شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ١

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: ثامن الحجج
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٦٣
الجزء ١ الجزء ٢

بواسطتهم حيث إنّهم المرجع في معرفة الأحكام وهم حفظة السنّة وأوتاد الأرض ـ كما عبّرت عنهم الروايات المعتبرة ، أمثال زرارة بن أعين ومحمّد بن مسلم وبريد العجلي وأبان بن تغلب وابن أبي عمير وصفوان بن يحيى.

ومن المثير للانتباه أنّ أمثال هذه الروايات لا تصل إلينا إلاّ عن طريق أصحاب هذا المسلك الباطني ولا يصل عن هؤلاء من مسائل الحلال والحرام إلاّ النزر القليل. وهذا ما يشير إليه النجاشي في ترجمته لجابر بن يزيد الجعفي حيث قال « قلّ ما يورد عنه شيء في الحلال والحرام ».

والمتحصّل ممّا ذكرناه أنّه مع التوجه لكلا المقدّمتين يحصل الوثوق والاطمئنان بكذب هذه الطائفة من الروايات.

الوجه الثاني : إنّ هذه الطائفة من الروايات منافية لما هو صريح القرآن الكريم من أنّه تبيان لكلّ شيء ، قال الله تعالى : ( وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ ) (١).

وإذا كان كذلك فهي ساقطة عن الحجيّة لما دلّ من الروايات على أنّ ما خالف كتاب الله فهو زخرف ، وأنّنا لم نقله ، وأن قائله أولى به.

الطائفة الثانية : والتي مفادها عدم صحّة التعويل على ما ينفهم من ظواهر الكتاب الكريم دون مراجعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل البيت عليهم‌السلام.

ومن هذه الروايات ما رواه الطبرسي في الاحتجاج عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال يوم الغدير : « ... فو الله لن يبيّن زواجره ولا يوضح لكم عن

__________________

(١) سورة النحل آية ٨٩

٤٤١

تفسيره إلاّ الذي أنا آخذ بيده » (١).

ومنها : ما رواه موسى بن عقبة عن الإمام الحسين عليه‌السلام « ... والمعوّل علينا في تفسيره لا نتظنى تأويله بل نتّبع حقائقه فأطيعونا فإنّ طاعتنا مفروضة » (٢).

والجواب عن هذه الطائفة :

أنّ أقصى ما تدلّ عليه هذه الطائفة من الروايات هو أنّه لا يجوز الاعتماد على ما ينفهم من ظواهر الكتاب في مقابل ما يبيّنه أهل البيت عليهم‌السلام من معاني القرآن الكريم ، وغاية ما يقتضيه ذلك هو عدم صحة التعويل على ما يستظهر من آيات القرآن دون مراجعة الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم‌السلام فإن كان ما استظهرناه مطابقا مع ما ورد عن أهل البيت عليهم‌السلام فلا كلام ، وإن كان منافيا فلا يصحّ التمسّك بما استظهرناه في مقابل ما ورد عنهم عليهم‌السلام ، وإن لم يكن في الروايات ما ينافي مقتضى الظهور العرفي فليس في هذه الطائفة من الروايات ما يدلّ على عدم جواز التمسّك به. وبهذا يصحّ التعويل على ما يظهر من آيات القرآن اعتمادا على أدلّة حجيّة الظهور.

الطائفة الثالثة : وهي التي منعت عن التفسير بالرأي وهي روايات كثيرة جدا.

منها : ما رواه الكليني بسند متّصل عن زيد الشحّام عن أبي جعفر عليه‌السلام

__________________

(١) الوسائل باب ١٣ من أبواب صفات القاضي ح ٤٣

(٢) الوسائل باب ١٣ من أبواب صفات القاضي ح ٤٥

٤٤٢

« ... ويحك يا قتادة إن كنت إنّما فسّرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت » (١).

ومنها : ما رواه في الخصال بسند متصل عن عبد الرحمن بن سمرة « ... ومن فسّر القرآن برأيه فقد افترى على الله الكذب » (٢).

ومنها : حديث الريّان بن الصلت عن الرضا عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام قال :

قال الله عزّ وجلّ ـ في حديث قدسي ـ : « ما آمن بي من فسّر القرآن برأيه .. » (٣) الحديث.

والجواب عن هذه الطائفة :

وقد أورد على الاستدلال بهذه الطائفة على نفي الحجيّة عن ظواهر الكتاب بما حاصله :

إنّ فهم القرآن على أساس ما هو مقتضى الظهور العرفي لا يعدّ تفسيرا ؛ وذلك لأنّ التفسير يعني التوضيح والكشف عمّا خفي ورفع الستار عمّا أبهم من مراد ، وهذا إنّما يناسب المجمل من الألفاظ والمركبات اللّفظيّة والتي تكون المعاني المحتملة فيه متكافئة من حيث احتمال إرادتها.

أمّا فهم المعنى على أساس ما هو المتفاهم العرفي عند أهل المحاورة والذي يعتمد ضوابط مطّردة وملتزم بها عند كل من أراد أن يتكلّم بهذه اللغة فهذا ليس من التفسير في شيء ، إذ أن كل من اطّلع على تلك الضوابط وأنس بها فإنّه يفهم مرادات المتكلّمين بواسطة تلك الألفاظ والتراكيب

__________________

(١) الوسائل باب ١٣ من أبواب صفات القاضي ح ٢٥

(٢) الوسائل باب ١٣ من أبواب صفات القاضي ح ٣٧

(٣) الوسائل باب ١٣ من أبواب صفات القاضي ح ٢٨

٤٤٣

المستعملة لغرض الكشف عمّا هو مختلج في النفس من معاني ، ولا يكون ثمّة تردّد في ذلك الفهم إذا ما قام على أساس تلك الضوابط المتبعة عند أهل المحاورة من ذلك اللسان.

وهذا الإيراد وإن كان وجيها إلاّ أنّه ليس حاسما وذلك لعدم اطراده إذ أنّ بعض الاستظهارات تقوم على أساس نكات دقيقة وخفيّة يتطلّب دركها تأنّيا وإمعانا وتسلّطا على الضوابط المقرّرة عند أهل المحاورة ، ومن هنا يكون الكشف عن تلك النكات كشفا عمّا هو خفي وبه يكون هذا النحو من الاستظهار تفسيرا.

ولمزيد من التوضيح نقول :

إنّ بعض المركّبات اللّفظيّة تقتضي أكثر من ظهور ، وهذه الظهورات التي يقتضيها ذلك المركّب اللّفظي تنشأ عن أسباب متفاوتة كل سبب من تلك الأسباب يقتضي شأنا ظهورا خاصا. فالأوضاع اللغويّة مثلا قد تقتضي ظهورا معينا ومناسبات الحكم والموضوع تقتضي ظهورا آخر ، وقد تكون هناك قرينة داخليّة تستوحى من نفس المركّب المستعمل تقتضي ظهورا مغايرا للظهورين.

ومن هنا يكون استكشاف ما هو مقتضى الظهور الجدّي واقعا يحتاج إلى تشييد القرينة المقتضية لغلبة ما توجبه من ظهور على سائر القرائن الأخرى والمقتضية لظهورات أخرى ، ويحتاج أيضا إلى إبراز ما يوهن القرائن المقتضية شأنا للظهورات الأخرى.

وكلّ ذلك لا يكون ميسورا لكلّ أحد ، وهذا هو السرّ في اختلاف الفقهاء في فهم الأدلّة الشرعيّة فلو كان الاستظهار من الوضوح بحيث لا

٤٤٤

يحتاج إلى كشف فلماذا هذا الاختلاف من الفقهاء وكذلك أهل المحاورة في فهم الخطابات الصادرة عن الشارع وعن غيره من المتكلّمين.

ومن هنا يتّضح أن بعض الاستظهارات تكون من قبيل الكشف عمّا هو خفي ، وهذا هو التفسير الذي أدّعي عدم تناسبه مع الظهور.

ومع اتّضاح عدم تماميّة الإيراد السابق نحتاج إلى جواب آخر على الاستدلال بالطائفة الثالثة والتي استدلّ بها على نفي الحجيّة عن ظواهر الكتاب ، وقد ذكر المصنّف رحمه‌الله ثلاثة أجوبة لذلك :

الجواب الأوّل :

إنّ الظاهر من روايات هذه الطائفة هو التصدّي للردع عمّا كان رائجا في زمن الإمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام من اعتماد الرأي المبني على الحدس والتخمين والاستحسان والقياس والمصالح المرسلة وسد الذرايع كوسيلة لفهم النصوص الشرعيّة سواء منها النصوص القرآنية أو السنّة الشريفة.

وهذا هو المبرّر لاستظهار هذا المعنى من هذه الطائفة من الروايات ؛ إذ من المعروف الذي لا ريب فيه استيحاش أهل البيت عليهم‌السلام من هذه الطريقة في فهم النصوص الشرعيّة ، وتصدّيهم بشتى الوسائل لتوهين هذه المدرسة الغريبة في متبنياتها عن الإسلام ، وهذا بخلاف فهم النصوص الشرعيّة على أساس ما هو المتفاهم العرفي وما تقتضيه سليقة أهل المحاورة في كيفيّة التعرّف على مرادات المتكلّمين ، فإنّ هذه الطريقة هي المتّبعة حتّى عند أهل البيت عليهم‌السلام.

والذي يؤكّد ما استظهرناه من أنّ هذه الروايات بصدد الردع عن مدرسة الرأي الرائجة آنذاك هي الحوارات التي كان يجريها الإمامان الباقر

٤٤٥

والصادق عليهما‌السلام مع أئمّة هذه المدرسة لغرض صرفهم عن هذا السلوك الذي يهدّد أغراض الشريعة ، ولنذكر لذلك مثالين :

الأوّل : ما رواه زيد الشحام قال : دخل قتادة بن دعامة على أبي جعفر عليه‌السلام فقال : « يا قتادة أنت فقيه أهل البصرة؟ فقال : هكذا يزعمون ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : بلغني انّك تفسّر القرآن؟ فقال له قتادة : نعم فقال له أبو جعفر عليه‌السلام « فإن كنت تفسّره بعلم فأنت أنت ، أنا أسألك ( إلى أن قال ) : إن كنت تفسّر القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت وإن كنت قد فسّرته من الرجال فقد هلك وأهلكت ، ويحك يا قتادة إنّما يعرف القرآن من خوطب به » (١).

الثاني : ما رواه شبيب عن أنس عن بعض أصحاب أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث .. إنّ أبا عبد الله قال لأبي حنيفة : أنت فقيه أهل العراق؟ قال : نعم ، ( إلى أن قال ) : يا أبا حنيفة إذا ورد عليك شيء ليس في كتاب الله ولم تأت به الآثار والسنّة كيف تصنع؟ فقال : أصلحك الله أقيس وأعمل برأيي. فقال عليه‌السلام : يا أبا حنيفة إنّ أوّل من قاس إبليس الملعون ، قاس على ربّنا تبارك وتعالى فقال : ( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) قال : فسكت أبو حنيفة ، فقال عليه‌السلام : يا أبا حنيفة أيّما أرجس البول أو الجنابة؟ فقال البول فقال : فما بال الناس يغتسلون من الجنابة ولا يغتسلون من البول؟ فسكت ، فقال : يا أبا حنيفة أيّما أفضل الصلاة أو الصوم؟ فقال : الصلاة. قال : فما بال الحائض تقضي صومها ولا تقضي صلاتها؟ فسكت » (٢).

__________________

(١) الوسائل باب ١٣ من أبواب صفات القاضي ح ٢٥

(٢) الوسائل باب ٦ من أبواب صفات القاضي ح ٢٧

٤٤٦

الجواب الثاني :

إنّنا لو تنزّلنا وقلنا إنّ إطلاقات هذه الطائفة من الروايات شاملة لظواهر الكتاب الكريم فإنها مع ذلك قاصرة عن إثبات الردع عن السيرة العقلائيّة باعتبار أنّ الردع لا بدّ أن يكون بمستوى تجذّر السيرة وتأصّلها في سلوك العقلاء ، ونحن لو قايسنا هذه الطائفة من الروايات مع مستوى ترسّخ هذه السيرة في جبلّة العقلاء وسلوكهم لوجدنا أنّه لا تناسب بينهما أصلا.

فمع أنّنا نجد العمل بما هو مقتضى الظهور هي الطريقة الوحيدة التي يستكشف العرف منها مرادات المتكلّم وأنّ سلوك غير هذه الطريقة يعدّ شذوذا وخروجا عمّا هو المألوف والمتعارف نجد أنّ هذه الروايات ليست من الوضوح بحيث يمكن التعويل عليها في إلغاء هذه السيرة المستحكمة.

وأمّا قصورها عن الردع عن السيرة المتشرّعيّة فلأنّه لو كان هذه الروايات متصديّة للردع لانعكس ذلك على سلوك المتشرعة في حين أنّنا لا نجد وسيلة أخرى عندهم لفهم النصوص القرآنيّة غير هذه الوسيلة ، ولو كانت هذه الروايات متصديّة للردع لأثّر ذلك ولو على بعض المتشرّعة والحال أنّنا لا نجد من ذلك عينا ولا أثرا مما يؤكّد أنّ إطلاقات هذه الروايات ـ لو تمت ـ مقيدة بالسيرة ، ولمزيد من البيان راجع ما ذكرناه في بحث حجيّة خبر الواحد في مقام الاستدلال على الحجيّة بالسيرة.

الجواب الثالث :

إنّ هناك مجموعة من الروايات يمكن التمسك بها لإثبات حجيّة ظواهر الكتاب وإذا تمّت دلالتها فهي صالحة لإسقاط الروايات النافية

٤٤٧

للحجيّة عن الدليليّة أو لا أقل تكون صالحة لمعارضتها.

ويمكن تصنيف هذه الروايات إلى ثلاث طوائف :

الطائفة الأولى : هي الروايات الآمرة بالتمسّك بالقرآن وأنّه المرجع في كلّ ما يعترض المسلمين من بلايا وفتن.

وهذه الروايات من قبيل حديث الثقلين والّذي ثبت تواتره عن الفريقين.

ومن قبيل ما ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّها إذا عرضت عليكم الفتن كقطع اللّيل المظلم فعليكم بالقرآن.

وتقريب الاستدلال بهذه الطائفة من الروايات واضح ؛ إذ أنّ الأمر بالتمسّك بالقرآن معناه الالتزام بمضامينه وما يشتمل عليه من مفاهيم وأحكام. واستكشاف هذه المضامين والمفاهيم لا يكون إلاّ بواسطة الظهور ؛ إذ أنّها الوسيلة المتعارفة في مقام التعرّف على مرادات المتكلّمين وسيتضح هذا التقريب أكثر في تقريب الاستدلال بالطائفة الثانية.

الطائفة الثانية : وهي الروايات الآمرة بعرض الشروط في العقود على القرآن فما خالف كتاب الله فهو مردود ، وهذا من قبيل ما ورد « من أن كلّ شرط خالف كتاب الله فهو باطل ».

وتقريب الاستدلال بهذه الطائفة من الروايات حاصله : أنّه إن كان المقصود من مخالفة الشرط للكتاب مخالفته لما هو مقتضى الإطلاق اللّفظي للقرآن فهذا يعني أنّ المخالفة لكتاب الله هي المخالفة لظواهر الكتاب ، إذ أنّ الإطلاق اللّفظي من مصاديق الظهور ، وبذلك يثبت المطلوب.

وإن كان المقصود من مخالفة الشرط للكتاب هو منافاة الشرط واقعا

٤٤٨

فلا بدّ من وسيلة للتعرّف على واقع المضمون المراد من قبل الله جلّ وعلا.

والاحتمالات في المقام ثلاثة ؛ إمّا أن لا يكون هناك وسيلة للتعرّف على المضمون الواقعي. وهذا الإحتمال ساقط حتما ؛ إذ ما معنى إرجاع الشروط إلى كتاب الله جلّ وعلا إذا لم تكن وسيلة لمعرفة مقاصد القرآن الكريم.

وإمّا أن تكون هناك وسيلة اخترعها الشارع لغرض الوصول بها إلى مقاصده. وهذا الاحتمال ساقط أيضا ، إذ لو كان لبان كما اتّضح ذلك في بحث حجيّة الظهور.

والاحتمال الثالث أنّ الشارع لم يتصدّ لبيان الوسيلة التي يتوصّل بها إلى مقاصده ، وهذا ما يكشف عن قبوله للوسيلة المتعارفة عند المخاطبين بالقرآن.

ولمّا كانت الوسيلة المتعارفة عند المخاطبين بالقرآن ـ وهم العرف ـ هي العمل بما يقتضيه الظهور فهذا ما يثبت حجيّة ظواهر الكتاب.

وقد لا حظتم أنّنا استفدنا من الإطلاق المقامي لإثبات إمضاء الشارع لما عليه العرف في مقام استكشاف مقاصد الشريعة.

وقد أوضحنا المراد من الإطلاق المقامي في محلّه ، وقد طبقناه في المقام وقلنا إنّ المولى لو كانت له وسيلة أخرى غير المتّبعة عند العرف لكان ذلك يقتضي بيانها ، فعدم بيانها كاشف عن أنّ العمل بظواهر الكتاب لم يقع موضوعا للردع ، حيث إنّ الشارع وبحكم قيوميّته دائما يكون في مقام الرّدع عن كلّ ظاهرة اجتماعيّة غير مرضية عنده ، وحيث إنّه ردع عن مجموعة من الظواهر ، ولم يردع عن هذه الظاهرة رغم أنّه في مقام الردع

٤٤٩

عن كلّ ما هو غير مرضي فهذا يكشف عن عدم كون العمل بظواهر الكتاب موضوعا للردع وهذا هو معنى ما قلنا من أنّ الإطلاق المقامي ينفي موضوعا عن أن يكون مشمولا لحكم.

الطائفة الثالثة : وهي أوضح الطوائف الثلاث ، وهي الروايات الآمرة بعرض ما يرد عن أهل البيت عليهم‌السلام على الكتاب ، فما خالف كتاب الله فهو لم يصدر عن أهل البيت عليهم‌السلام ، وأنّ ما خالف كتاب الله فهو زخرف وقائله أولى به وأنّه يرمى به عرض الجدار. وهي روايات كثيرة بل متواترة.

وتقريب الاستدلال بهذه الطائفة :

أنّ الاحتمالات المتصوّرة في فهم المراد من هذه الروايات ثلاثة :

الاحتمال الأوّل : أنّ المراد من المخالف لكتاب الله هو المخالف لمقاصد القرآن المستفادة بواسطة الأخبار ، أي أنّ الخبر الساقط عن الحجيّة هو الخبر المنافي لمضامين القرآن إلاّ أنّ التعرّف على المنافاة وعدم المنافاة لا يتمّ بواسطة ملاحظة القرآن الكريم مباشرة ، بل إنّ معرفة المنافاة لمضامين القرآن إنّما تستكشف بواسطة الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم‌السلام.

وهذا الاحتمال ساقط حتما ؛ إذ أنّ هذه الطائفة من الروايات إنّما هي في مقام بيان ما هو المميّز للروايات المعتبرة من الروايات غير المعتبرة ، ومن الواضح أنّ كلّ الروايات بما فيها الروايات المبيّنة لمضامين الكتاب العزيز داخلة تحت هذا المميز ؛ ولهذا كيف يكون الكاشف عن الاعتبار هو الذي يراد استكشاف اعتباره؟

الاحتمال الثاني : أنّ المراد ممّا خالف كتاب الله جلّ وعلا هو ما خالف نصوص الكتاب فحسب ، وهذا الاحتمال ساقط أيضا ؛ وذلك لأنّ الظاهر

٤٥٠

من هذه الطائفة أنّها تعالج مشكلة كانت سائدة ويمكن أن يكتب لها الدوام والاستمرار ، وهذه المشكلة هي تصدّي أصحاب الأهواء الفاسدة لوضع الحديث ونسبته إلى أهل البيت عليهم‌السلام ، ولم يكن هؤلاء من الغباء بحيث يلفّقون على أهل البيت عليهم‌السلام أحاديث منافية لصريح القرآن ، إذ أنّه لن يصدّقهم أحّد في ذلك ، وهذا ينافي غرضهم من الوضع والتدليس ، ولهذا نجد أنّ الروايات المناقضة لصريح القرآن قليلة جدّا بل لا تكاد تذكر.

الاحتمال الثالث : أن يكون المراد من المخالف لكتاب الله هو ما خالف نصوص القرآن وظواهره. وهذا هو المتعيّن من الاحتمالات بعد اتّضاح فساد الاحتمالين السابقين.

وبهذا تثبت حجيّة ظواهر الكتاب إذ لو لم تكن حجّة لما جعلها الشارع وسيلة لتمييز الروايات المعتبرة من غير المعتبرة وهذه الطوائف الثلاث من الروايات إمّا أن تكون موجبة لإسقاط الروايات النافية للحجيّة عن ظواهر الكتاب ، وبهذا يثبت المطلوب ، أو تكون معارضة لها وحينئذ تسقط كلّ الروايات ـ النافية والمثبتة ـ عن الحجيّة ، ويكون المرجع عند ذلك هو السيرة ، ولا تكون الروايات النافية للحجيّة صالحة للردع عنها بعد افتراض سقوطها بالتعارض.

وهذه السيرة إمّا أن تثبت حجّتها بوسائل وجدانيّة ، كأن يكون هناك إحراز لإمضائها ، أو تثبت بواسطة الاستصحاب كأن يكون الإمضاء محرزا ثمّ عرض على بقائه الشكّ.

الدليل الثالث :

أنّه قد تعلّقت إرادة المولى جلّ وعلا بأن يتّصل الناس بأهل

٤٥١

البيت عليهم‌السلام ويرتبطوا بهم ؛ إذ أنّ في الارتباط بهم تكون الهداية وفي الانفصال عنهم تكون الضلالة ، ومن الواضح أنّ هذه الإرادة تقتضي أن يخلق المولى مبرّرات توجب ارتباط الناس بأهل البيت عليهم‌السلام.

ومن هنا تعمّد المولى إجمال وإبهام آيات الكتاب حتّى تلجأ الناس لأهل البيت عليهم‌السلام لغرض الاستيضاح والتعرّف على مقاصد القرآن ، وهذا ما يوجب اشتداد علاقة الناس بهم عليهم‌السلام.

ثمّ إنّ هناك منشأ آخر لإجمال مقاصد الكتاب العزيز وهو أنّه لمّا كانت المعاني المشتمل عليها القرآن الكريم عالية ومقاصده ذات مضامين رفيعة فهذا يستوجب ألا تكون مفهومة.

فبهذين المنشأين أو بأحدهما يثبت الإجمال لآيات الكتاب ، ومن هنا تخرج آيات الكتاب العزيز عن حجيّة الظهور موضوعا وتخصّصا.

والجواب عن هذا الدليل :

والجواب يتمّ بواسطة إسقاط دليليّة المنشأين المذكورين عن إثبات الإجمال لآيات الكتاب العزيز.

أمّا المنشأ الأوّل : فجوابه أنّ من المقطوع به أنّ الغرض من إنزال القرآن الكريم هو هداية الناس ، وهذا ما يقتضي أن يكون واضحا وميسور الفهم ، ودعوى إبهامه وإجماله ينافي ما هو الغرض من إنزاله ، والحكيم لا ينقض غرضه ، ونحن وإن كنّا نسلّم أنّ المولى جلّ وعلا قد تعلّقت إرادته بأن يتمسّك الناس بأهل البيت عليهم‌السلام ويرتبطوا بهم أشد ارتباط ، إلاّ أنّه من أين حصل لنا العلم بتعلّق إرادة المولى بذلك؟ فإمّا أن يكون العلم بذلك حصل بواسطة القرآن الكريم أو بواسطة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبكلّ منهما يثبت

٤٥٢

المطلوب.

إذ أنّه لو كان الموجب للعلم بتعلّق إرادة المولى جلّ وعلا بلزوم الارتباط بأهل البيت عليهم‌السلام هو القرآن الكريم فهذا يقتضي أن يكون واضحا ومفهوما حتى يمكن استفادة ذلك منه.

وإمّا أن يكون الموجب للعلم بهذه الإرادة المولويّة هو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا يحتاج إلى إثبات حجيّة كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّه مبعوث من الله جلّ وعلا الذي هو الإله الحق.

وهذه هي أصول الدين المحتاج ثبوتها إلى معجزة ، إذ لا سبيل لإثبات الرسول والرسالة إلاّ المعجزة. والمعجزة التي أثبتت الرسالة الإسلامية وأنّ الصادع بها هو محمّد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي القرآن الكريم ، فإذا كان القرآن هو الحجّة في إثبات ذلك فهذا يقتضي أن يكون واضحا وجليّا وإلاّ لا يمكن أن تثبت به الأصول الاعتقاديّة.

وأمّا المنشأ الثاني : فجوابه أنّ المناسب لكون القرآن كتاب هداية أن يكون في متناول الجميع ، وهذا هو مقتضى طبع كلّ حكيم أن يتناسب فعله مع هدفه لا أن يكون فعله مفوّتا لهدفه ، فإذا كان الغرض الإلهي قد تعلّق بهداية الناس وإخراجهم من ظلمات الجهل إلى نور العلم ، فهذا يستوجب أن تكون الوسيلة التي جعلها من أجل الوصول لهذا الغرض متوفّرة على المؤهّلات الكفيلة بتحقيق الغرض المنشود على أتمّ وجه.

ولمّا كان القرآن الكريم هو الوسيلة المجعولة من الله جلّ وعلا لتحقيق هذا الغرض فهذا يستوجب أن يكون واضحا وبينا يمكن الاسترشاد به والخروج به من ظلمات الضلالة إلى نور الهدى ، وإلاّ لو لم يكن كذلك فأي

٤٥٣

هداية يمكن أن تؤخذ عنه وهو مبهم ومجمل؟!

وكون القرآن مشتملا على مضامين عالية لا يوجب إبهامه ؛ إذ أنّ الحكيم لا يجازف بأهدافه ، ومن هنا نجد أنّ القرآن الكريم رغم اشتماله على ما لا تصل إليه عقول الرجال مجتمعة مع ذلك فهو يصبّ تلك المضامين الشامخة في قوالب لفظيّة بديعة ومفصحة عمّا هو المراد.

اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد الأوصياء

الراضين المرضيّين بأفضل صلواتك ، وبارك عليهم

بأفضل بركاتك ، والسلام عليهم وعلى أرواحهم

وأجسادهم ورحمة الله وبركاته.

والحمد لله ربّ العالمين.

٤٥٤

المحتويات

المقدّمة....................................................................... ٥

تعريف علم الأصول ........................................................... ٩

التعريف على مختار المصنّف رحمه‌الله :............................................. ١٢

موضوع علم الأصول........................................................ ١٣

فائدة علم الأصول........................................................... ١٩

الحكم الشرعي وتقسيمه....................................................... ٢٣

الأحكام التكليفيّة............................................................ ٢٤

الأحكام الوضعية............................................................ ٢٥

مبادئ الحكم التكليفي ...................................................... ٢٦

مبادئ الأحكام التكليفيّة الخمسة ............................................. ٢٩

التضاد بين الأحكام التكليفية :............................................... ٣١

استحالة اجتماع حكمين متسانخين على فعل واحد ............................. ٣٤

٤٥٥

شمول الحكم الشرعي لجميع وقائع الحياة ....................................... ٣٥

الحكم الواقعي والحكم الظاهري .............................................. ٣٧

الأمارات والأصول .......................................................... ٤٠

اجتماع الحكم الواقعي والظاهري ............................................ ٤٤

القضية الحقيقة والقضية الخارجية ............................................. ٤٦

تنويع البحث................................................................ ٤٩

حجّيّة القطع.................................................................. ٥٥

المبحث الأوّل : المراد من معنى القطع :........................................ ٥٥

المبحث الثاني : محركيّة القطع :............................................... ٥٧

المبحث الثالث : حول حجّية القطع :.......................................... ٦٠

الجهة الأولى : في معنى الحجيّة ................................................ ٦٠

الجهة الثانية : التلازم بين الحجيّة وبين الكاشفيّة والمحركيِّة ....................... ٦٢

الجهة الثالثة : الحجية هل هي ثابتة للقطع أو لا؟................................ ٦٣

الجهة الرابعة : حدود حق الطاعة للمولى ...................................... ٦٥

الجهة الخامسة : هل للمولى أن يمنع عن العمل بالقطع؟ .......................... ٦٨

الجهة السادسة : معذِّرية القطع................................................ ٧٠

المبحث الرابع : في التجرّي .................................................... ٧٤

المبحث الخامس : في العلم الإجمالي.............................................. ٧٦

القطع الطريقي والقطع الموضوعي.............................................. ٨٢

جواز الإسناد للمولى......................................................... ٨٧

٤٥٦

تحديد المنهج في الأدلة والأصول................................................ ٩٣

المنهج بناء على مسلك حق الطاعة............................................. ٩٤

المنهج على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان................................. ١٠١

الأدلّة المحرزة................................................................ ١٠٧

تقسيم البحث في الأدلّة المحرزة.............................................. ١٠٧

تقسيم آخر للأدلة المحرزة................................................... ١٠٩

تقسيم الدليل الشرعي...................................................... ١١١

المطلب الأول : الأصل عند الشك في الحجّة.................................. ١١٨

المطلب الثاني : مقدار ما يثبت بالأدلّة المحرزة.................................. ١٢٤

المطلب الثالث : تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للمطابقيّة.............................. ١٣١

المطلب الرابع : وفاء الدليل بدور القطع الموضوعي............................ ١٣٨

المطلب الخامس : إثبات الدليل لجواز الإسناد................................. ١٤٥

المبحث الأوّل : تحديد دلالات الدليل الشرعي................................ ١٥١

الدليل الشرعي اللفظي ـ تمهيد ـ.......................................... ١٥٣

الظهور التصوّري والظهور التصديقي :....................................... ١٥٤

الوضع وعلاقته بالدلالات المتقدّمة............................................ ١٥٧

النظرية الأولى : السببيّة الذاتية :............................................ ١٥٧

النظريّة الثانية : السببية الوضعية الاعتبارية :.................................. ١٥٨

٤٥٧

النظريّة الثالثة : التعهّد...................................................... ١٦١

الإشكال على مسلك التعهّد................................................ ١٦٤

النظرية الرابعة : نظرية القرن الأكيد......................................... ١٦٦

الوضع التعييني والتعيّني...................................................... ١٦٧

توقّف الوضع على تصوّر المعنى.............................................. ١٦٩

توقّف الوضع على تصوّر اللفظ............................................. ١٧٤

المجاز ....................................................................... ١٧٦

علامات الحقيقة والمجاز..................................................... ١٨٠

تحويل المجاز إلى حقيقة...................................................... ١٨٨

استعمال اللفظ وإرادة الخاص............................................... ١٨٩

الاشتراك والترادف........................................................ ١٩٠

تصنيف اللغة................................................................ ١٩٤

المقارنة بين الحروف والأسماء الموازية لها ...................................... ٢٠٠

تنوّع المدلول التصديقي .................................................... ٢٠١

المقارنة بين الجمل التامّة والجمل الناقصة...................................... ٢٠٥

الأمر والنهي................................................................ ٢٠٩

مادة الأمر................................................................. ٢٠٩

صيغة الأمر ............................................................... ٢١٤

الأوامر الإرشاديّة.......................................................... ٢٢٠

٤٥٨

الأمر بعد الحظر أو بعد توهّم الحظر ........................................ ٢٢٣

دلالة الأمر الموقّت على لزوم القضاء ........................................ ٢٢٥

الأمر بالأمر .............................................................. ٢٢٨

النهي..................................................................... ٢٣١

الاتجاهات في تفسير معنى النهي.............................................. ٢٣١

الاحتراز في القيود......................................................... ٢٣٦

الإطلاق.................................................................... ٢٤١

هل الإطلاق مستفاد من الوضع أو من دالّ آخر .............................. ٢٤٤

الثمرة المترتّبة على ما هو الدالّ على الإطلاق ................................. ٢٤٥

قرينة الحكمة.............................................................. ٢٤٦

أقسام الإطلاق ........................................................... ٢٥١

الإطلاق في المعاني الحرفية................................................... ٢٥٣

التقابل بين الإطلاق والتقييد ................................................ ٢٥٤

الحالات المختلفة لاسم الجنس .............................................. ٢٥٨

الانصراف ............................................................... ٢٦٥

الإطلاق المقامي ........................................................... ٢٦٩

بعض التطبيقات لقرينة الحكمة ............................................. ٢٧٣

التمسك بقرينة الحكمة لاستظهار الوجوب من الأوامر......................... ٢٧٣

التمسك بقرينة الحكمة لاستظهار النفسية التعيينيّة العينيّة للطلب................ ٢٧٤

٤٥٩

العموم..................................................................... ٢٧٩

تعريف العموم ............................................................ ٢٧٩

أدوات العموم ونحو دلالاتها ................................................ ٢٨١

دلالات الجمع المعرّف باللام ............................................... ٢٨٤

المفاهيم..................................................................... ٢٨٩

تعريف المفهوم............................................................. ٢٨٩

ضابطة المفهوم............................................................. ٢٩٤

مفهوم الشرط............................................................. ٢٩٨

الشرط المسوق لتحقق الموضوع ............................................. ٣٠٣

مفهوم الوصف............................................................ ٣٠٥

أقسام الجملة الوصفية...................................................... ٣١٠

جمل الغاية والاستثناء....................................................... ٣١٣

التطابق بين الدلالات........................................................ ٣١٩

أصالة الظهور في العموم.................................................... ٣٢١

أصالة الجهة............................................................... ٣٢٢

دور القرينة في هدم الدلالات الثلاث ........................................ ٣٢٣

مناسبت الحكم والموضوع................................................... ٣٢٧

بعض التطبيقات لمناسبات الحكم والموضوع................................... ٣٢٩

٤٦٠