جواهر الكلام - ج ٣٧

الشيخ محمّد حسن النّجفي

والاستحسان فضلا عن الإمامية الذين مبنى فقههم على القواعد المقررة الثابتة عن أهل بيت العصمة ، فلا وجه للضمان في الفرض كما قطع به الأصحاب ( لأن ) الحر لا يدخل تحت اليد على وجه تدخل منافعه معه كالمال ولو شرعا. بل ( منافعه في قبضته ) كثيابه باقية على أصالة عدم الضمان ( و ) إن ظلم وأثم بحبسه أو منعه عن العمل.

نعم ( لو استأجره لعمل ) في زمان معين ( فاعتقله ولم يستعمله فيه ) استقرت الأجرة عليه قولا واحدا كما عن المهذب البارع ، ولا نزاع فيه كما في جامع المقاصد ، ولعله ـ بعد إرادة الإجماع منه ـ الحجة بعد اقتضاء عقد الإجارة ملك الثمن ، وعدم الاستيفاء إنما كان لتقصير من المستأجر ، وقد فات الزمان ، والأصل عدم بطلانها ، كما أن الأصل عدم قيام غير الزمان الذي هو متعلق العقد مقامه.

ولعل مثله ما قيل من أنهم ذكروا قرارها أيضا فيما لو استأجره لقلع ضرسه فبرأ بعد أن مضت مدة يمكنه القلع فيها باذلا الأجير نفسه فيها ، وإنما كان التأخير من جانب المستأجر ، وذلك لما عرفت من اقتضاء العقد ملك الأجرة على الوجه الذي سمعته ، والفرض لم يبق محل للعمل. والأصل عدم الانفساخ وعدم قيام غير متعلق العقد مقامه ، فهو حينئذ كالأجير الخاص ، وكذا ما كان مثله ، إذ ليس لقلع الضرس خصوصية.

أما لو استأجره على عمل فاعتقله مدة يمكن فيها استيفاء العمل ولم يستوفه وبدل الأجير نفسه للعمل كذلك ولم يستوفه منه ففي استقرار الأجرة ( تردد ) كما في التذكرة والقواعد والإرشاد وغاية المراد ( و ) لكن ( الأقرب أن الأجرة لا تستقر ) كما في التحرير وجامع المقاصد وتعليق الإرشاد والمسالك والروضة والرياض وغيرها على ما حكي عن بعضها ( لمثل ما قلناه ) من أن منافع الحر تضمن‌

٤١

بالاستيفاء لا بالفوات ، فمنفعته في المدة المزبورة غير مضمونة على الحابس وإن بذلت له ، فالعمل باق على استحقاقه عليه بالعقد الذي يقتضي ملك الأجرة بملك العمل عليه وتسليمها بتسليمه الذي لم يحصل ، ولا دليل على الاكتفاء عن تسليمه بالحبس المدة المزبورة ولا بالبذل فيها.

( ولا كذلك لو استأجر دابة ) مثلا لنقل متاع مثلا ( فحبسها بقدر الانتفاع ) أو بذلك له كذلك فتسلمها ولم يستوف ، لأن منفعتها حينئذ مضمونة عليه ، فتقوم مقام المنفعة المستحقة له بعقد الإجارة ولو بالتهاتر القهري باعتبار كونه مستحقا عليه من منفعة الدابة المزبورة ، لأنها مضمونة عليه في يده مقدار ما هو مستحق له ، وهو أقرب من أجرة المثل التي هي بدل ما يفوت من المنفعة لو لم يكن له مقدار ما فات في يده مما هو مضمون عليه ، فتأمل جيدا فإنه دقيق جدا.

وربما كان في عبارة الأصحاب شهادة على ذلك ، حتى عبارة المصنف ومع قطع النظر عن ذلك فالإجماع بقسميه على قيام تسليم العين المملوكة مقام تسلم المنفعة المستحقة بعقد الإجارة ، بخلاف الحر.

فما عن إجارة التذكرة والمسالك من الاستقرار في الحر بذلك أيضا واضح الضعف وإن قواه الأردبيلي هنا ، لما سمعته مما ذكروه في الاستئجار على القلع للضرس الذي قد عرفت الفرق بينه وبين المقام بعد تسليم الحكم فيه.

ولأن العقد موجب للعوضين ، وقد بدل هذا عوضه ، فيلزمه العوض الآخر. كما في نفقة الزوجة والمهر ، فإنها لها إذا مكنت نفسها وإن لم يستمتع بها ، ويجب عليها تسليم نفسها إذا تسلمت المهر الذي هو قياس لا يأتي في نحو المقام الذي هو من عقود المعاوضة المقتضية ملكا بملك وتسليما بتسليم. بخلاف التمكين الموجب للنفقة الذي هو من الأحكام ،

٤٢

وكذا تسليم نفسها بالمهر.

على أنه يكفي في الفرق ثبوت الدليل على وجوب التمكين بالنفقة وتسلم المهر ، ولا دليل في المقام على الاكتفاء عن حصول العمل الذي هو مقتضى عقد الإجارة بالمدة المزبورة ، خصوصا إذا لم ينو المحبوس ولا الحابس الوفاء والاستيفاء عما عليه من العمل.

وفي الإيضاح « والتحقيق إن هذا هل هو تمليك للمنافع ، فإذا أهمل استعمالها حتى تلفت لم يضمن ، أو هو كالدين في ذمة الحر ، فلا يسقط إلا بالاستيفاء أو الإبراء؟ والأشبه الثاني ، لأن الحر يستحق عليه في ذمته ولا يملك عينه ولا منافعه ، ولأنها معدومة ، فيتبع الأصل في الملك أو اليد ، وهما منفيان في الحر ، ويرد استحقاق المستأجر الأول أجرة المثل على من استعمل الأجير الخاص ».

وهما كما ترى ليس من التحقيق في شي‌ء ، خصوصا بعد أن أشكله بما ذكره أخيرا.

ومن هنا قال في جامع المقاصد : « في هذا البناء نظر ، إذ لا يلزم من ملك المنافع استقرار الأجرة بالحبس في المدة المذكورة ، لأن العقد المملك إذا لم يوجب الاستقرار فلا دليل على ثبوته بمضي المدة المذكورة ».

ومرجعه إلى ما ذكرناه من عدم الدليل على قيام الحبس أو البذل المدة المزبورة مقام تسلم العمل ، بخلافه في المال وفي الأجير الخاص.

لكن قال متصلا بما سمعت : « ووجه شيخنا الشهيد الاستقرار في بعض حواشيه بأن المنافع ملكها المستأجر وتلفها مستند الى فعله ، ويؤيده الحكم باستقرار الأجرة على قلع الضرس مع البرء وسبق التمكين من قلعه ».

قلت : هو كما ترى راجع إلى ما سمعته من الفخر ، ويرد عليه‌

٤٣

ما عرفت ، والله العالم.

( ولا يضمن الخمر ) مع تلفها ( إذا غصبت من مسلم ) وكان الغاصب مسلما على الأشهر في محكي المختلف ، بل المشهور في المسالك ، بل بلا خلاف ـ أي بين المسلمين ـ في محكي الخلاف ، بل إجماعا في التذكرة ، فما عن أبي علي ـ من إطلاق ضمان الخمر المغصوبة بقيمتها خلا ـ واضح الضعف ، وإن نزل على الخمر المتخذة للتخليل إلا أنه مناف لإطلاق معقد الإجماع ونفي الخلاف المزبورين ، بل صريح الشهيدين والكركي عدم ضمان المتخذة للتخليل وإن أثم ، بل قيل يغرر ، بل في المسالك أنه المشهور ، لأنها على كل حال غير مملوكة للمسلم وإن سبق ملكه قبل الخمرية ، فلا وجه لضمانها.

وما عن المقدس الأردبيلي ـ من التأمل في أصل الخروج عن الملكية بذلك وفي عدم ضمانها بالمثل أو بالخل ـ من الوسوسة ، وكذا ما عن ظاهر المفاتيح أو صريحها من ضمان المتلف لها ، ضرورة ظهور النصوص والفتاوى في عدم ملكية المسلم للخمر مطلقا وإن كان المتخذ للتخليل منها محترما ، بمعنى الإثم في غصبه ووجوب رد عينها وإن انقلبت خلا عند الغاصب.

( و ) كذا ( لو غصبها الكافر ) من المسلم ، كما صرح به غير واحد ، بل عن الخلاف نفي الخلاف أيضا ، لما عرفت مما هو مشترك بين الكافر ( و ) المسلم.

نعم ( تضمن إذا غصبت من الذمي متسترا ولو ) كان الذي ( غصبها ) منه ( المسلم ) بإجماع الفرقة وأخبارها في محكي الخلاف بل قيل : إن الإجماع أيضا ظاهر المبسوط والسرائر والتذكرة. أما المتظاهر فلا ضمان وإن كان الغاصب كافرا قولا واحدا.

٤٤

( وكذا ) الكلام في ( الخنزير ) بالنسبة إلى ضمانه وعدمه في المسلم والمتستر والمتظاهر وغير ذلك مما عرفت.

وضمانه بالقيمة عند مستحيلة بلا خلاف ولا إشكال ، وكذا الخمر يضمنها المسلم للذمي المتستر بها بالقيمة عند مستحليها بإجماع الفرقة وأخبارها في محكي الخلاف والتذكرة ، ولا بحث فيه كما في جامع المقاصد ، لاستحالة ثبوت الخمر في ذمة المسلم وإن كانت مثلية.

بل عن المبسوط والسرائر والتحرير والمختلف وغيرها ذلك أيضا إذا كان الغاصب كافرا ، بل ظاهر التذكرة الإجماع عليه ، بل عن الخلاف دعوى إجماع الفرقة وأخبارها عليه أيضا.

خلافا للمحكي عن القاضي في أحد قوليه من القول بضمان مثلها ، وفي جامع المقاصد والمسالك تقييد ضمان القيمة مما إذا ترافعوا إلينا ، وفي القواعد الإشكال في ذلك ، كقول المصنف ( ويضمن الخمر بالقيمة عند المستحل لا بالمثل ولو كان المتلف ذميا على ذمي ، وفي هذا تردد ).

ولعل منشأه أنها مال مملوك وهو مثلي ، فيضمن بمثله ، وقد أمرنا بإقرارهم على ما عندهم (١) ومن أنه يمتنع في شرع الإسلام الحكم باستحقاق الخمر وإن كنا لا نعترضهم إذا لم يتظاهروا بها ، فامتنع الحكم بالمثل للعارض ، فيجب الانتقال إلى القيمة ، كما إذا تعذر المثل في المثلي. ولعل هذا أقوى ، خصوصا مع ملاحظة اشتراط التستر في احترامها ، فمتى حكم لهم بها ظاهرا زال احترامها.

وما عساه يقال ـ من أنه لا يلزم من الحكم باستحقاقها إظهارها ـ يدفعه أن الحكم باستحقاقها ظاهر في ذلك ، خصوصا إذا الجر إلى الإظهار عند الامتناع من الأداء فحبس حتى يؤدي ، وخصوصا مع ملاحظة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦٨ ـ من أبواب الجهاد ـ من كتاب الجهاد.

٤٥

ما سمعت من الإجماع المحكي المعتضد بالشهرة بقسميها ، والله العالم.

( وهنا أسباب أخر يجب معها الضمان ) غير الغصب جرت؟ ادتهم في البحث عنها في كتابه.

( الأول : مباشرة الإتلاف ) بلا خلاف فيه بين المسلمين فضلا عن المؤمنين ، بل الإجماع بقسميه عليه إن لم يكن ضروريا ( سواء كان المتلف عينا ، كقتل الحيوان المملوك وتخريق الثوب ، أو منفعة كسكنى الدار وركوب الدابة وإن لم يكن هناك غصب ) أي استقلال يد على أنه عدوان.

( الثاني : التسبيب ، وهو كل فعل يحصل التلف بسببه كحفر البئر في غير الملك ، وكطرح المعاثر في المسالك ) بلا خلاف أجده في أصل الضمان به ، بل يمكن تحصيل الإجماع عليه.

مضافا إلى‌ خبر السكوني (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من أخرج ميزابا أو كنيفا أو أوتد وتدا أو أوثق دابة أو حفر شيئا في طريق المسلمين فأصاب فعطب فهو له ضامن ».

وصحيح الحلبي (٢) عنه عليه‌السلام أيضا « سألته عن الشي‌ء يوضع على الطريق فتمر به الدابة فتنفر بصاحبها فتعقره ، فقال : كل شي‌ء يضر بطريق المسلمين فصاحبه ضامن لما يصيبه ».

وخبر أبي الصباح الكناني (٣) عنه عليه‌السلام أيضا « من أضر بشي‌ء من طريق المسلمين فهو له ضامن ».

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب موجبات الضمان ـ الحديث ١ من كتاب الديات.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب موجبات الضمان ـ الحديث ١ من كتاب الديات.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب موجبات الضمان ـ الحديث ٢ من كتاب الديات.

٤٦

وصحيح زرارة (١) عنه عليه‌السلام أيضا « قلت له : رجل حفر بئرا في غير ملكه فمر عليها رجل فوقع فيها ، فقال : عليه الضمان ، لأن كل من حفر بئرا في غير ملكه كان عليه الضمان ».

وموثق سماعة (٢) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يحفر البئر في داره أو في ملكه ، فقال : ما كان حفر في داره أو ملكه فليس عليه ضمان. وما حفر في الطريق أو غير ملكه فهو ضامن لما يسقط فيها ».

إلى غير ذلك من النصوص التي منها المعتبرة المستفيضة الدالة على غرامة الشاهد إذا رجع عن شهادته بعد ما قضي بها للأول قدر ما أتلفه من مال الرجل (٣) وعلى أنه يقتل إذا قتل بشهادته ، وقال الشاهد : تعمدت الشهادة عليه زورا (٤) وعلى غرامة دية اليد مثلا لو شهد عليه بالسرقة ورجع وقال : إني اشتبهت (٥) وعلى غرامة المهر لو شهد بطلاق زوجة ثم تزوجت ، أو بموت زوجها ثم جاء زوجها ، أو رجع الشاهد عن شهادته بالطلاق (٦) ومنها دل على رجوع المغرور (٧) ومنها ما دل على‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب موجبات الضمان ـ الحديث ١ من كتاب الديات.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب موجبات الضمان ـ الحديث ٣ من كتاب الديات.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من كتاب الشهادات.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من كتاب الشهادات.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من كتاب الشهادات.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من كتاب الشهادات.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٨٨ ـ من أبواب نكاح العبيد والإماء ـ الحديث ٥ والباب ـ ٢ ـ من أبواب العيوب والتدليس. والباب ـ ٧ ـ منها ـ من كتاب النكاح.

٤٧

تسبيب الإكراه وغير ذلك المعلوم عدم خصوصية الطريق فيها ، كمعلومية عدم خصوصية لما ذكر فيها من الأفراد ، خصوصا بعد ملاحظة العموم في صحيح الحلبي منها وغيره.

نعم عبر الأصحاب عما فيها بالسبب واختلفوا في تعريفه ، فعرفه المصنف هنا بما سمعت ، وفي الديات بما لولاه لما حصل التلف عنده لكن علة التلف غيره ، كحفر البئر ونصب السكين وإلقاء الحجر ، فان التلف عنده بسبب العثار.

وفي القواعد هنا « السبب إيجاد ما يحصل التلف عنده إذا كان السبب مما يقصد لتوقع تلك العلة ، كالحافر وفاتح رأس الظرف. والمكره على الإتلاف ، والمباشرة هي إيجاد علة التلف ، كالقتل والإحراق ».

وقال في قصاصها : « أقسام المزهق ثلاثة : شرط وعلة وسبب ، فالشرط ما يقف عليه تأثير المؤثر ولا مدخل له في العلية ، كحفر البئر بالنسبة إلى الوقوع ، إذ الوقوع مستند إلى علته ، وهي التخطي ، ولا يجب به قصاص ، وأما السبب فهو ما له أثر ما في التوليد ، كما للعلة ، لكنه يشبه الشرط من وجه ، ومراتبه ثلاثة : الأول : الإكراه ـ وذكر تفصيل الحال فيه ـ الثاني : شهادة الزور ـ ثم ذكر تفصيل الحال فيها ـ الثالث :نحو تقديم الطعام المسموم إلى الضيف ـ وذكر تفصيل الحال فيه ـ ».

وقال في دياتها : « السبب هو كل ما يحصل التلف عنده بعلة غيره ، إلا أنه لولاه لما حصل من العلة تأثير كالحفر مع التردي ».

وقال في الإيضاح في وجه التردد في ضمان الولد بموته جوعا « لو حبس الشاة أو حبس المالك عن حراسة ماشيته فاتفق تلفها أو غصب دابة فتبعها ولدها : « ينشأ في الأول من أنه مات بسببه ، لصحة إسناده‌

٤٨

إليه عرفا ، ولأن للسبب هو فعل ما يحصل الهلاك عنده لعلة سواه ، وهذا تفسير بعض الفقهاء ، وزاد آخرون : ولولاه لما أثرت العلة ، وهذا التفسير أولى ، فعلى هذا ليس هو السبب ، ولأنه يمكن اعتياضه بغيره فهو أعم ، فليس بسبب ولا يد له عليه ، ولا مباشرة ولا ضمان ، وهذا منشأ النظر في الباقيين ، وأيضا ينشأ في الثاني من أنه تصرف في المالك لا في المال ، ومن حيث إنه سبب عرفا ، وأما في الثالث فمن حيث إنه سبب لحدوث ميل يشبه القسري لوجود ميل الولد إلى امه طبعا فهو سبب ، ومن الشك في كونه سببا شرعيا في الضمان ، والأصل البراءة ».

وقال في غاية المراد في بيان الوجه في سببية دلالة السارق : « إن السبب على ما فسره الفقهاء هو إيجاد ملزوم العلة قاصدا لتوقع تلك العلة ، ومنهم من يفسره بأنه فعل ما يحصل عنده التلف لكن لعلة غيره ، فهو أعم من الأول ، لا مكان سبب آخر بدل منه ».

وقال في جامع المقاصد : « عرف في الدروس السبب بأنه فعل ملزوم العلة ، وقريب منه ما ذكره الشارح الفاضل ، والمعنى قريب ، وقول المصنف : إذا كان السبب مما يقصد لتوقع تلك العلة غير محتاج إليه ، بل هو مضر ، إذ حفر البئر قد لا يقصد الحافر به توقع العلة الموجبة للتلف ولا قصدها أكثري ، مع الضمان قطعا للسببية ، وكأنه أراد الاحتراز عما إذا كان حدوث المقتضي للتلف على تقدير ذلك الفعل نادرا ، فإنه لا يعد سببا ، ولعله أراد بقصده كون شأنه ذلك ، وكان الأولى أن يقول : هو إيجاد ما يحصل التلف عنده لكن بعلة أخرى إذا كان السبب مما يتوقع معه علة التلف ، بأن يكون وجودها معه أكثريا. واعلم أن شيخنا الشهيد في شرح الإرشاد فسر السبب بتفسيرين ـ ثم حكى عبارته السابقة وقال ـ : في الأول نظر ، لأنه إنما يصدق في الغاصب إذا قدم‌

٤٩

طعام الغير لآكل مبيحا له ، لأنه قاصد حينئذ بالتقديم الأكل ، ولا ريب أن حفر البئر سبب وطرح ما يتعثر به سبب بغير خلاف ، والظاهر أن مراد الجماعة كونه يقصد توقع العلة باعتبار الشأن ، فيكون تقديره هكذا :السبب إيجاد ملزوم العلة الذي شأنه أن يقصد معه توقع تلك العلة ».

وقال في مجمع البرهان بعد أن حكى عن بعض زيادة قصد توقع تلك العلة على تعريفه بأنه إيجاد ملزوم العلة المتلفة : « نحن ما نقدر على فهم المذكور من دون زيادة فكيف مع الزيادة » وذلك لأنه ذكر سابقا أن الملزومية غير ظاهرة ، وإنما الظاهر كونه موقوفا عليه علية العلة ، وأنها لم تتحقق إلا بعد تحققه ، لا أنه لازمة لوجوده ، فإنه معلوم عدم استلزام الحفر للتردي والإلقاء. ولعل المراد بالملزومية ذلك المقدار فقط ، إذ لا يحتاج إلى شي‌ء بعد وجوده إلا المباشرة ».

وقال في المسالك : « إن ما له مدخل في هلاك الشي‌ء إما أن يكون بحيث يضاف إليه الهلاك في العادة إضافة حقيقية له أو لا يكون كذلك ، وما لا يكون كذلك إما أن يكون من شأنه القصد به ما يضاف إليه الهلاك أو لا يكون كذلك ، وما يضاف إليه الهلاك يسمى علة ، والإتيان به مباشرة. وما لا يضاف إليه الهلاك ولكن يكون من شأنه أن يقصد بتحصيله ما يضاف إليه سمي سببا ، والإتيان به تسبيبا ».

إلى غير ذلك من كلماتهم التي لم نعرف الداعي لهم إلى صدورها بعد خلو نصوصهم عن اللفظ المزبور عنوانا للحكم ، وإنما الموجود في النصوص ما عرفت ، ومنه يتعدى إلى أمثاله بعد العلم بعدم الخصوصية للمذكور فيها ، أو يستند إلى ما سمعته من العموم في بعضها ، والأصل البراءة فيما لا يضاف إليه الإتلاف حقيقة ، ولا يندرج في الأمثال المزبورة بل مع الشك فيه كذلك أيضا.

٥٠

ولعل المحصل منها الضمان على وجه يجعل ضابطا هو إيجاد ما يصلح أن يقصد حصول التلف به في بعض الأحيان ولو بواسطة غيره معه ، سواء كان له مدخلية في علية العلة كالحفر أو في وجودها كالغرور والإكراه ، ومع فرض قصور العبارة عن تأديته لا يلتفت إليها.

ودعوى أن المحصل منها الضمان بمفهوم السبب الذي قد عرفت الخلاف في تعريفه على وجه بنوا الضمان وعدمه في بعض الفروع عليه واضحة الفساد ، ضرورة كون الثابت خصوص بعض المصاديق التي لا ينتقل منها إلى جعل عنوان الحكم مفهوم السبب الذي ذكروه ، خصوصا بعد العلم بأن ما سمعته من التعريف له من الأمور الاصطلاحية ، لا أنه مفهوم عرفي.

بل لا يبعد كون المراد لهم ضبط ما استفادوا الضمان به من النصوص المزبورة ، لا أن المراد كون المدار على صدق اسم السبب ، خصوصا بعد أن لم يكن له معنى منقح عرفا.

بل ربما أطلق اسمه على المعلوم عدم الضمان به ، وليس في شي‌ء من النصوص ما يقتضي جعل مفهومه عنوانا ، بل السبب المذكور هنا غير موافق لمعنى السبب بمعنى العلة التامة ولا السبب الاصطلاحي الذي هو ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته ، بل ليس هو إلا من الشرائط كما سمعت الاعتراف به من الفاضل.

فالتحقيق حينئذ كون المدار على المستفاد من النصوص المزبورة وغيرها مما صرح فيها بالضمان به ، والتعدية منه إلى مشابهة في ذلك بالإجماع أو بفهم عرفي ينتقل منه إلى كون المذكور مثالا لما كان من سنخه ، ولعل ذلك وجه التردد فيما سمعته من الأمثلة ، وإلا فتعريف السبب المزبور صادق عليه ، كصدق التسبيب بالمعنى العرفي.

٥١

والظاهر عدم كون التعدي والتفريط الموجبين للضمان في الأمين من ذلك حتى يصح التعدي منها إلى ما ماثله في غير الأمين ، فيكون دلالة السارق وفتح الباب ومنع المالك حراسة ماشيته موجبا للضمان ، باعتبار إيجاب مثله في الأمين الذي مدار ضمانه على التعدي والتفريط الصادق ثانيهما في المفروض إذا كان من الأمين دون غيره ، فتأمل جيدا في جميع ما ذكرناه ، فإنه دقيق نافع لم أجده محررا في كلامهم.

ومنه يعلم عدم اعتبار قصد توقع العلة فيه ولا أكثرية ترتب التلف به ولا منشأيته ، ضرورة إطلاق النصوص المزبورة الضمان بالأمور المذكورة من غير تقييد لشي‌ء منها بشي‌ء من ذلك ، كضرورة كون مراد الأصحاب بما ذكروه من موجبات التضمين بالتسبيب هنا أن الضمان يكون به ، لا أن المراد متى صدق السبب حصل الضمان ، ضرورة وقوع حفر البئر الذي لا إشكال في كونه سببا نصا (١) وفتوى على وجوه عديدة لا ضمان فيها.

ولعله لذا وغيره قيد ما حكاه بعضهم من الإجماع على التضمين بالسبب بقوله : « في الجملة ».

وقال في المسالك : « واعلم أيضا أن تمثيل المصنف السبب بحفر البئر في غير الملك تخصيص للسبب الموجب للضمان ، فإن حفره ـ وإن كان في ملك الحافر ـ يكون سببا في الهلاك لكنه غير مضمون ، فالسبب المعرف سبب خاص ، وهو الموجب للضمان وإن كان التعريف صادقا على ما هو أعم » وإن كان آخر كلامه لا يخلو من نظر في الجملة.

وعلى كل حال فقد أطلق المصنف وغيره كون حفر البئر في غير الملك سببا للضمان ، وهو أعم من الحفر في طريق مسلوك أو في ملك الغير‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب موجبات الضمان ـ من كتاب الديات.

٥٢

أو في ملك مشترك ، بل عن ظاهر الغنية الإجماع على ذلك.

ومقتضى إطلاقهم عدم الفرق في المتردي بين أن يكون المالك أو غيره ، وبين الداخل بإذنه أو غيره ، وبين كون البئر مكشوفة أو مغطاة ، بل مقتضى إطلاق غير واحد عدم الفرق بين كون ذلك لمصلحة المسلمين وغيره ، بل عن الفخر التصريح بالأخير.

لكن عن الشيخ والفاضل وثاني الشهيدين والأردبيلي عدم الضمان إذا كان الحفر في الطريق لمصلحة المسلمين ، كالحفر للبالوعة والاستقاء ونحو ذلك ، واستحسنه المصنف.

إلا أن ما سمعته من النصوص المشتمل على العموم اللغوي. وترك الاستفصال يقتضي الضمان مطلقا ، بل قيل : إن المستفاد منها كون التعدي موجبا للضمان ، فيشمل الحفر في الملك المشترك ، مؤيدا بما حكي من إطلاق الفتاوى ضمان المتعدي بالحفر.

اللهم إلا أن يقال : إن المنساق من ذلك التعدي في جميع الحفر لا في مثل الفرض وإن وجب عليه الاجتناب فيه من باب المقدمة ، فيبقى على أصالة البراءة ، وربما احتمل ضمان النصف مطلقا أو إن كان الشريك واحدا ، وإلا فثلثان إن كانوا ثلاثة وهكذا.

ويأتي تمام الكلام في المسألة إنشاء الله تعالى في الديات. كما أنه يأتي إنشاء الله تعالى تمامه في الضمان بالمعاثر المصرح به في جملة من الكتب ، وهي شاملة للدكة والقمامات كقشور البطيخ ونحوها.

بل عن المبسوط التصريح بالضمان في الأخير ، نعم قيده المصنف والفاضل في المحكي من تحريره وإرشاده بمن لم ير القمامة ، والأصل فيه ما سمعته من الصحيح (١) بل لا يبعد القول بالضمان فيما فعله لضرورته ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب موجبات الضمان ـ الحديث ١ من كتاب الديات.

٥٣

إذ لا تنافي بين الجواز والضمان. وعلى كل حال فلا خلاف ولا إشكال في التضمين بالتسبيب في الجملة.

( لكن إذا اجتمع السبب والمباشر قدم المباشر في الضمان على ذي السبب ، كمن حفر بئرا في ملك غيره عدوانا فدفع غيره فيها إنسانا فضمان ما يجنيه الدفع على الدافع ) لما عرفته من تقديم المباشرة على التسبيب الذي لم أجد فيه خلافا بينهم ، بل أرسلوه إرسال المسلمات في المقام وفي القصاص والديات ، بل عن كشف اللثام الإجماع عليه ، بل في مجمع البرهان « إن من المعلوم عقلا ونقلا إسناد الفعل إلى القريب دون البعيد الذي هو سبب السبب وله مدخلية ما في ذلك الشي‌ء ، وهو ظاهر ، وكأنه مجمع عليه ».

قلت : وهو كذلك ، بل لعل التضمين بما ذكروه من السبب الذي قد عرفت كونه من الشروط باعتبار قربه إلى علة التلف ، فهو أقوى من غيره من الشرائط التي لها مدخلية في التلف أيضا ، إلا أن القريب منها سموه بالسبب وجعلوا التضمين به ، ولا ريب في أن المباشرة أقرب منه ، بل السبب في الحقيقة قد صار من آلات المباشر في مباشرته ، كقتله بالسيف والدفع في البئر وإلقائه على السكين المغصوب مثلا ، واغراقه في الماء الذي وضعه الغير وهكذا.

إلا أنه مع ذلك كله قد ناقش فيه في الرياض بأن القوة لا تدفع الضمان عن السبب بعد وجود ما يقتضي ضمانه أيضا ، وهو ما مر من حديث نفي الضرر (١) ولا امتناع في الحكم بضمانهما معا وتخير المالك في الرجوع إلى أيهما شاء كالغصب ، فلولا الإجماع الظاهر المعتضد بالأصل لكان القول بضمانهما كترتب الأيدي في الغصب في غاية الحسن.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من كتاب إحياء الموات.

٥٤

ثم قال : « وعلى هذا نبه خالي العلامة دام ظله في حاشيته على شرح الإرشاد ، إلا أن ظاهره سلمه الله المصير اليه أو بقاؤه في شباك التردد من دون أن يقطع بما ذكره الأصحاب ، ولعله لتوقفه في فهم الإجماع وتردده في قبول حكايته من ناقله ، لعدم قطعه به ، وهو حسن ، ولكن الإجماع ظاهر ، فالمصير إلى ما ذكروه متعين ».

قلت : لا يخفى عليك ما فيه بعد التأمل فيما ذكرناه ، ضرورة أن القوة إذا كانت على وجه لا يسند الفعل إلا إلى ذيها تدفع الضمان عن السبب الذي ظاهر ما دل على التضمين به انما هو فيما إذا لم يكن معه مباشر قوي.

نعم قد يشك في صورة ما لو قصدا الاشتراك في الإتلاف ، بأن فعل ذو السبب سببه لإرادة مباشرة الإتلاف من المتلف ، كما لو نصب سكينا في الأرض ليدفعه الآخر عليها مثلا ، مع أن التحقيق فيها أيضا كون الضمان على المباشر الذي يسند الفعل إليه وإن كان ذلك معينا له وصار فعله من المعدات ، كما هو واضح بأدنى تأمل في الفرق بين المعدات القريبة والبعيدة ، ولعله لذا قالوا في القصاص : إنه يحبس ذو السبب الى أن يموت ، والقصاص على المباشر ، هذا كله في اجتماع المباشرة والتسبيب.

أما اجتماع السببين بأن يحفر واحد بئرا ويضع آخر عنده حجرا فيعثر به إنسان فيقع في البئر ففي المسالك « إن اتفقا في وقت واحد اشتركا في الضمان ، لعدم الترجيح ، وإن تعاقبا فالضمان على المتقدم في التأثير ، لاستقلاله بالضمان أولا ، فكان أولى ، وهو سبب السبب ، فيجب وجود المسبب عنده ».

وكأنه أراد ما في التذكرة ، قال : « ولو تعدد السبب فالضمان على المتقدم منهما إن ترتبا ، كما لو حفر شخص بئرا في محل عدوانا‌

٥٥

ووضع آخر حجرا فيه فعثر إنسان بالحجر فوقع في البئر فالضمان على واضع الحجر ، لأنه السبب المؤدي إلى سبب الإتلاف ، فكان أولى بالضمان ، لأن المسبب يجب مع حصول سببه فيه ، فوضع الحجر يوجب التردي ، أما لو انتفى الترتيب فالضمان عليهما ، كما لو حفر ووضع الحجر فان الضمان عليهما ».

قلت : لا يخلو كلامهما من خفاء في الجملة ، والذي ذكره غيرهما أنه يقدم الأول في الجناية وإن تأخر حدوثه عن الآخر ، وربما احتمل ترجيح الأقوى ، كما لو نصب سكينا في البئر المذكور ، وقد يحتمل قويا تساوي السببين ، لاشتراكهما في التلف الحاصل خارجا ، وأنه لولا الحجر لم يحصل التردي في البئر ، كما أنه لولا البئر لم يؤثر العثور بالحجر تلفا ، بل لو فرض كون كل من السببين متلفا لو استقل إلا أنهما اشتركا فيما تحقق في الخارج من التلف يتجه أيضا فيه الاشتراك في الضمان. وتمام الكلام في ذلك في الديات إنشاء الله تعالى.

وكيف كان فقد استثنى غير واحد من الأصحاب من قاعدة تقديم المباشر ما إذا ضعف المباشر ، وفي الدروس واللمعة الاقتصار على استثناء الغرور والإكراه ، بل في القواعد الاقتصار على الثاني منهما ، كما في الإرشاد الاقتصار على الأول منهما ، إلا أن الظاهر إرادة المثال ، ضرورة ضعف الريح والشمس والنار والسبع وغيرها مما لا عقل له ولا اختيار.

ولعله لذا قال في المسالك : « وله صور كثيرة تأتي جملة منها وقد تقدم منها مسألة الغرور بتقديم الطعام اليه جاهلا ، فان الضمان يستقر على الآمر ».

قلت : بل لو لم يكن منه أمر بل مجرد تقديمه له ضيافة وإن قال في التذكرة : من قال : كله ولم يقل إنه ملكي ولا طعام فلان غصبته‌

٥٦

بل أطلق فوجهان ، أقواهما الضمان ، لأنه غره أيضا ، بل لو كان الطعام ملك المأمور المغرور ضمنه له أيضا ، لأنه وإن كان قد سلطه عليه وصيره بين يديه إلا أنه باعتقاده أنه ملك الغير وأنه مسلط على إتلافه بغير عوض ، فليس تسليمه له تسليما تاما يتصرف فيه تصرف الملاك ، فلذلك ضعف مباشرته بالغرور ، وما اشتهر من أن قرار الضمان على من تلف في يده المال انما هو في غير الفرض.

وأما المكره فهو الذي أشار إليه المصنف بقوله ( ولا يضمن المكره المال وإن باشر الإتلاف ، والضمان على من أكرهه ، لأن المباشرة ضعفت مع الإكراه ، فكان ذو السبب هنا أقوى ) بلا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك ، نعم قد تقدم في كتاب الطلاق (١) تفصيل ما يتحقق به الإكراه.

وفي المسالك « ربما قيل هنا باشتراط زيادة خوف ضرر لا يمكن تحمله ، والأشهر الأول » قلت : ولعله لصدق الإكراه الذي هو عنوان الحكم نصا (٢) وفتوى وإن كان الضرر يسيرا.

ثم إن ظاهر الأصحاب في المقام عدم رجوع المالك على المكره بشي‌ء بخلاف الجاهل المغرور ، فان له الرجوع عليه وإن رجع هو على الغار ، ولعله لعدم صدق « أخذت » الظاهر في الاختيارية عليه بخلاف المغرور ، مضافا إلى ظهور رجوع المغرور في ضمانه وإن رجع هو ، وحينئذ يكون المراد من قولهم : « الضمان على المباشر إلا مع قوة ذي السبب » أنه يستقل السبب بالضمان مع قوته ، ولا يشاركه المباشر إلا في الغرور ، كما أنه يستقل المباشر بالضمان ولا يشاركه السبب.

__________________

(١) راجع ج ٣٢ ص ١١ ـ ١٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥٦ ـ من أبواب جهاد النفس ـ من كتاب الجهاد.

٥٧

ولكن مع ذلك ـ إن لم يكن إجماعا ـ لا يخلو من نظر ، خصوصا مع عود النفع إلى المباشر باعتبار مباشرته الإتلاف وإن رجع هو على المكره.

بل قد يقال : إن القاعدة تقتضي اختصاص الضمان بالمباشر الذي هو المكره والمغرور وإن أثم المكره والغار ، لاستقلال المباشر بالإتلاف ولكن ضمنا للدليل لا لقوة السبب على المباشر المخصوصة بما إذا كان الإسناد حقيقة للسبب دون المباشر الذي هو كالريح والشمس.

بل قد يقال بشمول‌ قوله عليه‌السلام (١) : « كل مغصوب مردود » له وإن كان مكرها على تناول المغصوب والتصرف فيه.

بل ينبغي الجزم به فيما لو كان مغصوبا في يده قبل الإكراه فأكره على إتلافه ، بل هو كذلك في كل مضمون في يده ثم أكره على إتلافه ، لأن رجوع المالك حينئذ عليه باعتبار حكم الضمان السابق ، بل لا ينافيه كلام الأصحاب المراد منه عدم الرجوع من حيث الإتلاف الإكراهي خاصة ، باعتبار ضعف حكم المباشرة بالإكراه ، ولذا رفع الشارع حكم الإكراه عن المكره (٢) الذي يمكن إرادة ما يشمل الوضع منه أيضا وإن لم يكن كذلك في الخطأ والنسيان للدليل.

أما إذا كان مضمونا في يده سابقا فإنه يبقى على حكم ضمانه وإن أكره على إتلافه ، حتى لو كان الإكراه بالحكم الظاهري من حاكم الشرع ، نعم هو يرجع على المكره الذي قد صار بمنزلة من تلف المال في يده بالنسبة إلى قرار الضمان بعد أن رفع الشارع حكم التلف في يد المكره عنه ، وكذا الكلام في المغرور والغار بالنسبة إلى ذلك.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الأنفال ـ الحديث ٤ من كتاب الخمس وفيه‌ « الغصب كله مردود » ‌

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥٦ ـ من أبواب جهاد النفس ـ من كتاب الجهاد.

٥٨

ومنه يعلم الوجه حينئذ في تخير المالك في الرجوع عليهما ، فان رجع على المكره بالكسر لم يرجع على المكره بالفتح ، بخلاف العكس على نحو ما سمعته في قرار الضمان على من تلف المال في يده في الأيادي المتعاقبة.

كما أنه مما ذكرنا يعلم الفرق بين المضمون في يد المكره وبين غيره كالوديعة ، وإن كان فيه البحث السابق ، فتأمل جيدا ، فإنه دقيق نافع في أطراف المسألة.

هذا وكان المصنف أشار بالاقتصار على المال الى الاحتراز عن النفس فإن الإكراه على إتلافها لا يوجب سقوط الضمان عن المكره ، نعم في الجرح إشكال من حيث تناول‌ قوله عليه‌السلام (١) : « لا تقية في الدماء » له وعدمه ، وقد تقدم لنا بعض الكلام في ذلك ، ويأتي إنشاء الله تعالى ، والله العالم.

( ولو أرسل في ملكه ماء فأغرق مال غيره أو أجج نارا فيه فأحرق لم يضمن ما لم يتجاوز قدر حاجته اختيارا ) ولا علم ولا ظن التعدي فضلا عما لو علم أو ظن عدم التعدي بلا خلاف أجده فيه ، بل في المسالك الاتفاق ، للأصل بعد عدم التفريط وعموم تسلط الناس على أموالهم (٢).

وزاد في المسالك بأن سببيته في الإتلاف ضعيفة بالاذن له من قبل الشارع في فعل ذلك في ملكه ، فلا يتعقبه ضمان.

وإن كان لا يخلو من نظر إن لم يكن إجماعا مع فرض إسناد الإتلاف إلى فعله ، لظهور خطأ ظنه أو قطعه وقدرته على المنع ، لصدق الإتلاف‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الأمر والنهي ـ الحديث ١ من كتاب الأمر بالمعروف وفيه‌ « فإذا بلغ الدم فليس تقية » ‌

(٢) البحار ـ ج ٢ ص ٢٧٢ الطبع الحديث.

٥٩

عليه حقيقة ، فيكون من المباشرة ، والاذن الشرعية لا تنافي حكم الوضع الذي هو الضمان الحاصل بإتلاف النائم والغافل والمجنون والصبي ، اللهم إلا أن يمنع إطلاق سببية الإتلاف للضمان على وجه يشمل الفرض ، لعدم ثبوت « من أتلف مال غيره فهو له ضامن » رواية من طرقنا ولا قاعدة وثبوت الضمان في المذكورين للإجماع.

إلا أن الانصاف عدم خلو ذلك عن النظر ، ضرورة المفروغية من قاعدة « من أتلف » التي لهجت بها ألسنة الفقهاء في كل مقام ، وربما كان في بعض النصوص (١) إشعار بها ، بل قد عرفت أن المقام من المباشرة باعتبار كونه من توليد فعله كالقتل بنحو ذلك خطأ ، واعتقاد عدم التعدي بعد ظهور خطأه لا أثر له.

نعم قد يقوى عدم الضمان في الفرض إذا اتفق عصف الهواء بغتة بعد إشعال النار مثلا ، فإنه يمكن منع إسناد الإتلاف إليه حينئذ ، بل هو من السبب الجائز له نحو حفر البئر في ملكه فألقت الريح فيها شيئا ، ولعله عليه ينزل إطلاق محكي المقنعة والنهاية والمبسوط والسرائر عدم الضمان إذا أشعلها في ملكه فحملتها الريح إلى غيره.

وعلى كل حال فمما ذكرنا يعلم أنه لا إشكال في الضمان مع التجاوز عن قدر الحاجة والعلم أو الظن بالتعدي ، بل في المسالك « لا شبهة في الضمان ، لتحقق التفريط المقتضي له مع وجود السببية الموجبة للضمان » وفي الكفاية أنه مقطوع به في كلامهم ، ولا أعرف فيه خلافا.

__________________

(١) راجع الوسائل ـ الباب ـ ١٠ و ١١ و ١٤ ـ من كتاب الشهادات والباب ـ ٥ و ٧ ـ من كتاب الرهن ـ الحديث ٢ منهما والباب ـ ٢٩ ـ من كتاب الإجارة والباب ـ ١٨ ـ من كتاب العتق الحديث ١ و ٥ و ٩ والباب ـ ٢٢ ـ من أبواب حد الزنا ـ الحديث ٤ والباب ـ ١ ـ من أبواب نكاح البهائم ـ الحديث ٤ من كتاب الحدود.

٦٠