شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ١

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: ثامن الحجج
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٦٣
الجزء ١ الجزء ٢

وقد لا يتحقّق بالثلاثة وذلك فيما لو كانت قيمة احتمال عدم المطابقة في كلّ واحد كبيرة.

فلو كانت قيمة الاحتمال لعدم المطابقة في كلّ خبر من الأخبار الثلاثة هي قيمة الكسر فإنّ ضرب كلّ قيمة من هذه القيمة الثلاثة في بعضها ينتج ضالة الاحتمال إلى حدّ لا يعتدّ العقلاء بمثل هذا المستوى من الاحتمال ، إذ أنّ ناتج ذلك يساوي الكسر .

وهذا بخلاف ما لو كانت قيمة الاحتمال هي الكسر فإنّ ضربها في مثلها ثلاث مرات يساوي الكسر ومن الواضح أنّ مستوى الاحتمال الناتج عن الكسر مما يعتدّ العقلاء بمثله ، فلذلك نحتاج في تكوين التواتر إلى عدد أكبر من المخبرين.

على أنّ نسب الاحتمال في كلّ خبر تخضع لمجموعة من المبرّرات تتصل بحالة كلّ مخبر ، فقد يكون المخبر ثقة وقد لا يكون كذلك ، وقد يكون ضبطا وقد لا يكون كذلك ، كما أنّ مستوى النسبة تخضع لمبرّرات تتّصل بمضمون الخبر ، فقد يكون غريبا وقد يكون متعارفا مألوفا ، فلو كان المخبر ثقة ضبطا وكان مضمون خبره مألوفا ولم يكن فيه نفع يعود على المخبر ، فإنّ العدد الذي نحتاجه في تكوين التواتر يكون قليلا ، كما أنّ سرعة الوصول إلى مرحلة اليقين أو الاطمئنان تتفاوت بتفاوت حال المخبرين ، فقد تتضاءل نسبة احتمال عدم المطابقة من خبر مخبر بمستوى أكبر من تضاءلها بخبر مخبر آخر ، فلو كان المخبر الأول ثقة ضبطا ولم يكن مضمون الخبر ملائما لغرضه فإنّ نسبة احتمال عدم المطابقة في خبره أقل بكثير من نسبة احتماله في خبر المخبر الثاني إذا لم يكن ثقة أو لم يكن ضبطا أو كان

٣٦١

مضمون الخبر ملائما لغرضه ، فلو كانت قيمة الاحتمال لعدم المطابقة في خبر المخبر الأول هي فإنّ قيمة الاحتمال في خبر المخبر الثاني هي ومن الواضح أنّ الأول يسرع بنا إلى الوثوق بمضمون الخبر أكثر من الثاني ، وبهذا السير السريع تارة والبطيء أخرى نصل إلى مرحلة اليقين أو الاطمئنان ، والأول عبّر عنه المصنّف بزوال الاحتمال واقعا ، والثاني بزوال الاحتمال عمليّا.

إذا اتّضح ما ذكرناه يتّضح أنّ هناك عوامل كميّة وأخرى نوعيّة تتصل بالمخبر ، تساهم في سرعة أو بطأ الوصول إلى مرتبة التواتر في الخبر ، وكذلك هناك عوامل نوعيّة تتصل بمضمون الخبر تساهم أيضا في سرعة أو بطأ الوصول إلى مرتبة التواتر في الخبر.

أما العوامل الكميّة والنوعية التي تتصل بالمخبر فيمكن تصنيفها إلى ثلاثة أقسام.

الأول : عدد المخبرين ، فهو وإن كان يخضع قلة وكثرة للعوامل المضمونيّة والعوامل المتصلة بصفات المخبرين ، إلا أنّه لا بدّ في تحقق صفة التواتر في الخبر من تعدّد المخبرين.

الثاني : ويمكن التعبير عنه بالعوامل الصياغيّة إذ قد تكون الإخبارات المتعدّدة ذات صياغة لفظية واحدة ، وقد تكون ذات صياغات لفظية مختلفة إلا أن مؤداها واحد ، وقد لا تكون متّحدة لا من حيث الصياغة اللفظية ولا من حيث المضمون إلا أنّها تشترك في إمكان انتزاع معنى واحد منها ، كما ورد أن الإمام علي عليه‌السلام قتل الفارس الشجاع عمرو بن ود ، وورد أيضا أنه فتح حصن خيبر وقتل فارسهم « مرحب » اليهودي ، وورد أيضا أنّه

٣٦٢

ضمن العشرة الذين لم يفرّوا في غزوة حنين ، وورد أيضا أن جبرئيل عليه‌السلام نادى بين السماء والأرض في غزوة أحد أنّه « لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلاّ علي عليه‌السلام » ، فإنّ هذه الإخبارات وإن كانت مختلفة لفظا ومضمونا ، إلاّ أنه يمكن انتزاع معنى واحد منها وهو أنّ الإمام علي عليه‌السلام كان شجاعا وكان فارس الإسلام.

والحالة الأولى من الإخبارات تسمّى بالتواتر اللفظي ، والثانية تسمّى بالتواتر المعنوي ، والثالثة تسمّى بالتواتر الإجمالي ، ومن الواضح أنّ التواتر اللفظي يحتاج إلى عدد من المخبرين أقل مما يحتاجه التواتر المعنوي والإجمالي ؛ وذلك لأنّ التطابق بهذا النحو من التطابق رغم تفاوت المخبرين من حيث خصائصهم الشخصية ، واستبعاد أن تتّفق مصلحتهم في المحافظة على صياغة خاصّة للخبر ، كل ذلك يكون مبعّدا آخر بالإضافة إلى المبعّدات التي يشترك فيها مع التواتر الإجمالي والمعنوي.

وكذلك الكلام في التواتر المعنوي بالنسبة إلى التواتر الإجمالي إذ أنّ التواتر المعنوي مشتمل على خصوصية يفتقر إليها التواتر الإجمالي ، وهو كون مصب الإخبارات في التواتر المعنوي واحدا ، وهذا يساهم في سرعة الوصول إلى الاطمئنان أو اليقين ، وهذا بخلاف التواتر الإجمالي إذ لا يكون المعنى الذي يراد تصيّده من كلّ خبر هو الدافع الأساسي للمخبر من إيراد الخبر وهذا يستوجب اقتناص المعنى مما وراء الخبر ، فقد يكون المعنى المتصيّد واضحا وقد يكون خفيّا.

الثالث : وهو ما يتّصل بصفات المخبرين من حيث الوثاقة والضعف ، وقوّة الحافظة والضبط ، أو كثرة النسيان والخلط ، أو ما إلى ذلك من

٣٦٣

الصفات الدخيلة في تحديد نسبة احتمال عدم المطابقة ، وقد تقدّم بيان ذلك.

العوامل التي تتّصل بمضمون الخبر ، وهي على قسمين :

الأول : العوامل العامّة : وهي التي إذا توفّرت في مضمون خبر ساهمت ـ وبقطع النظر عن نوعيّة المضمون ، في تقليل أو رفع نسبة احتمال عدم المطابقة ، وذلك مثل أن يكون الخبر مألوفا أو غريبا ، فإنّه إذا كان مألوفا ومتوقّعا ومتناسبا مع المجريات الطبيعيّة فإنّ ذلك يساعد على سرعة الوصول إلى الاطمئنان أو اليقين وبعدد أقل ، وهذا بخلاف ما لو كان الخبر غريبا وغير متوقّع فإنّ احتمال عدم المطابقة يكون أكبر فنحتاج في الوصول إلى الاطمئنان بصدقه إلى عدد أكبر ممّا نحتاجه في الخبر المألوف.

الثاني : العوامل النسبيّة : وهي العوامل التي يلاحظ فيها المضمون بالإضافة إلى نوعية المخبر ، كما لو كان مضمون الخبر منافيا لمعتقدات المخبر ، فإنّ إخباره بما ينافي عقيدته يكون عاملا من عوامل تقليل احتمال عدم المطابقة لاستبعاد أن تكون هناك مصلحة دعت المخبر بأن يخبر بما ينافي معتقداته.

وكذلك لو كان الخبر يصب في منفعة المخبر فإنّ ذلك يساهم في رفع احتمال عدم المطابقة.

وقد يتّفق اجتماع العاملين في مورد واحد كما لو كان مضمون الخبر غريبا ويصب في مصلحة المخبر ، فإنّ مستوى احتمال عدم المطابقة يكون أكبر ممّا لو كان الخبر مشتملا على عامل واحد من العاملين.

وكذلك لو اتفق أن كان مضمون الخبر جيء به في ظرف يصعب فيه إيراد مثل ذلك الخبر ، وكان مضمونه منافيا لمصلحة المخبر ، كما لو أخبر

٣٦٤

غير الإمامي بخبر يناسب مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، وكان إيراده للخبر في مجلس حضّاره من أعداء أهل البيت عليهم‌السلام ، فإنّه قد اجتمع في هذا الخبر عامل من العوامل النسبيّة ، وهو كون مضمون الخبر منافيا لمصلحة المخبر ، وعامل من العوامل العامّة ، وهو صعوبة الظرف الذي أورد فيه الخبر.

وفي حالة من هذا القبيل تكون نسبة احتمال عدم المطابقة أضعف ممّا لو كان مضمون الخبر مشتملا على عامل واحد من هذين العاملين.

قوله رحمه‌الله : « بل واقعيّا لضآلته » : في كلّ حالة تضرب فيها القيم الاحتماليّة في بعضها فإنّها لا تنتج بأيّ حال اليقين الرياضي مهما تكثّرت القيم الاحتمالية المضروبة في بعضها ومهما كانت ضآلة تلك القيم ، فلو كان عدد الإخبارات مئة وكانت نسبة احتمال عدم المطابقة ضئيلة جدّا ، فإنّ ضرب هذه القيم في بعضها لا ينتج اليقين الرياضي ، فيبقى احتمال عدم المطابقة موجودا إلاّ أنّ هذا الاحتمال لا يمنع من حصول اليقين ؛ إذ أنّ الذهن البشري لا يحتفظ بهذا المستوى الضئيل من الاحتمال.

٣٦٥
٣٦٦

الإجماع

وهو اتفاق جمع كبير من الفقهاء على رأي واحد في مسألة من المسائل الشرعيّة.

وهذا يعني أنّ الإجماع هو مجموعة من الفتاوى الصادرة عن أهلها ، وكل فتوى من هذه الفتاوى نشأت عن التأمّل في المدارك المتّصلة بها ، فهي إذن من الإخبارات الحدسيّة المستفادة بواسطة النظر في الأدلّة ، وهذا ما يميّزها عن الإخبارات الحسيّة والتي تعتمد على المشاهدة والمعاينة.

وكيف كان فالخبر الحدسي يمثّل أيضا قيمة احتمالية لواقعيّة مفاده ، فإذا ما تعدّدت الإخبارات الحدسيّة ذات المضمون الواحد فإنّ قيمة احتمال المطابقة للواقع تتصاعد ، وقيمة احتمال المخالفة تسير في التضاءل إلى أن يصل مستوى احتمال المخالفة إلى حدّ لا يعتدّ بمثله ، وهذا هو الإجماع.

إذن فالمسار الذي يسلكه الخبر الحسّي إلى أن يصل إلى مرتبة التواتر هو عينه المسار الذي يسلكه الخبر الحدسي إلى أن يصل إلى الإجماع ، غايته أنّ حركة السير في الخبر الحدسي للوصول إلى الإجماع أبطأ منها في الخبر الحسّي للوصول إلى التواتر ، وذلك لمجموعة من المبرّرات ذكر المصنّف رحمه‌الله منها خمسة :

الأوّل : إنه لما كانت نسبة الاشتباه في الأمور الحدسيّة أكبر من نسبتها في الأمور الحسيّة ، فإنّ هذا يقتضي كون مستوى الاحتمال الحاصل من

٣٦٧

الأمور الحدسيّة أضعف منه في موارد الأمور الحسيّة ، ومن هنا تنشأ الحاجة إلى عدد أكبر من الإخبارات الحدسيّة لغرض الوصول إلى مستوى الاطمئنان واليقين.

الثاني : إن مناشئ الاشتباه في الإخبارات الحدسيّة كثيرة ، وهذا ما يقتضي ارتفاع مستوى احتمال الاشتباه فيها أكثر منها في الإخبارات الحسيّة والتي يكون منشأ احتمال الاشتباه فيها محدّدا وهو الغفلة أو النسيان ، وهذا ما يقتضي استبعاد وقوع جميع المخبرين في الغفلة أو النسيان ، أمّا إذا كانت المناشئ متعددة ، فلا يستبعد وقوع كل واحد منهم في الاشتباه بسبب الاعتماد على منشأ غير الذي اعتمد عليه الآخر.

فمثلا : لو اتفقت آراء جمع من الفقهاء على حرمة العصير الزبيبي وكانوا مخطئين في ذلك فإنّ منشأ الخطأ قد لا يكون متّحدا ، إذ من الممكن أن يكون المدرك لأحدهم هو رواية ضعيفة السند ، ويكون مدرك الآخر رواية ليس لها ظهور في الحرمة ، ويكون مدرك الثالث هو الاعتماد على أصالة الاحتياط في الشبهات التحريميّة ، ويكون مدرك الرابع هو الاستصحاب التعليقي ، ويكون مدرك الخامس هو الوثوق بفتوى مجموعة من الأعلام بالحرمة ، وهكذا.

ومن هنا ساغ التطابق في الرأي على الخطأ إذ لا يستبعد اتفاق أهل النظر على رأي خاطئ إذا كانت مناشئ الوقوع في الخطأ متعدّدة.

وهذا ما يجعل مستوى احتمال الاشتباه في الخبر الحدسي أكبر من مستوى احتمال الخطأ في الخبر الحسّي.

الثالث : إن من الملاحظ تأثّر أصحاب النظر ببعضهم البعض ، فحينما

٣٦٨

يذهب جمع منهم إلى رأي معيّن ، أو يذهب أحد الأساطين إلى رأي فإنّ ذلك يساهم في تبنّي آخرين من أصحاب النظر لنفس ذلك الرأي ، وذلك لوثوقهم بصوابيّة ما ذهب إليه ذلك الجمع من أهل النظر ، أو انبهارهم بتلك الشخصية العلميّة المتميّزة أو تأثرهم بمبانيه نتيجة تتلمذهم عليه ، حتى قال بعض الأعاظم : إنّ اتفاق ثلاثة وهم الشيخ الأنصاري ، والسيد الكبير الشيرازي ، والميرزا محمد تقي الشيرازي رحمهم‌الله يورث القطع بواقعيّة ما اتفقوا عليه.

وهذه الحالة لا توجد في الإخبارات الحسيّة ؛ إذ أن المخبر حسّا يحكي ما وقع تحت حواسّه دون أن يكون له أي ملاحظة للمخبر الآخر عن حس.

الرابع : إن احتمال الاشتباه في الإخبارات الحسيّة غالبا ما يكون ناشئا عن احتمال طروء العارض المانع من أن يؤثر المقتضي للإصابة أثره ، وهذا بخلاف الإخبارات الحدسيّة ، فإنّ احتمال الاشتباه يمكن أن يكون منشؤه عروض المانع ، ويمكن أن يكون منشؤه عدم المقتضي.

وبيان ذلك :

إنّ مطابقة الخبر أو النظر للواقع يستوجب وجود المقتضي وانتفاء المانع ، أما مقتضي مطابقة الخبر الحسي للواقع فهو سلامة حواس المخبر المناسبة لمضمون الخبر ، فإذا كان مضمون الخبر من المرئيّات فلا بدّ من افتراض سلامة البصر ، وإذا كان من المسموعات فهذا يستوجب سلامة السمع ، وهكذا.

هذا هو المقتضي لمطابقة الخبر للواقع ، إلاّ أنّ المقتضي لا يكفي وحده

٣٦٩

للمطابقة فلا بدّ من انتفاء المانع والذي هو من قبيل عدم الغفلة وعدم النسيان.

وأمّا مقتضي المطابقة في الأمور النظريّة الحدسيّة فهو أن يكون المخبر من أصحاب الفهم والتخصّص فيما أخبر عنه حدسا ، وإذا تم المقتضي فلا بدّ من انتفاء المانع ، والذي هو من قبيل الذهول والابتلاء الموجب لتشتّت الذهن.

ومع اتّضاح ذلك نقول : إنّ منشأ احتمال الاشتباه في موارد الإخبارات الحسيّة غالبا ما تكون ناشئة عن احتمال عروض المانع الموجب لعدم تأثير المقتضي لأثره ، أما المقتضي ـ وهو سلامة الحواس ـ فغالبا ما يكون محرز الوجود في المخبر عن حس.

وهذا بخلاف الإخبار عن حدس ، فإنّ احتمال الاشتباه يمكن أن يكون ناشئا عن عدم المقتضي ، أي عدم أهلية المخبر عن حدس ، ويمكن أن يكون ناشئا عن عروض المانع ، وهو ابتلاء المخبر عن حدس بتشتت الذهن أو الغفلة عن بعض المقدمات المؤثّرة في النتيجة التي وصل إليها وهكذا.

الخامس : إذا كان المركز الذي يحتمل أن يكون نشأ عنه الاشتباه واحدا فإنّ الإخبارات ـ سواء كانت حسيّة أو حدسيّة ـ لا يحصل منها القطع حتى وإن بلغت من الكثرة حدا كبيرا ، فلو أخبر عدد كبير من الناس أنّ حريقا نشب في بيت زيد ، واحتملت أن منشأ الإخبار هو رؤيتهم الدخان الكثيف المتصاعد من بيت زيد ، وكنت تعلم أنه لو كان هذا هو المنشأ للإخبارات لكان مضمون الخبر منافيا للواقع إذ أنّ في بيت زيد ـ ذلك اليوم ـ ضيوفا كثيرين ، وهو قد أشعل النار لطهي الطعام ، نعم من

٣٧٠

المحتمل أنّ بيت زيد قد احترق من جرّاء ذلك إلاّ أنّه لمّا كان من المحتمل أن يكون سبب الإخبارات هو ذلك المنشأ الخاطئ فإنّ القطع لا يحصل من هذه الإخبارات ، أي أن القيم الاحتمالية الناشئة عن كلّ خبر تكون ضعيفة فيكون نموّ الاحتمال وتصاعده بطيئا ، وهذا بخلاف ما لو كان المتلقي للخبر خالي الذهن أي لا يعلم أنّ لزيد ضيوفا ، فإنّ حصول اليقين من الإخبارات يكون سريعا.

ومع اتضاح هذا نقول : إن الإخبارات الحدسيّة كثيرا ما يكون المنشأ لها ذا مركز واحد ، فإذا ما كان المنشأ المحتمل اعتمادهم عليه خاطئا ، فإنّ احتمال المطابقة الناشئ عن كل خبر يكون ضعيفا ، ومن هنا يكون مسار الاحتمال إلى مرحلة اليقين أو الاطمئنان بطيئا.

وهذا ما نشاهده في النظريّات العلميّة التي تعتمد على مقدمة هذه المقدمة إذا كانت خاطئة فإنّ اتفاق العلماء على نتيجتها لا يصيّر هذه النتيجة قطعيّة ، فلو احتملنا أنّ منشأ تبني العلماء لهذه النتيجة هو تلك المقدّمة الخاطئة فإنّ نمو الاحتمال ووصوله إلى مرتبة القطع أو الاطمئنان بالنتيجة يكون بطيئا.

ويمكن التمثيل لذلك بنظريّة العقول الطوليّة والتي تبنّاها كثير من الفلاسفة ، فإنّ هذه النظرية لمّا كان مركز نشوئها هو قاعدة أنّ الواحد لا يصدر عنه إلا واحد ، فلو كنا نعلم بخطأ هذه المقدّمة في العلل الإراديّة فإنّ اليقين بصحة نظرية العقول الطولية لا يتحقق ، ولو كنا نحتمل أنّ منشأ هذه النظرية هو تلك المقدمة الخاطئة فإنّ مسار احتمال المطابقة إلى مرحلة اليقين يكون بطيئا.

٣٧١

ولما كانت الإخبارات الحدسيّة المتطابقة كثيرا ما تنشأ عن مقدمات ذات مركز واحد ، فإنّ نمو الاحتمال بصوابيّة هذه الإخبارات يكون بطيئا ويكون اشتباه تمام الإخبارات الحدسية معقولا جدا.

وهذا بخلافه في الإخبارات الحسيّة ، فإنّها كثيرا ما لا تكون ذات مركز واحد ، بل كلّ مخبر يخبر عما شاهده بواسطة حواسّه ، فالمخبرون عن حس وإن كانوا يتفاوتون من جهة قوة وضعف مداركهم الحسية ومؤهّلاتهم الشخصية إلا أنّ اختلاف هويّاتهم وأغراضهم يوجب الوثوق بتعدّد المركز الذي نشأت عنه الإخبارات وهذا ما يجعل سير الاحتمال للمطابقة متسارعا ومتصاعدا إلى أن يصل إلى مرحلة اليقين أو الاطمئنان.

ثم إن هناك عوامل تساهم في انخفاض مستوى احتمال عدم المطابقة للواقع في الإجماع ، ذكر المصنّف منها أربعة :

العامل الأول : وهو ما يتّصل بأشخاص المجمعين ، فإذا كان المجمعون من أساطين الفقهاء وممّن لهم تميّز علمي ، وكذلك إذا كانوا قريبين من عصر النصّ كفقهاء الغيبة الصغرى ، فإنّ احتمال الاشتباه في مثلهم أضعف من احتماله في غيرهم ممن هو غير متوفّر على إحدى هاتين الصفتين أو مجموعهما ، إذ أنّ المتميّز علميا لمّا كان أكثر إحاطة بالمقدمات المؤثرة في صوابيّة النتيجة فإنّ هذا يقتضي أقربية رأيه للواقع ، وكذلك القريب من زمن المعصوم عليه‌السلام فإنّ احتمال إطلاعه على كثير من المدارك التي عادة ما يخفى بعضها بتمادي الأزمان موجب لارتفاع احتمال صوابية ما يتبناه من رأي.

العامل الثاني : وهو ما يتصّل بنوعيّة المسألة ، فقد تكون من

٣٧٢

المسائل الابتلائيّة والّتي تتصل بأكثر المكلّفين ، فلو كان الواقع على خلاف ما تبنّاه المجمعون لشاع بين المكلّفين لافتراض كون المسألة ممّا تعم بها البلوى مع افتراض انتفاء ما يوجب خفاء الواقع كأن لم تكن المسألة ـ أيّا كان حكمها ـ منافية لمصالح من له القدرة على إخفاء الحقائق.

وذلك مثل قيام الإجماع على لزوم جعل الجانب الأيسر باتّجاه الكعبة المشرفة في الطواف ، فإنّه لو كان الحكم الواقعي منافيا لما عليه الإجماع لشاع بين المسلمين وذلك لكون المسألة ممّا تعم بها البلوى ومن البعيد جدا أن يجري جميع المسلمين على هذا الحكم دون أن يكون لهم مدرك شرعي على ذلك وليس هناك ما يوجب إخفاء الحكم الواقعي لو كان منافيا لما عليه الإجماع.

العامل الثالث : وهو ما يتّصل بالمبرز الصياغي للإجماع في مقام الاستدلال به على حكم شرعي ، إذ فرق بين إبراز الإجماع بنفي العلم بالخلاف وبين إبرازه بدعوى اتّفاق المسلمين ، فإنّ عدم الإطّلاع على المخالف ليس كإحراز تبنّي الجميع لمعقد الإجماع ، وكذلك إبراز الإجماع باتّفاق العلماء ليس كإبرازه باتّفاق الطائفة فإنّ الثاني يعبّر عن سعة دائرة المجمعين بشكل أوضح من تعبير الأوّل عن ذلك.

العامل الرابع : وهو ما يتّصل بمعقد الإجماع من حيث احتماله للمدركيّة وعدم احتماله لها ، ففي حال احتماله للمدركيّة وكون المدرك على افتراضه معتمد المجمعين غير تام يقتضي انخفاض مستوى احتمال الإصابة ، وهذا بخلاف ما لو لم يكن للإجماع مدرك محتمل فإنّ احتمال كونه تعبّديا ومتلقى من الشارع قريب جدا ، فلذلك قالوا إنّ الإجماع كلما كان منافيا

٣٧٣

للأصول والقواعد العامة كان أقرب للمطابقة للواقع ؛ إذ لا يحتمل له مدرك إلاّ التلقي من الشارع المقدّس بخلاف محتمل المدركيّة فإنّ احتمال كون المدرك هو معتمد المجمعين وارد جدا.

ثمّ إنّ الإجماع لمّا كان إحرازه القطعي للحكم الشرعي منوطا بحساب الاحتمالات فهذا يقتضي عدم تأثّره بوجود المخالف إذا لم يكن ذلك مضرا بمسار تضاؤل الاحتمال الناتج عن ضرب القيم الاحتماليّة والناشيء عن تكثر مفردات الإجماع وتطابقها ، وهذا يعني عدم وجود موضوعيّة للإجماع إذ أنّ الإجماع إذا كان يعني اتّفاق الجميع فهذا غير حاصل في موارد وجود المخالف ، ومع ذلك قد يتفق حصول اليقين من الإجماع الناقص إذا تضاءل الإحتمال إلى حدّ لا يعتدّ العقلاء بمثله عمليّا كما في الاطمئنان أو واقعيّا كما في اليقين ، وهذا يتفق في حالات كون المخالف ممن لا يعبأ بخلافه لبعد عصره مثلا عن زمن النص أو كونه لا يتميّز بمستوى علمي يوجب الاعتداد بخلافه.

ثمّ إنه لمّا لم تكن للإجماع موضوعيّة فهذا يوجب إمكان التوسّل بقرائن لا تتّصل بالإجماع لغرض الوصول إلى اليقين أو الاطمئنان ، ففي حالة كون الإجماع وحده غير كاف للوصول إلى اليقين فإنّه يمكن تجميع بعض القرائن وضمها إلى الإجماع للحصول على الإثبات القطعي للحكم المبحوث عنه.

٣٧٤

سيرة المتشرّعة

والفرق بين السيرة المتشرعيّة والسيرة العقلائيّة هو أن التباني على موقف في موارد السيرة المتشرعيّة يصدر عن المتشرّعة باعتبار كونهم متشرّعة وملتزمين بما يمليه عليهم الشارع المقدّس ، وهذا بخلاف السيرة العقلائيّة فهي تصدر عن العقلاء باعتبار كونهم عقلاء وملتزمين بمقتضى المرتكزات المبرّرة عقلائيا.

والذي يكشف عادة عن أنّ السيرة عقلائيّة أو متشرعيّة هو نوع الموقف الملتزم به ، فقد يكون الموقف ممّا يقتضيه الطبع العقلائي فالتباني عليه يكون سيرة عقلائية ، وهذا كالالتزام بمقتضى العقود ، وقد لا يكون الموقف الملتزم مناسبا لمقتضى الطبع العقلائي بل إنّ الالتزام به ـ لو لم يكن ناشئا عن الشارع ـ يعدّ سفهيّا كمسح الجبين وظاهر الكفين بما يعلق من تراب في التيمّم فإنّه لا يتعقل لهذا الالتزام مبرّر لو لم يكن ناشئا عن التعبّد الشرعي. وهذا النحو من الالتزام يكشف عن أنّ السيرة متشرعيّة.

ومن هنا يكون الفارق الدلالي بين السيرتين هو أنّ السيرة العقلائيّة تكون دلالتها على الحكم الشرعي منوطة بالإمضاء المنكشف عن السكوت. وأمّا السيرة المتشرعيّة فهي بنفسها كاشفة عن وجود دليل شرعي ، وهذا ما يجعلها مسانخة ـ بنحو ما ـ للإجماع ؛ إذ أنّ كلا منهما يعبّر عن وجود الدليل الشرعي بحساب الاحتمالات ، غاية ما في الأمر أنّ

٣٧٥

الإجماع يتشكل عن تطابق آراء الفقهاء بسبب التأمّل والنظر في المدارك المتّصلة بالحكم المبحوث عنه.

أمّا السيرة المتشرعيّة فهي سلوك عملي لا مبرّر له غالبا إلاّ التلقي عن الشارع المقدس ، وعادة ما يكون مدرك الإجماع ـ خصوصا إذا لم يكن مدركيّا أو محتمل المدركيّة هو السيرة المتشرّعيّة إذ أنّ الإجماع في غالب الأحيان يكشف بنحو الإن عن وجود تبان عملي مستوحى من الشارع ، وهذا التباني العملي المتشرّعي يكشف ـ وبحساب الاحتمالات ـ عن رواية معتبرة لم تصل إلينا وإنّما وصل إلينا أثرها بواسطة ما نجده من ارتكاز متغلغل في أذهان المتشرّعة ، عبّر عن ذلك الارتكاز سلوكهم العملي.

المبرّر لكون السيرة المتشرعيّة من وسائل الإثبات الوجداني :

والذي يبرّر كون السيرة من وسائل الإثبات الوجداني هو تضاؤل الاحتمال لعدم الإصابة للواقع بواسطة ضرب القيم الاحتماليّة في بعضها الناشئة عن ترسّخ صوابية الموقف العملي في ذهن كلّ واحد من الجمع الكبير من المتشرّعة ، وهذا ما يكشف عن وجود دليل شرعي مستوحى عن الشارع فيكون احتمال الغفلة عن التعرّف على الدليل الشرعي من المعصوم أو احتمال عدم فهم الصادر عن الشارع موهوما جدا ، إذ احتمال عدم استعلام الجميع لا يعتدّ به عند العقلاء لندرة اتفاق مثل هذه الحالة حيث إنّ من محتمل وجود عدد كبير من المتشرّعة ممن هو حريص على الاستعلام وفيهم من هو جيّد الفهم.

٣٧٦

الإحراز الوجداني للدليل الشرعي غير اللفظي :

من الواضح أنّ السيرة العقلائيّة كالسيرة المتشرعيّة من حيث أهليّتها لأن يثبت بها الحكم الشرعي بنحو القطع ، وقد قلنا إنّ السيرة العقلائيّة تتأهّل للدليليّة على الحكم الشرعي بركنين أساسيّين :

الأوّل : هو إحراز معاصرة السيرة لزمن المعصوم عليه‌السلام.

الثاني : الإمضاء من قبل المعصوم عليه‌السلام المنكشف عن السكوت.

ومن هنا نواجه مشكلة ، وهي أنّه كيف يمكن التعرّف على معاصرة السيرة للمعصوم عليه‌السلام ، والحال أنّ الفاصلة الزمنيّة بيننا وبين المعصوم عليه‌السلام كبيرة ، وهذا ما دعى الأعلام لطرح مجموعة من المحاولات لإثبات معاصرة السيرة المعاشة وجدانا لزمن المعصوم عليه‌السلام. وهذه المحاولات إذا تمّت فإنّه يمكن الاستفادة منها لإثبات معاصرة السيرة المتشرعيّة ـ الموجودة فعلا ـ لزمن المعصوم عليه‌السلام. والمحاولات كما يلي :

المحاولة الأولى :

إنّه لمّا كانت السيرة العقلائيّة ناشئة عن مرتكزات عقلائيّة متأصّلة وراسخة في جبلّة العقلاء بحيث يكون كلّ عاقل مهما كان موقعه التاريخي مجبولا عليها فإنّ ذلك يقتضي استبعاد تحوّل السيرة وانقلابها إلى الضد أو ما يقاربه ، وهذا يكشف عن أنّ السيرة المعاشة وجدانا لها امتداد تاريخي يتصل بزمن المعصوم عليه‌السلام.

والجواب : أنّ هذه المحاولة غير تامّة ، وذلك لفساد دعوى أنّ السيرة العقلائيّة دائما تكون ناشئة عن مرتكزات تقتضيها جبلّة كلّ عاقل ، إذ أنّ

٣٧٧

السيرة قد يكون بعضها ناشئا عن ذلك وقد تكون ناشئة عن مبرّرات أخرى تقتضيها طبيعة الثقافة السائدة في ذلك الزمن أو الظروف البيئيّة والاجتماعيّة أو ما إلى ذلك من المبرّرات الموجبة لانخلاق سيرة مناسبة لمبرّراتها. ومن الواضح أنّ مثل هذه المبرّرات ليس لها ثبات ، وهذا ما يقتضي تبدّل السير المتخلّقة عنها.

على أنّ التحوّل المستبعد في السير العقلائيّة إنّما هو التحوّل العشوائي والذي لا يخضع لضوابط يقتضيها نظام التركيبة الاجتماعية وما يحوطها من ظروف ، وهذا من قبيل التحوّل الفجائي إذ من المستبعد ـ إن لم يكن من المستحيل ـ انقلاب السيرة عمّا هي عليه مع انخفاظ مبرّراتها. أمّا التحوّل الناشئ عن تبدّل الظروف الاجتماعيّة والثقافيّة فهو غير مستبعد إذ من الطبيعي زوال السيرة بزوال مبرّراتها ، وهذا ما يتمّ عادة بنحو التدرّج ، إذ أنّ انسلاخ المجتمعات عن متبنياتها يحتاج إلى وقت. وبهذا يتّضح فشل هذه المحاولة.

المحاولة الثانية :

الاستعانة على إثبات معاصرة السيرة الفعليّة لزمن المعصوم عليه‌السلام بما هو مأثور في التاريخ سواء منه التاريخ العام ـ الذي يتكفّل ببيان أحوال المجتمعات الماضية والتي تتّصل بأنظمتهم وثقافتهم ومناهجهم المعتمدة في الحرب والسلم وأحوالهم الشخصيّة ومعاملاتهم اليوميّة والوسائل التي يتوسّلون بها للوصول إلى مراداتهم ـ أو المستفاد من المنقولات الخاصّة والتي تتّصل بالروايات الفقهيّة وما هي المسائل المثارة عند الرواة وكيفية تلقيهم لما يصدر عن الشارع المقدّس والطريقة المعتمدة عندهم في فهم

٣٧٨

الخطابات الشرعيّة ، وما هو السائد عند العامة من الفتاوى وبالأخص المتّصل منها بالمعاملات إذ هي التي يمكن أن يتصيّد منها ما هو مرتكز عقلائيا في تلك الحقبة الزمنيّة.

وهذه المحاولة لو تمّت من حيث إمكان الوقوف على السيرة العقلائية السائدة في زمن المعصوم عليه‌السلام فهي تحتاج إلى الاطمئنان بهذه المنقولات التاريخيّة العامة ، وكذلك بما يؤثر من روايات تتصل بالفقه ؛ نعم يمكن الاكتفاء بما يؤثر من روايات بالظنّ المعتبر إلاّ أنّ ذلك يخرج السيرة عن كونها من وسائل الإثبات الوجداني.

المحاولة الثالثة :

أن يلزم من عدم تطابق السيرة في زمن المعصوم عليه‌السلام لما عليه التباني العملي فعلا لازم ، هذا اللازم منفي بالوجدان. مثلا : لو كان المتبانى عليه فعلا هو الاكتفاء بالسعي بين الصفا والمروة دون وضوء فإننا لو أردنا أن نثبت أنّ ذلك هو المتبانى عليه عملا في زمن المعصوم عليه‌السلام فإنّه يمكن التوسّل بهذه المقدمات :

المقدّمة الأولى : أنّه لو افترض أنّ الجري العملي كان كذلك أي الاكتفاء بالسعي دون وضوء لكان ذلك كاشفا عن عدم اعتبار الوضوء في السعي ، ولذلك يمكن للجاهل أن يستغني بذلك عن السؤال. ومن هنا يكون عدم وصول الأسئلة والأجوبة عن هذه المسألة مبرّرا.

المقدّمة الثانية : أنّه لو افترض أنّ سلوك المتشرّعة كان على خلاف ذلك بحيث كانوا ملتزمين بالسعي عن وضوء فإنّ هذا لا يكشف عن اعتبار الوضوء في السعي ، إذ من الممكن جدا أن يلتزم المتشرّعة بما هو

٣٧٩

مستحب. ومن هنا يكون التعرّف على اعتبار الوضوء أو عدم اعتباره في السعي متوقفا على السؤال أو الوقوف على الروايات المتّصلة بهذه المسألة.

المقدّمة الثالثة : أنّه لمّا كانت هذه المسألة عامة البلوى ولا طريق للتعرّف عليها عن طريق السيرة المتشرعيّة ـ كما اتّضح من المقدّمة الثانية ـ فلا محالة تكون الأسئلة عنها كثيرة وبالتالي تكون الأجوبة كثيرة أيضا أو تكون الروايات الابتدائيّة المتصدّية لبيان حكم المسألة كثيرة.

المقدّمة الرابعة : ومع افتراض عدم وصول شيء من هذا القبيل ولو بشكل محدود رغم أنّ المقتضي للوصول موجود وليس هناك ما يستوجب عدم الوصول بعد افتراض كون المسألة أيّا كان حكمها ـ اعتبار الوضوء أو عدم اعتباره ـ لا تضرّ بمصالح من له القدرة على إخفاء الحقائق.

ومن هنا نستكشف تطابق السيرة المتشرّعيّة المنعقدة في زمن المعصوم عليه‌السلام لما عليه المتشرّعة فعلا من عدم الالتزام بالوضوء في السعي وإلاّ لو كانت السيرة على الالتزام بالوضوء للسعي لكثرت الأسئلة والأجوبة أو الروايات الابتدائيّة المتصدّية لبيان حكم المسألة بعد أن لم تكن تلك السيرة دالّة على اعتبار الوضوء أو عدم اعتباره وبعد أن كانت المسألة مما تعمّ بها البلوى وعدم وجود ما يقتضي اختفاؤها.

ومع اتضاح ما ذكرناه يتّضح أنّ هذه المحاولة إنّما تنفع في الكشف عن خصوص السير المتشرّعيّة لأنّها تفترض كون الجري العملي ـ الذي يراد استكشافه بهذه المحاولة ـ مما لا يقتضيه الطبع العقلائي إذ لو كانت السيرة التي يراد استكشافها هي سيرة عقلائيّة لاختلّت بعض المقدّمات كالمقدّمة الأولى والتي تفترض استكشاف عدم الوجوب من عدم الالتزام بالوضوء

٣٨٠