سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

فأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن ينادي المسلمون بشعار مضاد لشعار أبي سفيان ، مشابه له في الوزن والسجع فقال : قولوا :

« الله مولانا ولا مولى لكم ».

أي اذا كنتم تعتمدون على صنم مصنوع من الحجر والخشب ، فاننا نعتمد على الله الخالق ، القادر والعلي الاعلى.

فنادى منادي الشرك ثالثا : يوم بيوم بدر. فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بان يجيبه المسلمون.

« لا سواء قتلانا في الجنة ، وقتلاكم في النار ».

فكان لشعارات المسلمين القوية الرادعة التي كان يرددها المئات ، أثرها العجيب في نفس رأس الشرك أبي سفيان الذي بدأ هذه الحملة النفسية والحرب الباردة بغية تحطيم ايمان المسلمين ، ورأى كيف ارتد كيده إلى نحره ولهذا انزعج بشدة وقال : ألا إن موعدكم بدر للعام القابل.

ثم انصرف إلى أصحابه ، وغادروا جميعا أرض المعركة راجعين إلى مكة (١).

وكان على المسلمين الآن ـ وفيهم مئات الجرحى والمصابين وسبعون قتيلا ـ أن يصلّوا الظهر والعصر فصلى بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جلوسا ، وصلّوا معه جلوسا ، لما أصابهم من الضعف ، ثم أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بدفن الشهداء ، ومواراتهم الثرى عند جبل احد.

نهاية المعركة :

وضعت الحرب أوزارها ، وتباعد الجانبان ، وقد تحمّل المسلمون من الخسائر في الارواح ثلاثة أضعاف ما تحمّله المشركون. وكان عليهم أن يبادروا إلى دفن الشهداء على النحو الذي أمرهم به الدين.

ولكنهم فوجئوا بأمر فضيع ، فقد اغتنمت نسوة من قريش وفي طليعتهن هند

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٩٤.

١٨١

زوجة ابي سفيان فرصة انشغال المقاتلين المسلمين وارتكبن بحق الشهداء الابرار ، جناية فظيعة لم يعرف لها تاريخ البشرية مثيلا ، فهن لم يكتفين بالانتصار الظاهري بل عمدن إلى التمثيل بشهداء المسلمين ، تمثيلا مروعا فخمشن وجوههم ، وقطّعن الأنوف ، وجدعن الاذان ، وسملن العيون ، وقطعن أصابع الأيدي والأرجل ، والمذاكير ، وصنعن منها القلائد والاساور ، نكاية بالمسلمين ، واطفاء للحقد الدفين ، وبذلك الحقن بهنّ وبأوليائهنّ عارا لا ينسى.

فان جميع الامم والشعوب ـ متفقة على أن الميت الذي لا يستطيع دفاعا عن نفسه ، ولا يتوقع منه ضرر يجب احترامه ، ويحرم اهانته وان كان عدوا. ولكن هندا زوجة أبي سفيان ومن كان برفقتها من نساء المشركين مثّلن بأجساد القتلى شر تمثيل ، وصنعن مما قطّعن منها الاساور والقلائد ، وبقرت « هند » بالذات صدر حمزة بطل الاسلام الفدائيّ ، وأخرجت كبده ، ولاكته بين أسنانها ولكنها لفظته ولم تستطع أكله.

وقد بلغ هذا العمل من القبح ، والسوء أن تبرّأ منه أبو سفيان وقال : « في قتلاكم مثلة لم آمر بها » (١).

وقد عرفت هند بسبب فعلتها الشنيعة هذه بآكلة الاكباد ، ودعي أبناؤها في ما بعد ببني آكلة الاكباد.

ولما أبصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حمزة بن عبد المطلب ، ببطن الوادي وقد بقر بطنه عن كبده ، ومثّل به فجدع أنفه واذناه ، حزن حزنا شديدا وغاضه تمثيلهم به فقال :

« ما وقفت موقفا قطّ أغيظ إليّ من هذا! ».

ثم إنّ المؤرّخين يتفقون على أنّ المسلمين تعاهدوا في ذلك الموقف ( وربما نسب هذا إلى النبيّ نفسه ) لئن أظفرهم الله بالمشركين يوما أن يمثّلوا بهم مثلة لم يمثّلها أحد من العرب أو يمثلوا بدل الواحد ثلاثين.

__________________

(١) السيرة الحلبية : ج ٢ ص ٢٤٤.

١٨٢

ولم يمض زمان حتى نزل جبرئيل بقوله تعالى :

« وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ » (١).

ولقد كشف الاسلام مرة اخرى ومن خلال هذه الآية ـ التي تتضمن أصلا اسلاميا في مجال القضاء مسلما به ـ عن وجهه الانسانيّ العاطفيّ ، وأظهر للجميع بأن الدين الاسلامي ليس شريعة انتقام ، وثأر ، فهو يعلّم أتباعه بأن لا يغفلوا في أشدّ اللحظات والحالات النفسية هياجا وغضبا عن قانون العدالة ، والحق ، وبهذا يكون الاسلام قد راعى مبادئ العدالة والانصاف على الدوام ، وصانها من الانهيار ، والسقوط.

ولقد أصرّت صفية أخت حمزة أنّ ترى جثمان أخيها ، إلاّ أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر ابنها الزبير أن يحبسها ويصرفها عن ذلك لكي لا ترى ما بأخيها فلا تحتمل الصدمة.

فقالت صفية : قد بلغني أن قد مثّل بأخي وذلك في الله ، فما أرضانا بما كان من ذلك! لاحتسبنّ ولأصبرنّ إن شاء الله.

فأخبر الزبير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بمقالتها فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : خلّ سبيلها ، فأتته ، فنظرت إليه فصلّت عليه ، واسترجعت ، واستغفرت له ، ثم أمر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فدفن (٢).

حقا أن قوّة الإيمان أعظم القوى ، فهي تحبس الانسان وتحفظه في أصعب الحالات ، وتفيض على صاحبه حالة من السكينة والوقار.

ثم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صلى على شهداء أحد الأبرار ، وأمر بدفنهم واحدا واحدا أو اثنين اثنين ، وأمر بأن يدفن « عمرو بن الجموح » و « عبد الله بن عمرو » في قبر واحد.

__________________

(١) النحل : ١٢٦.

(٢) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٩٧.

١٨٣

قائلا :

« ادفنوا هذين المتحابّين في قبر واحد » (١).

آخر ما نطق به سعد بن الربيع :

كان سعد بن الربيع من صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الأوفياء ، وكان رجلا مؤمنا مخلصا ، عظيم الوفاء والحبّ لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد اصيب في « احد » اثنتا عشرة اصابة قاضية فسقط على الأرض.

فمرّ عليه رجل يدعى مالك بن الدخشم فقال له : أما علمت أن محمدا قد قتل؟ فقال سعد : اشهد أن محمّدا قد بلّغ رسالة ربه ، فقاتل أنت عن دينك فان الله حيّ لا يموت (٢).

ثم إنه قد مرّ عليه رجل من الانصار وهو في هذه الحال وبعد أن وضعت الحرب أوزارها فقال لسعد : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمرني أن أنظر أفي الاحياء أنت أم في الأموات؟ فقال سعد : أنا في الأموات فابلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عنّي السلام ، وقل له : إن سعد بن الربيع يقول لك جزاك الله عنا خيرا ما جزى نبيا عن امته وأبلغ قومك عنّي السلام ، وقل لهم : إن سعد بن الربيع يقول لكم : إنه لاعذر لكم عند الله إن خلص الى نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وآله ومنكم عين تطرف.

ثم لم يبرح ذلك الانصاري حتى قضى سعد بن الربيع نحبه ، فجاء الأنصاري الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخبره بما قال. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

« رحم الله سعدا نصرنا حيّا واوصى بنا ميتا » (٣).

إنّ حبّ الانسان لنفسه ، أو ما يصطلح عليه العلماء بحبّ الذات من الغرائز

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٩٨ ، بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ١٣١.

(٢) و (٣) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٩٥ ، بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ١٢.

١٨٤

القوية المتأصلة في كيان الانسان بحيث لا يمكن لأي أحد أن يغفل عنها مهما كانت الظروف وهي بالتالي من القوة والهيمنة على وجود الانسان بحيث يضحّى في سبيلها بكل شيء.

ولكن قوة الايمان وحبّ الانسان للعقيدة ، وتعشقه للمعنويات أقوى وأشدّ تأثيرا من ذلك ، فهذا الجنديّ الشجاع لم يكن بين ـ حسب ما تفيده النصوص التاريخية ـ وبين الموت في ذلك الوقت سوى لحظات ، ومع ذلك نجده ينسى نفسه ، ويفكر في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي كان يعتبره أقوى سبب لبقاء الدين ، ودوام الشريعة ، وهذا هو الهدف المقدّس الذي قاتل من أجله سعد البطل ، ولهذا لا يحمل ذلك الرجل الأنصاري سوى رسالة واحدة إلى أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يحثهم فيها على السهر على حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والعمل معه على تحقيق أهدافه ، في ارساء دعائم التوحيد.

النبيّ يعود الى المدينة :

كانت الشمس تميل نحو المغرب وكانت تستعد للملمة أشعتها الذهبية من صفحة الكون ، وكان السكون والصمت يخيم على كل مكان من الأرض.

في مثل هذه اللحظات كان على المسلمين المقاتلين أن يعودوا بجرحاهم الى منازلهم في المدينة ليستعيدوا قواهم ، ويجدّدوا نشاطهم ، ويضمدوا جرحاهم.

ولهذا صدرت أوامر من جانب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالتوجه نحو المدينة.

فلما كانوا بأصل الحرة قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : اصطفوا فنثني على الله ، فاصطف الرجال صفين خلفهم النساء ثم دعا فقال :

اللهم لك الحمد كله ، اللهم لا قابض لما بسطت ، ولا باسط لما قبضت ، ولا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا هادي لمن اضللت ولا مضلّ لمن هديت ، ولا مقرّب باعدت ولا مباعد لما قرّبت.

اللهم انّي أسألك من بركتك ، ورحمتك وفضلك وعافيتك.

اللهم انّي أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول.

١٨٥

اللهم انّي أسألك الأمن يوم الخوف والغنى يوم الفاقة عائذا بك.

اللهم من شرّ ما أنطيتنا وشرّ ما منعت منّا.

اللهم توفّنا مسلمين.

اللهم حبّب إلينا الايمان ، وزيّنه في قلوبنا ، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان ، واجعلنا من الراشدين.

اللهم عذّب كفرة أهل الكتاب الذين يكذبون رسولك ويصدّون عن سبيلك.

اللهم أنزل عليهم رجسك وعذابك إله الحق. آمين (١).

وقد كان هذا العمل خطوة مهمة جدا من الناحية النفسية فقد أمدّ هذا الدعاء نفوس المسلمين المصابين بطاقة روحية ضخمة مما كان من شأنه تخفيف وطأة الهزيمة وتقوية عزائم المسلمين ، كما علّمهم أن يلجئوا إلى الله تعالى في كلّ حال.

فدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومعه أصحابه من الانصار والمهاجرين الذين شاركوا في تلك المعركة المدينة.

وكانت أكثر بيوت المدينة قد تحوّلت الى مناجات ومآتم ، يرتفع منها أصوات بكاء الامهات والازواج والبنات اللائي أصبن في رجالهنّ وأوليائهنّ ، وآبائهنّ.

ولما مرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على منازل بني عبد الاشهل وسمع ندبة النساء ، وبكاءهنّ حزن وانحدرت دموعه على خديه وقال :

« لكنّ حمزة لا بواكي له » (٢).

فلما عرف سعد بن معاذ واسيد بن حضير بذلك أمرا جماعة من نسائهم بأن يذهبن فيبكين على عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فلما سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بكاءهنّ على حمزة خرج عليهن وهنّ على باب مسجده يبكين عليه فقال :

__________________

(١) امتاع الاسماع : ج ١ ص ١٦٢ و ١٦٣.

(٢) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٩٩.

١٨٦

« ارجعن يرحمكنّ الله فقد آسيتنّ بأنفسكنّ ».

وقيل لما سمع صلى‌الله‌عليه‌وآله بكاءهنّ قال :

« رحم الله الأنصار ، فانّ المواساة منهم ما علمت لقديمة .. مروهنّ فلينصرفن » (١).

ذكريات مثيرة عن امرأة مؤمنة :

إن للنسوة المؤمنات صفحات مشرقة ، وعجيبة في تاريخ الاسلام ، لأننا قلما نجد لها نظيرا في عالم المرأة اليوم.

ومن تلك النسوة المؤمنات ذوات المواقف الرائعة والعجيبة في صدر الاسلام المرأة الدينارية ، التي اصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله باحد.

فانّها لما نعوا لها مصرع رجالها قالت : فما فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

قالوا : خيرا يا أمّ فلان ، هو بحمد الله كما تحبّين.

قالت : أرونيه حتى أنظر إليه؟

فاشير لها إليه حتى إذا رأته قالت : كل مصيبة بعدك جلل ( اي صغيرة ) (٢).

ما أعظم تلك الاستقامة ، وما أعظم ذلك الايمان الذي يجعل من الانسان طودا راسخا ثابتا في وجه العواصف والاعاصير.

نموذج آخر من النسوة المجاهدات :

لقد أشرنا في الصفحات الماضية بصورة إجمالية إلى قضية « عمرو بن الجموح » الذي آلى على نفسه أن يشارك في الجهاد مع ما كان به من العرج

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٩٩ ، امتاع الاسماع : ج ١ ص ١٦٣ و ١٦٤.

(٢) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٩٩.

١٨٧

الموجب لسقوط الجهاد كما عرفت.

فقد شارك هذا المسلم الصادق والمؤمن المجاهد في معركة احد ، ومضى يقاتل في الصف الاول من المجاهدين ، وشارك ابنه « خلاّد بن عمرو بن الجموح » وأخو زوجته « عبد الله بن عمرو » (١) في هذا الجهاد المقدس ، واستشهدوا جميعا في تلك المعركة أيضا.

فخرجت « هند » زوجته وهي بنت عمرو بن حزام ، عمة جابر بن عبد الله الأنصاري الى « احد » وحملت أجسادهم على بعير وتوجهت بها نحو المدينة ، بمنتهى الجلادة ، ورباطة الجأشى.

وعند ما فشى في المدينة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قتل باحد خرجت النسوة ، يتأكّدن من هذا النبأ ، فالتقت هند ببعض نساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وهي عائدة من احد ـ فسألنهنّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت : خيرا ، أمّا رسول الله فصالح ، وكلّ مصيبة بعده جلل ، واتخذ الله من المؤمنين شهداء ، وقرأت قول الله تعالى : « وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً ... » !!

فسألوا : من هؤلاء؟

قالت : أخي ، وابني خلاّد ، وزوجي عمرو بن الجموح!!

فقلن لها : فأين تذهبين بهم؟

قالت : إلى المدينة اقبرهم بها .. ثم زجرت بعيرها تحثه على السير قائلة : حل .. حل في نبرة صامدة.

ومرة اخرى يظهر في هذه الصفحة الناصعة من تاريخ الاسلام نموذج حيّ آخر من مشاهد الثبات والصمود ، والاستقامة ، وتجاوز المصائب ، وتحمّل الآلام والشدائد في سبيل الهدف المقدّس ، وكلّ ذلك من فعل الايمان ، ونتائجه.

إن المذاهب المادية لا ولن تستطيع تربية أمثال هذه النسوة والرجال المتفانين في سبيل العقيدة ، بمثل هذا التفاني العظيم.

__________________

(١) وهو عبد الله بن عمرو بن حرام بن ثعلبة بن حرام الأنصاري.

١٨٨

على أن هؤلاء لم يقاتلوا من أجل المآرب المادية ، وانما قاتلوا من أجل الهدف ، وهو إعلاء كلمة الدين واقامة صرح التوحيد ، ومحو الوثنية والشرك.

هذا وفي بقية هذه القصة ما هو أعجب من اولها ، وهو أمر ، لا يمكن أن يدرك بالمقاييس المادية ، والأسس التي ينطلق منها أصحاب الاتجاه المادي في تحليل القضايا التاريخية. وانما يهضمها ـ فقط ـ من يؤمن بعالم آخر وراء العالم الماديّ الصرف ، ويصدّق بتأثيره في هذا العالم ، وبالتالي لا يقبل بها إلاّ من يصدّق بقضية الإعجاز والمعجزة ، ويذعن لها ويعترف بصحتها من غير تلكّؤ وابطاء.

وإليك هذه البقية :

لمّا زجرت هند بعيرها لتدخل به المدينة برك البعير في مكانه.

فقالت النسوة التي كنّ هناك : لعلّه برك لما عليه.

فقالت هند : ما ذاك به ، لربما حمل ما يحمل البعيران ، ولكنّي أراه لغير ذلك. فزجرته ثانية ، فقام ، فلما وجّهت به إلى المدينة برك ، فوجهته راجعة الى احد فاسرع.

فرجعت إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبرته بذلك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : فانّ الجمل مأمور. هل قال ( يعني : عمرو بن الجموح ) شيئا؟

قالت : إنّ عمرا لمّا وجّه إلى احد استقبل القبلة ، وقال : اللهم لا تردّني إلى أهلي خزيا ، وارزقني الشهادة!!

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « فلذلك الجمل لا يمضي. إنّ منكم يا معشر الأنصار من لو أقسم على الله لابرّه ، منهم عمرو بن الجموح ، يا هند ما زالت الملائكة مظلة على أخيك من لدن قتل إلى الساعة ينظرون أين يدفن » ، ثم مكث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى قبرهم ، ثم قال : « يا هند قد ترافقوا في الجنة جميعا ، عمرو بن الجموح ، وابنك خلاّد ، وأخوك عبد الله ».

قالت هند : يا رسول الله فادع لي عسى أن يجعلني معهم (١).

__________________

(١) امتاع الاسماع : ج ١ ص ١٤٦ ـ ١٤٨.

١٨٩

ثمّ إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دخل بيته فلما أبصرت به بنته العزيزة « فاطمة » ورأت ما أصابه من الجراح ذرفت عيناها بالدموع ، فأعطى رسول الله سيفه لابنته ( الزهراء ) حتى تغسله.

وقال الاربلي المؤرخ الشيعي المعروف الذي كان يعيش في القرن السابع الهجري : كان علي يجيء بالماء في ترسه ، وفاطمة تغسل الدم وأخذ حصيرا فاحرقه وحشى به جرحه (١).

وفي الامتاع لما رأت فاطمة الدم لا يرقأ ـ وهي تغسله وعلي يصب الماء عليها بالمجنّ ـ أخذت قطعة حصير فأحرقته حتى صار رمادا ثم الصقته بالجرح فاستمسك الدم ويقال : داوته بصوفة محترقة (٢).

لا بدّ من ملاحقة العدو :

لقد كانت الليلة التي استقرّ فيها المسلمون في منازلهم بالمدينة بعد يوم احد ليلة جدّا خطيرة وحساسة.

فالمنافقون واليهود وأتباع عبد الله بن أبي قد سرّوا لما أصاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه سرورا كبيرا ، وأظهروا القول السيئ ، وقالوا : ما اصيب نبي هكذا قط.

وكان أنين الجرحى والمكلومين وبكاء الموتورين في رجالهم ونياحهم يسمع من أكثر بيوت المدينة.

والأخطر من كلّ هذا هو التخوّف من أن يقوم المنافقون واليهود بعملية خيانية ضد الاسلام والمسلمين في تلك الظروف.

أو أن يعرّضوا وضع العاصمة الاسلامية الثابت ، والوحدة السياسية القائمة في المدينة للخطر بايجاد الاختلاف والتشتت على الاقل.

إن ضرر الاختلافات الداخليّة أشد بكثير من حملات العدوّ الخارجي ، وان

__________________

(١) كشف الغمة : ج ١ ص ١٨٩.

(٢) امتاع الاسماع : ج ١ ص ١٣٧ و ١٣٨.

١٩٠

انهيار الوحدة والانسجام في الجبهة الداخلية أخطر بكثير من تعرّض البلاد لهجوم من الخارج.

من هنا كان يتعيّن على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يرهب العدو الداخلي ، ويفهمه بأنّ قوى التوحيد لم تفقد انسجامها وتماسكها وانّ أيّة خطوة أو نشاط معاد يهدّد أساس الاسلام للخطر سيسحق بشدة في اللحظة الأولى.

ولهذا أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يخرج في نفس الليلة لملاحقة العدوّ ( أي مشركي مكة ).

فكلّف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله رجلا بأن ينادي في كل مناطق المدينة :

« ألا عصابة تشدّد لأمر الله تطلب عدوّها ، فانّها أنكأ للعدوّ وأبعد للسمع.

ألا لا يخرجن معنا الاّ من حضر يومنا بالامس ».

أو قال : « يا معشر المهاجرين والأنصار من كانت به جراحة فليخرج ، ومن لم يكن به جراحة فليقم ».

وانما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كما أسلفنا ليرهب العدوّ وليبلغهم أنه خارج في طلبهم فيظنوا به قوّة ، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوّهم (١).

على أن لهذا التقييد ، ولهذا النهي عن خروج غير الجرحى ، أو من لم يشترك في احد ، عللا أو حكما لا تخفى على العارفين بالسياسة ، والرموز العسكرية.

ويمكن الاشارة الى بعضها :

أولا : انّ هذا التحديد ، وبالتالي الاقتصار على من شارك في معركة احد هو نوع من التعريض بمن امتنع من المشاركة في تلك المعركة ، وفي الحقيقة هو نوع من تجريدهم من صلاحية المشاركة في الدفاع المقدّس.

ثانيا : إنّ هذا التحديد هو نوع من عقاب المشاركين في معركة احد ، لأنّهم بتجاهلهم لتعاليم القيادة ، وانصرافهم بسرعة الى المطامع المادية ، والغفلة عن ملاحقة العدوّ في حينه تسببوا في توجيه تلكم الضربة النكراء الى الاسلام ،

__________________

(١) مجمع البيان للطبرسي : ج ٢ ص ٥٣٥ ـ ٥٤١.

١٩١

ولذلك يجب عليهم انفسهم ملافاة تلك الخسارة ، وترميم ذلك العطب ، لكيلا يعودوا إلى مثل ذلك ، ولا يتجاهلوا أوامر القيادة ، ونحن نعلم أن الانضباطية والتقيد الكامل بالاوامر هو أهم عنصر في نجاح الامور العسكرية (١).

بلغ نداء مؤذن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مسامع شاب من بني الاشهل كان قد شهد احدا مع رسول الله ، فخرج هو وأخوه وهما جريحان مع رسول الله لطلب العدوّ ، وقد قال أحدهما للآخر : أتفوتنا غزوة مع رسول الله.

وقد خرجا دون أن تكون لهما دابة يركبانها وكلاهما مصابان بجروح ثقيلة ، فكان الأيسر منهما يحمل الآخر مسافة ، فاذا تعب مشيا مسافة ، ثم عاد الى حمله حتى انتهيا الى ما انتهى إليه المسلمون (٢).

حمراء الأسد (٣) :

خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأصحابه الى حمراء الاسد ( وهي تبعد عن المدينة بثمانية أميال ) وقد استخلف على المدينة « ابن أمّ مكتوم ».

وهناك مرّ به « معبد بن أبي معبد الخزاعي » رئيس بني خزاعة ، وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم يومذاك ذات علاقات طيبة جدا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمين وكانوا لا يخفون عن النبيّ شيئا.

فتقدم معبد رئيسهم وعزّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بما أصابه ، وهو يومئذ مشرك قائلا : يا محمّد أما والله لقد عزّ علينا ما أصابك ، ولوددنا أنّ الله عافاك فيهم.

ثم خرج معبد حتى لقي أبا سفيان ومن معه بمنطقة تدعى بالروحاء وقد

__________________

(١) كلا هذين الوجهين يستقيمان إذا قلنا بان النبيّ خرج بكل من شارك في احد لا أنه اقتصر على الجرحى ، كما تصرح به بعض النصوص التاريخية.

(٢) امتاع الاسماع : ج ١ ص ١٦٨ ، السيرة النبوية : ج ٢ ص ١٠١.

(٣) لقد عدّ البعض خروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الى حمراء الاسد لملاحقة العدوّ غزوة مستقلة ، وذكرها البعض الآخر في ذيل معركة احد.

١٩٢

عزموا على الرجوع الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه للكرة عليهم ، واستئصالهم ، والقضاء عليهم بالمرة.

فلما رأى أبو سفيان معبدا ( وكان معبد قد استهدف من خروجه الى أبي سفيان وجماعة المشركين القيام بخدمة لصالح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه ) قال : ما وراءك يا معبد ، وما ذا عندك من الاخبار؟

فقال معبد : ـ وهو يريد إرعاب قريش وصرفهم عن الرجوع الى المدينة ـ محمّد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم ار مثله قط ، يتحرّقون عليكم تحرقا قد اجتمع معه من كان تخلّف عنه في يومكم ، وندموا على ما صنعوا ، فيهم من الحنق وشدة الغيظ عليكم شيء لم ار مثله قط!!

فقال أبو سفيان : ـ وقد أرعب بشدة من هذا النبأ ـ ويحك ما ذا تقول؟

قال معبد : والله ما أرى ان ترتحل حتى أرى نواصيّ الخيل.

قال أبو سفيان : فو الله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيّتهم!

قال معبد : فاني أنهاك عن ذلك.

وقد تركت كلمات معبد ، ووصفه لقوة المسلمين وعزمهم الشديد على توجيه ضربة الى الكفار أثرها في نفس أبي سفيان الذي تملّكه خوف شديد ، دعاه إلى الانصراف عن الرجوع الى المدينة ثانية ، والعزم على القفول الى مكة (١).

ومضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأصحابه حتى عسكروا ليلا بحمراء الاسد ، فامر بأن يوقد المسلمون النيران فأوقدوا خمسمائة نار حتى ترى من المكان البعيد ، وذهب صوت معسكرهم ونيرانهم في كل وجه ، وتصور العدو أن النبيّ جاءهم في جيش عظيم ، فتشاوروا حول الرجوع الى المدينة فنهاهم صفوان عن ذلك ، فانصرفوا (٢).

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ١٠٢ ، امتاع الاسماع : ج ١ ص ١٦٩ و ١٧٠.

(٢) الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ٤٩.

١٩٣

لا يخدع مؤمن مرّتين :

هذا هو معنى قول النبيّ الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله :

« المؤمن لا يلدغ من جحر مرّتين ».

ولقد قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عند ما أسّر المسلمون أبو عزّة الجمحي في طريق عودتهم من حمراء الاسد على نحو الصدفة ، وأراد النبيّ ضرب عنقه فاستقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وطلب منه العفو وكان قد أسر ببدر قبل ذلك ، ثم منّ عليه النبيّ وأطلق سراحه مشترطا عليه أن يكفّ عن المؤامرة ضد النبيّ والمشاركة في قتاله ، ولكنه عاد الى مكة ، وشارك في قتال النبيّ مرة اخرى في احد.

فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لما طلب العفو ثانية :

« والله لا تمسح عارضيك بمكة بعدها وتقول : خدعت محمّدا مرتين ، إنّ المؤمن لا يلدغ من جحر مرّتين ».

ثم أمر بضرب عنقه ، وضرب عنقه (١).

وأخيرا انتهت معركة احد وقد قدم المسلمون فيها سبعين ، أو اربعة وسبعين ، أو واحدا وثمانين شهيدا على روايات مختلفة ، بينما لم يتجاوز عدد قتلى قريش اثنين وعشرين.

وقد نشأت هذه النكسة المرّة بسبب تجاهل الرماة لتعليمات الرسول القائد على النحو الذي قرأت.

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ١٠٤ ، نلفت نظر القارئ الكريم الى أننا قد ذكرنا في الهوامش مصادر أهم الحوادث في معركة احد وفي إمكان القارئ الكريم لو أراد التوسع ان يراجع المصادر التالية التي اعتمد عليها المؤلف : وهي : الطبقات الكبرى لابن سعد : ج ٢ ص ٣٦ ـ ٤٩ ، المغازي : ج ١ ص ١٩٩ ـ ٣٤٠ ، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج ١٤ ص ١٤ ـ ٢١٨ وج ٥ ص ٦٠ ، وبحار الأنوار : ج ٢٠ ص ١٤ ـ ١٤٦ ، وامتاع الاسماع : ج ١ ص ١١٣ ـ ١٦٦ ، السيرة النبوية : ج ٢ ص ٦٠ ـ ١٦٨.

١٩٤

وقد وقعت معركة احد يوم السبت السابع من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة النبوية الشريفة ، هذا مضافا الى غزوة حمراء الاسد التي استمرت إلى يوم الجمعة من ذلك الاسبوع نفسه ، فتكون قضايا ووقائع هذه الغزوة في الرابع عشر من شهر شوال من نفس تلك السنة.

ميلاد الامام الحسن السبط :

هذا وقد ولد في هذه السنة ( اي السنة الثالثة من الهجرة ) سبط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الاكبر الإمام الحسن بن علي عليه‌السلام في منتصف شهر رمضان من تلك السنة ، واجرى له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مراسيم ولادة خاصة ذكرها أصحاب الحديث وتجد تفصيلها في سيرة الائمة من أهل البيت النبوي الطاهرين.

١٩٥

حوادث السنة الرابعة من الهجرة

٣٣

فاجعة فريق المبلّغين (١)

لقد ظهرت الآثار السياسية لنكسة المسلمين في معركة « احد » بصورة واضحة بعد الحرب.

فمع أن المسلمين أظهروا مقاومة رائعة أمام العدوّ المنتصر ومنعوا من رجعته الى المدينة وتحقيق أهدافه الخطيرة في استئصال المسلمين إلا أن التحريكات الداخليّة والخارجية ضدّ الاسلام بهدف القضاء على هذا الدين ، ورجاله قد تصاعد مدّها في أعقاب حادثة « احد ».

وقد تجرّأ منافقو المدينة ، ويهودها والمشركون المتواجدون في شتى النقاط البعيدة خارج المدينة على أثر ذلك ، وبدءوا يحيكون المؤامرات ضدّ الاسلام والمسلمين ويجمعون الاسلحة والرجال لشن الحروب والغارات على المدينة.

وقد استطاع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبمهارة كبيرة إطفاء كلّ تلك التحريكات ، كما واستطاع قمع تحرّكات القبائل القاطنة خارج المدينة التي كانت تنوي الهجوم على المدينة وذلك بارسال السرايا والمجموعات القوية من المجاهدين.

وفي هذا الاثناء بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نبأ مفاده أن قبيلة بني أسد تنوي الهجوم على المدينة وتسخيرها ، وقتل المسلمين ، ونهب أموالهم ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من فوره جماعة من المقاتلين يبلغ عددهم (١٥٠)

__________________

(١) وقعت حادثة قتل المبلّغين في الشهر السادس.

١٩٦

رجلا بقيادة « أبي سلمة » الى منطقة تجمع المتآمرين.

ثم إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أوصاهم بأن يخفوا مقصدهم الأصلي ، ويسلكوا طريقا آخر غير الطريق المتعارف ، ويقيموا نهارا ويسيروا ليلا ، ليعمّوا على القوم.

وقد فعل « أبو سلمة » وجماعته ما أوصاهم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فكانوا يسيرون الليل ، ويكتمون النهار ، حتى وردوا المنطقة فاحاطوا ببني أسد في عماية الصبح ، وقضوا على المؤامرة في مهدها ، وعادوا غانمين موفورين إلى المدينة ، وقد وقعت هذه الحادثة في شهر المحرّم على رأس خمسة وثلاثين شهرا من الهجرة (١).

خطة ما كرة للفتك بالمبلّغين :

كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقوم بافشال بارسال السرايا والمجموعات العسكرية جميع مؤامرات المتآمرين ضد الاسلام ، كما أنه كان يقوم الى جانب ذلك ببعث المجموعات التبليغية الى القبائل ، والجماعات وبذلك يجلب قلوب المحايدين منهم نحو العقائد الاسلامية.

وكان المبلّغون والدعاة الذين كانوا من قراء القرآن الكريم ، ومن الملمين بالاحكام الاسلامية والتعاليم النبوية يبدون استعدادا عجيبا للقيام بهذه المهمّة الصعبة ولو كلّفت حياتهم فكانوا ينقلون تعاليم الاسلام إلى الناس في المناطق النائية ، والاماكن البعيدة بأوضح بيان وأوضح اسلوب.

ولقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ببعثه للمجموعات العسكرية من جانب ، وارساله للفرق التبليغية من جانب آخر يقوم ـ في الحقيقة ـ بوظيفتين هامتين من وظائف المنصب النبوي.

__________________

(١) المغازي : ج ١ ص ٣٤٠ ، وامتاع الاسماع : ج ١ ص ١٧٠ ، ولا بدّ أنك أيها القارئ الكريم تتذكر أن السنة الثالثة للهجرة تنتهي عند انتهاء الشهر الرابع والثلاثين ، وتكون حوادث الشهر الخامس والثلاثين متعلقة بالسنة الرابعة من الهجرة.

١٩٧

فهو ببعثه للسرايا والمجموعات العسكرية كان يقصد في الحقيقة القضاء على محاولات التمرّد ، والتآمر التي كانت في مرحلة التحقق والتكوّن لكي يتسنى للمجموعات التبليغية في ظل الأمن والحرية الدعوة إلى الاسلام ، والقيام بوظيفتها الاساسية ألا وهي ارساء دعائم الحكومة الاسلامية في القلوب ، وتنوير الافكار ، وايقاظ العقول.

ولكن بعض القبائل المتوحّشة ، والمنحطّة أخلاقيا وفكريّا كانت تتحايل على المجموعات التبليغية التي كانت تمثل القوى المعنوية للاسلام ، والتي لم يكن لها هدف سوى نشر التوحيد ، واقتلاع جذور الكفر والوثنية ، وكانوا يقتلونهم بصورة فضيعة ومفجعة.

وفيما يلي نلفت نظر القارئ الكريم إلى قصة مجموعة من الدعاة والمبلّغين الذين لقوا هذا المصير وكان عددهم يبلغ ستة أشخاص حسب رواية ابن هشام (١) ، أو عشرة أشخاص حسب رواية ابن سعد (٢).

الغدر بالدعاة الى الإسلام وقتلهم :

لقد مشت جماعة من قبيلتي « عضل » و « القارة » إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقالوا ـ وهم يضمرون المكر ـ يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إن فينا إسلاما فاشيا فابعث معنا نفرا من أصحابنا يقرءوننا القرآن ، ويفقهوننا في الاسلام.

فرأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن من واجبه الاستجابة لمطلب تلك الجماعة التي كانت تمثل قبائل كبرى ، وكما رأى المسلمون أيضا أن من واجبهم أن يستفيدوا من هذه الفرصة مهما كلّف الثمن.

من هنا بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جماعة بقيادة « مرثد بن أبي مرثد

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ١٦٩ ، وقال في امتاع الاسماع : ج ١ ص ١٧٤ انهم سبعة اشخاص.

(٢) الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ٥٥.

١٩٨

الغنويّ » مع تلك الجماعة إلى القبائل المذكورة.

فخرج هؤلاء المبلغون ووفد القبيلتين من المدينة متوجّهين الى حيث تتواجد « عضل » و « قارة » ، ولمّا كانوا بماء يسمى الرجيع تقطن عنده قبيلة تدعى « هذيل » كشف مندوبو القبيلتين عن نواياهم الشرّيرة ، واستصرخوا هذيلا وكمينا من رجالهم ، وكانوا مائة رام وبأيديهم السيوف فاحاطوا بالدعاة يريدون أسرهم ثم قتلهم وابادتهم!!

فلم ير المبلّغون بدّا ـ وهم محاطون بتلك الجماعات المسلحة ـ من اللجوء الى سيوفهم والدفاع عن أنفسهم.

ولكن العدوّ قال : ما نريد قتالكم ، وما نريد إلاّ ان نصيب منكم من أهل مكة ثمنا ، ولكم عهد الله وميثاقه لا نقتلكم!!

فنظر الدعاة بعضهم الى بعض ، وقرر أكثرهم المقاومة وعدم الرضوخ لهذا العرض الغادر ، والخطة الماكرة ، وقال أحدهم : إني نذرت أن لا أقبل جوار مشرك (١) ثم جعلوا يقاتلون القوم قتال الرجال الابطال ، حتى قتلوا إلاّ ثلاث هم : « زيد بن دثنّة » ، و « خبيب بن عديّ » ، و « عبد الله بن طارق البلويّ » فقد أغمد هؤلاء سيوفهم وسلّموا ، فأخذوا ووثّقوا بأوتار قسيّهم ، ولكن « عبد الله » ندم على فعله ، فنزع يده من رباطه ثم أخذ سيفه ، وراح يقاتلهم حتى قتلوه رميا بالحجارة ، وقد انحازوا عنه وهو يشدّ فيهم وينفرجون عنه ، ودفن في مر الظهران.

ثم أخذوا الأسيرين الآخرين « خبيب » و « زيد » وقدموا بهما مكة فباعوهما لأهل مكة!!

فأمّا زيد بن الدثنّة فقد اشتراه « صفوان بن أميّة » وقتله ثأرا لابيه ، ولقتله قصة عجيبة سطر فيها أروع آيات المقاومة والوفاء والاخلاص.

فقد اشتراه « صفوان بن أميّة » كما أسلفنا ليقتله بأبيه ، وقد حبسه صفوان في الحديد ، وكان يتهجّد بالليل ويصوم بالنهار ، ولا يأكل شيئا مما اتى به من

__________________

(١) أو قالوا : والله لا نقبل من مشرك عهدا ولا عقدا أبدا ( السيرة النبوية : ج ٢ ص ١٧٠ ).

١٩٩

الذبائح ، وهو في الاسر والحبس.

ثم إنه اخرج إلى « التنعيم » (١) ليصلب على مرأى حشد كبير من الناس.

فرفعوا له جذعا ، فقال : دعوني أصلّي ركعتين ، فصلّى ركعتين ، ثم حملوه على الخشبة ثم جعلوا يقولون له : يا زيد ارجع عن دينك المحدث ، واتّبع ديننا ، ونرسلك فيقول : والله لا افارق ديني أبدا.

فقال له أبو سفيان فرعون مكة وأشدّ المتآمرين على الاسلام ومدبر أغلب الحروب ضد رسول الله ، والمسلمين : أنشدك بالله يا زيد أيسرّك أن محمّدا في أيدينا مكانك وأنت في بيتك؟. فقال زيد بشجاعة ووفاء عظيمين : ما يسرّني أنّ محمّدا اشيك بشوكة واني في بيتي ، وجالس في أهلي!!!

وقد كان لهذه الكلمة أثر الصاعقة في نفس طاغية مكة أبي سفيان فقال : ما رأينا أصحاب رجل قطّ أشدّ حبّا من أصحاب محمّد بمحمّد!!

ولم تمض لحظات إلاّ وصار « زيد » على خشبة الاعدام وطارت روحه الى خالقها ، ومضى ذلك المسلم الوفيّ ، والمؤمن الشجاع شهيد الثبات في طريق العقيدة ، والدفاع عن حياض الدين (٢).

واما « خبيب » فقد حبس مدة من الزمان حتى قرّر ندوة مكة قتله ، فخرجوا به الى التنعيم ليصلبوه وخرج معه النساء والصبيان والعبيد وجماعة من أهل مكة ، فقال لهم : إن رأيتم ان تدعوني حتى أركع ركعتين فافعلوا ، فقالوا دونك فاركع.

فركع ركعتين أتمّهما وأحسنهما ثم اقبل على القوم وقال : أما والله لو لا أن تظنّوا أنّي إنما طوّلت جزعا من القتل لاستكثرت من الصلاة!!

ثم رفعوه على خشبة ثم وجّهوه الى المدينة ، وأوثقوه رباطا ، ثم قالوا له : ارجع عن الاسلام ، نخلّ سبيلك.

__________________

(١) التنعيم ابتداء الحرم ومنها يحرم المعتمرون للعمرة المفردة.

(٢) السيرة النبوية : ج ٢ ص ١٧٢ ، المغازي : ج ٢ ص ٣٦٢ ، امتاع الاسماع : ج ١ ص ١٧٤ و ١٧٥.

٢٠٠