطال سنة جاهلية باطلة وهي السنّة القاضية بأنه لا يحق لأحد أن يتزوج مطلقة دعيّه ، خاصة وأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فعل ذلك بأمر الله سبحانه وليس بدافع من الرغبة الشخصية ، والحب الشخصي ، ولم يكذّب ذلك أحد في صدر الاسلام.

فاذا كان ما قاله القرآن الكريم مخالفا للحقيقة لسارع اليهود والنصارى والمنافقون الى نقده وتفنيده ، ولأحدثوا ضجة بسبب ذلك ، في حين أنّ مثل هذا لم يؤثر من أعداء الاسلام الذين كانوا يتحيّنون الفرص للايقاع برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتلويث سمعته.

ثانيا ـ أن « زينب بنت جحش » هي تلك المرأة التي اقترحت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الزواج بها قبل أن يتزوج بها « زيد » ولكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أصرّ على ان تتزوج غلامه المعتق زيدا رغم رغبتها في الزواج من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فلو كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يحبّ الزواج بها ـ وهو يعرفها طبعا ـ لما وجد مانعا من ذلك عند ما طلبت منه الزواج بها ، فلما ذا لم يتزوج بها؟ ولما رفض طلبها؟.

أجل ، انه لم يتزوج بها ولم يجب مطلبها بل ألحّ عليها أن تتزوج بشخص آخر رغم أنه أحسّ برغبة شديدة لدى زينب في الزواج منه لا من غيره.

٢٣٩

وبعد تكذيب هذا القسم المحرّف من التاريخ الاسلامي لا يبقى مجال لتعليقات وأوهام جنود الاستعمار وطلائعه المغرضين.

إننا نبرّئ ساحة رسول الاسلام العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله من أمثال هذه الترّهات والنسب الرخيصة ونرى أن ساحته المقدسة أجلّ من أن ننقل كلمات هذا الفريق من الكتّاب المغرضين الحاقدين في حقّ نبيّ بقي مكتفيا بزوجة تكبره بثمانية عشر عاما ، الى أن بلغ سن الخمسين.

من هنا نعرض عن ذكر أقوالهم.

ولا بأس بأن نذكر هنا ما كتبه جماعة من المحققين المصريين الذين أشرفوا على طباعة « التاريخ الكامل » لابن الأثير تعليقا على ما أدرجه في هذا المجال :

هذه رواية باطلة زوّرها الملاحدة ، واختلقها أذهان أعداء الدين الاسلامي ليطعنوا في نبي الاسلام عليه وعلى آله الصلاة والسلام ، وهل يعقل : انه لا يعرف ابنة عمته التي كان ولي زواجها إلى مولاه زيد؟ وانما دسائس الزنادقة ، ومبشّري المسيحية قد تغلغلت في نفوس العلماء من حيث لا يعلمون ، فافتكروا في رواية الخبر ، فاتخذوه أساسا ، وأعرضوا عن كتاب الله وعن قول الله تعالى من أنّ الله أعلمه بأنها صارت زوجه قبل أن استشاره زيد في طلاقها.

والعجيب أن ابن الأثير مع جلالة قدره ينقل هذه الرواية المزيّفة التي هي طعن صريح في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد قلّد في روايته هذه ابن جرير قبله ، وكلاهما وقع في هوّة الضلالة من حيث لا يشعر ، ولو عرضت كل رواية على كتاب الله تعالى لما أقدم أحد على مثل هذا الإفك العظيم!!

إن زينب هي وهبت نفسها لرسول الله فزوّجها من مولاه ، ثم تزوجها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « كي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم اذا قضوا منهن وطرا » ، فاذن كان الزواج لأجل التشريع ، وكان عمليّا ، لشدة نفرة أهل الجاهلية من هذا الزواج من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لانهم يعدّون المتبنى ولدا صريحا أو في مرتبته.

٢٤٠