المرأة في ظلّ الإسلام

السّيدة مريم نور الدّين فضل الله

المرأة في ظلّ الإسلام

المؤلف:

السّيدة مريم نور الدّين فضل الله


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: دار الزهراء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٧٥

وقفت عليها‌السلام تذرف العبرات بصمت كئيب ، فدورها لم يحن بعد ... ينتظرها في كربلاء.

امسكت قلبها تعتصره في ذعر وهلع ، واصغت في وجوم إلى الضجة ، وإلى صيحات الألم واللوعة ، المنبعثة من حناجر المؤمنين تعلن ... مات أمير المؤمنين.

نرى عقيلة بني هاشم ترعى الإمام الحسن وقد وقف بين الجمع يقول :

« لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون بعمل ، ولا يدركه الآخرون بعمل. ولقد كان يجاهد مع رسول الله (ص) فيقيه بنفسه ، ولقد كان يوجهه برايته فيكتنفه جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره ، فلا يرجع حتى يفتح عليه ، وما خلف صفراء ولا بيضاء ... ثم خنقته العبرة فبكى ، وبكى الناس معه (١).

وقال أبو الأسود الدؤلي :

الا ابلغ معاوية بن حرب

فلا قرت عيون الشامتينا

أفي شهر الصيام فجعتمونا

بخير الناس طراً اجمعينا

قتلتم خير من ركب المطايا

ورحلها ومن ركب السفينا

ومن لبس النعال ومن حذاها

ومن قرأ المثاني والمبينا

إذا استقبلت وجه أبي حسين

رأيت البدر راع الناظرينا

لقد علمت قريش حيث كانت

بانك خيرها حسباً ودينا

__________________

(١) تاريخ الطبري.

٢٨١

عقيلة بني هاشم مع اخيها الامام الحسن (ع) :

رحل الامام امير المؤمنين الى جوار ربه مشيعاً بالحسرات وترك العقيلة « زينب » تطوى احزانها بين اضلاعها وتحتسب عند الله كل ما تلاقيه.

لكن سلسلة الاحداث لم تفرغ حلقاتها ، والاحزان لم تنته ، والبيت الهاشمي لا تهدأ له زفرة ولا تجف له دمعة.

لأن حقد الامويين متغلغل في الأعماق ، ونفوسهم المنطبعة على الكراهية لآل بيت الرسول مشرئبة ، تتحين الفرص لأخذ الثأر من آل النبي المختار.

بويع الامام الحسن عليه‌السلام بالخلافة ، ( وهو الخليفة الحق ) والبيعة له تؤثر على معاوية المشرئبة نفسه للخلافة.

« معاوية » الداهية يوآزره عمرو بن العاص ومروان بن الحكم وامثالهما من طلاب الدنيا الذين شيمتهم الخداع والمكر والغدر.

يجيدون حبك المؤامرات ، ويشترون ضمائر الناس بالاموال تارة وبالوعود والاماني طوراً.

والحسن عليه‌السلام : الامام المعصوم كأبيه علي لا يحيد عن الحق ، ولا يسعه ان يشتري الناس بالاموال ، كما يفعل معاوية.

ان بيت المال للمسلمين فلا يجوز ان يصرف منه شيء الا في سبيل مصلحة الاسلام والمسلمين.

٢٨٢

والناس عبيد الدنيا ، الا فئة قليلة هداهم الباري الى طريق الرشاد يقول الطبري (١) :

« بايع الناس الحسن بن علي عليه‌السلام بالخلافة ، ثم خرج بالناس حتى نزل المدائن ، وبعث قيس بن سعد على مقدمته في اثني عشر الفاً.

واقبل معاوية في أهل الشام حتى نزل مسكن ، فبينما الحسن في المدائن ، اذ نادى منادٍ في العسكر : « الا ان قيس بن سعد قد قتل ، فانفروا ، فنفروا ونهبوا سرادق الحسن عليه‌السلام حتى نازعوه بساطاً كان تحته.

تخدر الناس بمال معاوية ، فتخاذلوا عن الامام الحسن عليه‌السلام واضطر الى الصلح الذي عقده مع معاوية.

وبعدها رجع الى مدينة جده الرسول ، بصحبة أخيه الامام الحسين واخته العقيلة زينب وزوجها عبد الله بن جعفر.

كل هذه المواقف والمشاهد ، عاشتها عقيلة بني هاشم وفي قلبها الف غصة ، وفي عينيها تترقرق الدمعة.

تتابع تطورات الموقف بأهتمام ، وتحسب للمستقبل الف حساب وترى اخويها السبطين بلهفة وشفقة.

معاوية يخشى الحسن ومهما خدر أعصاب الناس بالاموال فالحق دائماً هو الأعلى ، اذن لماذا لا يرتاح من هذا الخصم العظيم ؟

ووجد المخرج ، لقد دس السم للامام الحسن عليه‌السلام بواسطة زوجته

__________________

(١) تاريخ الطبري ـ ج ٥ ـ ص ١٥٩ ـ حوادث سنة ٤٠.

٢٨٣

« جعدة بنت الاشعث » لعنها الله.

ارتاعت الحوراء زينب عندما سمعت بخبر سم اخيها الحسن فوقفت ترمق السبط الكريم وهو يلفظ كبده قطعاً من شدة السم.

تجلدت عليها‌السلام ، وكتمت الحسرات ، واخفت الزفرات زينب البطلة لم تخلق للبكاء والنحيب.

انها رمز الصمود ، الانسانية النبيلة ، والمؤمنة الصابرة انها بنت علي ، ومن بني هاشم الذين « القتل لهم عادة وكرامتهم من الله الشهادة ».

ولكن فراق الأحبة صعب ومرير.

شيع المسلمون ، الامام الحسن الى مثواه الأخير مصحوباً باللوعة والأسف.

ورجعت زينب الى البيت الحزين ، بعد ان وُسِّد شقيقها الغالي في ملحودة قبره ، ورقد الفقيد الراحل الى جوار امه الزهراء « بالبقيع » عام ٤٩ هجرية وهو في الثامنة والاربعين من عمره كما جاء في مقاتل الطالبين.

في خضم الاحداث :

لم تنته المصاعب ، والحوادث المؤلمة ، بموت الامام الحسن عليه‌السلام ، وما رافق دفنه من الحزازات والآلام بل أخذت التيارات السياسية العاتية ، تلوح بالافق ، وتنذر بمأساة لها خطرها الجسيم.

والسيدة زينب تعيش في دوامة التيارات بكل مآسيها وتقف الى جانب

٢٨٤

اخيها الحسين القائم بأمر الرسالة المقدسة ، التي انتقلت اليه ، بعد وفاة أخيه الحسن عليه‌السلام.

جاء دور الحسين سلام الله عليه ، فوقف في وجه معاوية السلطان الداهية الذي افرغ جعبة دهائه ... وخداعه ، ومكره ليأخذ البيعة لولده يزيد ، ويجعل من الخلافة الإسلامية ، ملكاً عضوداً وارثاً موروثاً.

فوجئ المجتمع الاسلامي بهذا التدبير.

يزيد حفيد « هند » يتولى خلافة المسلمين ... يرثها من الأجداد ... كلما مات هرقل قام هرقل ...

شمَّر زعيم بني أمية « معاوية » عن ساعديه ليصرف الخلافة عن الحسين حفيد « خديجة » أم المؤمنين والمسلمة الأولى ، الطاهرة الزكية ... وسبط الرسول الأعظم (ص).

ليجعلها في ولده يزيد حفيد « هند » آكلة الأكباد.

لكن معاوية فكر ودبر ، وعزم على أخذ البيعة ليزيد مهما كان الثمن ... لقد قرر تذليل جميع العقبات التي تعترضه ، ودفع بكل اساليبه الجهنمية الى تمهيد السبيل.

وتحت وطأة الإرهاب تارة والرشوة وبذل المال والحيلة والدهاء تارة أخرى ، تمت المؤامرات ، وبايع أهل الشام.

وكتب معاوية الى عماله في الأمصار ، يأمرهم بأخذ البيعة بالخلافة لولي عهده يزيد المتهتك.

٢٨٥

ويأمرهم ايضاً باستعمال الشدة والعنف ممن لم يبايع أو لم يقبل الرشوة ثمن البيعة.

وتقول بعض المرويات : ان معاوية جلس ليأخذ البيعة ليزيد ، وعندما خطب بالناس وعرّفهم بما يريد ...

هناك كثر اللغط ... وتعالت الهمسات بين الرفض والانكار ... أو السكوت على مضض.

عندها قام أحد المقربين من معاوية فقال : يا معاوية انا لا نطيق ألسنة مضر ... وخطبها ؟! انت امير المؤمنين ، فان هلكت فان يزيد من بعدك ، فمن ابى ... فهذا وسل سيفه.

ومهما كانت السبل الملتوية التي سلكها معاوية بن ابي سفيان في تحقيق مآربه ، واستعملها في بلوغ اطماعه ، فقد استطاع في النهاية ان يجعل من يزيد المستهتر حاكماً للمسلمين.

أجل لقد افرغ معاوية حقده ، ونال ابن ابي سفيان مأربه من بني هاشم ، وتمادى في غيه غير مبالٍ لاوامر الباري سبحانه وسنة الرسول الأعظم (ص).

بعد مقتل ( علي ) نقض معاوية شروط الصلح التي عقدها وابرمها مع الإمام الحسن (ع) وأمر بسب « علي » بن أبي طالب ( اخي رسول الله ـ وابن عمه ـ وزوج الزهراء ـ واول القوم اسلاماً ) على منابر المسلمين.

وقتل الكثير من الصلحاء ، والمؤمنين الابرياء امثال « حجر بن عدي الكندي » واصحابه ، ثم بعد هذا دس السمَّ للامام الحسن (ع).

واخيراً ألحق زياد بن ابيه بابي سفيان ، مخالفاً حكم القرآن وسنة الرسول ، واجماع المسلمين على ذلك.

٢٨٦

ولنستمع الى أحدهم يخاطب معاوية بعد الحاقه زياداً قال :

ألا ابلغ معاوية ابن حرب

مغلغلة عن الرجل اليماني

أتغضب ان يقال ابوك عفٌّ

وترضى ان يقال ابوك زاني

ولم يكفه كل هذا ! بل أخذ يبدد اموال بيت المسلمين يهبها لأنصاره وأعوانه ، امثال الماكر الداهية « عمرو بن العاص » وطريد رسول الله « مروان بن الحكم » والدعي الفاسق « زياد بن ابيه ».

ولم يخرج معاوية من الدنيا إلا بعد ان سلط ولده يزيداً على رقاب المسلمين.

٢٨٧

نذر المأساة

انكر أهالي مدينة الرسول ، وبقية الصحابة الاخيار والمؤمنون حكومة يزيد ، وامتنع الكثير من البيعة.

ارسل « يزيد » الى ابن عمه « الوليد بن عتبة بن ابي سفيان » والي مدينة ، يأمره ان يأخذ البيعة من الحسين بأي اسلوب كان ، او حيلة.

وذكر صاحب اعيان الشيعة : (١)

« فصار الحسين (ع) الى الوليد فوجد عنده مروان بن الحكم ، فنعى اليه الوليد معاوية ، فاسترجع الحسين (ع) ثم قرأ عليه كتاب يزيد ، وما امره فيه من اخذ البيعة منه ليزيد.

فلم يرد الحسين (ع) ان يصارحه بالامتناع من البيعة ، واراد التخلص منه بوجه سلمي ، فورى عن مراده وقال :

«أني اراك لا تقنع ببيعتي سراً حتى أبايعه جهراً فيعرف ذلك الناس ».

فقال له الوليد : اجل ، فقال الحسين (ع) تصبح وترى رأيك في ذلك.

فقال له الوليد : انصرف على اسم الله حتى تأتينا مع جماعة الناس.

فقال له مروان بن الحكم : والله لئن فارقك الحسين الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها ابداً حتى تكثر القتلى بينكم وبينه ، ولكن احبس الرجل ، فلا يخرج من عندك حتى يبايع او تضرب عنقه.

__________________

(١) اعيان الشيعة ـ السيد محسن الامين ـ ج ٤ ـ ص ٧٣.

٢٨٨

فلما سمع الحسين (ع) هذه المجابهة القاسية من مروان صارحهما حينئذ بالامتناع من البيعة ، وانه لا يمكن ان يبايع ليزيد أبداً.

وثب الحسين (ع) عند ذلك وقال لمروان : ويلي عليك يا ابن الزرقاء ... انت تأمر بضرب عنقي ؟! كذبت والله ولؤمت ...

ثم أقبل على الوليد فقال : ايها الامير إنا اهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، بنا فتح الله وبنا ختم ...

ويزيد فاسق ، وشارب الخمر ، قاتل للنفس المحرمة ، معلن بالفسق. ومثلي لا يبايع مثله ، ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون اينا احق بالخلافة والبيعة. »

ثم خرج عليه‌السلام يتهادى بين مواليه ، وهو يتمثل بقول يزيد بن المقرع :

لا ذعرت السوام في غسق الصب‍

‍ح فقيراً ولا دعيت يزيدا

يوم اعطي مخافة الموت ضيماً

والمنايا يرصدنني ان احيدا

رجع الحسين (ع) الى منزله ، فوجد شقيقته « زينباً » ساهرة قلقة تنتظر عودته ، لتعرف منه موقفه مع الوليد ، وإن كانت عليها‌السلام تعلم حق العلم ان الحسين لا يلين ، نفس ابيه بين جنبيه ، لا يعطي بيده اعطاء الذليل ، ولا يقر لاحد اقرار العبيد.

وصل الامام الحسين الى البيت فتلقته اخته الحوراء « زينب » متلهفة ، وكانت جلسة طويلة ، اطلعها على كل شيء ، وصارحها بعزمه على المسير الى العراق ،

٢٨٩

واعرب لها عن قراره الاخير وقد اختارها لتصحبه وتتحمل المسؤولية الجسيمة التي تنتظرها في غدها المظلم.

وكانت العقيلة زينب في وسط هذه العاصفة الهوجاء ، تقف على مسرح الاحداث صامدة بقلب ابيها « علي » ، ومعنويات امها « الزهراء » وصبر اخيها « الحسن » وبطولة وشجاعة سيد الشهداء « الحسين ».

وارتاع بنو هاشم لقرار الحسين المفاجئ ، وعزمه الاكيد على المسير الى العراق. فاجتمعوا اليه يطلبون منه البقاء في حرم جده الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والعدول عن السفر الى الكوفة مع نسائه واطفاله وجميع اهل بيته.

وخاطبه في ذلك « محمد بن الحنفية » وعبد الله بن عباس ـ وعبد الله بن جعفر ـ وعبد الله بن مطيع ـ وعبد الله بن عمر ... وغيرهم لكن الحسين (ع) قد عزم ولا يرده عن عزمه شيء ، وقرر فلا يعدله عن قراره احد. لقد قال : « ما قضي كائن لا محالة ».

وردد قول الشاعر :

سأمضي وما بالموت عار على الفتى

اذا ما نوى خيراً وجاهد مسلما

وواسي رجالاً صالحين بنفسه

وخالف مثبوراً وفارق مجرما

فان عشت لم اندم وان مت ألم

كفى بك ذلاً ان تعيش وترغما

ومضت قافلة الحسين عليه‌السلام في طريقها الى العراق ، تاركة وراءها

٢٩٠

قلوبا ملتاعة ونفوسا متحسرة وأولئك الذين أشاروا عليه بالبقاء في الحجاز يأسفون والاسى يعتصر قلوبهم ، خوفا عليه من المصير المحتوم على أيدي الطغاة.

وجد السير وكانت العقيلة زينب مع النساء تلتفت من حين لآخر تلقي نظرة على ربوع الأهل والاحباب ولسان حالها يقول :

وتلفتت عيني فمذ خفيت

تلك الطلول تلفت القلب

ثم اخذتها الذكريات ورجعت بها الى الماضي لقد هاجرت الى العراق اول مرة يوم كان والدها امير المؤمنين خليفة المسلمين حيث جعل من الكوفة مقراً لدار الخلافة.

هاجرت الى العراق مع والدها العظيم الذي كان يملأ عليها دنياها.

وها هي تسير الى العراق مرة ثانية ولكن شتان بين الامس واليوم.

لقد مرت الاعوام التي زادت على العشرين مثقلة كئيبة مشحونة بالمصاعب والآلام فقدت فيها والدها العظيم واخاها الحسن الامام الشفوق وفقدت بفقدهما المرح والعيش الهنيء.

وتسيل الدموع من مقلتيها غزيرة وهي تلقي نظرة ملؤها العطف والحنان على هذا الركب العظيم الذي يلغه الليل بسكونه.

هؤلاء احبابها ... اخوها الامام ... وبنوها ... وبنو اخيها ... وبنو عمها ... زهرة شباب بني هاشم الصفوة من آل الرسول الكرام.

٢٩١

السيدة زينب في يوم الطف

وصل الركب الى العراق ، وحط رحاله في كربلاء ، وقف الحسين عليه‌السلام : يسأل : ما اسم هذه الارض ؟ فقيل له نينوى ... قال : هل لها اسم آخر ؟ قيل له : الغاضرية ... قال : او لها اسم غير ذلك ؟ قيل له : كربلاء ... فقال : ارض كرب وبلاء هنا محط رحالنا ... ومقتل رجالنا.

نزل الامام عليه‌السلام وضرب فسطاطه ، ونصب اصحابه الخيام ...

وكان في الجهة الثانية جيش عمر بن سعد عليه لعنة الله.

وهنا يظهر التفاوت بين الجيشين !!...

الامام الحسين بن علي (ع) ، مع آل الرسول الاطهار واصحابه العلماء الابرار.

وعمر بن سعد لعنة الله عليه مع رعاع أهل الكوفة وطلاب المال.

جمع الحسين اصحابه وقال لهم : (٢)

« أما بعد فاني لا أعلم اصحابا اوفى ولا أخير من اصحابي « ولا أهل بيت ابر ولا اوصل ، من اهل بيتي ، فجزاكم الله جميعاً عني خيراً الا واني لا اظن

__________________

(١) الكامل في التاريخ لابن الاثير. ج ٣ ـ ص ٢٨٥.

٢٩٢

يومنا من هؤلاء الاعداء غداً ، واني قد اذنت لكم جميعاً ، فانطلقوا في حل ليس عليكم من ذمام ، هذا الليل قد غشيكم ، فاتخذوه جملاً ، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي فجزاكم الله جميعاً ، ثم تفرقوا في البلاد في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله فان القوم يطلبوني ، ولو اصابوني لهوا عن طلب غيري.

فقال له أخوته وأبناؤه ، وابناء اخوته ، وابناء عبد الله بن جعفر :

لم نفعل هذا ؟

لنبقى بعدك !! لا ارانا الله ذلك ابداً.

فقال الحسين : يا بني عقيل ، حسبكم من القتل بمسلم ، اذهبوا فقد اذنت لكم.

قالوا : وما نقول للناس ؟؟

نقول : تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الاعمام ، ولم نرم معهم بسهم ولم نطعن معهم برمح ، ولم نضرب بسيف ولا ندري ما صنعوا.

لا والله ... لا نفعل ، ولكنَّا نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا ، ونقاتل معك حتى نرد موردك. فقبح الله العيش بعدك.

وقام اليه مسلم بن عوسجة الاسدي فقال :

انحن نتخلى عنك ؟ ولم نعذر الى الله في اداء حقك ، اما والله لا افارقك ، حتى اكسر في صدورهم رمحي ، واضربهم بسيفي ، ما ثبت قائمه بيدي ، والله لو لم يكن معي سلاحي لقذفتهم بالحجارة دونك حتى اموت معك.

وتكلم اصحابه بنحو ذلك فجزاهم الله خيراً.

وسمعته اخته زينب تلك العشية ، وهو في خباء له يقول وعنده مولى ابي

٢٩٣

ذر الغفاري يعالج سيفه :

يا دهر اف لك من خليل

كم لك بالاشراق والاصيل

من صاحب او طالب قتيل

والدهر لا يقنع بالبديل

وانما الأمر الى الجليل

وكل حي سالك السبيل

فاعادها مرتين او ثلاثة ، فلما سمعته لم تملك نفسها ان وثبت تجر ثوبها حتى انتهت اليه ونادت : واثكلاه ، ليت الموت اعدمني الحياة. اليوم ماتت فاطمة أمي ، وعلي ابي وحسن اخي ، يا خليفة الماضي ، وثمال الباقي.

فذهب اليها وقال : يا اخية : لا يذهبن حلمك الشيطان. قالت : بابي انت وامي ... استقتلت ؟ نفسي لنفسك الغداء فردد غصته ، وترقرقت عيناه ثم قال : ( لو ترك القطا ليلاً لغفا ونام ).

عندها لطمت وجهها وشقت جيبها ، وخرت مغشياً عليها. فقام اليها الحسين ، فصب الماء على وجهها ، وقال : اتقي الله يا اختاه ، وتعزي بعزاء الله ، واعلمي ان أهل الارض يموتون ، واهل السماء لا يبقون ، وان كل شيء هالك إلا وجه الله.

ابي خير مني ... وامي خير مني ... واخي خير مني ، ولي ولهم ولكل مسلم برسول الله اسوة.

فعزاها بهذا العزاء ونحوه ، ثم قال لها.

يا اخية اني اقسم عليك ( فابري قسمي ) لا تشقي عليّ جيباً ، ولا تخمشي عليّ وجها ، ولا تدعي عليَّ بالويل والثبور ان انا هلكت.

ثم خرج الى اصحابه ، فلما امسوا قضوا الليل كله يصلّون ويستغفرون ،

٢٩٤

ويتضرعون ، ويدعون.

سمة العبيد من الخشوع عليهم

لله إن ضمتهم الاسحار

فاذا ترجلت الضحى شهدت لهم

بيض القواضب انهم احرار

وقف الحسين (ع) ونادى بأعلى صوته : « يا عمرو بن سعد ، ويا اصحابه ، تباً لكم ايتها الجماعة وترحا ، يا عبيد الأمة وشذاذ الاحزاب ، ونبذة الكتاب ، ونفثة الشيطان وعصبة الآثام ، ومحرفي الكتاب ، ومصطفي السنن ، وقتلة الانبياء ... الخ في كلام يضيق المجال عن ذكره.

ثم قال (ع) : إلا واني زاحف بهذه الأسرة ، مع قلة العدد وكثرة العدو ، وخذلان الناصر.

ثم وصل (ع) كلامه بأبيات فروة بن مسيك المرادي فقال :

فان نهزم فهزامون قدما

وان نغلب فغير مغلبينا

وما ان طبنا جبن ولكن

منايانا ودولة آخرينا

فأفنى ذلكم سروات قومي

كما افنى القرون الأولينا

فلو خلد الملوك اذن خلدنا

ولو بقي الكرام اذن بقينا

فقل للشامتين بنا افيقوا

سيلقى الشامتون كما لقينا

زينب في خضم المعركة :

عقيلة بني هاشم وحدها دون النساء والبنات تدور من خباء الى خباء ، تتفقد العليل تارة والصغير اخرى.

٢٩٥

يتعلقن بها بين صبي يئن من العطش ، ووالهة أذهلها المصاب ، وطفلة مذعورة خائفة تطلب الأمن ، وأخرى تنشد الماء.

حرائر بيت العصمة ، وودائع الرسالة ، اللواتي لا يعرفن إلا سجف العز والمجد والسؤدد ... ورداء الجلال والدلال. حائرات ذاهلات.

وزينب واقفة بوسط هذا الخضم الهائج ، حائرة قلقة تراقب المعركة التي دارت رحاها في جنون لا مثيل له ... ومنجل الموت يحصد في أحبابها ، بني هاشم الصفوة الأبرار ...

يقول السيد المقرم « أما عقيلة بني هاشم زينب الكبرى » فإنها تبصر هذا وذاك ، فتجد عروة الدين الوثقى عرضة للانفصام وحبل النبوة آيلاً الى الانصرام ، ومنار الشريعة الى الخمود ، وشجرة الإمامة الى الذبول (١).

تنعي ليوث البأس من فتيانها

وغيوثها إن عمت البأساء

تبكيهم بدم فقل بالمهجة الحرا

تسيل العبرة الحمراء

حنت ولكن الحنين بكاً وقد

ناحت ، ولكن نوحها ايماء (٢)

وبعد مقتل الحسين (ع) حملت النساء اسارى على الأقتاب ، وبلغت بهم القسوة والجفاء ، فمروا بهن على جثث القتلى زيادة في التنكيل.

__________________

(١) مقتل الحسين عليه‌السلام : عبد الرزاق المقرم ـ ص ٣٣٨.

(٢) الابيات من قصيدة للشيخ كاشف الغطاء.

٢٩٦

وما حال ام المصائب زينب ؟ عندما رأت هذا المشهد الفظيع ...

بكل صبر وتجلد وإيمان ، رفعت كلتا يديها الى السماء وقالت : « اللهم تقبل منا هذا القربان ».

وجاء في كتاب مقتل الحسين (ع) عن أمالي الصدوق (١) :

« روى أبو عبد الله الصادق عليه‌السلام أن الحسين (ع) دخل على أخيه الحسن (ع) في مرضه الذي استشهد فيه فلما رأى ما به بكى ، فقال له الحسن : ما يبكيك يا أبا عبد الله ؟ قال : أبكي لما صنع بك ...

قال الحسن عليه‌السلام : إن الذي اوتي إلي سم اقتل به ، ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله. وقد ازدلف إليك ثلاثون ألفاً يدَّعون أنهم من امة جدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وينتحلون دين الإسلام ، فيجتمعون على قتلك ، وسفك دمك ، وانتهاك حرمتك ، وسبي ذراريك ونسائك وانتهاب ثقلك.

فعندها تحل ببني امية اللعنة ، وتمطر السماء دماً ورماداً ، ويبكي عليك كل شيء حتى الوحوش في الفلوات ، والحيتان في البحار.

ورحم الله السيد حيدر الحلي حيث يقول :

حشدت كتائبها على ابن محمد

بالطف حيث تذكرت آباءها

الله اكبر يا رواسي هذه الا

رض البسيطة زايلي ارجاءها

يلقى ابن منتجع الصلاح كتائبا

عقد ابن منتجع السفاح لواءها

ما كان اوقحها صبيحة قابلت

بالبيض جبهته تريق دماءها

__________________

(١) مقتل الحسين عليه‌السلام عبد الرزاق المقرم.

٢٩٧

من أين تخجل أوجه أموية

سكبت بلذات الفجور حياءها

قهرت بني الزهراء في سلطانها

واستأصلت بصفاحها امراءها

ملكت عليها الأمر حتى حرمت

في الأرض مطرح جنبها وثوائها

ضاقت بها الدنيا فحيث توجهت

رأت الحتوف أمامها ووراءها

إلى أن يقول :

وقلوب أبناء النبي تفطرت

عطشا بقفر أرمضت أشلاءها

هتك الطغاة على بنات محمد

حجب النبوة خدرها وخباءها

فتنازعت أحشاءها حرق الجوى

وتجاذبت أيدي العدو رداءها

ما كان أوجعها لمهجة ( أحمد )

وأمض في كبد ( البتولة ) داءها

عقيلة بني هاشم بالكوفة :

سار موكب الاسرى يحث السير نحو الكوفة ، وكان أبشع موكب ، وأفظع حدث شهده التاريخ.

رؤوس الصفوة الأطهار من بني هاشم ، يتبعهم النساء المفجوعات والأيامى والأيتام ...

وصل الموكب الكوفة ، وسط الجموع المحتشدة لمشاهدة اسارى بيت الرسول

٢٩٨

العظيم في طريقهم الى عبيد الله بن زياد.

صاحت نساء الكوفة باكيات على حال حرائر الرسول الذليلات.

لكن زينب ابنة علي مثال الإباء صاحت بهم زاجرة ثم قالت : كما ذكر الرواة (١).

« أما بعد يا أهل الكوفة ، أتبكون ؟ فلا سكنت العبرة ولا هدأت الرنة ... إنما مثلكم مثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم ألا ساء ما تزرون.

أي والله فابكوا كثيراً ، واضحكوا قليلاً ، فقد ذهبتم بعارها وشنارها ، فلن ترحضوها بغسل ابداً. وكيف ترحضون قتل سبط خاتم النبوة ، ومعدن الرسالة ، ومدار حجتكم ومنار محجتكم ، وهو سيد شباب أهل الجنة ؟ ...

لقد أتيتم بها خرقاء شوهاء ...!

أتعجبون لو أمطرت السماء دماً ؟! ألا ساء ما سولت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم ، وفي العذاب أنتم خالدون.

أتدرون أي كبد فريتم ، وأي دم سفكتم ، وأي كريمة أبرزتم ؟!

لقد جئتم شيئاً إدّاً ، تكاد السموات يتفطرن منه ، وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّاً ».

وصل الموكب الرهيب الى دار الإمارة ، فأمسكت « زينب » قلبها المتصدع وهي ترى الدعي « عبيد الله بن زياد » جالساً حيث كان أبوها الإمام « علي »

__________________

(١) ذكر هذه الخطبة اكثر الرواة : منهم الشيخ الطوسي في اماليه ـ وابن شهر اشوب ، واحتجاج الطبرسي ، ومقتل الحسين.

٢٩٩

وأخوها الإمام « الحسن » (ع) أكثر من عشرين سنة في الكوفة.

ذكر الطبري في تاريخه قال : (١) « فلما دخل برأس الحسين وصبيانه ، وأخواته ، ونسائه ، على عبيد الله بن زياد ، لبست « زينب » ابنة فاطمة أرذل ثيابها ، وتنكرت وحفت بها اماؤها.

فلما دخلت جلست فقال عبيد الله بن زياد : من هذه الجالسة ؟ فلم تكلمه. قال ذلك ثلاثاً ، وكل ذلك لا تكلمه. فقال بعض امائها : هذه زينب ابنة فاطمة.

فقال لها عبيد الله : الحمد لله الذي فضحكم ، وقتلكم ، وأكذب احدوثتكم.

فقالت : الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم وطهرنا تطهيراً لا كما تقول أنت : إنما يفتضح الفاسق ، ويكذب الفاجر.

قال : فكيف رأيت صنع الله بأهل بيتك ؟ قالت : كتب عليهم القتل ، فبرزوا الى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجُّون إليه ، وتخاصمون عنده.

قال : فغضب ابن زياد واستشاط ، قال : فقال له عمرو بن حريث : أصلح الله الامير إنما هي امرأة ، وهل تؤاخذ المرأة بشيء من منطقها ! إنها لا تؤاخذ بقول ، ولا تلام على خطل ، فقال لها ابن زياد : قد أشفى الله نفسي من طاغيتك ، والعصاة المردة من أهل بيتك ، قال : فبكت ثم قالت : لعمري لقد قتلت كهلي ، وأبرت أهلي ، وقطعت فرعي ، واجتثثت أصلي ، فإن يشفك هذا فقد أشتفيت ، فقال لها عبيد الله :

__________________

(١) تاريخ الطبري : ج ٥ ـ ص ٤٥٧.

٣٠٠