سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

مميّزات النهضة الالهية وخصائصها

خصيصة « الخلود » والعمق في شخصية رسول الاسلام

المصادر الاولى والأصيلة للكتابة عن سيرة النبيّ :

تشبه نهضة « الأنبياء » الالهية التي قام بها رسل الله وسفراؤه لتخليص البشرية من براثن الأوهام ، والخرافات ، ولانقاذها من جور المستكبرين وظلم الظالمين أكثر شيء بأمواج البحر التي تبدأ بدوائر صغيرة محدودة ، ولكنّها كلما ابتعدت عن مركز الدائرة ازدادت اتساعا واتساعا ، واشتدت قوتها اكثر فاكثر.

إن الانقلاب المعنويّ العريض والتحوّل الروحيّ العظيم الذي وضعت اسسه في أرض مكة على يدي رسول الاسلام العظيم أضاء بشعاعه ونوره الباهر في اليوم الاوّل غار حراء وثم منزل خديجة وبعض البيوت المتواضعة في مكة فقط ، ولكنه اتسع نطاقه بمرور الزمان ، حتى عمّ في مدة ليست بالطويلة شرق الارض وغربها ، ودوّى نداء التوحيد في منطقة واسعة جدا من العالم ( ابتداء من فرنسة وانتهاء بجدار الصين وما وراءه ) (١).

__________________

(١) لقد كتبت هذه المقدّمة وما بعده خلال تواجدي في الصين عام ١٤٠٨ وقد جئت إليها في مهمة استطلاعية وتبليغية اسلامية ، وقد زرت في نفس الفترة التي كنت فيها مشتغلا بكتابة هذه المقدمة المسجد الجامع في ـ بكين ـ العاصمة ، والتقيت بامام ذلك المسجد الذي رحّب بي وبمن كان معي أشد ترحيب ، واتحفني بنسخة من ترجمة القرآن الكريم باللغة الصينية ، وزرت خلال وجودي في ذلك المسجد قبر رجلين مسلمين من ايران أحدهما تاجر ، والآخر عالم جاءا إلى الصين في القرن السادس الهجري ، ونشرا الاسلام في بكين وما حولها ، وقد نصبت عند قبرهما لوحتان من المرمر نقش عليهما اسمهما ، وخصوصياتهما بالاحرف العربية.

وهناك تذكرت حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله « اطلبوا العلم ولو بالصين ».

قلت في نفسي : لعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقصد فيما يقصد في هذا الحديث دفع

٣

إن مؤسّسي هذا النوع من النهضات الدينية (١) يتمتعون ـ من حيث الاخلاق والفضائل الانسانية ـ بخصيصة الخلود واللانهاية فان الزمن يكشف باستمرار عن أبعاد أوسع وآفاق جديدة من شخصياتهم فهي تتسع كلما تقادم بها العهد تماما كأمواج البحر ، وكأن الأنبياء نسخة ثانية من الطبيعة ، فكما أننا كلما أمعنا أكثر في الطبيعة ظهرت لنا منها حقائق اكثر ، وانكشفت لنا رموز وأسرار جديدة لم نعهدها من قبل فهكذا شخصيات الأنبياء والمرسلين ، وسفراء الله الى البشرية.

وتتجلى هذه الحقيقة أكثر ـ فأكثر كلما تعاظمت شخصية من تلك الشخصيات ـ.

وخلاصة القول أننا كلما ازددنا تعمقا وامعانا فيهم. اكتشفنا أسرارا كثيرة ، وحقائق جديدة عن حياتهم.

ويدل على كلامنا هذا تلك المؤلفات الكثيرة الوافرة التي كتبها علماء التاريخ وأصحاب السير ، قديما وحديثا ، حول رسول الاسلام العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكن مع ذلك كله كلما تقادم العهد به ، وكلما اتسعت النظرات وازدادت عمقا

__________________

المسلمين إلى نشر مبادئ الاسلام في تلك البلاد العريضة التي تضم خمس سكان العالم.

وقد قام المسلمون الغيارى على دينهم ، الحريصون على نشره وبثه بهذه المهمة فيما سبق وأدوا ما كان عليهم. فما ذا فعلنا نحن؟

وهل ترى يجوز أن يجهل خمس سكان العالم دين الله ، ولا ينعموا بخيراته؟!

أم هل ترى يجوز في شريعة الانصاف أن يعاني ذلك الشعب الكبير من الاباطرة الطغاة في الماضي ، ومن الانظمة والايديولوجيات الجائرة الملحدة في الحاضر ، هذا والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يحرص على هداية فرد واحد ، والقرآن يقول : « من احياها فكأنما أحيى الناس جميعا »؟؟

هل خصصت نهضة الأنبياء الالهية برقعة صغيرة من الارض هي الجزيرة العربية ، وما حولها؟ أم أنها رحمة للعالمين جميعا؟

سؤال نطرحه على ابناء الاسلام دعاة ورعايا ، حكومات وشعوبا لعلهم يتفكرون؟ ( جعفر الهادي ).

(١) المقصود من الدين هو المنهاج الواسع الشامل الذي يتكفل سعادة البشرية في الحياتين الدنيا والأخرى وليس مجرد سلسلة من الطقوس الفارغة الخاوية كما هو الحال في المسيحية الحاضرة.

٤

اكتشف المحققون مزيدا من الآفاق ، وجديدا من الابعاد في هذه الشخصية الإلهية.

ولقد كان تعاطي السيرة النبوية والحديث حولها في البداية منحصرا ( أو بالاحرى مقتصرا ) على مشاهدات أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ومسموعاتهم.

ومع ظهور جيل جديد يدعى بالتابعين بعد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله اتخذت الاحاديث والسنن الاسلاميّة ، وتفاصيل الحياة النبويّة ، وقصص غزواته وحروبه رونقا جديدا ، وأحسّ الجيل الجديد برغبة شديدة في أخذ الاحاديث الاسلامية ، والتعرف على الحوادث التي وقعت في عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأيّام حياته من مولده إلى وفاته.

وكلما ازدادت حالات الوفاة ، في أوساط الصحابة والتابعين الذين كانوا يشكّلون المنبع الأوّل والمصدر الأصيل لهذا النوع من العلوم الاسلامية ، اتسع الاهتمام بالسيرة وما شابهها وتعاظمت الرغبة فيها وتزايد عطش المسلمين إلى اخذ ومعرفة الأحاديث التي تتضمن بيان خصوصيات حياة رسول الاسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وجزئيات سيرته الطاهرة. هذا من جانب.

ومن جانب آخر كان تشدّد الخليفة الثاني (١) ، ومنعه عن كتابة أحاديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أوجب أن يندثر كثير من الأحاديث الاسلامية ، التي سمعها بعض أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتدفن تحت التراب بموتهم.

ولقد استمر منع الخليفة عن كتابة الحديث النبوي وبقي ساري المفعول لمدة طويلة بعد وفاته (٢) ، حتى أتى الى الحكم خليفة معتدل السيرة من الأمويين هو : « عمر بن عبد العزيز » فأمر ـ في رسالة وجّهها الى أبي بكر بن حزم حاكم المدينة

__________________

(١) تقييد العلم : ص ٤٨ ـ ٥٣.

(٢) لم يترك نهي الخليفة أي أثر على علماء الشيعة الذين كانوا يتبعون عليا عليه‌السلام ، فقد عمدوا في فترة محدودة الى تدوين وضبط الأحاديث ، وحفظوا كنوزا عظيمة من علوم اهل البيت النبوي ، للتوسع في هذا المجال راجع كتاب « تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام ».

٥

وقاضيها ـ بكتابة احاديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله خوفا من اندراس العلم وزواله (١).

أئمة السيرة :

ومن حسن الحظ أن الخليفة الثاني لم يمنع إلاّ من تدوين وكتابة الأحاديث النبويّة ، فلم يشمل هذا المنع كتابة الحوادث والوقائع التي وقعت في عصر الرسالة.

ولهذا الّفت في تلك الفترة كتب كثيرة عن حياة رسول الاسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأوّل من كتب حول وقائع عصر الرسالة ، وأرخ حوادث الصدر الأوّل من الاسلام هو : « عروة بن الزبير بن العوّام » الصحابي المعروف الذي توفي عام ٩٢ أو ٩٦ من الهجرة (٢)

ثم عمد بعد جماعة في المدينة وآخرون في البصرة الى جمع وتدوين تفاصيل السيرة ، وحروب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وغزواته ، وبيان هذا الأمر على نحو التفصيل خارج عن نطاق هذه الدراسة.

ولقد كانت هذه الكتب والمؤلفات هي المنبع والاساس للكتب التي دوّنت فيما بعد في صورة كتب السيرة النبويّة ، أو تاريخ الاسلام.

وقد بدأ تدوين سيرة النبيّ الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بشكل جميل وبصورة بديعة منذ أوائل المنتصف الثاني من القرن الثاني الاسلامي ، وكان من بين من قام بجهد مشرف ومشكور في هذا المجال العالم الشيعي الكبير محمد بن اسحاق المتوفى عام ١٥١ فهو أول من استخرج تفاصيل الوقائع الاسلامية من كتب الماضين ، ومن

__________________

(١) ارشاد الساري في شرح صحيح البخاري : ج ١ ص ١٩٥ و ١٩٦.

(٢) تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام : ص ٢٣٣.

اختلفت الاقوال في من هو أول من صنف في علم المغازي والسير في الاسلام.

فقال السيوطي في كتاب الاوليات بأنه عروة بن الزبير.

وقال الافندي في كشف الظنون أنه محمد بن اسحاق.

والحق انه لا الاول ولا الثاني بل عبيد الله بن أبي رافع فانه تقدمهما في التصنيف في السير والمغازي.

٦

ثنايا رواياتهم ومنقولاتهم وألفها واخرج شيئا جامعا حول السيرة النبويّة إلى عالم الكتب والمؤلّفات.

كما أن أوّل من ضبط ودوّن غزوات رسول الاسلام بشكل مفصّل هو الواقدي صاحب « المغازي » و « فتوح الشام » المتوفى عام ٢٠٧ ه‍ (١).

وقد لخّصت سيرة ابن اسحاق على يد ابن هشام أبي محمد عبد الملك المتوفى عام ٢١٨ ه‍ وعرفت فيما بعد بسيرة ابن هشام ( أو السيرة الهشامية ) وهو الآن معدود من مصادر التاريخ الاسلامي وسيرة النبيّ الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله الموثقة.

ولو أننا تجاوزنا هذه الشخصيات لكان لشخصيتين اخريين سهم كبير في تدوين وتسجيل تاريخ حياة رسول الاسلام ، وهما :

١ ـ محمد بن سعد الكاتب الواقدي المتوفى عام ٢٣٠ ه‍ مؤلف « الطبقات الكبرى » الذي أورد فيه سيرة النبيّ الإكرام صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه على نحو التفصيل.

وقد طبع هذا الكتاب في لندن مؤخرا ، كما اعيد طبعه في لبنان في ٩ مجلدات.

٢ ـ محمد بن جرير الطبري المتوفى عام ٣١٠ ه‍ مؤلف كتاب « تاريخ الامم والملوك ».

على أن تثمين جهود هذه الثلة من الكتّاب والمؤلفين لا يعني بالضرورة أن كل ما أدرجوه في مؤلفاتهم هو الثابت الصحيح ، بل تحتاج مؤلفاتهم ـ كغيرها من المؤلفات ، والكتب ـ إلى التحقيق الواسع والتمحيص الدقيق.

ثم ان حركة التأليف حول شخصية رسول الاسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) عدّ الشيخ الطوسي في رجاله ابن اسحاق من تلامذة الامام جعفر الصادق عليه‌السلام ، وتوجد نسخة خطية من سيرته في مكتبة مدرسة الشهيد المطهري بطهران حسب ما كتب صاحب الذريعة في ج ١٢ ص ٢٨١ فيها.

٧

وسيرته استمرت بعد ذلك طيلة القرون الاسلامية اللاحقة. ونحن اليوم أمام مكتبة زاخرة من الكتب ، والدراسات ، المختلفة في أحجامها ومستوياتها ، والمتنوعة في طرائقها وأساليبها ، التي ألّفت حول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهذا إنما يدل على خصيصة العمق واللانهاية التي اتسمت بها شخصية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الخالدة العظيمة.

وقد أراد صاحب هذه الدراسة أن يقدم للجيل الحاضر شرحا ناطقا عن حياة رسول الاسلام العظيم ، في حدود ما تسمح به إمكاناته المحدودة ، ولم يأل جهدا ـ لتحقيق هذا الهدف على وجه أفضل ـ في مراجعة كتب الفريقين المعتبرة ، وان اكتفى بذكر عدد قليل من المصادر عند التأليف ، وقد بيّنا عذرنا من هذا في الجزء الأوّل من هذه الدراسة.

ولقد تناول الجزء الأول من هذا الكتاب حوادث مكة من بدء نشأتها إلى نهاية السنوات الثلاث عشرة الاولى من عصر الرسالة أي ما قبل الهجرة ، وها هو الجزء الثاني وهو يتناول حوادث العشر سنوات للهجرة الشريفة ، ومن الله التوفيق.

قم المقدّسة ـ الحوزة العلمية

جعفر السبحاني

٢١ شعبان ١٣٩٢ هـ

٨

حوادث السنة الأولى من الهجرة (١)

٢٦ (١)

أوّل عمل ايجابيّ للنبيّ في المدينة

عقد ميثاق تعايش بين المسلمين وغيرهم :

حملت وجوه فتية الانصار المستبشرة ، المبتهجة ، بمقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والاستقبال العظيم الذي قام به أغلبية الأوسيّين والخزرجيين له حملته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، على أن يعمد قبل أي شيء إلى تأسيس مركز عام لتجمّع المسلمين فيه في الأوقات المختلفة ، وللقيام بالاعمال التربوية والتثقيفية ، والسياسية والعسكرية في رحابه.

كما أن عبادة الله الواحد تقع في طليعة البرامج التي جاء بها رسول الاسلام ولذا رأى من اللازم أن يعمد قبل أي عمل آخر الى بناء معبد للمسلمين حتى يتسنى لهم أن يعبدوا الله ويذكروه فيه في أوقات الصلوات.

أجل كانت الحاجة إلى مثل هذا المركز شديدة فلا بد من مكان ليجتمع اعضاء حزب الاسلام ( حزب الله ) كل اسبوع في يوم معين فيه ، ويتشاوروا في

__________________

(١) لا بدّ أنك أيها القارئ الكريم تتذكر جيدا أننا قصدنا من السنة الاولى للهجرة الاشهر العشرة المتبقية التي قضى رسول الله شهرين منها في مكة وحطّ في الباقي من شهرها الثالث ( أي ربيع الاول ) على أرض يثرب ، بناء على هذا تكون السنة الاولى من الهجرة تسعة أشهر فقط ، وتبدأ السنة الهجرية الثانية من شهر محرم الحرام ( وليس من اثنى عشر ربيع الاول ).

٩

شئون الاسلام والمسلمين ومصالحهم ، وليجتمع فيه عامة المسلمين مضافا إلى هذا اللقاء الاسبوعيّ مرتين كل عام لأداء صلاة العيد ، فكان المسجد الذي بناه كأول عمل قام به بعد قدومه المدينة.

فلم يكن المسجد على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للعبادة فقط بل كانت تلقى فيه كل أنواع العلوم والمعارف الاسلامية الشاملة للأمور التربوية وغيرها.

لقد كان يعلّم فيه كل التعاليم والمواد الدينية والعلمية ، حتى الأمور المرتبطة بالقراءة والكتابة.

وقد بقيت أغلب المساجد على هذا المنوال حتى مطلع القرن الرابع الهجريّ الاسلاميّ ، فقد كانت في غير أوقات الصلاة تتحول الى مراكز لتدريس العلوم المتنوعة (١).

وربما اتخذ مسجد المدينة صورة المركز الأدبيّ ، عند ما كان يلقي فيه كبار فصحاء العرب وبلغاؤهم قصائدهم المنسجمة مع التعاليم الاخلاقية والمعايير الاسلامية بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كما فعل « كعب بن زهير » إذ ألقى قصيدته المعروفة « بانت سعاد » عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في المسجد ، وأعطاه النبيّ الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله صلة جيّدة ، وخلع عليه بخلعة عظيمة (٢).

أو كما كان يفعل « حسان بن ثابت » الذي كان يدافع بشعره عن حوزة الاسلام والمسلمين اذ كان يلقي بعض قصائده في المسجد عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

__________________

(١) راجع صحيح البخاري : ج ١ كتاب العلم ، بل حتى عند فصل المراكز العلمية عن المساجد في ما بعد ، بقيت المدارس تبنى وتشيّد الى جانب المساجد فكان هذا العمل يجسد الصلة الوثيقة بين العلم بالدين.

(٢) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٠٣ قال أنشد كعب بن زهير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المسجد : بانت سعاد.

١٠

ولقد كانت مجالس الدرس والتعليم في مسجد المدينة على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تتسم بروعة كبيرة بحيث عند ما شاهد وفد ثقيف مشهدا من مشاهدها انبهروا به ، وعجبوا بشدة لاهتمام المسلمين بتعلم الاحكام واكتساب المعارف والعلوم (١).

كما انه كانت تمارس الامور القضائية والفصل بين الخصومات ، واصدار الحكم على المجرمين في المسجد ، فكان المسجد يومذاك بمنزلة محكمة ( بكل معنى الكلمة ) أي أنها تقوم بكل ما تقوم بها المحاكم اليوم.

هذا مضافا إلى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يلقي خطبه الحماسية والجهادية لتعبئة المسلمين من أجل مجاهدة الكفار والمشركين في المسجد.

ولعل من حكمة الاجتماع في المسجد لاجل تحصيل المعارف وتعلم العلوم هو أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أراد بذلك أن يثبت عمليا أن العلم والدين توأمان لا ينفكان فكلما كان هناك مركز للايمان وجب ان يكون محلا للعلم أيضا.

وأما ممارسة القضاء والقيام بالخدمات الاجتماعية ، واتخاذ القرارات العسكرية في المسجد فقد كان لأجل أن يعلن للجميع بأن دينه ليس مجرد أمر معنوي لا يتصل بالامور الدنيوية ولا تهمه قضايا الحياة وشئون المعيشة المادية ، بل هو دين شامل كامل لا يحض الناس على التقوى ، ولا يدعوهم إلى الايمان إلاّ ويهتم أيضا بشئونهم المعيشية وإصلاح أوضاعهم الاجتماعية. فليس هو بالتالي يهتمّ بجانب ويغفل جانبا ، بل هو دين شامل جامع يتكفل الأمور المادية والمعنوية معا.

ولقد كان هذا التلاقي والانسجام ( بين العلم والإيمان ) محطّ اهتمام المسلمين ونصب أعينهم دائما حتى بعد ما اتخذت المراكز التعليمية والمؤسسات العلمية البحتة شكلا مستقلا وصار لها محل خاص تدرس فيه ، فانهم ظلوا يبنون

__________________

(١) تاريخ الخميس : ج ٢ ص ١٣٦.

١١

الجامعات الى جانب الجوامع ويشيّدون المعاهد الى جانب المساجد ليثبتوا للعالم أن هذين الأمرين اللذين يكفلان إسعاد الحياة والانسان لا يمكن أن ينفصلا ، ويبتعد بعضها عن بعض.

مع عمار بن ياسر في بناء المسجد النبويّ :

لقد ابتاع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الارض التي بركت فيها ناقته يوم قدومه المدينة ، من أصحابها بعشرة دنانير لإقامة مسجد فيها. واشترك كافة المسلمين في تهيئة موادّه الانشائية وبناه ، وعمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه في تشييدها أيضا. فكان صلى‌الله‌عليه‌وآله ينقل معهم اللبن ، والحجارة ، وبينما هو صلى‌الله‌عليه‌وآله ذات مرة ينقل حجرا على بطنه استقبله « اسيد بن حضير » فقال : يا رسول الله اعطني أحمله عنك.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا ، اذهب فاحمل غيره (١).

وبهذا الاسلوب العملي كشف رسول الاسلام العظيم عن جانب من برنامجه الرفيع ، إذ بيّن بعمله أنه رجل عمل وليس رجل قول ، رجل فعل وليس رجل كلام ، وكان لهذا أثره الفعّال في نفوس أتباعه.

فقد أنشد أحد المسلمين بهذه المناسبة يقول :

لئن قعدنا والنبيّ يعمل

فذاك منّا العمل المضلّل (٢)

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يردّد وهو يبني ويعمل : لا عيش إلاّ عيش الآخرة ، اللهمّ ارحم الأنصار والمهاجرة.

وقد كان « عثمان بن عفان » ممن يهتمّ بنظافة ثيابه ، ويحرص على أن يمنع عنها الغبار والتراب ، فلم يعمل في بناء المسجد لهذا السبب ، فاخذ عمار ينشد أبياتا تعلّمها من أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ، وفيها تعريض بمن لا يعمل ويحرص على ثيابه أن لا تتسخ بالغبار :

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٩ ص ١١٢.

(٢) السيرة النبوية : ج ١ ص ٤٩٦.

١٢

لا يستوي من يعمر المساجدا

يدأب فيها قائما وقاعدا

ومن يرى عن الغبار حائدا (١)

وقد أغضب مفاد هذه الابيات عثمان بن عفان ، فقال لعمار مهدّدا : قد سمعت ما تقول منذ اليوم يا ابن سمية ، والله إني لأراني سأعرض هذه العصا لأنفك أي أضربك بها ، وفي يده عصا!!

فلما عرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بكلام عثمان غضب وقال :

« ما لهم ولعمّار ، يدعوهم إلى الجنّة ، ويدعونه إلى النار.

إنّ عمارا جلدة ما بين عينيّ وأنفي .. » (٢).

وكان « عمار » فتى الاسلام القوي ، يحمل قدرا كبيرا من اللبن والاحجار في بناء المسجد ولا يكتفي بحمل شيء قليل منها.

فكان البعض يستغل طيب قلبه واخلاصه فيثقله باللبن والاحجار.

ويروى أن اصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله جعل يحمل كل واحد لبنة لبنة وعمار يحمل لبنتين لبنتين لبنة عنه ولبنة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله محبة منه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣).

وذات مرة رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد حمّلوه ثلاث لبن أو احجار ثقيلة فشكا إليه عملهم وقال : يا رسول الله قتلوني يحملون عليّ ما لا يحملون فنفض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفرته (٤) وكان رجلا جعدا وهو يقول قولته التاريخية :

« ويح ابن سمية ليسوا بالذين يقتلونك ، انما تقتلك الفئة الباغية » (٥).

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ١ ص ٤٩٦ ، وتاريخ الخميس : ج ١ ص ٣٤٥ والسيرة الحلبية : ج ٢ ص ٧٦ ومع ان ابن اسحاق صرّح باسم عثمان بن عفان ولكن ابن هشام الذي لخصّ سيرة ابن اسحاق امتنع عن تسمية عثمان. وقال صاحب المواهب الدنية : المراد في هذه الابيات عثمان بن مظعون ، راجع هامش سيرة ابن هشام أيضا.

(٢) تاريخ الخميس : ج ١ ص ٣٤٥.

(٣) السيرة الحلبية : ج ٢ ص ٧١ ، البداية والنهاية : ج ٢ ص ٢١٧.

(٤) اي شعر راسه.

(٥) المصدران السابقان

١٣

وقد كان هذا الخبر الغيبي من الدلائل القوية على نبوة الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله وصدق دعواه ، وصحة إخباراته ، فقد وقع ما أخبره كما أخبر ، فقد قتل « عمّار » وهو في التسعين من عمره في معركة صفين عند ما كان يقاتل جيش الشام بين يدي علي عليه‌السلام ، فقتله أنصار معاوية ، وقد أحدث هذا الخبر الغيبي أثرا عجيبا في حياة المسلمين فقد جعله المسلمون معيارا لمعرفة الحق ، أي كانوا يعرفون حقانية أي جهة من الجهات وأي طرف من الأطراف في الصراعات والنزاعات بانضمام عمّار إليه.

وعند ما قتل عمّار في ساحة القتال بصفين ، دبّ في أهل الشام اضطراب عجيب.

فالذين كانوا في شك في حقانية « عليّ » عليه‌السلام وموقفه في هذه الحرب بفعل الدعاية المضادة التي كان يقوم بها معاوية ومساعده عمرو بن العاص ضد الامام قد انتبهوا على خطائهم وعرفوا بمقتل « عمّار » على أيدي أنصار معاوية بأن عليا على حق وأن معاوية وجماعته هي الفئة الباغية التي أخبر عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ومن هؤلاء « خزيمة بن ثابت » الأنصاريّ الذي خرج مع الإمام عليّ عليه‌السلام لقتال معاوية ، ولكنّه كان متردّدا في مقاتلته ، بيد أنه جرد سيفه بعد مقتل « عمّار » على أيدي أهل الشام ، وحمل عليهم (١).

ومنهم « ذو الكلاع » الحميري الذي خرج على رأس عشرين ألف مقاتل وهم تمام رجال قبيلته ، مع معاوية لمحاربة الامام عليّ عليه‌السلام وكان معاوية يعتمد على نصرته اعتمادا كبيرا ، حتى أنه لم يقدم على اتخاذ قرار الحرب إلاّ بعد أن اطمأنّ الى تأييده له ، ومشاركته في قتال علي عليه‌السلام.

فقد صدم القائد المخدوع بشدة عند ما سمع بوجود « عمّار » في معسكر الامام « علي ».

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين : ج ٣ ص ٣٨٥ ووقعة صفين لابن مزاحم.

١٤

فأراد رجال معاوية أن يموهوا الأمر ، ويشوشوه عليه فقالوا : ما لعمار ولصفين؟ فذلك ما يقوله أهل العراق وما يبالون من الكذب.

ولكن ذا الكلاع لم يقتنع بهذا فقال لعمرو بن العاص : يا أبا عبد الله أما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إن عمارا تقتله الفئة الباغية »؟

فقال عمرو : أجل ، ولكن ليس عمار في رجال علي.

فقال ذو الكلاع : فلا بدّ اذن أن أعرف ذلك بنفسي.

ثم أمر رجالا بأن يتحقّقوا من الأمر. وفي هذه اللحظة الحساسة ادرك معاوية وعمرو خطورة الموقف اذ لو تحقق ذو الكلاع من وجود عمّار في معسكر « علي » أو عرف بمقتله بين يديه عليه‌السلام إذن لأحدث ذلك شرخا كبيرا وتمزقا فضيعا في جيش الشام ، من هنا تمت تصفية ذو الكلاع فورا اذ قتل بصورة غامضة (١).

إن اشتهار هذا الحديث لدى محدثي السنة والشيعة ليغنينا عن استعراض مصادره ، واسناده.

فقد روى الامام احمد بن حنبل أنه لما قتل عمار بن ياسر دخل عمرو بن حزم على عمرو بن العاص فقال قتل عمّار وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : تقتله الفئة الباغية فقام عمرو بن العاص فزعا يرجع ( أي يقول : إنا لله وإنا إليه راجعون ) حتى دخل على معاوية ، فقال معاوية : ما شأنك؟ قال : قتل عمّار فقال معاوية : قد قتل عمّار فما ذا؟ قال عمرو : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : تقتله الفئة الباغية فقال له معاوية : أو نحن قتلناه انما قتله علي وأصحابه جاءوا به حتى القوه بين رماحنا ( وسيوفنا ) (٢).

ولكن لا يخفى أن هذا التأويل الباطل الذي لجأ إليه ابن أبي سفيان لتهدئة جنود الشام ، ليس مقبولا عند الله تعالى قط ، كما لا يقبل به أيّ عاقل لبيب.

فإنّ هذا هو الاجتهاد في مقابلة النص ، وهو مما لا قيمة له أبدا ، فان هذا

__________________

(١) وقعة صفين : ٣٧٧ و ٣٨٧.

(٢) مسند الامام احمد بن حنبل : ج ٤ ص ١٩٨.

١٥

النوع من الاجتهاد في مقابلة الآيات والروايات الصريحة هو الذي سبّب في أن يعمد فريق من المجرمين والجناة إلى تبرير جرائمهم وفضائعهم بحجة « الاجتهاد » ، وتحت غطائه.

وإليك نموذجا من هذا الأمر :

ضئر أرأف من والدة!!

لا يجد المرء عبارة أفضل من هذه تعرّف حقيقة مؤرخ القرن الثامن الهجري ( ابن كثير الشامي مؤلف البداية والنهاية ).

فقد انبرى هذا الرجل الى الدفاع عن معاوية في كتابه اذ قال : لا يلزم من تسمية أصحاب معاوية بغاة تكفيرهم ، لأنهم وان كانوا بغاة في نفس الأمر فانهم كانوا مجتهدين فيما تعاطوه من القتال وليس كل مجتهد مصيبا ، بل المصيب له أجران ، والمخطئ له أجر واحد ( ثم يقول ) وأما قوله : يدعوهم الى الجنة ويدعونه الى النار فان عمّارا وأصحابه يدعون أهل الشام إلى الالفة واجتماع الكلمة ، وأهل الشام يريدون ان يستأثروا بالأمر دون من هو أحق به ، وان يكون الناس أوزاعا على كل قطر امام برأسه ، وهذا يؤدي إلى افتراق الكلمة واختلاف الأمة فهو لازم مذهبهم وناشئ عن مسلكهم وان كانوا لا يقصدونه!! (١)

ونحن لم نجد اسما يناسب هذا العمل إلاّ التحريف للحقائق.

فان مؤيدي الفئة الباغية مع كل ما اوتوا من قدرة على إخفاء الحقائق وطمسها لم يستطيعوا إنكار هذه الحقيقة ، ولكن مؤرخا مثل ابن كثير عمد ـ رغم ورود هذا الحكم الغيبي في شأن تلك الفئة ـ الى تحريف بارد قد غفلت تلك الفئة هي ذاتها عنه!!

يقول أحمد بن حنبل : دخل رجلان على معاوية يختصمان في رأس عمّار يقول

__________________

(١) البداية والنهاية : ج ٢ ص ٢١٨.

١٦

كل واحد منهما أنا قتلته ، فقال عبد الله بن عمرو : ليطيب به أحدكما نفسا لصاحبه فاني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : تقتله الفئة الباغية قال معاوية : فما بالك معنا؟ قال : ان أبي شكاني إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : اطع أباك ما دام حيا ، ولا تعصه ، فأنا معكم ولست اقاتل (١).

إن اعتذار « عبد الله بن عمرو بن العاص » يشبه تأويل ابن كثير الشامي الذي يقول : إن معاوية قاتل « عليا » في صفين اجتهادا وايمانا ، وإن أخطأ في اجتهاده ، وذلك لأن إطاعة الوالد واجبة ما لم تجر الى مخالفة الشرع ، فهذا هو القرآن الكريم يقول :

« وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما » (٢).

كما ان الاجتهاد إنما يصح إذا لم يكن في المقام نصّ صريح ، ورد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولهذا كان اجتهاد معاوية وعمرو بن العاص وامثالهما باطلا مرفوضا ، لكونه في مقابلة النصّ النبويّ.

ولو أننا فتحنا باب الاجتهاد هكذا بدون أية ضوابط لكان جميع المشركين والمنافقين معذورين في معارضتهم ، ومحاربتهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما لا بدّ ـ حينئذ ـ أن نقول : إن يزيد والحجاج وأشباههما كانوا معذورين في سيفكهم لدماء الأئمة المعصومين ، والصالحين من المسلمين ، بل ومأجورين في عملهم هذا.

انتهى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمون من بناء المسجد ، وظل يوسّع فيه كل عام شيئا فشيئا.

وقد بني الى جانب المسجد صفة ليسكن فيها الفقراء والمهاجرون المحرومون.

وكلّف « عبادة بن الصامت » بأن يعلّمهم الكتابة ، وقراءة القرآن.

__________________

(١) مسند احمد بن حنبل : ج ٢ ص ١٦٤ و ١٦٥.

(٢) العنكبوت : ٨.

١٧

التآخي ؛ أو أعظم معطيات الايمان :

لقد فتح تمركز المسلمين في المدينة فصلا جديدا في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فقد كان صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل دخوله المدينة لا يهمّه إلاّ جذب القلوب والدعوة إلى دينه ، ولكنه اليوم عليه أن يعمل ـ كصاحب دولة محنّك ـ على حفظ كيانه وكيان جماعته ، ولا يسمح للأعداء الداخليين والخارجيين بالتسلّل والنفوذ في صفوفهم ، ولكنه كان يواجه في هذا السبيل ثلاث مشاكل كبرى :

١ ـ خطر قريش وعامة الوثنيين في شبه الجزيرة العربية.

٢ ـ خطر يهود يثرب الذين كانوا يقطنون داخل أو خارج المدينة ويمتلكون ثروة كبيرة.

٣ ـ الاختلاف الذي كان بين أتباعه من المهاجرين وبين الأوس والخزرج.

وحيث إن المهاجرين والانصار قد نشئوا في بيئتين مختلفتين ، لهذا كان من الطبيعي أن يختلفوا في طريقة المعاشرة ، وآداب السلوك ، واسلوب التفكير اختلافا كبيرا.

هذا مضافا إلى أن الأوس والخزرج الذين كانوا يشكّلون جماعة الأنصار كانوا هم يعانون من رواسب عداء قديم وبقايا ضغائن نشأت خلال حروب موية طويلة استغرقت مائة وعشرين سنة بلا انقطاع.

ومع وجود مثل هذه التناقضات والأخطار المحتملة لم يكن مواصلة الحياة الدينية ، والسياسية المستقرة أمرا ممكنا قط.

ولكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تغلّب على كل هذه المشكلات بطريقة حكيمة ، غاية في الحنكة والابداع.

فبالنسبة إلى المشكلتين الأوليين فقد عالجهما بالقيام بأعمال سيأتي ذكرها في المستقبل.

وأما بالنسبة إلى مشكلة التناقضات بين فئات وأصناف جماعته فقد عالج

١٨

تلك المشكلة بحذق كبير ، وتدبير رائع جدا.

فقد امر من جانب الله تعالى بأن يؤاخي بين المهاجرين والأنصار.

فجمعهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذات يوم وقال لهم :

« تآخوا في الله أخوين أخوين ».

وقد ذكرت المصادر التاريخيّة الاسلامية ، مثل « السيرة النبوية » لابن هشام (١) اسماء كلّ متآخيين من المهاجرين والأنصار.

وبهذا الاسلوب كرّس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الوحدة السياسية والمعنوية بين المسلمين وقوّى اسسها ودعائمها.

وقد سببت هذه الوحدة ، وهذا التآخي الواسع في أن يقرّر حلا للمشكلتين الاوليين بسرعة وسهولة.

منقبتان عظيمتان :

ولقد ذكر أكثر مؤرّخي السنة والشيعة ومحدّثيهم في هذا الموضع منقبتين عظيمتين ، نذكرهما نحن هنا أيضا : لقد آخى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بين ثلاثمائة من أصحابه من المهاجرين والأنصار وهو يقول : يا فلان أنت أخ لفلان.

ولما فرغ من المؤاخاة ، قال له علي عليه‌السلام ، وهو يبكي :

« يا رسول الله آخيت بين أصحابك ولم تؤاخ بيني وبين أحد »؟

فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد أخذ بيده :

« أنت أخي في الدنيا والآخرة » (٢).

وقد ذكر القندوزي الحنفي هذه القضية بنحو أكثر تفصيلا اذ قال :

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي :

« والذي بعثني بالحق نبيا ما أخّرتك إلاّ لنفسي ، فأنت مني بمنزلة هارون من

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ١ ص ٥٠٤ ـ ٥٠٧.

(٢) المستدرك على الصحيحين : ج ٣ ص ١٤.

١٩

موسى إلاّ أنه لا نبيّ بعدي ، وأنت أخي ووارثي » (١).

غير ان ابن كثير شكّك في صحة هذا الرواية (٢) ، وحيث إن هذه التشكيك نابع من نفسيّته الخاصة ، ولا يقلّ تفاهة وبطلانا من اعتذاره ودفاعه عن معاوية وزمرته الباغية عن قتل الصحابي العظيم عمار بن ياسر لهذا نرجح أن نصرف النظر عن النقاش فيه ، ونترك القضاء والحكم عليه للقارئ المنصف ، والمتتبع العدل.

منقبة أخرى لعليّ عليه‌السلام :

فرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من بناء المسجد ، وقد بنيت منازله ومنازل أصحابه حول المسجد ، وكلّ شرع منه بابا إلى المسجد ، وخطّ لحمزة خطا فبنى منزله فيه ، وشرع بابه الى المسجد وخط لعليّ بن أبي طالب مثل ما خط لهم فبنى منزله فيه وشرع بابه إلى المسجد ، فكانوا يخرجون من منازلهم فيدخلون المسجد من تلك الابواب.

وفجأة نزل جبرئيل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال :

« يا محمّد إنّ الله يأمرك أن تأمر كلّ من كان له باب إلى المسجد أن يسدّه ولا يكون لأحد باب إلى المسجد إلاّ لك ولعليّ عليه‌السلام ».

يقول ابن الجوزي : فأوجد هذا الامر ضجة عند البعض ، وظنوا أنّ هذا الاستثناء قد نشأ عن سبب عاطفي ، فخطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الناس وقال فيما قال :

« والله ما أنا أمرت بذلك ، ولكنّ الله أمر بسدّ أبوابكم وترك باب عليّ » (٣).

وخلاصة القول أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قضى عن طريق المؤاخاة

__________________

(١) ينابيع المودة : ص ٥٦ ، ونظيره في السيرة النبوية.

(٢) البداية والنهاية : ج ٢ ص ٢٢٦.

(٣) تذكرة الخواص : ص ٤٦ ، بتصرف بسيط.

٢٠