جواهر الكلام - ج ٣٧

الشيخ محمّد حسن النّجفي

من المرض والشين لم ينزع ، وعلى الغاصب قيمته ، ثم إن خاط جرح نفسه فالضمان مستقر عليه ، وإن خاط جرح غيره باذنه وهو عالم بالغصب قيل كان قرار الضمان عليه ، والأجود قراره على المباشر ، وأما غير الآدمي فعلى ضربين : أحدهما غير المأكول ، والحكم فيه كالآدمي ، لأنه لا ينتفع به مع ذبحه ، والثاني المأكول ، فإن كان لغير الغاصب لم ينزع ، لحرمة روحه ، وإن كان للغاصب فوجهان : إنه يذبح ويرد الخيط ، لإمكان الجمع بين الحقين ، وهو جائز الذبح ، وأظهرهما ـ وهو الذي يقتضيه إطلاق المصنف ـ المنع كما في غير المأكول ، لأن للحيوان حرمة في نفسه ، ولهذا يؤمر بالإنفاق عليه ، ويمنع من إتلافه بغير الذبح للأكل ، وقد‌ روي (١) أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن ذبح الحيوان إلا لأكله ».

قلت : قد يناقش ( أولا ) بإمكان منع جعل مسوغ التيمم عذرا في عدم وجوب الرد هنا مطلقا ، لما عرفته من تكليف الغاصب بأشق الأحوال في الرد وإن استلزم الضرر عليه والمشقة ، فمع فرض أنه قد خاط به جرحه وكان في نزعه مشقة لا يخشى منها التلف وإن جاز التيمم لها أو يخشى الشين من نزعه يتجه تكليفه بذلك إلزاما له بأشق الأحوال ، لأنه هو الذي أدخل الضرر عليه باختياره الغصب الذي مقتضاه ذلك ، واحتمال الفرق بين الضرر المالي وغيره لا دليل عليه ، نعم قد يتجه ذلك مع الخوف على النفس الذي يسقط معه خطاب الرد ، فتأمل جيدا.

( وثانيا ) بإمكان إلزامه بشراء ما يجوز ذبحه من الحيوان إذا كان للغير ، مأكولا أو غيره ، مقدمة لذبحه ونزع الخيوط منه ، وإن أدى ذلك الى ضرر عليه ، فضلا عن إلزامه بذبح ما يجوز ذبحه من الحيوان الذي له ، ودعوى حرمته لغير الأكل واضحة المنع.

__________________

(١) سنن النسائي ج ٧ ص ٢١١‌ وفيه قال ( ص ) : « حقها أن تذبحها فتأكلها ولا تقطع رأسها فيرمي بها ».

٨١

( وثالثا ) بمنع إطلاق قرار الضمان عليه حتى في صورة علم ذي الجرح بغصب الخيوط وطلبه التخييط بها.

وعلى كل حال فإذا مات الحيوان الذي خيط به جرحه فان كان غير الآدمي نزع منه الخيط ، وفي الآدمي وجهان : أصحهما كما في المسالك وغيرها العدم ، لما فيه من المثلة ، والآدمي محترم حيا وميتا ، ولذلك‌ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) : « كسر عظم الميت ككسر عظم الحي ».

قلت : قد يقال باستثناء ذلك ، كما ذكروه في النبش للتوصل الى المال ، بل يمكن منع كون ذلك من المثلة المحرمة ، خصوصا في بعض الأفراد.

وأما غير المحترم من الحيوان وهو ما يصح إتلافه بغير التذكية كالخنزير والكلب العقور فلا يبالي بهلاكه ونزع الخيط منه.

ويلحق بهما الكافر الحربي بل والمرتد عن فطرة بل والزاني المحصن ونحوهم ممن هو غير محترم النفس ، وكذا لو عرض عدم احترامها بردة ونحوها بعد الخياطة.

واحتمال عدم الجواز باعتبار كون الحد وظيفة الامام وعدم جواز قتل المحارب في بعض الأحوال على بعض الأقوال كما ترى ، ضرورة عدم كون ذلك من الحد ، بل هو أخذ ماله المستلزم لموت غير محترم النفس ، ونحوه يجري في المحارب.

والكلام هنا يجري نحوه في لوح السفينة في صورة ما إذا كان فيها حيوان وإن لم يذكر احتمال الذبح هناك ، كما نبهنا عليه ، والله العالم.

( ولو حدث في المغصوب عيب ) مستقر لا سراية له ( مثل تسويس التمر أو تخريق الثوب رده مع الأرش ) سواء كان بفعل‌

__________________

(١) سنن البيهقي ـ ج ٤ ص ٥٨.

٨٢

الغاصب أو غيره ، وسواء زال معه الاسم أو غيره ، بلا خلاف أجده فيه بيننا ، بل الإجماع بقسميه عليه ، بل هو مقتضى وجوب رد المغصوب وضمان ما فات منه المستفادين من العقل والكتاب والسنة (١) والإجماع.

خلافا للمحكي عن أبي حنيفة من أنه إذا غير الغاصب المغصوب تغييرا أزال به الاسم والمنفعة المقصودة منه ـ كما إذا قطع الثوب أو طحن الحنطة مثلا ـ ملكه وضمن قيمته للمالك ، بل عنه لو دخل لص دار رجل مثلا فوجد بغلا وطعاما ورحى فضمد (٢) البغل وطحن الطعام ملك الدقيق ، فان انتبه صاحب الدار بعد ذلك كان للص قتاله عن دقيقة ، فان أتى الدفع عليه فلا ضمان على اللص.

وهو كما ترى مناف لقاعدة بقاء الملك ، بل وللمعلوم من الشرع ، والله العالم.

( ولو كان العيب غير مستقر ) بل هو سار لا يزال يزداد الى الهلاك ( كعفن الحنطة قال الشيخ ) في المحكي من مبسوطة : الأقوى أنه ( يضمن قيمة المغصوب ) لأنه بشرفه على التلف صار كالمستهلك ، فيضمن الغاصب حينئذ مثله أو قيمته ، بل مقتضى ذلك بناء على ما قدمناه كون المغصوب ملكا للغاصب ، وعن التذكرة أنه أظهر قولي الشافعية.

لكن قال المصنف ( ولو قيل برد العين مع أرش العيب الحاصل ثم كلما ازداد دفع أرش الزيادة ) حتى يهلك ( كان حسنا ) وإن فعل ذلك المالك عنادا ، لعدم كونه تالفا حقيقة ، بل جزم به كل‌

__________________

(١) راجع ص ٣٣.

(٢) هكذا في النسخة الأصلية المبيضة ، والمسودة المخطوطة بقلمه الشريف غير مقروة ، ومن المحتمل « فحمل ».

٨٣

من تأخر عنه.

نعم في قواعد الفاضل ذلك على إشكال ينشأ من حصول البراءة بدفع العين وأرش النقص ، فيجوز أن يعانده المالك بعدم التصرف فيه إلى أن يتلف ، ومن استناد النقص إلى السبب الموجود في يد الغاصب.

ولا يخفى ما في الوجه الأول ، ضرورة عدم اقتضاء دفع أرش الحاصل كونه كمال الحق الواجب ، لعدم حدوث تلف شي‌ء يكون مضمونا بعد ، فإذا حدث ضمنه ، لأنه مستند إلى جنايته ، ومعاندة المالك بالطريق الشرعي الذي هو تسلط الإنسان على ماله لا تقتضي سقوط أرش الجناية المضمونة.

وفي جامع المقاصد تقييد الحكم المزبور بما إذا لم يتمكن المالك من العلاج بسهولة ، وإلا ففيه تردد ، وتبعه في المسالك ، قال : « هذا إذا لم يمكن إصلاحه ، وإلا سقط أرش ما زاد على ذلك ، لاستناد الفائت إلى تقصير المالك ، كما لو جرحه فترك علاج الجرح مع قدرته عليه ، فإنه لا يكون مضمونا ».

قلت : يمكن منع عدم الضمان في الجرح ، بل نفى الخلاف بعضهم عن الضمان لو جرحه فترك المداواة حتى مات ، قال : « لأن السراية مع ترك المداواة من الجرح المضمون على الجارح » نعم لو فصده الفصاد مداواة لمرضه بأمر الطبيب فترك شده أو ترك كل منهما شده حتى نزف الدم فمات فخيرة الكتاب والتحرير والإرشاد والتلخيص أنه لا ضمان على الفصاد ، واستشكل فيه الفاضل في القصاص من استناد الموت إلى سراية الجرح ، فهو كغيره من الجراحات التي يهمل المجروح مداواتها ، وعلى كل حال فما نحن فيه من الأول.

لكن قد يقال : إن الأرش الذي دفعه الغاصب إنما هو أرش عيب‌

٨٤

سار ، على معنى تقويم الحنطة صحيحة بكذا ومعيبة بالعيب المزبور بكذا ، فهو كمال حق المالك ، فلا وجه لضمان ما تجدد بعده ، إذ هو حينئذ كرجوع المشتري على البائع بمثل العيب المزبور لو فرض سبقه أو حدوثه في الثلاثة على وجه يكون ضمانه على البائع ، ودعوى التزام ذلك فيه أيضا واضحة المنع ، فتأمل جيدا ، والله العالم.

( ولو كان ) المغصوب باقيا ( بحاله رده ، ولا يضمن تفاوت القيمة السوقية ) بلا خلاف أجده فيه بيننا ، بل في المسالك نسبته إلى أكثر أهل العلم ، لأن الفائت رغبات الناس ، لا شي‌ء من المغصوب.

خلافا لشذاذ من العامة. وخصوصا إذا فات القيمة ثم عادت إلى ما كانت وقت الغصب ، نعم لو كان التفاوت بسبب نقصان في العين ضمن ذلك ، كما ستعرف الكلام فيه وفي غيره ، والله العالم.

وكيف كان ( فان تلف المغصوب ضمنه الغاصب بمثله إن كان مثليا ) بلا خلاف معتد به أجده فيه ، كما اعترف به بعضهم ، بل هو من قطعيات الفقه ، كما يومئ إليه أخذه مسلما في سائر أبوابه ، وفي جامع المقاصد الإجماع عليه ، بل في غاية المراد أطبق الأصحاب على ضمان المثلي بمثله إلا ما يظهر من ابن الجنيد ، فإنه قال : « إن تلف المضمون ضمن قيمته أو مثله إن رضي صاحبه » ولعله يريد القيمي ، والمراد من ضمانه بمثله عدم تسلط المالك على إلزامه بالقيمة لو أرادها ، كما أنه لا تسلط للغاصب على إلزام المالك بقبول القيمة لو بذلها.

لكن لم نعثر في شي‌ء مما وصلنا من الأدلة عدا معقد الإجماع والفتاوى على المثلي والقيمي عنوانا كي يرجع فيهما كغيرهما إلى العرف بعد انتفاء الشرع.

٨٥

نعم قال الله تعالى شأنه (١) ( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) و ( جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ) (٢) و ( إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ) (٣) إلى غير ذلك مما ورد في المقاصة التي مقتضاها ضمان الشي‌ء بمثله العرفي لا الاصطلاحي.

نعم خرج الحيوان ، لما في صحيح أبي ولاد (٤) من ضمان قيمة البغل وغيره مما ورد فيه القيمة (٥) بناء على إرادة الإلزام بها على وجه لا يجزئ غيرها من الخبر المزبور ، فيتجه حينئذ احتمال كون الأصل الضمان بالمثل العرفي إلا ما خرج بالدليل.

ولعله لذا ذهب المصنف فيما تقدم من كتاب القرض (٦) الى ضمان القيمي بمثله ، لإطلاق ما دل على قرض الشي‌ء بمثله الصادق بالمثل العرفي ، وقد تقدم الكلام فيه في محله.

وعلى كل حال فالآيات المزبورة لا دلالة في شي‌ء منها على المثلي المصطلح الذي ستسمع ما ذكروا له من التعاريف المتعددة.

بل قيل : إن المراد بالآية إن كان بيان التشبيه الخاص بمعنى عدم التجاوز في مقدار الاعتداء عما اعتدى به فهو حينئذ أجنبي عن المثلي المصطلح ، ضرورة كون المراد حينئذ التساوي في مقدار الاعتداء في القتل والجرح وأخذ المال من دون ملاحظة المثل أو القيمة ، بل ليس فيها‌

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ١٩٤.

(٢) سورة الشورى : ٤٢ ـ الآية ٤٠.

(٣) سورة النحل : ١٦ ـ الآية ١٢٦.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من كتاب الغصب ـ الحديث ١.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٨٨ ـ من أبواب نكاح العبيد والإماء ـ من كتاب النكاح.

(٦) راجع ج ٢٥ ص ٢٠.

٨٦

حينئذ إلا حكم واحد ، وهو الرخصة في الاعتداء بمقدار اعتداء المعتدي ، وأن لا يتجاوز عنه ، والمراد بالمقدار هو أن يحكم أهل العرف بأنهما سيان في المنفعة والفائدة ، ويرضى العقلاء بتملك كل منهما مقام الآخر من غير فرق بين المثل والقيمة.

وإن كان المراد التشبيه المطلق ، يعني يجوز لكم الاعتداء على نحو يماثل اعتداء المعتدي في الاعتداء والمعتدى به فهذا إطلاق ينصرف الى العموم في كلام الحكيم ، وحينئذ فهو يشتمل على حكمين : الأول الرخصة في الاعتداء ، والثاني أن ذلك على سبيل المثلية في كل شي‌ء ، وهو يشمل المثلي والقيمي أيضا ، ففي كل منهما يجب اعتبار المماثلة في الاعتداء والمعتدى به في كل شي‌ء إلا مع التعذر وهو يناسب مذهب ابن الجنيد بلزوم المثل في القيمي أيضا إلا مع التعذر ، فلا تدل الآية على التفصيل المزبور.

فالمناص بأن يبنى تفسير الآية على الوجه الثاني ، ويخص عمومه بدليل خارجي مثل صحيح أبي ولاد (١) أو يقال : إن حكم القيمي ليس داخلا في الآية أو يعترف بمذهب ابن الجنيد ، فيندرج مسألة الرجوع الى المثل في المثلي تحت عموم الآية ، لا لأن لفظ المثل فيهما ( فيها ل ظ ) بمعنى المثلي المصطلح ، بل لأن المماثل المصطلح من أفراد المماثلة المعتبرة في الآية بالمعنى ويخرج القيمي بالصحيحة المزبورة.

إلى آخر ما ذكره القائل المزبور ، فإنه وإن كان كلامه لا يخلو من غشاوة وقبح تأدية وخلل في النقل عن ابن الجنيد الظاهر في ضمان مطلق المغصوب بقيمته ، وتوقف الاجتزاء بالمثل على رضا المالك ، بناء على رجوع القيد في كلامه إلى الأخير ، وإن كان راجعا إليهما كان مراده كون التخيير حينئذ بيد المالك بين المثل والقيمة مطلقا ، كما هو المعروف‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من كتاب الغصب ـ الحديث ١.

٨٧

في النقل عنه ، لكنه راجع إلى ما ذكرناه من عدم دلالة الآية على اعتبار المثلي المصطلح ، بل إن كان ولا بد فيكفي المثل العرفي.

ولعله لذا قال المقدس الأردبيلي بعد أن أشكل ما ذكره من تعاريف المثلي ما حاصله من أن تحقيقه مشكل جدا ، وهو مبنى أحكام كثيرة والذي تقتضيه القواعد أنه لفظ عليه أحكام بالإجماع والكتاب والسنة وليس له تفسير في الشرع ، وما ذكر مجرد اصطلاح ، فيمكن أن يحال الى العرف ، وهو كل ما يقال إن لهذا مثلا عرفا يؤخذ به ، فان تعذر أو لم يكن أصلا فالقيمة ، بل ينبغي ملاحظة مثل المتلف ، فلا يجزئ مطلق الحنطة عن الصنف الخاص المتلف ، بل لا فرق بينها وبين الثوب بل والفرس وغيرهما إذا كان لهما أمثال عرفية.

قلت : لكن ذلك كله كما ترى مخالف للإجماع بقسميه ، بل ولما هو كضروري الفقه بين العامة والخاصة ، فيمكن أن يقال بملاحظة ذلك وملاحظة الأمر بالقيمة في الحيوانات والمنافع (١) والسفرة المتلقطة في الطريق وكان فيها بيض ولحم وغيرهما (٢) وغير ذلك مما ورد فيه الأمر (٣) بالقيمة وله أمثال عرفية : إنه لا يراد المثل العرفي ، بل هو شي‌ء فوق ذلك ، وهو المماثلة في غالب ما له مدخلية في مالية الشي‌ء لا المماثلة من كل وجه المتعذرة ، ولا مطلق المثل العرفي الذي يطلق مع وجود جهة الشبه في الجملة ، وهذا لا يكون إلا في الأشياء المتساوية المتقاربة في الصفات والمنافع والمعلوم ظاهرها وباطنها.

ومن هنا كان الحيوان قيميا باعتبار أنه وإن وجد له مثل عرفا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨٨ ـ من أبواب نكاح العبيد والإماء ـ من كتاب النكاح.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٣ ـ من كتاب اللقطة ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من كتاب الغصب ـ الحديث ١.

٨٨

ولكن لم يعلم باطنه المختلف أشد اختلاف ، وكذا الثوب بل والأرض التي فيها قطع متجاورات والمنافع المختلفة كل الاختلاف باعتبار الاستيفاء ، وفرض وجود المثل المنطبق على المعنى المصطلح في بعض الأفراد لا يوافق اطراد قواعد الشرع ، فلذا كان المدار على النوع بل الصنف.

( و ) بذلك يتضح لك المراد في تعريف المشهور كما في المسالك وغيرها للمثلي بأنه ( هو ما يتساوى قيمة أجزائه ) وزاد بعضهم التمثيل بالحنطة والشعير وغيرهما من الحبوب والأدهان وما أشبه ذلك.

ولعل المراد تساوي قيمة أجزاء الصنف من النوع منه ، بل الأشخاص من الصنف ، بل على أن يكون ذلك التساوي من حيث الذات لا الاتفاق ، وحينئذ فالمن من شخص الحنطة الخاصة مثلا والدهن الخاص مثلا قيمة أجزائه متساوية ، ضرورة كون الرطل بدرهم مع فرض كون المن بدرهمين وهكذا.

ولا يرد النقض بالثوب أو الأرض الذي يمكن دفعه بعدم غلبة ذلك فيهما ، وفرض بعض الأفراد كذلك لا يناسب اطراد قواعد الشرع.

بل مما ذكرنا يعلم اندفاع ما أورد في مجمع البرهان بأنه إن أريد التساوي بالكلية فالظاهر عدم صدقه على شي‌ء من المعرف ، إذ ما من شي‌ء إلا وأجزاؤه مختلفة في القيمة في الجملة ، مثل الحنطة والشعير وجميع ما قيل إنه مثلي ، فإن قفيزا من حنطة يساوي عشرة وآخر يساوي عشرين ، وإن أريد التساوي في الجملة فهو في القيمي أيضا موجود ، مثل الأرض والثوب ونحوهما ، وإن أريد مقدارا خاصا فهو حوالة على مجهول.

قلت : قد عرفت أن المراد المساواة في غالب ما له مدخلية في المالية ، وتفاوت أفراد الحنطة وإن كان معلوما إلا أنك قد عرفت المساواة في أشخاص الأصناف ، ولا يكفي الاتحاد في اسم النوع المنافي لقاعدة لا ضرر‌

٨٩

ولا ضرار ولغيرها.

ولعله أشار إلى ما ذكرنا الشهيد في الدروس بتعريفه المثلي بأنه المتساوي الأجزاء والمنفعة المتقارب الصفات ، بل هو في الحقيقة كشف لتعريف المشهور ، لا أنه تعريف آخر وإن توهمه غير واحد.

بل لعله المراد من تعريفه له في غاية المراد أيضا بأنه ما تتساوى أجزاؤه في الحقيقة النوعية ، على معنى إرادة التساوي المزبور ، لا أن المراد به الاتحاد في اسم القليل والكثير منه كالماء والحنطة كي يرد عليه الانتقاض بالأرض.

وإليه يرجع ما في التذكرة عن بعض من أنه ما لا يختلف أجزاء النوع الواحد منه في القيمة ، وربما يقال في الجرم والقيمة ، ويقرب منه قول من قال : إنه الذي يتشاكل في الخلقة ومعظم المنافع ، أو ما تتساوى أجزاؤه في المنفعة والقيمة ، وزاد بعض من حيث الذات لا من حيث الصفة.

بل لعله المراد أيضا من تعريفه بالمقدر بالكيل والوزن على معنى غلبة التساوي في أجزائها على الوجه المزبور في كثير من أفرادها المتعارفة ، فلا يرد النقض بالمعجونات.

ومن هنا زيد فيه اشتراط جواز السلم فيه أو اشتراط جواز بيع بعضها ببعض بتشابه الأصلين في قضية التقابل.

فلا يرد ما في المسالك من أنه اعترض على العبارات الثلاثة بأن القماقم ( والمغارف خ ) والملاعق المتخذة من الصفر موزونة ، ويجوز السلم فيها ، وبيع بعضها ببعض وليست مثلية ، مضافا إلى ما أورد هو عليه بمنع جواز السلم فيها ، لاختلافها وعسر ضبطها. وإلى ما ذكرناه سابقا من أن المراد التساوي ذاتا لا اتفاقا بصنع صانع ونحوه.

٩٠

بل يرد عليه ما قيل من اقتضائه كون الشي‌ء مثليا في بلد قيميا في آخر ، لمكان اختلافهما في الكيل والوزن وعدمهما إذ قد عرفت أن المراد بذا المتعارف في الغالب باعتبار كشفه عن تساوي أجزائه ، لا أن المراد مثليته من حيث الكيل والوزن المختلفين باختلاف البلدان.

وبالجملة فالمراد من التعاريف واحد ، وهو التساوي الذاتي في غالب ما له مدخلية في الرغبة والقيمة ، وأن يكون ذلك غالبا في أفراد الأصناف لا اتفاقا.

بل لعله المراد أيضا مما في الإرشاد وشرحه الإسعاد لبعض الشافعية من تعريفه بأنه ما أمكن ضبطه بكيل أو وزن وجاز السلم فيه.

بل لعله المراد أيضا مما حكاه في الرياض عن خاله في دفع ما سمعته من المقدس الأردبيلي من أنه لعل المراد التقارب المتعارف المعتد به عند أهل العرف ، أي ما يكون متساوي الأجزاء عرفا يكون مثليا ، وغير المتساوي كذلك غير مثلي ، وأيضا المثلي ما تعارف تحقق المثل له بحيث يساويه ويماثله في الطبيعة والمميز النوعي والصنفي ، وهو أقرب إليه من كل جنس وإن كان مثل الدرهم والدينار.

بل يعلم مما ذكرنا أيضا أنه لا وقع لما اعتذر به الكركي عن التعريف المزبور بأن الظاهر منه إرادة ضبط المثلي بحيث يتميز فضل تميز ، لا التعريف الحقيقي ، أو يكون التمثيل بالحنطة والشعير وغيرهما من الحبوب والأدهان داخلا في التعريف ، فيكون انكشافه بهذه الأمثلة ، ضرورة أنك قد عرفت كون المراد بالتعريف المزبور ما لا يحتاج معه إلى الاعتذار المذكور.

ومن الغريب ما في المسالك من أنه اعترض عليه بأنه إن أريد بالأجزاء كل ما تركب عنه الشي‌ء لزم أن لا تكون الحبوب مثلية ، لأنها تركب من القشور والألباب ، والقشر واللب مختلفان في القيمة ،

٩١

وكذلك التمر والزبيب ، لما فيهما من العجم والنوى ، وإن أريد الأجزاء التي يقع عليها اسم الجملة لزم أن لا تكون الدراهم والدنانير مثلية ، لما يقع في الصحاح من الاختلاف في الوزن والاستدارة والاعوجاج ووضوح السكة وخفائها ، وذلك مما يؤثر في القيمة.

بل مما ذكرناه يظهر لك المناقشة فيما في الرياض وغيره من أنه « لا يذهب عليك عدم ظهور حجة لهذه التعاريف عدا العرف واللغة ، وهما بعد تسليم دلالتهما على تعيين معنى المثل المطلق وترجيحهما أحد الآراء لا دلالة لهما عليه ، إذ هي فرع تعليق الحكم بلفظ المثل في دليل ، وليس بموجود عدا قوله تعالى (١) ( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) وفيه نظر ، لاحتمال كون المراد بالمثل فيه أصل الاعتداء لا مثل المعتدى فيه الذي هو ما نحن فيه ، فتأمل ».

إذ قد عرفت أن المراد به ذلك ولو بمعونة ما سمعت من النص والفتوى.

ثم قال : « هذا مع أنه لم يظهر حجة على أصل اعتبار المثل في المثلي والقيمة في القيمي عدا الإجماع والاعتبار ، وليس فيهما ما يرجح أحد التعريفات ، فليرجع في خصوص الأفراد إلى ما أجمع على كونه مثليا أو قيميا ، ولا إشكال فيما ظهر فيه ، ويشكل الأمر فيما عداه ، وينبغي الاحتياط في مثله بالرجوع إلى الصلح والتراضي إن أمكن ، وإلا فلا يبعد ترجيح مختار الأكثر ، لرجحانه بالشهرة ، ولولاها لكان العمل بالتخيير بين الآراء متجها ، كما هو الحال في ترجيح الأقوال المختلفة التي لا مرجح لأحدها على الآخر من الأدلة ، وربما يرجح مختار الأكثر على أكثر ما عداه أيضا بسلامته عن النقض الذي يورد عليه من شموله‌

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ١٩٤.

٩٢

للثوب ، لأن قيمة أجزائه متساوية مع أنه قيمي ، وذلك فإنه يمكن أن يقال : إن الثوب ليس بمتساوي الأجزاء ، فان ذراعا منه قد يسوى عثمانيا والآخر شاهيات ، بل ربما لا يكون له قيمة أصلا » بل من التأمل فيما ذكرنا يظهر لك أنه من غرائب الكلام.

على أنه يمكن أن يقال بل قيل : إن الظاهر من الآية (١) رخصة المالك بأخذ المثل بالمماثلة العامة إرفاقا بالمالك ، فلا يجوز للغاصب التجاوز عنه مع تقاضيه ذلك ، لا أنه لا يجوز للمالك مطالبة الغاصب بالقيمة ، فإن الظاهر أن التالف في حكم المثمن ، والعوض في حكم الثمن ، والتخيير بيد البائع في التعيين ، فيجوز للمالك مطالبته بالقيمة ، ولا يرضى إلا بذلك في عوض ماله ، ولا يمكن التمسك بأصالة براءة الغاصب عن لزوم القيمة ، لاستصحاب شغل الذمة الموقوف براءتها بأداء حق المالك وإرضائه ، لكونه مطلوبا.

بل ربما يقال : إن النقدين هما الأصل في الأعواض في الغرامات وغيرها ، كما يشعر به بعض النصوص التي تقدمت في كتاب الزكاة (٢) على ما يخطر في البال ، ولعله اليه نظر الإسكافي في إطلاقه ضمان القيمة وتعليق المثل على التراضي.

وعلى كل حال فقد ظهر لك من جميع ما ذكرنا أن المثلي المصطلح هو الذي يمكن لعقلاء العرف الحكم بمثل له مساو فيما له مدخلية في ماليته في غالب صنفه ، وما ليس كذلك فهو قيمي ، ولو لأن المغصوب مثلي معيب ولم يكن في غالب صنفه معيب كذلك ، فيكون الحاصل أن‌

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ١٩٤.

(٢) الظاهر أن نظره ( قده ) إلى موثقة إسحاق بن عمار التي ذكرها في ج ١٥ ص ٢٠٤ ورواها في الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب زكاة الذهب والفضة ـ الحديث ٧.

٩٣

المراد بالمثلي في كلامهم هو الذي له مثل بمعنى أنه مساو له في جميع ما له مدخلية في ماليته من صفاته الذاتية لا العرضية كالمكان والزمان على وجه يكون غالبا في صنفه ، وما عداه قيمي ، فتأمل فإنه جيد.

وأما وجه تعيين الغرامة به مع فرض تحققه فللإجماع والاعتبار وغيرهما ، والله العالم.

( فإن تعذر المثل ) المزبور بعد أن كان موجودا حين تلف المغصوب كما في التذكرة والمسالك وغيرهما ( ضمن قيمته ) أي المثل بلا خلاف أجده فيه ، بل قيل : إنه إجماعي ، لنفي الضرر وقبح التكليف بما لا يطاق ، والإضرار بتأخير الحق ، فتعينت القيمة المزبورة جمعا بين الحقين.

لكن قد يناقش إن لم يكن إجماعا بأن ذلك لا يقتضي وجوب القبول على المالك لو دفع الغاصب ، فان له التأخير الى حال التمكن من المثل.

اللهم إلا أن يكون ذلك ضررا على من عليه الحق ولو باعتبار بقاء ذمته مشغولة بناء على أن مثله ضرر منفي أيضا ، وفيه تأمل.

أو يقال : إنه مقتضى‌ قوله عليه‌السلام (١) : « المغصوب مردود » بناء على إرادة ما يشمل رد المثل أو القيمة من الرد فيه ، فيكون ذلك تكليفا للغاصب ، فيجب القبول على من له الحق مع دفع الحق.

هذا وقد يظهر من بعض عبارات التذكرة والإيضاح عدم وجوب القبول عليه وأن له التأخير إلى وجدان المثل ، فيملك المطالبة ، وحينئذ يرتفع الاشكال من أصله.

وعلى كل حال فالمراد قيمته ( يوم الإقباض ) أي حينه ( لا يوم ) ‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الأنفال ـ الحديث ٤ من كتاب الخمس وفيه‌ « الغصب كله مردود ».

٩٤

( الإعواز ) ولا أقصى القيم من يوم الغصب الى يوم التلف ، ولا أقصى قيمته من وقت تلف المغصوب إلى الإعواز ، ولا أقصى القيم من وقت الغصب إلى وقت الإعواز ، ولا أقصاها من وقت الغصب إلى وقت دفع القيمة ، ولا أقصاها من وقت انقطاعه وإعوازه إلى وقت المطالبة ، ولا أقصاها من وقت تلف المغصوب الى وقت المطالبة ، ولا قيمته يوم التلف ، ولا قيمته يوم المطالبة ، ولا أنه إن كان منقطعا في جميع البلاد فالاعتبار بقيمته يوم الإعواز وإن كان في تلك البقعة فالاعتبار بقيمته يوم الحكم بالقيمة ، بلا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك بيننا ، وإنما بعضها وجوه وبعضها أقوال للعامة.

نعم في الإيضاح أن الأصح ضمانه أقصى القيم من وقت الغصب إلى وقت دفع القيمة ، ولم نعرفه لغيره ، بل هو مبني على وجوب ضمان أعلى القيم في المغصوب ، وستعرف ضعفه.

كما أن بعض الوجوه مبنية على ضمان المغصوب مع تجدد تعذر المثل بقيمته لا قيمة المثل.

وقيل : إنهم اختلفوا في باب القرض في وقت وجوب قيمة المثل في المثلي إذا تعذر على أقوال ، فبعض على أنها تجب قيمة يوم المطالبة ، وبعض وقت القرض ، وبعض وقت التعذر ، ولا فرق ظاهر بين المقامين ، بل عن ابن إدريس التصريح بأن الحكم فيهما سواء.

وفيه منع تحقق خلاف معتد به ، وعلى تقديره فلا ريب في ضعفه ، ضرورة كونه بعد ثبوت المثل في الذمة في القرض والغصب يستصحب بقاؤه إلى حين أدائه ، وتجدد تعذره لا يرفع الحكم الوضعي الذي هو ملكية المثل عليه ، ولذا يجب عليه أداؤه مع فرض تجدد التمكن منه ، فهو إلى حين الإقباض ليس له في ذمته إلا المثل الذي تؤدى القيمة بدلا عنه‌

٩٥

بطلب من المالك أو اختيار من الغاصب على الوجهين السابقين فتبرأ الذمة حينئذ على وجه لو تمكن من المثل بعد ذلك لم يجب عليه دفعه بلا خلاف أجده فيه بيننا.

وبذلك يفرق بينه وبين المالك وملكه ، فان المقام شبه أداء الدين بغير جنسه مع التراضي أو قلنا بأن ولاية ذلك بيد الغاصب ، بخلاف ما يؤدى للحيلولة ، فإنه ليس بدلا عن العين بنفسها ، بل هو بدل عن حيلولتها.

وعلى كل حال فالغرض أن أداء قيمة المثل عند تعذر المثل ليس لثبوتها في الذمة ، بل الثابت في الذمة المثل ، والقيمة أداء عنه ، فلا نعتبر إلا قيمته حين القبض. نعم لو قلنا بالتعذر تثبت في الذمة القيمة اتجه اعتبارها عنده ، لا وقت الإقباض ، لكونه حينئذ كتلف القيمي بناء على ذلك فيه ، لكن لا دليل عليه ، بل مقتضى استصحاب بقاء المثل في ذمته خلافه ، والإعواز لا يرفع الحكم الوضعي كما ذكرناه.

ومن هنا مضافا إلى ما ستعرف من عدم ضمان أعلى القيم في المغصوب يظهر لك ضعف الوجوه المزبورة ، بل وغيرها من الوجوه المحتملة في المقام غير العشرة المذكورة في كلام العامة.

هذا وفي التذكرة « والمراد بالفقدان أن لا يوجد في ذلك البلد وما حواليه » وزاد في المسالك « مما ينقل منه إليه عادة ، كما بين في انقطاع المسلم فيه » ونحوه عن الكفاية ، ومرجعه إلى ما عن جامع المقاصد من أن المرجع فيه إلى العرف.

وفيه أنه ليس في شي‌ء من الأدلة العنوان بذلك حتى يرجع إليه ، بل مقتضى تكليف الغاصب بالأشق لزوم تحصيل المثل ولو من البلاد؟ لنائية التي لا ينقل منها عادة إن لم يستلزم التكليف بالمحال.

٩٦

ولعله لذا قال في التحرير وغيره : « لو وجد المثل بأكثر من ثمن المثل فالوجه وجوب الشراء ».

وفيه أنه مناف لما دل على نفي الضرار (١) والحرج في الدين (٢) والخروج عنه في خصوص رد العين المغصوبة لا يقتضي الخروج عنه في مثلها ، فالمتجه جعل المدار على ذلك ، والله العالم.

( و ) كيف كان فقد ظهر لك مما ذكرنا أنه ( لو أعوز فحكم الحاكم بالقيمة ) ولم يدفعها المحكوم عليه برضا من خصمه أو عدمه ( ف ) اتفق أنها ( زادت أو نقصت ) بعد الحكم المزبور ( لم يلزم ما حكم به الحاكم ، وحكم بالقيمة وقت تسليمها ) ضرورة عدم اقتضاء الحكم المزبور تعينها ، وإنما هو بيان قدر الاستحقاق في ذلك الوقت لو دفع ، وذلك ( ل ) ما عرفت من ( أن الثابت في الذمة ليس إلا المثل ) وانما تدفع القيمة بدلا عنه ، فيكون المدار حينئذ على حين القبض ، كما هو واضح بعد الإحاطة بما ذكرناه.

هذا ولا يخفى عليك اقتضاء التقييد بما سمعت في أصل المسألة أنه لو لم يكن المثل موجودا وقت التلف تجب قيمة التالف ، بل هو الذي استظهره في جامع المقاصد ، لصيرورته بفقد المثل قيميا حين التلف.

وقد يناقش بعدم المنافاة بين ثبوته في الذمة وبين تعذر أدائه في ذلك الوقت ، ودعوى صيرورته قيميا واضحة المنع ، إذ المثلي لا يتعين كونه كذلك بتعذر المثل ، وإلا لزم عدم وجوب دفعه لو تمكن منه بعد ذلك قبل الأداء ، لثبوت القيمة حينئذ في الذمة ، ولا أظن أن القائل المزبور يلتزمه ، لوضوح ضعفه ، فالمتجه ثبوت المثل في ذمته على كل حال ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من كتاب إحياء الموات.

(٢) سورة الحج : ٢٢ ـ الآية ٧٨.

٩٧

وتعذر أدائه حال التلف لا يقتضي عدم ثبوته في الذمة ، فإن عدم التمكن من وفاء الذين لا يقتضي عدم ثبوته في الذمة ، وحينئذ لم يكن للتقييد المزبور فائدة.

ولعله لذا تركه المصنف ، بل قيل والمبسوط والتحرير والإرشاد والدروس ، بل في الأخير ما هو كالصريح في ذلك ، قال : « فان تلف فعليه ضمان المثل ، فان تعذر فقيمته يوم الإقباض ، سواء تراخى بتسليم المثل عن تلف العين أم لا » والله العالم.

ولو أتلف الغاصب مثليا وظفر به المالك في غير مكان الإتلاف فعن ابن إدريس أن له إلزامه به في ذلك المكان وإن كان هو أعلى قيمة من مكان الغصب وكان حمله يحتاج إلى مئونة ، قال : « لأنه الذي يقتضيه عدل الإسلام والأدلة وأصول المذهب » ووافقه الفاضل وولده والشهيد والكركي لأن وجوب رد المظلمة فوري ، ولا تراعي مصلحة من حقه أن يؤخذ بأشق الأحوال.

لكن عن المبسوط ما حاصله على طوله أنه إذا اختلفت القيمة فللمالك قيمته في بلد الغصب أو يصبر حتى يصل إليه ليستوفي ذلك للضرر المنفي ، قيل : وهو المحكي عن القاضي والشافعي.

ونوقش بمنافاته لفورية الحق ، وبأن تأخير الأداء ورد المظلمة ضرر على المالك ، والضرر لا يزال بالضرر ، بل قيل : إذا تعارض الضرران فالترجيح لنفي ضرر المالك ، إذ الضرر المنفي إنما هو من شرع الحكم ، والغاصب هنا أدخله على نفسه ، مضافا إلى أنه يؤخذ بأشق الأحوال ، وإلى إطلاق ما دل على وجوب رد المظلمة (١) وعلى تسلط المظلوم على‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧٨ ـ من أبواب جهاد النفس ـ من كتاب الجهاد.

٩٨

استيفائها متى تمكن منها (١) والفرض أن الثابت في ذمته المثل ، ودعوى اعتبار المكان في مثليته واضحة المنع لغة وشرعا وعرفا.

نعم يتجه بناء على ذلك أنه ليس للمالك الامتناع لو بذله الظالم في غير بلد الظلم وإن اقتضى ضررا على المالك لقلة القيمة مثلا ، وإن تردد فيه في جامع المقاصد ولم يرجح.

بل قد ينقدح من ذلك أن على الغاصب ضمان المثل وإن خرج بالزمان أو المكان عن التقويم ، كما لو أتلف عليه ماء في مفازة ثم اجتمعا على نهر ، أو أتلف عليه جمدا في الصيف ثم اجتمعا في الشتاء ، وإن ذكر فيه في القواعد احتمالين ، ثانيهما أن عليه قيمة المثل في تلك المفازة أو الصيف من دون ترجيح ، بل في الدروس قوة الاحتمال الثاني ، بل لعله خيرة الفخر ، بل هو خيرة الفاضل في التذكرة ، بل في جامع المقاصد نسبته إلى اختيار الأصحاب وغيره وأنه لا محيد عنه ، وإن كنا لم نعثر على من تعرض له بالخصوص غير من عرفت.

لكن قد عرفت أن الثابت في ذمته المثل ، كما هو مقتضى إطلاق الفتاوى ومعقد الإجماع ، والمكان والزمان لا مدخلية له في حقيقة المثلية ، وقاعدة الضرار مشتركة بينه وبين المالك ، وأخذه بأشق الأحوال إنما هو في رد العين المغصوبة لا المثل ، ولذا صرح في جامع المقاصد بل لعله ظاهر غيره أيضا بعدم ضمانه غير المثل لو بقي له قيمة في الجملة في غير المكان المزبور ، وإنما ذاك حيث لا يكون له قيمة.

على أن المتجه بناء على ذلك ضمانه المثل في أقرب الأماكن والأزمنة إلى النهر والشتاء ، لا قيمته في ذلك المكان والزمان.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب فعل المعروف ـ من كتاب الأمر بالمعروف والبحار ج ٧٥ ص ١٧.

٩٩

ودعوى أنه لما كان مثله في الشط لا قيمة له فالعدول إلى قيمة مثله الآخر غير معقول ، فتعين الرجوع إلى قيمة عين المغصوب في مكانه أو زمانه ، خالية عن الدليل ، بل ظاهر الدليل خلافها ، ضرورة اشتغال الذمة بالمثل حال التلف وإن اختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة في القيمة ، ولا دليل على عود اشتغال الذمة بالقيمة ، بل مقتضى الأصل خلافه ، والله العالم. هذا كله في المثلي.

( وإن لم يكن ) المغصوب المتلف ( مثليا ) بل كان قيميا كالحيوان ونحوه مما لم يكن لعقلاء العرف طريق للحكم بالمساواة فيما له مدخلية في ماليته من صفاته الذاتية في الصنف ( ضمن قيمته ) بلا خلاف معتد به في ذلك هنا ، نعم تقدم للمصنف في كتاب القرض (١) ضمان القيمي بمثله ، وقد سمعت الكلام فيه هناك.

كما أنك سمعت الكلام في المحكي عن ابن الجنيد المحتمل لإرادة ما لا ينافي المشهور منه ، وعلى تقديره فلا ريب في ضعفه ، لظهور صحيح أبي ولاد (٢) وغيره مما دل على ضمان الحيوان (٣) عبد أو غيره في كون اللازم القيمة ، ومنه نصوص عتق الشريك (٤) المقتضي للسراية المأمور فيها بالتقويم ، فليس للمتلف دفع المثل العرفي إلا مع رضا المالك ، كما أنه ليس للمالك اقتراحه عليه.

وما في‌ بعض أخبار العامة ـ عن عائشة (٥) قالت : « صنعت حفصة‌

__________________

(١) ج ٢٥ ص ٢٠.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من كتاب الغصب ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب موجبات الضمان ـ الحديث ٢ من كتاب الديات.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من كتاب العتق.

(٥) سنن أبي داود ج ٢ ص ٢٦٧ ـ ط مصر عام ١٣٧١ وفيه « صفية » بدل « حفصة ».

١٠٠