شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ١

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: ثامن الحجج
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٦٣
الجزء ١ الجزء ٢

جعلها كبرى في القياس الأرسطي هكذا.

* الحديد الصلب نوع من أنواع الحديد ( الصغرى ) * وكل حديد فهو يتمدّد بالحرارة وينكمش بالبرودة ( كبرى ) * النتيجة : إن الحديد الصلب يتمدّد بالحرارة وينكمش بالبرودة.

هذه النتيجة حصلت عن طريق جعل المعلوم التصديقي كبرى في القياس ، إذا هذه الكبرى حجّة لأنها تصلح للاحتجاج بها لإثبات النتيجة المجهولة قبل تشكيل القياس أو الغير مسلّمة لدى الخصم.

إذا اتّضحت هذه المقدّمة يتّضح معنى قولهم إنّ القطع حجّة ، أي أنّه يمكن الاحتجاج به وجعله كبرى لقياس الغرض من تشكيله إثبات قضية مجهولة أو غير مسلّمة لدى الخصم ، فمثلا قولنا : « إنّ القطع حجّة » معلوم تصديقي ، فلو أنّ أحدا يجهل حكم أكل غير المذكى فهذا مجهول تصديقي ، فيمكن أن نخرجه من الجهل إلى العلم عن طريق تشكيل قياس نجعل كبراه معلوما تصديقيا وهو أنّ القطع حجّة هكذا :

* إنّ اللحم غير المذكى ميتة والميتة حرام قطعا* والقطع حجة* النتيجة : إنّ اللحم غير المذكى حرام.

فهذه النتيجة التي كانت مجهولة ثبتت بواسطة كبرى القياس وهو حجيّة القطع وبالتالي يستطيع المولى أن يحتجّ على عبده ـ عند المخالفة ـ بهذه النتيجة الثابتة بالقطع ومن ثم يعاقبه إذا أراد ، وهذا هو معنى المنجزيّة.

وكذلك الكلام في المعذّريّة التي هي معنى ثان للحجيّة في اصطلاح الأصوليّين إلاّ أنّ الاحتجاج هنا يكون للعبد على المولى في الموارد التي

٦١

يقطع العبد بحلية شيء فيرتكبه ويتّفق حرمة ذلك الشيء واقعا فإنّه يستطيع أن يحتج على المولى بالقطع بالحليّة فيكون ذلك معذّرا له عن المخالفة ومصحّحا لنفي المسؤولية عليه تجاه مولاه.

الجهة الثانية من المبحث الثالث : وهي البحث عن التلازم بين الخصوصيّتين ـ وهما الكاشفيّة والمحركيّة ـ وبين الخصوصيّة الثالثة وهي الحجيّة للقطع ، فنقول : إنّه مع اتّضاح معنى الخصوصيّات الثلاث يتّضح عدم التلازم بين الخصوصيّتين وبين الحجيّة بمعنى أنّ البحث لا ينتهي بثبوت الكاشفيّة والمحركية للقطع بحيث يكون ثبوتهما معنى آخر لثبوت الحجيّة للقطع وبه ينتهي الحديث عن حجيّة القطع ، بل لا بدّ من بحث الخصوصيّة الثالثة وأنّها ثابتة للقطع أو لا. وذلك لأنّ الخصوصيّة الأولى ليست أكثر من بيان معنى القطع ، والحجيّة ليست هي معنى القطع ولا هي جزؤها المقوّم كما اتّضح ذلك من بيان معنى القطع ومعنى الحجيّة ، وكذلك الكلام في الخصوصيّة الثانية وهي المحركية فهي ليست أكثر من بيان أثر تكويني من آثار القطع ، والمحركيّة غير الحجيّة كما اتّضح من بيان معناهما فلا يلزم من ثبوت المحركية للقطع ثبوت الحجيّة له ، نعم ثبوت المحركيّة لا يمنع من ثبوت الحجيّة إذ من الممكن جدا أن يكون للشيء الواحد مجموعة من الآثار.

والنتيجة : أنّ التسليم بالخصوصيّتين لا يعني التسليم بثبوت الحجيّة للقطع ، وبالتالي لو أنكرنا الخصوصية الثالثة « الحجيّة » مع التسليم بالخصوصيّتين لا يؤول ذلك إلى التناقض المنطقي وإنما يؤول لو كانت الحجية هي عين الكاشفية أو جزءها المقوّم أو هي عين المحركية أو جزءها المقوّم ، أما وقد ثبت التغاير بينها وبين كلّ من الخصوصيّتين فلا يكون

٦٢

الالتزام بهما مع إنكارها تناقضا منطقيا.

وبعبارة أخرى : لو كانت الحجية معنا آخر للكاشفيّة فهذا يعني أن التسليم بالكاشفية للقطع مع إنكار الحجية للقطع تناقض إذ أنّ ذلك يؤول إلى أن الكاشفية للقطع ثابتة وغير ثابتة ، وكذلك لو كانت الحجية جزء مقوّم للكاشفية ، فالتسليم بها مع إنكار الحجيّة التي هي الجزء المقوّم لها يؤول إلى التناقض المنطقي ، فكأنما نقول إنّ الكاشفية للقطع ثابتة وغير ثابتة فكما أن القول إن الإنسان ليس بناطق يؤول إلى التناقض فكأنه قيل الإنسان ليس بإنسان ، كذلك الكلام في المحركيّة مع الحجيّة.

والمتحصّل أننا لما أثبتنا مغايرة الخصوصيّتين للخصوصيّة الثالثة ( الحجيّة ) فلا يكون تسليمنا بالخصوصيّتين مع إنكارنا للثالثة تناقضا فنحن في سعة من جهة التسليم بها وعدم التسليم.

الجهة الثالثة من المبحث الثالثة : الحجيّة هل هي ثابتة للقطع أو لا؟

المعروف بين الأصوليّين ثبوت الحجيّة للقطع بمعنى أنّها لازم ذاتي للقطع.

وقد اتّضح مما سبق معنى اللازم الذاتي وأنه المحمول الخارج عن الذات اللازم لها مثل الحرارة بالنسبة إلى النار ، فإنّها غير النار إلا أنّها لازمة للنار ، بحيث يستحيل تخلّفها عن النار.

ومع اتّضاح معنى اللازم الذاتي يتّضح معنى قولهم إن القطع بذاته يستلزم الحجيّة ، فالحجية هي المحمول الخارج عن ذات القطع اللازم له بحيث لا يمكن التخلّف لاستحالة تخلف اللازم الذاتي عن ملزومه.

٦٣

هل أن كل قطع حجّة؟

بعد أن اتضح المراد من حجيّة القطع وأنّ الحجيّة لازم ذاتي للقطع ، يقع الكلام في أنّه هل أن مطلق القطع حجة؟ وهل أن الحجية لازم ذاتي لكل قطع؟ والجواب : إن القطع الذي تكون الحجيّة لازما ذاتيّا له هو القطع بتكليف المولى لا القطع بتكليف أيّ آمر حتى لو لم يكن مولى ، حيث إن أوامر غير المولى لا يكون العبد مسؤولا عن امتثالها. إذن القطع الذي يكون حجّة ويكون المكلّف مسؤولا عن الجريان على طبقه هو القطع بتكاليف المولى لا القطع بأيّ تكليف حتى لو كان من غير المولى.

ومن هنا لا بدّ من معرفة المراد من المولى. المولى هو : من حكم العقل بوجوب طاعته وقبح مخالفته.

وتلاحظون أنّ هذا البيان تعبير آخر عن معنى الحجيّة ، إذ أنّ الحجيّة هي عبارة عن المسؤولية التي يجعلها العقل على عهدة العبد تجاه أوامر المولى ، فالمولى هو من تجب طاعته ، والحجية هي وجوب طاعة المولى في أوامره ، وهذا يقتضي أن الحجيّة ثابتة في مرحلة سابقة على القطع حيث إنها تثبت بمجرّد وجود أوامر للمولى ، ولذلك يكون معنى قولنا إن القطع بأوامر المولى حجة هو أن القطع بأوامر من تجب طاعته تجب طاعته ، فيكون المحمول تكرارا للموضوع إذ أن الحجيّة وهي محمول القضية هي وجوب الطاعة للمولى والموضوع وهو القطع بأوامر المولى عبارة ثانية عن القطع بأوامر من تجب طاعته ، كل ذلك يوضح أنّ الحجية ليست ثابتة للقطع بما هو قطع ، بل بما هو كاشف عن أوامر المولى ، فالحجيّة إنما هي ثابتة لأوامر المولى بمقتضى مولويّته إذ هي الملاك في حكم العقل بوجوب

٦٤

الطاعة لأوامر المولى.

والمتحصّل من هذا البيان : أن المصنّف يريد أن يثبّت أن القطع ليس هو الملاك لثبوت الحجيّة لنفسه ، وأن الحجيّة ليست هي لازما ذاتيّا للقطع بما هو قطع ، وإنما الحجيّة ثابتة للقطع باعتبار كاشفيّة القطع عن أوامر المولى.

واستدلّ المصنّف على ذلك بما يمكن أن يستوحى من عبائره المشوّشة في المقام بدليلين :

الدليل الأوّل : إنّنا بالوجدان نجد أن القطع بأوامر غير المولى ليست ملزمة ولا يجد المكلّف نفسه مسؤولا عن الجريان على طبقها.

الدليل الثاني : وهو مكوّن من مقدّمتين ، الأولى : هي أن المولى هو من حكم العقل بوجوب طاعته وهذا تعبير آخر عن الحجيّة إذ أن الحجيّة هي حكم العقل بوجوب طاعة أوامر المولى. المقدّمة الثانية : هي أن الملاك في حكم العقل بوجوب طاعة أوامر المولى هي المولويّة.

إذا تمّت هاتان المقدّمتان تعرف أن القطع ليس حجّة بما هو قطع وإنما هو حجّة باعتبار كاشفيّته عن أوامر المولى إذ لا شيء يقتضي الحجيّة سوى المولوية ، فالمولوية هي الواسطة في ثبوت الحجيّة ووجوب الطاعة لأوامر المولى لا القطع.

فالقطع واسطة في الإثبات ، والمولويّة واسطة في الثبوت.

الجهة الرابعة من المبحث الثالث : حدود حق الطاعة للمولى.

إذا اتّضح أن الحجيّة ليست ثابتة للقطع بما هو قطع وإنما الحجيّة ثابتة له باعتبار كاشفيّته عن أمر المولى ، فلزوم الجريان على طبق القطع

٦٥

بالتكليف المولوي منشؤه حكم العقل باستحقاق المولى للطاعة.

ومن هنا لا بدّ من البحث عن حدود حقّ الطاعة للمولى ، فنقول : إن الأقوال في المقام ثلاثة :

الأول : كل قطع يكشف عن التكليف المولوي فهو ينقّح ويحقّق موضوع حق الطاعة أي أن مطلق القطع منجز دون اعتبار نوع خاص من القطع ، فالقطع سواء نشأ عن مقدّمات عقلائية أو غير عقلائية وسواء كان منشؤه الكتاب والسنّة أو كان منشؤه الأحكام العقلية ، وهذا القول تبناه أكثر الأصوليّين.

الثاني : إنه ليس كل قطع بالتكليف يحقّق موضوع حق الطاعة وإنما الذي يثبت حق الطاعة للمولى هو بعض القطوعات دون بعض ، وهذا مثل التفصيل الذي ذهب إليه بعض الأعلام بين القطع الذي نشأ عن مبررات عقلائية والقطع الذي نشأ عن مبررات غير عقلائية « قطع القطّاع » ، فالأول يثبت به حق الطاعة دون الثاني ، وكالتفصيل الذي ذهب إليه بعض الأخباريّين من أنّ القطع الناشئ عن غير الكتاب والسنّة لا يثبت به التكليف ، وليس للمولى حق الطاعة في التكليف المنكشف عن غير الكتاب والسنّة.

الثالث : من الأقوال وهو ما تبنّاه المصنّف رحمه‌الله من أنّ مطلق الانكشاف منجّز ومثبت لحق الطاعة للمولى سواء كانت مرتبة الانكشاف هي القطع الذي هو أعلى مراتب الانكشاف أو الظن الذي هو مرتبة أضعف أو الاحتمال الذي تكون مرتبة كشفه عن التكليف المولوي ضئيلة جدّا.

فهذه هي الأقوال الثلاثة في المقام ، وواضح أنها تتفاوت من حيث

٦٦

سعة دائرة حق الطاعة للمولى وضيقها ، فالقول الثاني يضيّق دائرة حق الطاعة للمولى بحيث لا يكون للمولى حق الطاعة إلاّ في بعض موارد القطع كالقطع الناشئ مثلا عن الكتاب والسنّة الشريفة.

أما القول الأوّل فهو أوسع دائرة من القول الثاني حيث إنه يثبت حق الطاعة في تمام موارد القطع بالتكليف المولوي بغضّ النظر عن منشأ ذلك القطع.

وأما القول الثالث فقد توسّع في إثبات حق الطاعة للمولى بحيث ذهب إلى أنّ مطلق الانكشاف ينقّح موضوع حق الطاعة سواء كان هذا الانكشاف بمرتبة القطع أو بمرتبة الظن أو الاحتمال. وقلنا إن المصنّف قد اختار هذا القول ولم يستدل المصنّف على هذه الدعوى في هذا الكتاب إلا بأنّ هذا هو مقتضى ما يدركه العقل ، ولعلّه يشير إلى أن هذه الدعوى بديهيّة لا تحتاج إلى أكثر من تصوّرها ومنه يحصل الجزم بها إذ أن مولانا ـ سبحانه وتعالى الذي هو وليّ نعمتنا ـ لا يمكن أن يقاس بالموالي العرفيّين الذين لا تتّسع مولويّتهم لأكثر من موارد القطع.

وبه يتّضح أن المصنّف رحمه‌الله يذهب إلى أنّ مولويّة المولى تتّسع لمطلق موارد الانكشاف حتى وإن كانت مرتبته الاحتمال ، فكلّ انكشاف للتكليف مهما كانت مرتبته فهو منجّز ، ويكون العبد مسؤولا عن امتثاله أداء لحق المولويّة ، ومن هنا نعرف أنّ تنجيز تكاليف المولى ليس ثابتا للقطع بعنوانه بل باعتبار كونه نحوا من أنحاء الانكشاف إذ أنّ كلّ أنحاء الكشف عن التكليف المولوي منجّز إلاّ أن يرخص المولى في تركه كما هو حاصل مثلا في موارد الكشف الاحتمالي وبعض موارد الكشف الظني ، حيث إنه رخص

٦٧

في ترك متعلّق ذلك الكشف ، فقال : « رفع عن أمتي ما لا يعلمون » (١) وقال : « ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » (٢) ، نعم سيتّضح عدم إمكان الترخيص في موارد الانكشاف بنحو القطع.

الجهة الخامسة من المبحث الثالث : وهي أنّ المولى هل له أن يمنع عن العمل بالقطع؟ وهل يمكن التكفيك بين المنجزيّة والقطع بالتكليف بحيث يكون القطع بالتكليف موجودا ومع ذلك لا يكون منجّزا؟

والجواب : إنّنا وإن قلنا بأن المولى يمكن له أن يرخص في ترك التكليف المنكشف بالظن أو الاحتمال ولكنّ ذلك غير ممكن في موارد الكشف القطعي ، بل إنّ الانكشاف القطعي كلّما حصل فهو منجّز ولا يمكن تجريده عن المنجزية والحجية ، والدليل على ذلك : أن الأحكام الشرعيّة تنقسم كما تقدّم إلى قسمين : واقعية وظاهرية ، والترخيص المتصوّر في موارد القطع بالتكليف إنما هو في الأحكام الواقعية إذ أنّ الأحكام الظاهرية لا وجود لها في موارد القطع إذ أننا قلنا في محلّه إن الأحكام الظاهرية أخذ في موضوعها الشك في الحكم الواقعي أو أنها تثبت في موارد الشك ، ولا شك في مفروض الكلام إذ أننا نتحدّث عن الترخيص في موارد القطع ولا يتصوّر فيه الترخيص الظاهري لعدم وجود موضوعه وهو الشك والأحكام تابعة وجودا وعدما لموضوعاتها ، إذن الترخيص الذي يبحث عن إمكانه وعدم إمكانه في المقام إنما هو في الأحكام الواقعية ، إذ هي التي لم

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ٥٦ من أبواب جهاد النفس الحديث ١

(٢) وسائل الشيعة : الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي الحديث ٣٣

٦٨

يؤخذ في موضوعها ولا في موردها الشك.

ومع اتّضاح هذه المقدّمة نقول : إنّ الترخيص في التكليف الثابت بواسطة القطع مستحيل لأنه يلزم منه اجتماع الضدّين وذلك لأنّ التكليف لمّا كان ثابتا بالقطع فهو واقعي فلو حكم المولى بالإباحة لذلك الشيء الذي ثبتت حرمته مثلا فهذا يعني أن المولى قد جعل حكما واقعيا آخر لنفس ذلك الشيء ، وهذا يؤول إلى ثبوت حكمين متغايرين لموضوع واحد ، الأول هو الحرمة الثابتة بالقطع ، والثاني هو الإباحة الواقعية ، وبه يثبت اجتماع الضدّين إذ أننا قلنا في محلّه أن الأحكام التكليفية متضادّة فيما بينها ، فلا يمكن اجتماع حكمين متغايرين على موضوع واحد.

وبهذا البيان يتّضح استحالة الترخيص في التكاليف الثابتة بالقطع.

وهنا لا بدّ من التنبيه على أمر وهو أنّ المراد من الترخيص الذي يستحيل في موارد القطع بالتكليف هو الترخيص مع عدم التنازل عن التكليف الثابت بالقطع ، لا الترخيص الذي هو عبارة عن تبديل المولى حكمه بنسخ مثلا ، إذ أن هذا ليس من اجتماع الضدّين بل هو من قبيل استبدال حكم بآخر.

وفرض الكلام هو القطع بعدم تبديل المولى لحكمه ، إذ أن هذا هو معنى القطع بالتكليف فكيف نصغي للترخيص ونحن نقطع بفعليّة التكليف ، وهل هذا إلاّ من اجتماع الضدّين ـ لا أقل في اعتقاد القاطع ـ أو من قيام الحكم الظاهري في موارد القطع بالحكم الواقعي.

إذا اتّضح كل ما ذكرنا يتّضح الفرق بين الانكشاف القطعي وبين الانكشاف غير القطعي ، فإنهما وإن كانا يشتركان في أن كلاّ منهما منجّز إلا

٦٩

أن الأول ـ وهو الانكشاف القطعي ـ لا يمكن الترخيص في ترك متعلّقه بخلاف الانكشاف غير القطعي فإنه يمكن الترخيص في مورده ؛ وذلك لأن الترخيص حكم ظاهري بالإباحة والحكم الظاهري موضوعه أو مورده الشك وعدم العلم وهو حاصل في موارد الانكشاف الظني والاحتمالي.

وبهذا يتّضح معنى قول المصنّف إنّ منجزيّة القطع غير معلّقة بخلاف منجزيّة الظن والاحتمال فإنها معلّقة على عدم الترخيص ، فالظن بالتكليف مثلا منجز إلا أن يرخّص المولى في تركه وكذلك الاحتمال ، وهذا لا يقال في القطع بالتكليف ، إذ يستحيل الترخيص في متعلّقه فهو إذن غير معلّق بل هو منجز دائما وأبدا.

الجهة السادسة من المبحث الثالث : والحديث فيها عن معذّرية القطع وعن الحدود التي يكون المكلّف فيها معذورا في تركه التكليف المولوي.

أقول : إنّ تنقيح هذا المطلب يرتبط أيضا بمدى سعة أو ضيق حق الطاعة للمولى ، فالاحتمالات الثبوتيّة في المقام ثلاثة :

الأوّل : أن موضوع حق الطاعة هو التكليف في لوح الواقع وليس لانكشاف ذلك بأيّ نحو من أنحائه دخالة في الموضوع بل الموضوع لحق الطاعة هو التكليف المولوي في نفس الأمر والواقع ، فكلّما كان هناك تكليف ـ ولو لم يصل بأيّ نحو من أنحاء الوصول ـ فالمكلّف مسؤول عن امتثاله. وبناء على هذا الاحتمال لا يكون القطع بعدم التكليف معذّرا فضلا عمّا إذا كان المكلف يظنّ بالتكليف أو يحتمله ، ومن هنا لو قطع المكلّف بعدم التكليف فتركه واتفق وجوده في الواقع فإنّ للمولى أن يعاقبه على

٧٠

تركه إذ أنّ ذلك حق له تعالى بناء على هذا الاحتمال إذ أنه يفترض أن حق الطاعة موضوعه التكليف المولوي بغضّ النظر عن قطع المكلّف بثبوته أو قطعه بعدمه أو ظنه بثبوته واحتماله لعدمه او احتماله بثبوته وظنّه بعدمه.

الثاني : أن يكون موضوع حق الطاعة هو القطع بالتكليف فليس التكليف بنفسه منجزا وموجبا للمسؤولية بل إن الموجب لطاعة المولى هو التكليف المقطوع به ، وبناء على هذا الاحتمال لا يكون للمولى حق الطاعة في غير موارد القطع بالتكليف ، فلو كان هناك تكليف في الواقع إلا أن المكلف يقطع بعدمه أو لا يقطع بوجوده ـ بل يظن أو يحتمل ـ فهو كاف في عدم مسؤوليّته عن ذلك التكليف إذ أن موضوع حق الطاعة ـ بناء على هذا الاحتمال ـ ليس هو التكليف بما هو ، وليس هو التكليف الواصل بمرتبة الظن أو الاحتمال ، بل هو التكليف الواصل بمرتبة القطع ، فلذلك يكون المكلّف معذورا حتى في موارد الظن بالتكليف أو احتماله فضلا عن القطع بعدم وجوده.

الثالث : وهو أن موضوع حق الطاعة هو التكليف الواصل بأيّ نحو من أنحاء الوصول ، أي سواء كان واصلا بالقطع أو بالظن أو بالاحتمال ، والفارق بين هذا الاحتمال والاحتمال الثاني هو : أن الثاني افترض الموضوع فيه ـ لحق الطاعة ـ التكليف الواصل بالقطع فقط ، أما هذا الاحتمال فموضوع حق الطاعة فيه هو التكليف الواصل والمنكشف بأي نحو من أنحاء الانكشاف ، والثمرة التي تظهر بين الاحتمالين الثاني والثالث هي أنه بناء على الثاني لا يكون المكلّف مسؤولا إلا في موارد القطع بالتكليف وبالتالي يكون معذورا في مخالفة التكليف الواقعي إذا كان وصوله بنحو الظن أو

٧١

الاحتمال فضلا عمّا إذا كان المكلّف قاطعا بعدم التكليف ، وأما بناء على الاحتمال الثالث فالمكلّف لا يكون معذورا إلا في موارد القطع بعدم التكليف أما في حالة وصول التكليف وصولا ظنيا أو احتماليا ، فالمكلّف مسؤول عن ذلك التكليف.

اذا اتّضحت هذه الاحتمالات الثبوتية نصل لبيان ما هو مقتضى مقام الإثبات وأنه أيّ الاحتمالات التي قام الدليل على صحّتها وأيّها قام الدليل على عدم صحّتها ، فنقول :

إن الاحتمال الأول ـ وهو الذي يفترض أنّ حق الطاعة ثابت للمولى حتى في موارد القطع بعدم التكليف ـ فهو باطل قطعا لاستحالة أن يحكم العقل بلزوم امتثال التكاليف التي يقطع المكلّف بعدمها إذ على أي مستند يعتمد المكلف في امتثاله للتكاليف في حين أنه يقطع بعدمها فحتى الاحتياط في مثل هذه الموارد غير معقول ، فبأيّ وسيلة يتوسّل العقل بتحريك المكلّف بعد أن كان قاطعا بعدم التكليف.

وبعبارة أخرى : ان المولى غير قادر على تحريك المكلّف نحو الامتثال بعد أن كان المكلّف قاطعا بعدمه إلا أن يلجئه أو يجبره وهو خلف الفرض ، ولا العقل قادر على ذلك بعد استحالة الاحتياط في مثل هذه الموارد.

وأما الاحتمال الثاني وهو أنّ موضوع حق الطاعة هو التكليف الواصل بالقطع دون الظن أو الاحتمال فهو ما ذهب إليه مشهور الأصوليّين لقاعدة « قبح العقاب بلا بيان » ، والظن والاحتمال ليس بيانا فلا يكون منجّزا بل إن المكلّف معذور في المخالفة لو اتفقت ، نعم لا يكون معذورا في تركه للتكليف لو كان قاطعا به.

٧٢

وأما الاحتمال الثالث ـ وهو أن موضوع حق الطاعة هو التكليف الواصل بأيّ نحو من أنحاء الوصول ( القطعي والظني والاحتمالي ) ـ فهو ما تبنّاه المصنّف رحمه‌الله واستدلّ عليه فيما سبق بأن ذلك هو ما يدركه العقل العملي من أن مولانا سبحانه وتعالى الذي هو وليّ نعمتنا تتّسع حدود استحقاقه للطاعة حتى لموارد الظن والاحتمال.

وهكذا نصل إلى النتيجة التي هي الغاية من هذا البحث وهي معذّريّة القطع ، وأن القاطع بعدم التكليف لا يكون مسؤولا عن ذلك التكليف لو كان ثابتا في نفس الأمر والواقع خلافا للاحتمال الأول ، فالمشهور والمصنّف يتّفقون على معذّريّة القطع.

هذا تمام الكلام في المبحث الثالث بجهاته السّت ، وقد صنّفناه إلى هذه الجهات تسهيلا على الطالب الكريم.

قوله رحمه‌الله : « من يحكم العقل بوجوب امتثاله واستحقاق العقاب على مخالفته » ، الظاهر أنّ في العبارة سقط ، ولعلّ واقع العبارة هكذا : « من يحكم العقل بوجوب امتثال أمره واستحقاق العقاب على مخالفته » وعلى أي حال فهذا هو مقصود المصنّف رحمه‌الله.

قوله رحمه‌الله : « إنّ القطع بتكليف من يجب امتثاله يجب امتثاله » ، الظاهر أنّ هذه العبارة غير مستقيمة ، ولعلّه خطأ مطبعي وحق العبارة أن تكون بهذه الصياغة : « إنّ القطع بتكليف من يجب امتثال أمره يجب امتثاله » ، أي متعلّق القطع والتكليف المقطوع.

قوله رحمه‌الله : « وهذا تكرار لما هو المفترض » ، أي أنّ محمول القضية ( يجب امتثاله ) تكرار للموضوع المفترض ، وعبّر عن الموضوع بالمفترض

٧٣

لأنّه لوحظ مقدّر الوجود وصيغ الموضوع بصورة يتناسب مع لحاظه مقدر الوجود ، حيث إنّ القضيّة التي صاغها السيد الشهيد قضيّة شرطيّة.

قوله رحمه‌الله : « والذي ندركه بعقولنا » ، هذا الإدراك من مدركات العقل العملي ، إذ أنّه يستتبع جريا عمليا.

المبحث الرابع

في التجرّي :

وقبل بيان ما هو الغرض من هذا البحث لا بدّ من شرح معنى التجرّي والفرق بينه وبين المعصية ، فنقول :

إن المعصية هي : مخالفة تكاليف المولى المعلومة مع افتراض أنها تكاليف واقعية ، فالمكلّف إذا كان يعلم أن شرب الخمر حرام ومع ذلك شرب الخمر واتّفق أن ما قطع به من حرمة شرب الخمر مطابق للواقع فهذا المكلّف عاص ، والفعل الذي ارتكبه يسمّى معصية.

إذن المعصية تتقوّم بشيئين : الأول : مخالفة التكليف المعلوم ، الثاني : مطابقة ذلك التكليف المعلوم للواقع ، فإذا تحقّق كلا القيدين فقد تحقّقت المعصية.

وأما التجرّي فهو : عبارة عن مخالفة التكاليف المعلومة مع افتراض أنّ هذه التكاليف ليست تكاليف واقعا وإنّما المكلف كان يقطع بكونها تكاليف.

٧٤

فلو قطع المكلّف مثلا بوجوب صلاة الجمعة ومع ذلك خالف ولم يصلّ ، واتّفق أنّ قطعه كان خاطئا وأنّ صلاة الجمعة ليست واجبة فإنّ هذا المكلّف متجرّ وترك صلاة الجمعة متجرّبه.

إذن التجرّي يتقوّم بشيئين : الأوّل : مخالفة التكليف المعلوم ، والثاني : عدم مطابقة ذلك التكليف للواقع ، فإذا تحقّق كلا القيدين تحقّق عنوان التجرّي.

إذا اتّضح معنى التجرّي والفرق بينه وبين المعصية ، يصل بنا الحديث إلى ما عقد البحث لأجله وهو أنّه هل يحكم العقل باستحقاق المتجرّي للعقاب كما يحكم باستحقاق العاصي له أو لا؟

والجواب على ذلك يرتبط أيضا بتحديد موضوع حق الطاعة وأنّ العقل متى يحكم بلزوم طاعة المولى وفي المقام احتمالان ثبوتيّان :

الأول : أنّ الموضوع ـ الذي يحكم العقل بلزوم طاعة المولى إذا تحقّق ـ هو التكليف المعلوم إذا اتفق مطابقته للواقع.

الثاني : أنّ الموضوع لحق الطاعة للمولى على عباده هو التكليف المنكشف ولو لم يكن مطابقا للواقع.

وتختلف النتيجة في الاحتمالين ، فبناء على الاحتمال الأول لا يكون المكلّف مستحقا للعقاب على مخالفة الفعل المتجرى ؛ به لأن حدود مولويّة المولى لا تثبت للتكاليف غير الواقعيّة وإن كان المكلّف قاطعا بها إذ أن القطع بالتكليف بناء على هذا الاحتمال ليس هو وحده موضوع حق الطاعة بل هو مع مطابقة التكليف للواقع ، وأما بناء على الاحتمال الثاني ، فالمكلّف مستحقّ للعقاب إذا خالف التكليف المعلوم حتى وإن لم يكن ذلك التكليف

٧٥

مطابقا للواقع ، إذ أن حدود مولويّة المولى تتّسع لتشمل هذا المورد ، إذ أننا افترضنا في الاحتمال الثاني أن موضوع حق الطاعة هو مطلق التكليف المعلوم سواء طابق الواقع أو لم يطابق ، ومن الواضح أن ارتكاب الفعل المتجرى به محقّق لموضوع حق الطاعة بناء على هذا الاحتمال.

إذا اتّضح هذان الاحتمالان الثبوتيان نصل لبيان مقام الإثبات وأنه أيّ الاحتمالين قام الدليل على صحّته.

ذكر المصنّف أنّ الصحيح من هذين الاحتمالين هو الثاني ، واستدل على ذلك بما حاصله : أنّ الملاك في حكم العقل بلزوم طاعة المولى هو حرمة المولى وقبح انتهاك حرمة المولى ومن الواضح أنه لا فرق في انتهاك حرمة المولى وصدق التعدّي على ساحة الربوبيّة بين المعصية والتجرّي ، إذ أن كلا من المعصية والتجرّي يعدّ تحدّيا وطغيانا على المولى ، إذ أن فرض الكلام أن المتجري يقطع أن المولى يريد منه هذا الفعل أو يبغض صدور هذا الفعل منه ومع ذلك تحدّى إرادة المولى ـ ولو في اعتقاده ـ ولم يبال به فأيّ قبح أشد من هذا ، وهل هذا إلا خروج عن العبوديّة.

فنتيجة البحث أن المتجرّي كالعاصي في استحقاق العقاب.

المبحث الخامس

في العلم الإجمالي :

ويقع البحث عنه في جهتين :

الأولى : في المراد من العلم الإجمالي والفرق بينه وبين العلم التفصيلي.

٧٦

الثانية : في منجّزيّة العلم الإجمالي وعدم منجّزيّته.

أمّا الجهة الأولى : المراد من العلم الإجمالي هو العلم بالجامع مع الشك في انطباق هذا الجامع على أحد أطرافه ، فالعلم الإجمالي يشتمل على حيثيّتين ، الأولى : هي العلم بالجامع بين الأطراف.

الثانية : الشك في أنّ أيّ الأطراف هي منطبق الجامع.

أما العلم التفصيلي فليست فيه إلا حيثيّة واحدة ، وهي حيثيّة العلم إذ أن المعلوم في العلم التفصيلي منكشف للعالم به تمام الانكشاف ومن جميع جهات المعلوم فلا يوجد أي جهة من جهات المعلوم التفصيلي غامضة بل كلّها واضحة وجليّة ، كالعلم بوجوب صلاة هي صلاة الظهر مثلا فلا شيء في المقام مشكوك.

ويمكن أن نمثّل للعلم الإجمالي بالعلم بوجوب صلاة ما في ظهر يوم الجمعة مع الشك في أنه أيّ صلاة هي واجبة ، هل هي صلاة الجمعة أو صلاة الظهر.

وكذلك لو علمنا بنجاسة أحد الإنائين أو الأواني لكننا نشك في أن أي الإنائين هو الذي وقعت فيه النجاسة ، وإذا أردنا أن نطبق تعريف العلم الإجمالي على هذين المثالين فإنّنا نجده منطبقا تمام الانطباق عليهما إذ أننا عرّفناه بالعلم بالجامع مع الشك في انطباق ذلك الجامع على أحد أطرافه ، ومن الواضح أن العلم بوجوب صلاة علم بالكلي الجامع الذي يمكن انطباقه على صلاة الظهر كما يمكن انطباقه على صلاة الجمعة ، كما أن الشك في الأطراف شك في انطباق هذا الكلي ـ وهو وجوب جامع الصلاة ـ على صلاة الجمعة وصلاة الظهر ، وهكذا الكلام في المثال الثاني ، فإن المعلوم هو

٧٧

نجاسة أحد الأواني وهذا هو الجامع ، والمشكوك هو انطباق هذا الجامع على أحد الأواني هل هو الإناء الأول أو الثاني أو الثالث؟ هذا تمام الكلام في الجهة الأولى.

الجهة الثانية : وهي البحث عن منجزية العلم الإجمالي وعدم منجزيّته ، والكلام يقع في مقامين : مقام الثبوت ، ومقام الإثبات.

أما مقام الثبوت :

وأنّه هل يمكن الترخيص في العلم الإجمالي ، فالكلام يقع تارة عن أطراف الجامع وأخرى عن نفس الجامع.

أما الكلام عن أطراف الجامع فهي وإن كانت منجّزة والمكلّف مسؤول عن امتثالها ـ بناء على أن الانكشاف ولو بمرتبة الشك منجز ـ إلا أن المولى يمكن أن يرخص في ترك بعضها ويتنازل عن حقّه بامتثال التكاليف الواصلة بأيّ نحو من أنحاء الوصول ، فإذا رخّص المولى في ترك بعض الأطراف فهو يسقط عن المنجّزيّة ولا محذور في ذلك ؛ لأننا قلنا في محلّه أن الحجيّة الثابتة في التكاليف الواصلة بالظن والاحتمال معلّقة على عدم الترخيص والإذن في الترك.

وهذا الكلام الذي ذكرناه مختص بما إذا كان الترخيص في بعض الأطراف لا في جميعها ، إذ أن الترخيص في جميع الأطراف يؤول إلى الترخيص في ترك الجامع ، وهذا خارج عن محلّ الكلام فعلا ، إذ الكلام فعلا حول إمكان الترخيص في أطراف العلم الإجمالي الذي لا يؤول إلى الترخيص في الجامع ، وقد قلنا إنّ الترخيص فيه ممكن ولا محذور فيه.

٧٨

الكلام في إمكان الترخيص في الجامع وعدمه.

قد يقال بعدم إمكان ذلك إذ أن الترخيص في الجامع ترخيص في مخالفة الحكم المقطوع ، وقد قلنا في محلّه إن الترخيص في متعلّق القطع مستحيل إذ أن منجّزيّته غير معلّقه ، ومن هنا قد يقال بالتفصيل بين الترخيص في بعض أطراف العلم الإجمالي وبين الترخيص في الجامع ، فالأول ممكن والثاني مستحيل ، ومع القول باستحالته لا تصل النوبة إلى مقام الإثبات ، إذ لا نحتاج إلى الاستدلال على عدم الترخيص بعد الحكم باستحالته في مقام الثبوت ، وهذا ما ذهب إليه مشهور الأصوليّين ، إلا أن المصنّف رحمه‌الله ذهب إلى مذهب آخر وهو إمكان الترخيص في الجامع كما هو الحال في الترخيص في بعض الأطراف ، واستدلّ لذلك بما حاصله :

أنّه فرق بين التكليف الواصل بالقطع التفصيلي ، والتكليف الواصل بالقطع الإجمالي ، فإن الأول ليس فيه أيّ غموض بل هو معلوم من تمام الجهات بجنسه وفصله ، فحينما نكون عالمين بوجوب صلاة الظهر فنحن نعلم بوجوب الصلاة ، وبأن الصلاة الواجبة هي صلاة الظهر ، وهذا بخلاف العلم الإجمالي فإننا وإن كنّا نعلم بوجوب جامع الصلاة مثلا ولكننا نشك في أطراف هذا الجامع فلا ندري أن الصلاة التي نعلم بوجوبها في الجملة هل هي صلاة الظهر أو صلاة الجمعة. وباتّضاح الفرق بين العلمين نعرف السرّ في عدم إمكان الترخيص في القطع التفصيلي إذ أن الترخيص المتصوّر في المقام إما واقعي أو ظاهري ، وكلاهما مستحيل إذ أن الأول يلزم منه اجتماع حكمين متغايرين على موضوع واحد ، وهذا من اجتماع الضدّين لتضادّ الأحكام فيما بينها.

٧٩

وإمّا ظاهري ، وهو مستحيل أيضا إذ أنّ العلم والقطع قد أخذ عدمه في موضوع الحكم الظاهري ومورده ، فلا يمكن وجود الحكم الظاهري في موارد القطع كما شرحنا ذلك مفصّلا فيما سبق.

وبتعبير آخر : إنّ الحكم الظاهري لمّا كان متأخرا في الوجود عن العلم بالحكم الواقعي فلا تصل النوبة إليه في موارد العلم ، وفرض الكلام أنّ العلم بالتكليف موجود فلا مجال لمجيء الحكم الظاهري.

ولمزيد من التوضيح راجع الجهة الرابعة من المبحث الثالث ، حيث تحدّثنا فيها عن استحالة المنع عن حجّية القطع.

أمّا العلم الإجمالي فلا يلزم من الترخيص فيه اجتماع الضدّين ولا جريان الحكم الظاهري في موارد العلم بالحكم الواقعي ؛ وذلك لأنّ الترخيص في العلم الإجمالي ترخيص في أطرافه ومن الواضح أنّ أطرافه إذا لوحظ كل واحد على حدة مشكوك فيكون موضوع الحكم الظاهري « الشك » متحقّق في كل طرف من أطراف العلم الإجمالي فلا محذور في الترخيص الظاهري ولا يلزم منه قيام الحكم الظاهري في موارد الحكم الواقعي كما هو الحال في موارد العلم التفصيلي.

ولكي يتّضح المطلب أكثر ، نقول : إنّ الترخيص في أطراف الجامع الذي يؤول إلى الترخيص في الجامع لا يلزم منه أحد المحذورين المذكورين في الترخيص في العلم التفصيلي ؛ وذلك لأنّ المحذورين المذكورين هناك هما إمّا لزوم اجتماع الضدّين أو جريان الحكم الظاهري في موارد العلم بالحكم الواقعي ، وكلا المحذورين لا يردان على القول بالترخيص في أطراف العلم الإجمالي.

٨٠