جواهر الكلام - ج ٣٧

الشيخ محمّد حسن النّجفي

ثم إجماعا فذاك وإلا كان محلا للمنع.

( ودعوى ) أن ما نحن فيه غير غصب الخمر التي تخللت في يده لأن العصير مملوك لمن هو في يده ، وإنما طرأ عليه مانع الملك ، فيزول بزواله ، بخلاف الخمر ، فإنها لم تكن مملوكة له بوجه ، فتخللها في يده إحداث ملك لمن هي في يده ( واضحة الفساد ) ضرورة أن سبق الملكية بعد زوالها بصيرورتها خمرا غير مجد.

كما أن شهرة الفرق بين الخمر المحترمة وغيرها بحيث يقتضي ملك المالك لها لو صارت خلا ولو تحت يد غيره لا حاصل لها إن لم يكن إجماعا أو غيره مما يصلح لأن يكون دليلا شرعيا.

ومن ذلك كله يظهر لك النظر في كثير مما في المسالك وغيرها ، ومنه قوله فيها : « وعلى تقدير تخمير العصير في يد الغاصب لو اختار المالك تغريمه قبل انقلابه خلا فله ذلك ، فإذا أخذ العوض فانقلب خلا في يد الغاصب وجب رده وأخذ البدل ، كما لو دفعه حيث لم يمكنه رد المغصوب لمانع آخر ، مع احتمال استقرار ملك الغاصب عليه حينئذ ، لخروجها عن أهلية الملك حين الخمرية ، وبراءته منها بدفع البدل وتحليلها أوجب حدوث ملكيته لمن هي في يده ، ولو طلب المالك أخذها خمرا مع أخذ البدل ففي إجابته إليه وجهان : من خروجها عن ملكه ومن ثم وجب البدل تاما ، ومن بقاء الأولوية ، لإمكان إرادة التخليل ، ومن ثم عاد ملكه إليها قبل دفع البدل ، وهذا أقوى ، إلا أن يعلم من حاله أنه يتخذها للشرب لزوال حقه حينئذ ، وكون إعادتها إليه تعاونا على الإثم والعدوان ، ثم على تقدير إعادتها اليه مع البدل فصارت خلا في يد المالك ففي وجوب رد المثل إلى الغاصب وجهان : من أنه أخذه للحيلولة وقد زالت ، ومن أنه ملك متجدد ، لأن العصير لما صار خمرا صار تالفا ، فوجب بدله ، والأقوى الأول ، لأن الأصل ماله ، وإنما حدث له مانع الخمرية ، فإذا زال‌

٢٠١

المانع عاد الملك ، ولم يبطل حقه منه رأسا ، وإنما زال الملك بالفعل وبقي بالقوة القريبة منه ».

قلت : لا يخفى عليك ما فيه وإن كان قد أخذ كثيرا منه مما في القواعد ، قال : « ولو غصب عصيرا فصار خمرا ضمن المثل ، وفي وجوب الدفع إشكال ، فإن أوجبناه فصار خلا في يد المالك ففي وجوب رد المثل إشكال ، فإن صار خلا في يد الغاصب رده مع أرش النقصان إن قصرت قيمة الخل » ضرورة ظهور ما ذكره أولا وأخيرا ، بل صريحه أن البدل المأخوذ هو بدل حيلولة.

وفيه أنه لا وجه لها بعد خروج المال عن ملكية المالك ، وما ذكره من المانع والقوة القريبة من الفعل لا حاصل له ، بحيث يرجع إلى دليل معتبر ، بل لا يخفى عليك النظر في كلامه من غير ذلك ، بل وما سمعته من القواعد ، لاشتراك الجميع في الاحتياج إلى الدليل على الوجه الذي ذكرناه ، والله العالم.

المسألة ( السابعة : )

( لو غصب أرضا فزرعها أو غرسها فالزرع ونماؤه للزارع ) بلا خلاف أجده فيه ، بل في التنقيح عليه انعقد الإجماع اليوم ، قلت : واليوم بل وقبل اليومين ، إذ لم نجد مخالفا في ذلك منا كل ذلك مضافا إلى‌ خبر عقبة بن خالد (١) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أتى أرض رجل فزرعها بغير إذنه حتى إذا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من كتاب الغصب ـ الحديث ١.

٢٠٢

بلغ الزرع جاء صاحب الأرض ، فقال : زرعت بغير إذني فزرعك لي وعلي ما أنفقت ، إله ذلك أم لا؟ فقال : للزارع زرعه ولصاحب الأرض كراء أرضه » ونحوه موثق سماعة (١) بل وموثق آخر (٢).

بل هو على وفق أصول المذهب وقواعده ، ضرورة كون الزرع والغرس ملك الغاصب ، والأرض إنما هي من المعدات كالماء والهواء ونحوهما.

نعم عن أبي على أن لصاحب الأرض أن يرد ما خسره الزارع ويملك الزرع ، وهو ليس خلافا في أصل الملكية ، وإنما هو قريب من قول أحمد بن حنبل : « إن جاء صاحب الأرض والزرع قائم فيها لم يملك إجبار الغاصب على قلعه ، وخير المالك بين أن يبقيه إلى الحصاد بأجرته وأرش النقص ، وبين أن يدفع إليه نفقته ، ويكون الزرع له ، لأن‌ رافع بن خديج قال (٣) : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من زرع أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شي‌ء ، وله نفقته ، ومثله خبره الآخر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤) أيضا ».

__________________

(١) الوافي ـ ج ١٠ ص ١٤٤ « الفقيه في حديث سماعة. » وهو بمضمون خبر عقبة ، والظاهر ان ذلك من عبارة الصدوق ( قده ) لا من الحديث ، حيث إنه روى في الفقيه ج ٣ ص ١٤٩ و ١٥٠ عن سماعة رواية طويلة وفي آخرها أورد ما أسنده في الوافي إلى رواية سماعة ، ومما يؤكد ذلك أن الشيخ ( قده ) روى في التهذيب ج ٧ ص ١٤٢ والاستبصار ج ٣ ص ١١٢ و ١١٣ عن سماعة ما رواه في الفقيه الى هذه القطعة ، وكذلك الكليني ( قده ) في الكافي ج ٥ ص ٢٧٥ وفي الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب بيع الثمار الحديث ٧ و ٨ من كتاب التجارة ، ولم يذكر احد من هؤلاء القطعة التي بمضمون خبر عقبة وأسندها في الوافي إلى حديث سماعة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من كتاب الغصب ـ الحديث ٢.

(٣) سنن البيهقي ـ ج ٦ ص ١٣٦.

(٤) سنن البيهقي ـ ج ٦ ص ١٣٦.

٢٠٣

إلا أنهما من غير طرقنا ، بل لعل النصوص المزبورة للتعريض بفساد القول والافتراء في اخباره ، على أنهما ظاهران في الملك القهري الذي هو خلاف ظاهر المحكي عن ابن الجنيد.

نعم في‌ الموثق (١) « في رجل اكترى دارا وفيها بستان فزرع في البستان وغرس نخلا وأشجارا وفواكه وغير ذلك ولم يستأمر صاحب الدار في ذلك ، فقال : عليه الكراء ، ويقوم صاحب الدار الغرس والزرع قيمة عدل ، ويعطيها الغارس ، وإن كان استأمره فعليه الكراء وله الغرس والزرع ، يقلعه ويذهب به حيث شاء ».

لكنه خبر متحد ، قد أعرض عنه الأصحاب ، فلا يصلح الخروج به عن العمومات فضلا عن الأدلة السابقة كما هو واضح.

ورواه في التهذيب (٢) ومحكي‌ الفقيه (٣) : « ويقوم صاحب الدار الغرس والزرع قيمة عدل إن كان استأمره ، وإن لم يكن استأمره فعليه الكراء » إلى آخره. وحينئذ يكون دالا على المطلوب لا مخالفا له.

ولعله لذا لم أعثر على موافق لابن الجنيد وإن مال إلى ما سمعته منه في الصبغ جماعة ، وتعجب الفاضل في المختلف من مخالفة الشيخ لابن الجنيد في الصبغ ـ مع قوله في المستعير للغرس بوجوب الإجابة عليه لو بذل صاحب الأرض قيمة الغرس ـ لا دلالة فيه على اختيار ذلك ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من كتاب الغصب ـ الحديث ٢ مع اختلاف يسير وثقله من دون اختلاف في الكافي ج ٥ ص ٢٩٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من كتاب الغصب الحديث ٢ والتهذيب ج ٧ ص ٢٠٦ الرقم ٩٠٧.

(٣) أشار إليه في الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من كتاب الإجارة الحديث ١ وذكره في الفقيه ج ٣ ص ١٥٦ ـ الرقم ٦٨٤.

٢٠٤

على أنه قد صرح هنا بعدم وجوب القبول ، نعم صرح بموافقته في مسألة الصبغ ، بل مال إليه غيره أيضا.

ويمكن أن يكون الوجه مضافا إلى ما سمعته من النصوص إمكان الفرق بينهما باعتبار تعسر زوال الصبغ أو عدم نفع معتد به فيما زال منه بخلاف الزرع والغرس ، أو شدة التبعية فيه على وجه يكون أثره من الصفات بخلافهما ، أو غير ذلك ، والله العالم.

( و ) على كل حال فلا خلاف ولا إشكال في أن ( عليه أجرة الأرض وإزالة زرعه وغرسه ) وإن تضرر بذلك ، فإنه الذي أدخله على نفسه ، قال عبد العزيز بن محمد (١) : « سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : من أخذ أرضا بغير حقها أو بنى فيها ، قال :يرفع بناؤه ويسلم التربة إلى صاحبها ، ليس لعرق ظالم حق ، ثم قال :قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من أخذ أرضا بغير حقها كلف أن يحمل ترابها إلى المحشر ».

( و ) عليه أيضا ( طم الحفر وأرش الأرض إن نقصت ) بالزرع أو بالقلع بلا خلاف ولا إشكال.

( و ) كذا عرفت أنه لا خلاف معتد به ولا إشكال في أنه ( لو بذل صاحب الأرض قيمة الغرس لم يجب على الغاصب إجابته ) وما سمعته من الإسكافي قد عرفت ضعفه ، وإن قال في جامع المقاصد : « إنه لو وجد به قائل ـ أي غيره ـ لكان قويا » إذ هو كما ترى. بل لو رضي بالإبقاء بالأجرة لم يجب عليه ، للأصل ولتسلط الناس على أموالهم.

( وكذا ) لا خلاف ولا إشكال في أنه ( لو بذل الغاصب ) ‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من كتاب الإجارة ـ الحديث ٣.

٢٠٥

أجرة الأرض أو قيمتها ( لم يجب على صاحب الأرض قبوله ) للأصل ( و ) غيره بل ( لو وهبه ( ولو هبة خ ل ) ) منه لم يجب عليه ، لذلك ولما فيه من المنة.

( ولو حفر الغاصب في الأرض بئرا ) مثلا ( كان عليه طمها ) مع طلب المالك ، لوجوب إعادة العين كما كانت مع الإمكان ( وهل له طمها مع كراهية المالك؟ قيل ) والقائل الشيخ وابن زهرة فيما حكي عنهما ( نعم ) نهاه المالك أم لم ينهه. رضي أم لم يرض ( تحفظا من درك التردي ).

وفيه أن ذلك لا يقتضي جواز التصرف له في مال الغير ، وإنما أقصاه الضرر عليه ، وهو الذي أدخله على نفسه ، على أنه يمكن زوال الضمان عنه بالرضا بالبقاء على وجه يرتفع عدوانه ، بناء على اعتبار ذلك في الضمان.

بل هو المحكي عنه في ديات المبسوط ، قال : « لو حفر بئرا عدوانا ثم إن المالك رضي ببقائها بعد الحفر العدواني سقط الضمان » بل عنه هنا التصريح بأن الصحيح براءته بالإبراء.

وعليه يكون النزاع حينئذ معه في أن الرضا بالبقاء أو النهي عن الطم يقتضي الإبراء كما سمعته منه في الديات ووافقه عليه المصنف والفاضل على ما قيل فيها أم لا يقتضي ذلك ، لأنه أعم فيبقى الضمان مستصحبا؟ ولعل الأقوى فيه ما ذكره ، بل القول بعدم البراءة لو صرح بالإبراء لا يخلو من وجه ، كما ستعرف.

ومن ذلك يعرف ما في قول المصنف ( ولو قيل للمالك منعه كان حسنا ، والضمان يسقط عنه برضا المالك باستبقائها ) بناء عن الوجه الذي ذكرناه ، وإن تبعه عليه من تأخر عنه.

٢٠٦

نعم الأحسن منه القول بأن له منعه وإن بقي الضمان عليه ، لما عرفت خصوصا بعد ما سمعت سابقا من النظر في اعتبار العدوان في الضمان بذلك ، لإطلاق الأدلة الذي لا ينافيه الضمان ، خصوصا مع ابتداء الحفر على العدوانية ، كما في المقام الذي لا يدفع السببية الشرعية الرضا المتأخر مع التصريح فضلا عن مجرد الكراهة للطم التي لا تنافي إرادة البقاء على الضمان مع ذلك.

ومن هنا تردد في محكي التحرير في الإبراء إذا أبرأه ، من أن المالك لو أذن فيه ابتداء لم يضمن ، ومن أن حصول الضمان لتعديه بالحفر والإبراء لا يزيله ، لأن الماضي لا يمكن تغييره عن الصفة التي وقع عليها ، ولأن الضمان ليس هنا للمالك ، فلا يصح الإبراء منه ، ولأنه إبراء مما لا يجب ، فلم يصح.

ولا يخفى عليك الحال بعد التأمل فيما ذكرناه على أي وجه يفرض البحث ، والله العالم. فلاحظ وتأمل.

المسألة ( الثامنة : )

( إذا حصلت دابة ) مثلا ( في دار لا ) يمكن أن ( تخرج إلا بهدم فان كان حصولها ) فيها ( بسبب من صاحب الدار ألزم بالهدم والإخراج ، ولا ضمان على صاحب الدابة ) لعدم العدوان منه ، وخصوصا إذا كان ذلك غصبا من صاحب الدار للدابة مثلا ، لما عرفت من وجوب رد المغصوب إلى مالكه ، وإن ترتب عليه ضرر أضعاف المغصوب.

( وإن كان من صاحب الدابة ضمن الهدم ) وخصوصا إذا‌

٢٠٧

كان بسبب غصبه للدار بلا خلاف أجده فيه بين من تعرض له منا ، بل في المسالك وغيرها عدم الإشكال في الحكمين.

لكن قد يقال حينئذ بوجوب ذبح الحيوان إن كال مما يؤكل ولم يرض المالك بالهدم ، وخصوصا إذا كان قيمته أقل من أرش الهدم.

اللهم إلا أن يكون ذلك نحو الغرس في أرض الغير غصبا ، فإنه يملك حفرها لقلع غرسه ، ويضمن الأرش للمالك إن كان.

وقد يفرق بينهما بتوقف الاستيلاء على تمام ماله بالحفر فيملكه ، بخلاف المقام المفروض تمكنه من ذبح الحيوان من غير تصرف في دار المالك الواجب عليه إرجاعها له تامة. نعم لو لم يكن الحيوان مما يذبح أمكن القول حينئذ بذلك ، لقاعدة لا ضرر ولا ضرار. وكيف كان فالأمر في ذلك سهل.

إنما الكلام فيما ذكره المصنف بقوله ( وكذا إن لم يكن من أحدهما تفريط ضمن صاحب الدابة الهدم ، لأنه لمصلحته ) بل في المسالك نسبته إلى المشهور ، بل قيل : لا خلاف فيه بيننا.

لكن قال في المسالك : « ويشكل بأن التخليص والمصلحة قد تكون مشتركة بينهما ، بل هو الأغلب ، وقد تكون مختصة بصاحب الدار ، بأن لا يكون لصاحب الدابة حاجة إلى إخراجها ، لصغرها أو عدم صلاحيتها للانتفاع ، وصاحب الدار يحتاج إليها في موضع الدابة عاجلا والفرض انتفاء التفريط ، نعم لو خيف هلاك الدابة بدون الإخراج اتجه وجوبه ، لحرمة الروح ، ومع ذلك ففي اقتضاء ضمان صاحب الدابة نظر ».

قلت : الذي ينبغي في هذه ونحوها بعد ملاحظة لا ضرر ولا ضرار وقاعدة الجمع بين الحقين ترجيح الأعظم ضررا منهما على الآخر إذا لم‌

٢٠٨

يكن عن تفريط كما هو المفروض ، ومع فرض التساوي من كل وجه يرجع إلى القرعة أو إلى اختيار الحاكم ، وهكذا في كل حقين تزاحما ولا مرجح لأحدهما ولو من جهة التفريط وعدمه.

وكان وجه ما ذكره الأصحاب في الفرض أن صاحب الدابة مكلف بأخذها من دار الغير وتخليص ملكه منها ، فكل ضرر حصل على صاحب الدار بالنسبة إلى ذلك وجب جبره على صاحب الدابة ، لقاعدة لا ضرر ولا ضرار.

ولعل مثل ذلك لو جاء السيل بنخلة زيد مثلا فأثبتها في أرض الغير ، فان عليه تخليص ملك الغير منها ، وجبر كل ضرر يكون من ذلك عليه.

ولعله لذا ذكره في التذكرة مفروغا منه ، بل قال فيها : « هو ظاهر مذهب الشافعية أيضا ، لأنه إنما تقض بتخليص ملكه » نعم حكي عن بعض الشافعية أنه لا يضمن صاحب الفصيل شيئا ، لأنه لا تفريط من أحد ، والإخراج لا بد منه ، لحرمة الروح ، ثم قال : « وإنما يتم هذا فيما إذا خيف هلاكه لو لم يخرج ».

قلت : بل قد يقال بضمانه حينئذ أيضا ، لأن خوف الهلاك لا يدفع الضمان عنه.

ثم قال : « وهكذا إذا باع دارا فيها حباب لا تخرج إلا بنقض الباب ، فإذا نقلها كان إصلاح ذلك عليه ، لأنها لتخليص ملكه » وهو كالصريح في المفروغية من ذلك ، نعم لو اختار صاحب المال إتلاف ماله لأجل أن لا يغرم كان له ذلك ، كما هو واضح. والله العالم.

( ولو أدخلت دابة رأسها في قدر ) مثلا ( وافتقر إخراجها ) منه ( إلى كسر القدر فان كانت يد مالك الدابة عليها أو فرط في

٢٠٩

حفظها ضمن ) القيمة إن لم يكن لمكسوره قيمة أو الأرش إن كان ( وإن لم يكن يده عليها وكان صاحب القدر مفرطا ـ مثل أن يجعل قدره في الطريق ـ كسرت القدر عنها ولا ضمان في الكسر ) بلا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك بين من تعرض له من الشيخ والفاضل والشهيدين والكركي.

نعم في التذكرة في صورة تفريط صاحب الدابة « فإن كانت غير مأكولة اللحم لم يجز ذبحها ، ووجب كسر القدر مع ضمانه ، وإن كانت مأكولة اللحم فهل تذبح أو يكسر القدر؟ الأقرب ذبحها ، لأنه ينتفع بلحمها ، فيقل الضرر على صاحبها ، والنقص إن كان فمن صاحبها وقع حيث وقع التفريط منه ».

قلت : قد يلوح منه الترجيح بقلة الضرر ، إلا أن ما ذكره أخيرا يأتي في الأول مع فرض كون التفريط منه.

وفي الدروس بعد أن ذكر الحكم كما ذكره المصنف وغيره قال : « ولو كان كسرها أكثر ضررا من قيمة الدابة أو أرشها احتمل أن تذبح الدابة ».

وفيه ـ مضافا إلى عدم تفصيله بين المأكول وغيره ـ إمكان منعه مع فرض كون التفريط منه ، لأنه حينئذ السبب في إدخال الضرر على نفسه.

ثم قال : « أما لو أدخل دينارا في محبرته وكانت قيمتها أكثر منه ولم يمكن كسرها لم تكسر المحبرة ، وضمن صاحبها الدينار مع عدم تفريط مالكه ، ولو دخلت زهرة اليقطين في إناء الغير فعظمت اعتبر التفريط ، ومع انتفائه يتلف أقلهما قيمة ويضمن صاحب الآخر ، وإن تساويا فالأقرب أن الحاكم يجبرهما ، فان تمانعا فالقرعة ».

٢١٠

وفيه إشعار في الجملة بما ذكرناه من الميزان في تزاحم الحقوق ، لكن لا يخفي عليك ما في قوله : « فالأقرب » إلى آخره ، سواء أراد الإجبار أو التخيير ، اللهم إلا أن يريد من التخيير أن الحاكم يخير كلا منهما في كل من الأمرين ، لاشتراكهما معا في مفاد الأصول وغيره ، إلا أنه لما كان ذلك لا يقطع الأمر لاحتمال التمانع في الخارج أمر بالقرعة ، وإلا فمع فرض سبق أحدهما إلى شي‌ء من الفردين لم يكن عليه إثم ، إلا أن ذلك أيضا كما ترى.

والتحقيق ما ذكرناه من كون التخيير في القطع للحاكم ، وأولى منه الرجوع إلى القرعة ، والله العالم.

ولو فرطا معا فعن التذكرة كسرت القدر أيضا ، وضمن صاحب الدابة ، لأنه لمصلحته ، وفيه إشكال ، بل عن الأردبيلي الجزم بعدم الضمان.

( و ) كيف كان فـ ( ـان لم يكن من أحدهما تفريط ولم يكن المالك معها وكانت القدر في ملك صاحبها كسرت ، وضمن صاحب الدابة ، لأن ذلك لمصلحته ) كما في القواعد ومحكي المبسوط وغيره ، بل في المسالك أنه المشهور.

لكن أشكله بنحو ما سمعته سابقا من « أن المصلحة قد تكون مشتركة وقد تكون مختصة بصاحب القدر أو غالبة ، خصوصا إذا كان ما يبقى من القدر بعد الكسر له قيمة ، فإن حفظه مصلحة لمالكها ، وقد تكون قيمة القدر أو أرشه تزيد عن قيمة الدابة على تقدير إتلافها ، فإلزام صاحب الدابة زيادة عن قيمة دابته بعيد ، وأيضا فقد تكون مأكولة اللحم فلا يفوت عليه بذبحها ما يقابل القدر أو ما يفوت منها ، وكون المقصود خلاص الحيوان لأنه ذو روح لا يتم مطلقا ، لأنه على تقدير صلاحيته للذبح لا يتعين تخليصه ببقائه ليكون حكمه حكم القدر مع‌

٢١١

اشتراكهما في عدم التفريط. واحتمل في الدروس ذبح الدابة مع كون كسر القدر أكثر ضررا من قيمة الدابة أو أرشها ترجيحا لأخف الضررين ، وبالجملة فحكم المسألة مع انتفاء التفريط مشكل وإن كان المشهور ما ذكره المصنف ».

قلت : لا يخفى عليك ـ بعد الإغضاء عما في بعض كلامه ـ عدم الإشكال في ذلك وفي غيره من الأمثلة المذكورة في المقام من بلغ الشاة جوهرة الغير وغير ذلك ، مع الإحاطة بما ذكرناه من الميزان في تزاحم الحقوق.

ولعل إطلاق الأصحاب أن المصلحة لصاحب الدابة مبني على اقتضاء بقاء القدر هلاكها ، فالضرر عليه حينئذ بالبقاء ، دون صاحب القدر الذي يأخذ قدره بعد الموت تاما ، ومن هذه الجهة خصوا صاحب الدابة بالضمان ، أما لو فرض عدم ذلك مع كون القدر في رأسها وإن تضررت فالمصلحة مشتركة بينهما ، كما هو واضح ، خصوصا مع فرض احتمال تلفه لو بقي على رأسها ، والفرض أن لمكسوره قيمة ، فتأمل.

نعم بقي شي‌ء : وهو أن التفريط جهة مرجحة لغير المفرط على كل حال وإن عظم ضرره في ظاهر كلامهم ، إلا أنه لا يخلو من إشكال في بعض الأفراد.

هذا وفي المسالك أيضا « واعلم أن عطف المصنف قوله : « ولم يكن المالك معها » على ما إذا لم يكن من أحدهما تفريط غير جيد ، لأن عدم كون المالك معها قد يكون من موجبات عدم التفريط ، وقد يجامع التفريط ، وكذا قوله : « وكانت القدر في ملك صاحبها » فإنه من أمثلة عدم التفريط ، فعطفه عليه المقتضي للمغايرة وكونه شرطا آخر مع عدم التفريط ليس بجيد ، وكان حقهما أن يكونا مثالين لعدم التفريط ،

٢١٢

ولو جعل الواو للحال قرب من المقصود ، وإن كان لا يخلو من قصور في الجملة ».

قلت : قد يقال : إن وجود المالك مع الدابة مقتض لضمان ما تحته وإن لم يكن مفرطا ، ومن هنا جعله في الأول مقابلا للتفريط ، وأما القدر فالواو فيه للحال كما ذكر ، فلا إشكال في العبارة حينئذ ، والله العالم.

المسألة ( التاسعة : )

قال الشيخ رحمه‌الله في المبسوط : إذا خشي على حائط جاز أن يسند بجذع ) مثلا ( بغير إذن مالك الجذع مدعيا للإجماع ) أي قال : بلا خلاف ( وفي دعوى الإجماع ) المزبور ( نظر ) ضرورة عدم حكاية موافق له ممن تقدمه أو عاصره.

نعم في الدروس بعد أن حكى ذلك عنه قال : « وحينئذ الأقرب ضمان عينه وأجرته وإن انتفى الإثم » وهو ـ مع أنه غير صريح في وفاقه ـ لا مدخلية له في ثبوت الدعوى المزبورة.

ولعله لذا نزله في جامع المقاصد على خصوص خوف تلف النفس المحترمة ، قال : « والحق أنه إن خيف بترك ذلك ضرر على نفس محترمة ونحو ذلك جاز إسناده ، لجواز إتلاف مال الغير لحفظ النفس. ويضمن العوض ، ويلوح من تعليل الشيخ إرادة هذا المعنى ، حيث قال : إن مراعاة المصالح الكلية أولى من الجزئية مع التعارض ، وهذا حيث لا يمكن نقضه أو يخاف المعاجلة قبله ».

٢١٣

قلت : لا دلالة في كلامه على خصوص تلف النفس ، ويمكن حمل كلامه على ما ذكرناه أيضا من الميزان مع التعارض في الحقوق ، فيقدم الكلي منها على الجزئي ، كما لو كان حائط في طريق المسلمين مثلا أو كانت قنطرة كذلك ، فإن إسناده بجذع الغير مع فرض انحصار الأمر فيه والجبر بالأرش والأجرة ونحو ذلك أولى ، فإنه جهة مرجحة أيضا ، ولعل ذلك باب عظيم ينفتح منه أمور كثيرة ، فتأمل ، والله العالم.

المسألة ( العاشرة )

إذا جنى العبد المغصوب عمدا فقتل ضمن الغاصب قيمته ) يوم تلفه غير مستحق عليه القصاص أو أعلى القيم من يوم غصبه إلى يوم تلفه أو غير ذلك مما عرفت البحث فيه سابقا.

إنما المراد هنا بيان كونه مضمونا على الغاصب وإن كانت الجناية من العبد بلا تفريط من الغاصب ، ولا أجد خلافا في ذلك بل ولا إشكالا لما عرفته مكررا من كون يد الغاصب يد ضمان وإن تلف بآفة سماوية.

ولا فرق في الضمان المزبور بين القصاص فيه بعد رده إلى سيده أو قبله ، ضرورة عدم براءته بالرد المزبور ، لثبوت الاستحقاق عليه في يده والفرض ضمانه ، وكذا لو ارتد في يد الغاصب فقتل بعد رده إلى السيد أو قبله.

نعم لو غصبه مرتدا أو سارقا فقتل أو قطع عنده فالأقوى ضمانه إياه مستحق القتل أو القطع ، ضرورة عدم خروجه بالارتداد ولو فطريا عن الملك ، فله قيمته ، بل صرح بعضهم بجواز بيعه كذلك ، خصوصا‌

٢١٤

بعد القول باختصاص جواز قتله للسلطان بناء على أنه من الحدود ، وقد لا يظفر به.

ومن هنا يظهر لك أنه لا فرق في الردة بين الفطرة والملة إذا كانت مقتضية للقتل.

فما في القواعد ـ من الإشكال في ذلك مما عرفت ومن وجود السبب في يد المالك فهو كوجود المسبب ، وأنه لا يضمن بالجناية فلا يضمن باليد ، وأن إزالة ملك المالك لا تضمن بالقتل فأولى أن لا يضمن إزالة يده ـ واضح الضعف ، إذ كل ذلك كما ترى.

وأضعف من ذلك قوله متصلا بالإشكال السابق : « فان منعناه ضمن النقص الزائد على المقدر لو حصل زائد عليه » سواء كان مراده خصوص القطع أو الأعم منه ومن الارتداد ، على معنى أنه لو كان قيمته ماءة فقطع ونقصت قيمته إلى عشرين فإنه يضمن الزائد على جنايته التي هي نصف القيمة ، وهو ثلاثون ، أو كانت قيمته ألفي دينار فقتل فإنه يضمن الغاصب حينئذ ألف دينار. إذ هو كما ترى لا وجه له بعد أن كانت الجملة غير مضمونة على الغاصب كما هو المفروض ، فالمتجه عدم ضمانه شيئا ، وهو واضح.

وأضعف منهما قوله متصلا بذلك : « وكذا الاشكال لو انعكس » أي ارتد أو سرق في يد الغاصب فقتل أو قطع في يد المالك ، ضرورة منافاته لما سبق منه ومن غيره في خصوص ذلك. بل ولقواعد الغصب التي منها ضمان العين المغصوبة على الغاصب على كل حال من غير فرق بين الآفة السماوية وغيرها.

نعم لو ارتد في يده ثم مات في يد المالك من غير قتل ضمن الأرش خاصة ، لأنه رده ناقصا والفرض عدم قتله ، فلا يضمن كمال القيمة ،

٢١٥

كما أنه لا يبرأ بالموت عن الأرش ، ضرورة تحقق النقصان فيه وإن تلف بالموت لا بالعيب الحادث في يد الغاصب.

ومن ذلك يعلم أن الوجه فيما لو اشترى مرتدا أو سارقا فقتل أو قطع في يد المشتري عدم رجوعه بشي‌ء على البائع مع فرض علمه وإقدامه المسقطين لخيار العيب ، أما مع الجهل فله الأرش خاصة ، فما في القواعد من الإشكال في أنه من ضمان البائع في غير محله ، والله العالم.

( و ) كيف كان فـ ( ـان طلب ولي الدم الدية ) في مفروض المسألة على الوجه الشرعي المقرر في العبد ( لزم الغاصب أقل الأمرين من قيمته ودية الجناية ) كما صرح به الفاضل والشهيدان والكركي وغيرهم ، بل لا أجد فيه خلافا بيننا ، وإن قال في المسالك : « إنه الأشهر » مشعرا بوجوده ، إلا أنا لم نتحققه.

وعلى كل حال فوجهه أنه الذي يستحقه الولي مع فرض كون طلبه على الوجه الذي ذكرناه ، ضرورة أن الدية إن كانت أقل فظاهر ، وإن كانت القيمة أقل فإن الجاني لا يجني على أكثر من نفسه.

نعم لو اقترح غير ذلك بأن طلب أضعاف قيمته على العفو عن القصاص عنه وجب على الغاصب بذله لما عرفته من تكليفه بالأشق بالنسبة إلى رد العين ، فكل ما يتوقف على ذلك يجب عليه دفعه ، وقد احتمله في جامع المقاصد هنا ، بل مال اليه غيره. ولعله لا ينافيه ما في المتن وغيره بعد تنزيله على ما ذكرناه ، اللهم إلا أن يقال : لا يجب على الغاصب بذل الزائد المقترح ، لكن فيه منع واضح.

ولو مات العبد المزبور دفع الغاصب القيمة التي ثبتت عليه بالغصب للمالك ، فان رجع المجني عليه على المالك بالقيمة التي هي بدل العين التي تعلق بها حق الجناية دفعها اليه مع فرض المساواة بين القيمة المدفوعة‌

٢١٦

للغصب وبين قيمة الجناية ، ورجع على الغاصب بقيمة أخرى بلا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك ولا إشكال ، عدا استحقاق رجوع المجني عليه على المالك بالقيمة ، لاحتمال اختصاص رجوعه على الغاصب ، فيختص المالك حينئذ بما أخذ ، كما أنه يختص الجاني بأرش جنايته لو أخذه ، ولا يرجع عليه المالك ، فهما حينئذ كرجلين لكل واحد منهما دين على ثالث ، بل عن التذكرة نفي البأس عن ذلك وأن المشهور عند الشافعية الأول.

قلت : لعل وجه رجوعه على المالك أنه قبض قيمة العين التي تعلق بها حق المجني عليه على وجه ينتقل منها إلى قيمتها.

بل قد يتوهم عدم رجوع المجني عليه على الغاصب باعتبار عدم ضمانه للعين التي تعلقت بها الجناية بالنسبة إلى الجاني ، ولذا لا يجوز له ردها للسيد بعد الجناية.

لكن يدفعه أنا نمنع ذلك بعد تعلق الحق فيها ، كما يمنع بالنسبة إلى قيمتها أيضا ، لقيامها مقامها ، فالذي جوز رجوعه على الغاصب هو دفعه لما تعلق له حق المجني عليه من غير إذن ، نحو رجوع الديان على من دفع عينا من تركة الميت إلى وارثه مثلا بغير إذن منه ، نعم لو كان الدفع بإذن المجني عليه اتجه عدم الرجوع حينئذ.

وعلى كل حال فليس هو كدينين على ثالث ، بل هو دين واحد تعلق به حقان وإن رجع السيد على الغاصب إذا أخذه منه ذو الحق المقدم عليه باعتبار ضمانه عليه ، فتأمل جيدا فإن المسألة غير محررة في كلامهم.

ومن ذلك أيضا ما يظهر من غير واحد من التفاوت بين القيمة المضمونة للجناية وبينها للغاصب ، بناء على ضمان أعلى القيم له ، فيختص المالك حينئذ بالزائد ، ولا رجوع للمجني عليه في ذلك ، مع أنه قد يشكل‌

٢١٧

ذلك خصوصا لو فرض الأعلى بعد حصول الجناية ، بأن حق الجناية إنما تعلق بالرقبة ، ولذا لو مات ولم يكن مضمونا سقط ، ولكن لما كان مضمونا بالغصب قامت قيمته مقام عينه في التعلق ، فأي قيمة كانت للغصب يتعلق بها حق الجناية ، لأنه تابع له في ذلك ، فلا فرق بين القول بالأعلى وغيره.

ولو كان العبد وديعة فجنى بالمستغرق ثم قتله المودع بالفتح فعليه قيمة يتعلق بها أرش الجناية ، فإذا أخذها الولي لم تجب قيمة أخرى على المودع ، لأنه جنى وهو غير مضمون عليه ، كما هو واضح ، هذا كله في الجناية الموجبة قصاصا في النفس.

( وإن أوجبت قصاصا فيما دون النفس فاقتص منه ضمن الغاصب الأرش ) على حسب ما تقدم الكلام فيه سابقا لو جنى هو عليه نفسه.

( وإن عفي على مال ضمن الغاصب أقل الأمرين ) على حسب ما سمعت الكلام فيه في النفس ، ضرورة اتحاد المدرك في الجميع فلا حاجة إلى عود الكلام.

ولو جنى في يد سيده بالمستوعب ثم غصب فجنى اخرى بالمستوعب ولم يحكم به للأول ففي القواعد ومحكي التذكرة وجامع المقاصد بيع فيهما ، ويرجع المالك على الغاصب بما أخذه الثاني منهما ، لأن الجناية وقعت في يده وكان للمجني عليه أولا أن يأخذه دون الثاني ، لأن الذي يأخذه المالك من الغاصب هو عوض ما أخذه المجني عليه ثانيا ، فلا يتعلق به حقه ، ونحو ذلك ما ذكرناه سابقا عن التحرير.

والظاهر كون المراد مع اختيارهما البيع ، لا أنه يباع عليهما قهرا ، إذ لا إشكال في جواز استرقاقه لهما ، كما لا إشكال في استرقاق الأول له من دون حاجة إلى حكم به ، وأنه لو استرقه الأول ثم جنى الجناية‌

٢١٨

الثانية اختص بالثاني.

نعم يشتركان فيه مع فرض عدم استرقاق الأول له مثلا على ما قدمناه سابقا من عدم اختصاص ذي الجناية الأولى به ولا الثاني وإن أوهم الأخير بعض النصوص (١) لكنه معارض بغيره (٢) كما تقدم البحث فيه سابقا ، ويأتي إنشاء الله ، والأمر في ذلك كله سهل.

إنما الكلام في استحقاق رجوع الأول بما يأخذه المالك من الغاصب عوض جناية الثاني التي هي مضمونة عليه دون الثاني ، وقد وجهه في جامع المقاصد بأن حق المجني عليه أولا متعلق بقيمة العبد كلها ، لأن الفرض أن الجناية مستوعبة ، وقد وجد باقي القيمة ، فيتعلق به حقه ، وأما الثاني فلأن الذي يأخذه المالك من الغاصب هو عوض ما أخذه المجني عليه ثانيا ، وهو نصف القيمة المستحق له ، فلا يتعلق به حقه مرة أخرى ، لاستحالة تعلق حقه به مرتين ، والنصف الآخر من القيمة قد فات بتعلق حق المجني عليه أولا به ، فكان القيمة من أول الأمر مقدار النصف.

وأما المجني عليه الأول فإن حقه متعلق بتمام القيمة والجناية الثانية لكونها مضمونة على الغاصب في حكم المنتفية ، فيبقى تعلق حقه بالقيمة جميعها ثابتا ، ولما لم تكن الجناية الأولى مضمونة على الغاصب لم يكن للمالك الرجوع بما أخذه المجني عليه أولا.

قلت : لكن قد يقال : إن ما أخذه المالك بسبب الغصب لا مدخلية له في الجناية ، فلا يتجه رجوع الأول عليه بها ، إذ هما حيثيتان ، مختلفتان ، وأقصى الأدلة اشتراك الجنايتين برقبة العبد دون غيره ، وإلا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٥ ـ من أبواب القصاص في النفس من كتاب القصاص.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٥ ـ من أبواب القصاص في النفس الحديث ٢ من كتاب القصاص.

٢١٩

لاقتضى شركة الثاني ، فإن الفرض كون الثانية كالأولى في التأثير ، ولا مدخلية للسبق ، فمع فرض وجود باقي القيمة يتعلقان به معا وإن كان هو عوض الثانية منهما.

وفيه أن المجني عليه الأول أولى بذلك ، لأن المالك بحكم منقطع السلطان عليه بالجناية الأولى المفروض كونها مستوعبة ، أقصى ما هناك قد زاحمتها الجناية الثانية في عينه دون القيمة الحاصلة بسبب الضمان الذي هو تدارك ما أخذه الثاني.

اللهم إلا أن يقال : إن الضمان المزبور لم يكن للمجني عليه الأول ، لأن الفرض عدم منع الغاصب له عن استيفاء جنايته ، وإنما هو للمالك باعتبار بقاء العين على ملكه قبل الاستيفاء.

وعلى كل حال ينبغي أن يكون الذي يضمنه الغاصب قيمة نصف عبد مستحق عليه الجناية الأولى ، لأن الفرض أنه غصبه كذلك ، لا نصف قيمته بدون الوصف المزبور كما عساه يظهر من كلام المتعرضين له. وكيف كان فالمسألة محتاجة إلى التأمل.

ولو مات في يد الغاصب فعليه قيمته ، تقسم بينهما ، ويرجع المالك على الغاصب بنصف القيمة ، ويكون للمجني عليه أولا أن يأخذه منه بناء على ما عرفت ، وفيه البحث السابق ، ولو وهب المجني عليه ثانيا ما أوجبته الجناية للمالك فالرجوع بالنصف بحاله ، نعم لو وهبه للغاصب لم يبعد سقوط الرجوع به ، فتأمل.

ولو جنى على سيده عمدا فاقتص منه وليه ضمن الغاصب كالأجنبي ، لإطلاق الأدلة ، ولو جنى على طرف فاقتص منه سيده ضمن الغاصب أكثر الأمرين على الوجه السابق.

وما في القواعد ـ من الإشكال في أصل الضمان باعتبار أنه إذا‌

٢٢٠