شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ١

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: ثامن الحجج
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٦٣
الجزء ١ الجزء ٢

قوله تعالى : ( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) (١) فاللام هنا مفيدة لتعيّن ما هو معهود في ذهن المخاطب من جرّاء قرائن معيّنة من قبيل أنّه لا نبي في زمن الخطاب إلا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المعهود ، وبهذا تكون اللام مشيرة إلى ما هو المتعيّن في الذهن.

وسمّي العهد الذهني بالخاص لأنّ المعهود في الذهن هو حصّة خاصّة من الطبيعي.

وأمّا النحو الرابع : للام التعريف ـ وهي اللام المفيدة للعهد الذهني العام ـ فهو ما إذا كان اسم الجنس بسعته معهودا في ذهن المخاطب نتيجة معرفة أصل وضعه مثلا أو نتيجة استعماله كثيرا عند أهل المحاورة في معناه السعيّ مما أوجب تعاهده في الذهن بهذا النحو من السعة ، وفي مثل هذه الحالة لو أدخلت لام التعريف على اسم الجنس ودلّت القرينة على أنّ هذه اللام هي لام الجنس فإنّ هذا يقتضي إفادة اللام للإشارة لما هو معهود ومتعيّن في الذهن من المعنى على سعته والناشئ عن ملابسات خاصة أوجبت تعيّنه وهي كما قلنا مثل معرفة أصل الوضع.

ويمكن التمثيل له بقوله تعالى : ( إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ) (٢) ، وقوله تعالى : ( وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى ) (٣) ، فإنّ اللام في مثل الإنسان تشير إلى ما هو معهود ومتعيّن في الذهن من معنى اسم الجنس على سعته.

إذا اتّضح ما ذكرناه فنقول : إنّ اسم الجنس المدخول للام التعريف له

__________________

(١) سورة الأحزاب : آية ٦

(٢) سورة العاديات : آية ٦

(٣) سورة آل عمران : آية ٣٦

٢٦١

الصلاحيّة لأن يعرض عليه الإطلاق إذا اكتنف استعماله بما يوجب ظهور حال المتكلّم في إرادة الإطلاق.

والإطلاق المناسب لاسم الجنس المدخول للام التعريف هو الإطلاق الشمولي القاضي باستيعاب اسم الجنس المعرّف باللام لتمام ما يصدق عليه من أفراد.

الحالة الثانية : لاسم الجنس هي أن يكون اسم الجنس منوّنا بتنوين التنكير ، وذلك مثل قوله تعالى : ( رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ ) (١) ، وقوله تعالى : ( لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ ) (٢) ، فإنّ اسم الجنس « مائدة وقبس » قد أضفي عليه معنى زائد على المعنى الموضوع له اسم الجنس بسبب تنوين التنكير ، وهذا المعنى هو قيد الوحدة فيكون اسم الجنس المنوّن بتنوين التنكير يدلّ على الطبيعة المقيّدة بالوحدة على نحو تعدّد الدالّ والمدلول ، فاسم الجنس دالّ على الطبيعة بما هي ، وتنوين التنكير دال على تقيّد الطبيعة بالوحدة ، فيكون اسم الجنس محتفظا بمعناه الموضوع له ويبقى صالحا للانطباق على أفراده ، وغاية ما يصنعه تنوين التنكير هو تقييد الطبيعة بقيد الوحدة والذي يقضي بإرادة أحد أفراد الطبيعة على نحو البدل دون أن يكون لتنوين التنكير أيّ دلالة على تعيين فرد من أفراد الطبيعة.

ومن هنا يتّضح أنّ اسم الجنس المنوّن بتنوين التنكير يصلح لأن

__________________

(١) سورة المائدة : آية ١١٤

(٢) سورة طه : آية ١٠

٢٦٢

يعرض عليه الإطلاق ، إلاّ أنّ الإطلاق المناسب للعروض عليه هو خصوص الإطلاق البدلي وذلك لمكان التنوين المفيد لقيد الوحدة ، فمثلا قوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ) (١) فإنّ اسم الجنس ( بقرة ) وإن كان موضوعا للطبيعة الصالحة للانطباق على أفرادها إلاّ أنّ تنوين التنكير أضفى عليها معنى زائدا ـ وهو قيد الوحدة ـ فأوجب ذلك عدم صلوح اسم الجنس لأن يعرض عليه الإطلاق الشمولي ؛ وذلك لأنّ الإطلاق الشمولي يعني الاستيعاب لتمام أفراد الطبيعة في عرض واحد وهو لا يناسب قيد الوحدة المفاد بواسطة تنوين التنكير ، إذ أنّ المناسب لقيد الوحدة هو الإطلاق بنحو العطف ( بأو ) فقوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ) (٢) في قوة أن يقول : ( يأمركم أن تذبحوا هذه البقرة أو هذه أو هذه ).

الحالة الثالثة : ـ لاسم الجنس ـ أن لا يكون معرّفا ولا منوّنا بتنوين التنكير كما لو كان منوّنا بتنوين التمكين أو مضافا.

والمراد من تنوين التمكين هو ما يعرض الأسماء المعربة لغرض تشخيصها عن الأسماء المبنيّة ، وليس لهذا النوع من التنوين أيّ معنى يمكن أن يضاف إلى المعنى الموضوع له اسم الجنس ، ويمكن أن يمثّل له بقوله عليه‌السلام : « من تزوّج امرأة لمالها وكلّه الله إليه » (٣) ، فإنّ التنوين في اسم الجنس ( امرأة ) هو تنوين التمكين بدليل أنّ العرف لا يفهم من اسم الجنس الواقع في

__________________

(١) سورة البقرة : آية ٦٧

(٢) سورة البقرة : آية ٦٧

(٣) وسائل الشيعة : الباب ١٤ من أبواب مقدّمات النكاح الحديث ٥

٢٦٣

هذه الجملة إلاّ معناه الموضوع له ، وهذا يعني أنّ التنوين لم يضف معنى زائدا على المعنى الموضوع له اسم الجنس ، ولو كان هذا التنوين هو تنوين التنكير لكان هذا يقتضي إضافة قيد الوحدة لمعنى اسم الجنس ، ويمكن أن نمثّل له أيضا بقوله تعالى : ( مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ) (١) فإنّ التنوين في اسم الجنس ( ليل ) هو تنوين التمكين بنفس التقريب السابق.

وبالجملة الذي يميّز تنوين التمكين عن تنوين التنكير هو سياق الجملة التي استعمل فيها اسم الجنس ، فإن كان التنوين في اسم الجنس مفيدا لمعنى زائد ـ هو قيد الوحدة ـ فهذا يعني أنّه تنوين التنكير وإن لم يضف أيّ معنى للمعنى الموضوع له اسم الجنس فهذا هو تنوين التمكين.

أمّا اسم الجنس العاري عن التعريف باللام وعن مطلق التنوين فإنّه لا يفيد أكثر من معناه الموضوع له كما هو الحال في المنوّن بتنوين التمكين ، ويمكن التمثيل له بقول الإمام علي عليه‌السلام : « من سلّ سيف البغي قتل به » (٢) ، ومحلّ الشاهد في هذه الرواية هو اسم الجنس ( سيف ) حيث وقع موقع المضاف.

ومع اتضاح هذه الحالة من حالات اسم الجنس يتّضح أيضا صلاحيّته لعروض الإطلاق الشمولي عليه ويمكن التمثيل لذلك بقوله تعالى : ( وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) (٣) ، فإنّ اسم الجنس

__________________

(١) سورة القصص : آية ٧٢

(٢) وسائل الشيعة : الباب ١٩ من أبواب أحكام العشرة الحديث ٧

(٣) سورة البقرة : آية ١٨٥

٢٦٤

( مريضا ) وكذلك ( سفر ) قد عرض عليهما الإطلاق الشمولي بعد أن دلّت قرينة الحكمة على عدم إرادة القيود حيث لم تذكر.

كما يمكن التمثيل لاسم الجنس الواقع موقع المضاف بالحديث النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « نهى رسول الله عن بيع الغرر » (١) بنفس التقريب.

الانصراف :

وهو عبارة عن انسباق بعض أفراد الطبيعة إلى الذهن عند إطلاق ما يدلّ على الطبيعة ، وذلك نتيجة عوامل خارجة عن أصل الوضع كأن تكون هذه الأفراد أجلى مصاديق تلك الطبيعة بنظر العرف أو تكون أكثر تداولا عند المخاطب أو تكون مستعملة كثيرا في خصوص هذه الأفراد أو يكون الموجب للانصراف هو غلبة الوجود لهذه الأفراد أو انعدام بعض الأفراد عند صدور الخطاب أو ندرتها أو تكون الأفراد المنصرف إليها هي القدر المتيقّن في مقام التخاطب كما لو كانت هذه الأفراد هي مورد السؤال الذي وقع جوابه مطلقا.

هذه بعض العوامل التي قد تساهم في انسباق الذهن إلى بعض أفراد الطبيعة عند إطلاق ما يدل عليها ، وقد ذكر المصنّف عاملين من هذه العوامل لغرض البحث عن صلاحيّتهما للمنع عن انعقاد الإطلاق وعدم صلاحيّتهما لذلك.

العامل الأوّل : هو غلبة وجود بعض أفراد الطبيعة في الخارج بحيث تكون هذه الغلبة موجبة لانسباق هذه الأفراد إلى الذهن عند إطلاق ما

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ٤٠ من أبواب آداب التجارة الحديث ٣

٢٦٥

يدلّ على الطبيعة باعتبارها القدر المتيقّن من الخارج.

ويمكن التمثيل له برواية الخصال عن الإمام الصادق عن أبيه عليهما‌السلام قال : « لا تحلّ الصدقة لبني هاشم » (١) فإن المنسبق بدوا عند إطلاق عنوان بني هاشم هم أولاد علي وفاطمة عليهما‌السلام ، وذلك لغلبة وجودهم خارجا بحيث أوجبت هذه الغلبة صيرورتهم القدر المتيقّن لعنوان بني هاشم ، إلاّ أنّ ذلك لا يوجب المنع عن انعقاد الظهور في الإطلاق وذلك لأنّ هذا الانصراف لم ينشأ عن علاقة بين هذه الأفراد من الطبيعة وبين اللفظ الدال على الطبيعة ، بل يبقى اللفظ محتفظا بصلاحيّته للدلالة على الطبيعة بسعتها ، وغاية ما أوجبته غلبة الوجود هو حصول الاستئناس الذهني بين واقع الطبيعة وبين بعض أفرادها دون أن يؤثّر ذلك على علاقة لفظ الطبيعة بمعناها الوسيع.

وبعبارة أخرى : لمّا كان الانصراف ناشئا عن مناسبات خاصة أوجبت تداعي معنى أفراد خاصّة من الطبيعة بمجرّد تصوّر الطبيعة ، فهذا يعني أنّ العلاقة الذهنيّة إنما هي بين هذه الأفراد وبين واقع الطبيعة وليس للّفظ أيّ مدخليّة في انقداح خصوص هذه الأفراد مما يعبّر عن أنّه لم يقع أيّ تصرّف في دلالة اللفظ على معناه ، وأنّ العلاقة الوضعيّة بينهما لا زالت صالحة للكشف عن المدلول الوضعي للفظ الطبيعة ، وإذا كان كذلك فالانصراف الحاصل حين إطلاق اللفظ إنما هو انصراف بدوي يزول بمجرّد الالتفات إلى أنّ العلاقة الوضعية بين اللفظ والطبيعة بمعناها السعي لا زالت

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ٢٢ من أبواب المستحقّين للزكاة الحديث ٧

٢٦٦

على حالها بحيث يمكن للمتكلّم أن يعتمد عليها لو أراد الإطلاق دون الحاجة إلى التوسّل بقرائن مفيدة لنفي القيود غير قرينة الحكمة فإمكان اعتماده على صلاحية اللفظ لعروض الإطلاق عليه دليل على عدم تأثير غلبة الوجود على العلاقة الوضعية بين لفظ الطبيعة ومعناها السعي.

العامل الثاني : هو كثرة استعمال اللفظ الدال على الطبيعة في بعض أفراده على نحو تعدّد الدال والمدلول بأن يأتي بالإضافة إلى لفظ الطبيعة بما يدل على إرادة بعض الأفراد فيكون هناك دالان ومدلولان ، فالدال الأول هو لفظ الطبيعة الموضوع لإفادة معنى الطبيعة ، والدال الثاني هو القيد الموجب لإفادة بعض أفراد الطبيعة دون غيرها.

ويمكن التمثيل له بقوله تعالى : ( يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ... ) ( إلى قوله ) ( وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ) (١) فإنّ عنوان أهل الكتاب يدلّ بحسب سعته اللفظية على كل من نزل عليهم كتاب من الله عزّ وجلّ ، فهو يشمل المسلمين إلا أنه كثر استعمال هذا العنوان مع القرينة ـ كما في الآية الشريفة ـ في اليهود والنصارى حتى صارت هذه الكثرة موجبة لانصراف الذهن إلى خصوص اليهود والنصارى عند إطلاق هذا العنوان حتى وإن كان مجردا عن القرينة.

إذا اتّضح هذا فنقول : إن كثرة الاستعمال الموجبة للانصراف يمكن تصنيفها إلى ثلاث مراتب.

المرتبة الأولى : أن تؤدي كثرة الاستعمال إلى نقل اللفظ من معناه

__________________

(١) سورة آل عمران : آية ٧١ ، ٧٢

٢٦٧

الموضوع له إلى خصوص الحصّة التي كثر استعمال اللفظ فيها بحيث تكون تلك الكثرة موجبة لهجران المعنى الأول.

وفي مثل هذه الحالة تكون الكثرة في الاستعمال مانعة عن انعقاد الظهور في الإطلاق ، بل إنّ الظهور يتحوّل إلى المعنى الثاني الذي كثر استعمال اللفظ فيه.

ويمكن التمثيل لهذه المرتبة من الكثرة بالمثال السابق وهو عنوان « أهل الكتاب » فإنّ كثرة استعماله في مثل اليهود والنصارى أوجب انتقال هذا اللفظ من معناه الوسيع إلى بعض حصصه.

المرتبة الثانية : أن تؤدي كثرة الاستعمال إلى نشوء وضع ثان للّفظ فيكون من قبيل المشتركات اللفظية ، وذلك بأن تكون كثرة الاستعمال موجبة لتحقّق وضع تعيّني للّفظ يكون بإزاء بعض أفراد الطبيعة.

وإذا كانت كذلك فلا يمكن استظهار أحد المعنيين إلاّ مع قيام القرينة الخاصة على إرادة أحدهما كما هو الحال في المشتركات اللفظية ، وقرينة الحكمة غير نافعة في المقام لإثبات الإطلاق وذلك لتقوّمهما بصلاحية اللفظ لعروض الإطلاق عليه ، ومن الواضح أنّ اللفظ بحسب الفرض يحتمل أن لا يكون صالحا لعروض الإطلاق عليه كما لو كان مستعملا في المعنى الثاني وهو الحصّة الخاصّة.

ويمكن التمثيل لهذه المرتبة بلفظ الدابّة فإنّها موضوعة بحسب سعتها اللفظية لمطلق ما يدبّ على الأرض ، إلاّ أنّ كثرة استعمال لفظ الدابّة في خصوص الخيل والبغال بحيث يمكن أن يدعى أنّ تلك الكثرة أوجبت نشوء وضع تعيّني ثان للفظ الدابّة.

٢٦٨

المرتبة الثالثة : وهي أن تكون كثرة الاستعمال مؤدّية إلى نشوء علاقة بين اللفظ وبين الحصّة الخاصة من معناه إلاّ أنّ هذه العلاقة لا تبلغ مرتبة النقل أو الاشتراك اللفظي ولكنّها من الوثاقة بحيث يمكن أن يعوّل عليها المتكلّم لو أراد التقييد دون الحاجة إلى إبراز قرينة على إرادة الحصّة الخاصّة.

وفي مثل هذه الحالة لا ينعقد أيضا ظهور في الإطلاق وذلك لأنّ قرينة الحكمة ـ كما ذكرنا ـ مبنيّة على إحراز عدم وجود قرينة على التقييد وفي المقام لا يمكن إحراز ذلك إذ أنّ كثرة الاستعمال وإن كنّا لا نحرز قرينيّتها على التقييد إلاّ أنها صالحة للقرينيّة فيكون ذلك موجبا لإجمال المراد وعدم انعقاد الظهور في الإطلاق أو التقييد.

الإطلاق المقامي :

الإطلاق الذي تحدّثنا عنه وقلنا إنّه متقوّم بقرينة الحكمة الدالّة على أنّ القيود التي لم يذكرها المتكلّم فهو لا يريدها ، هذا الإطلاق هو الإطلاق اللفظي الحكمي.

وهناك إطلاق آخر يعبّر عنه بالإطلاق المقامي ، وهو يختلف عن الإطلاق اللفظي الحكمي ؛ وذلك لأنّ الإطلاق اللفظي متقوّم بحيثيّتين :

الحيثيّة الأولى : هي أنّ المتكلّم بصدد جعل حكم على طبيعة يمكن أن يعرض علها التقييد ويمكن أن لا يعرض لها التقييد ، ومن الواضح أنّ المتكلّم إذا كان بصدد ذلك فهو يعني أنّه قد تصوّر الطبيعة التي يريد جعل الحكم عليها وتصوّر القيود التي يمكن أن تعرض عليها فإمّا أن يأخذ هذه القيود أو بعضها في الطبيعة التي يريد جعل الحكم عليها وإمّا أن يجعل

٢٦٩

الحكم على الطبيعة دون أن يقيدها بأيّ قيد من تلك القيود.

الحيثيّة الثانية : هي ظهور حال كلّ متكلّم يريد جعل حكم لموضوع أن يحدد الموضوع الذي يريد جعل الحكم له ، فكل قيد لم يذكره للموضوع في حال جعل الحكم عليه فهو يعني أنّه لا يريده ، ولو كان يريده لذكره في كلامه وإلاّ كان ناقضا لغرضه ، والحكيم لا ينقض غرضه ، وهذه هي قرينة الحكمة الموجبة لانعقاد الظهور في الإطلاق.

إذن كل متكلّم يريد جعل حكم لموضوع ، فإنّ ظاهر حاله أنّه في مقام بيان تمام موضوع حكمه ، فإذا لم يذكر أيّ قيد لذلك الموضوع فهذا يقتضي عدم إرادة أيّ قيد للموضوع الذي رتّب عليه الحكم.

فقرينة الحكمة وظيفتها نفي القيود المحتمل عروضها على الموضوع المترتّب عليه الحكم.

أمّا الإطلاق المقامي فليس من هذا القبيل إذ أنّ الغرض منه نفي موضوع مستقل عن أن يكون مشمولا لحكم من الأحكام.

ولمزيد من التوضيح نقول : إنّ المولى قد يكون بصدد بيان مركّب من المركّبات العباديّة فيعدد أجزاء وشرائط ذلك المركّب ، فلو شككنا بعد أن انتهى المولى من تعداد تلك الأجزاء والشرائط في وجود جزء أو شرط لهذا المركّب إلاّ أنّ المولى أهمله ولم يذكره ، ففي مثل هذه الحالة ينعقد ظهور يقتضي نفي وجود شرط أو جزء زائد على ما ذكره المولى ، وهذا ما يعبّر عنه بالإطلاق المقامي.

وبهذا يتّضح أن الإطلاق المقامي ينفي موضوعا مستقلا عن أن يكون مشمولا للمركّب العبادي ، إذ لو كان هذا الموضوع ـ المنفي بالإطلاق

٢٧٠

المقامي ـ ثابتا لكان موضوعا مستقلا للوجوب وذلك لأنّ المركّب العبادي ينحلّ ـ روحا ـ إلى مجموعة من الوجوبات بعدد الأجزاء والشرائط المأخوذة في ذلك المركّب ، فكل جزء أو شرط في المركّب العبادي فهو موضوع مستقل للوجوب ، وهذا بخلاف الإطلاق اللفظي ، فإنّ القيود التي ينفيها هذا الإطلاق لو كانت ثابتة لما كانت أكثر من قيد يوجب تضييق دائرة الموضوع ، فما ينفيه الإطلاق اللفظي إنّما هو قيود الموضوع الذي يجعل له الحكم ، والتي لا تصوّر لها ولا وجود لو لا وجود موضوعها.

أمّا المنفي بالإطلاق المقامي فلا صلة له بالموضوعات الأخرى التي تثبت أو لا تثبت للحكم ، فثبوت الوجوب لهذا الجزء أو عدم ثبوته لا صلة له بثبوت أو نفي الوجوب للجزء الآخر بل إنّ الحكم قد يثبت لهما معا وقد ينتفي عنهما معا ، وقد يثبت لأحدهما دون الآخر ، فإذا ثبت لأحدهما وانتفى عن الآخر ثبت لموضوع مستقل وانتفى عن موضوع آخر مستقل.

وبهذا البيان يتّضح أنّ الإطلاق المقامي ينفي وجود موضوع زائد للحكم الثابت للموضوعات المذكورة في كلام المتكلّم ، واتّضح أيضا مما ذكرناه أنّ الإطلاق المقامي لا ينعقد له ظهور إلا مع إحراز كون المتكلّم بصدد بيان تمام الموضوعات المجعول لها الحكم المذكور.

وبتعبير آخر : إذا أحرزنا أنّ المولى بصدد تعداد تمام الأجزاء والشرائط للمركّب العبادي فإنّ هذا الإحراز هو الموجب لانعقاد الظهور في نفي الأجزاء والشرائط التي لم يذكرها المولى.

ويمكن التمثيل لذلك بالوضوءات البيانيّة مثل رواية ميسر عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « ألا أحكي لكم وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم أخذ كفّا من

٢٧١

ماء فصبّها على وجهه ، ثم أخذ كفّا فصبّها على ذراعه ، ثم أخذ كفّا آخر فصبّها على ذراعه الأخرى ، ثم مسح رأسه وقدميه ... » (١) ، فقوله عليه‌السلام : ( ألا أحكي لكم وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) قرينة على أنّ الإمام عليه‌السلام في صدد تعداد الأجزاء لهذا المركب ، ومع إحراز ذلك ينعقد ظهور في الإطلاق المقامي القاضي بنفي وجوب جزء آخر لم يذكره الإمام عليه‌السلام ، فلو احتملنا وجوب غسل الأذن فإن الإطلاق المقامي ينفي ذلك الوجوب ، أو قل ينفي جزئيّة غسل الأذن لهذا المركّب؟ وذلك لأن غسل الأذن لو كان جزءا لهذا المركّب لكان على الإمام عليه‌السلام أن يذكره ، فعدم ذكره ـ مع أنه جزء للمركّب ـ ينافي كون الإمام في صدد تعداد جميع أجزاء هذا المركّب.

وبهذا المثال يتّضح كلّ ما ذكرناه آنفا ، حيث قلنا : إن الإطلاق المقامي ينفي موضوعا مستقلا عن الموضوعات الثابت لها الحكم في كلام المتكلّم إذ أن جزئية غسل الأذن لو كانت ثابتة لكانت موضوعا مستقلا عن بقيّة الأجزاء المذكورة في كلام الإمام عليه‌السلام ، فحينما نفى الإطلاق المقامي جزئيّته فقد نفى موضوعا مستقلا ولم ينف قيدا لموضوع ثبت له الحكم كما هو الحال في الإطلاق اللفظي.

وكذلك اتّضح أنّ الإطلاق المقامي إنما ينعقد له ظهور في حال وجود قرينة خاصّة على أن المتكلّم بصدد تعداد تمام الموضوعات الثابت لها الحكم المذكور في كلامه ، إذ أنّ قول الإمام عليه‌السلام ( ألا أحكي لكم وضوء رسول

__________________

(١) وسائل الشيعة : الباب ١٥ من أبواب الوضوء الحديث ٩ ، والظاهر أنّ ميسر في الرواية هو ميسر بن عبد العزيز المدائني ، وبذلك تكون الرواية معتبرة

٢٧٢

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) يشكّل قرينة على أنّ الامام بصدد ذلك.

وبهذا اتّضح أن الإطلاق المقامي قوامه قرينة خاصّة على أنّ المتكلّم بصدد تعداد تمام موضوعات حكم من الأحكام ، ووظيفته نفي موضوع مستقل عن أن يكون مشمولا للحكم المذكور في كلام المتكلّم.

ولهذا فهو يختلف عن الإطلاق اللفظي اختلافا جوهريّا ، إذ أن قوام الإطلاق اللفظي هو قرينة الحكمة ووظيفته هي نفي القيود غير المذكورة عن الموضوع الثابت له الحكم في كلام المتكلّم.

بعض التطبيقات لقرينة الحكمة :

ذكر المصنّف رحمه‌الله في المقام موردين من موارد انعقاد الظهور في الإطلاق بواسطة قرينة الحكمة.

المورد الأوّل :

وهو التمسك بقرينة الحكمة لاستظهار الوجوب من الأوامر.

وبيان ذلك : أن الأمر كما ذكرنا ظاهر في الطلب الوجوبي ، وهذا لا إشكال فيه وانّما الإشكال فيما هو المنشأ في انعقاد ظهور الأمر في الطلب الوجوبي ، فقد ذكر البعض أن منشأ ذلك هو الوضع ، وذكر آخرون أن المنشأ لظهور الأمر في الطلب الوجوبي هو الإطلاق وقرينة الحكمة ؛ وذلك لأن لفظ الأمر موضوع لطبيعة الطلب ، والوجوب والاستحباب خارجان عما هو موضوع له لفظ الأمر ، نعم قد يعرض أحدهما على الطبيعة « الطلب » ولكن ذلك لا يثبت إلا بدالّ آخر غير لفظ الأمر ، وإذا كان كذلك فالدالّ على الاستحباب يتمّ بقرينة خاصة ، وأما الدالّ على الوجوب

٢٧٣

فيثبت بواسطة قرينة الحكمة ؛ وذلك لأنّ الاستحباب مشتمل على مؤنة زائدة على مفهوم الطلب ، إذ أنه يعنى تقييد الطلب بقيد وهو الترخيص في الترك ، ومن الواضح أن هذا القيد يحتاج إلى بيان زائد على بيان أصل الطلب ، فإذا لم يذكر هذا القيد في الكلام رغم أن المتكلّم في مقام بيان تمام موضوع حكمه فهذا يقتضي انعقاد ظهور لحال المتكلّم في عدم إرادة ذلك القيد الموجب للاستحباب.

وبذلك يتعيّن الوجوب لأنه لا يعني أكثر من أن الطبيعة غير مقيّدة بالترخيص في الترك ، وقد ثبت عدم تقيدها بذلك ببركة قرينة الحكمة.

المورد الثاني :

التمسك بقرينة الحكمة لاستظهار النفسية التعيينيّة العينيّة للطلب.

وقبل بيان ذلك لا بدّ من بيان مقدّمة نذكر فيها ما ينقسم عليه الطلب ، فنقول :

يمكن تقسيمه إلى ثلاثة تقسيمات :

الأول : انقسامه إلى الطلب النفسي ، والطلب الغيري :

أمّا الطلب النفسي : فهو ما كان متعلّق الطلب مطلوبا لنفسه لكونه هو المشتمل على الملاك الموجب لطلبه ، وذلك مثل : ( الصلاة ) حيث إنّ منشأ طلبها هو اشتمالها على مصلحة أوجبت جعل الطلب عليها.

أمّا الطلب الغيري : فهو ما كان متعلّق الطلب غير مطلوب لنفسه لعدم اشتماله على ملاك يوجب جعل الطلب عليه استقلالا ومباشرة ، ولكن لمّا كان هذا المتعلّق صالحا للتوسّل به إلى المطلوب الأصلي فإنّ ذلك هو الذي أوجب جعل الطلب عليه ، وذلك مثل السفر لأداء مناسك الحج فإنّ السفر

٢٧٤

ليس مطلوبا بنفسه للمولى لكنّه لمّا لم يكن بالإمكان أداء مناسك الحج دون السفر إلى مكّة المكرّمة فإنّ ذلك يسبّب تعلّق الإرادة والطلب بالسفر ، وإلاّ فالسفر في حدّ نفسه غير مطلوب للمولى.

الثاني : انقسامه إلى الطلب التعييني ، والطلب التخييري :

أمّا الطلب التعييني : فهو ما كان متعلّق الطلب واحدا بحيث لا يقوم شيء مقامه في تحقيق الغرض ، بل إنّ تحقق الغرض منحصر بالإتيان بهذا المتعلّق ، وذلك مثل : ( الصلاة ) حيث لا يحقّق الغرض الذي أوجب جعلها شيء آخر غير الإتيان بها.

أمّا الطلب التخييري : فهو ما كان متعلّق الطلب عدّة أشياء بحيث يكون واحد منها محقّقا للغرض من جعل الطلب.

وبعبارة أخرى هو ما كان المطلوب فيه أحد أشياء على سبيل البدل بحيث يكون امتثال أحدها كافيا في تحقق المطلوب ، ويمكن التمثيل له بخصال كفارة التخيير فإنّ المطلوب يتحقق بمجرّد إيجاد أحد خصال الكفارة.

الثالث : انقسامه إلى الطلب العيني ، والطلب الكفائي :

أمّا الطلب العيني : فهو ما كان الغرض فيه متعلّقا بامتثال نفس المكلّف بحيث لا يكون امتثال غيره موجبا لسقوطه عن المكلّف الذي تعلّق الطلب بعهدته.

وبعبارة أخرى : هو ما كان المطلوب فيه مباشرة المكلّف للامتثال بنفسه ، ولا يكون امتثال الآخرين كافيا لتحقق الغرض وسقوط الأمر المتوجّه لذلك المكلّف ، ومثاله : ( صوم شهر رمضان المبارك ) فإنّ غرض

٢٧٥

المولى فيه لا يتحقّق إلا بأن يباشر المكلّف الصوم بنفسه.

وأمّا الطلب الكفائي : فهو ما كان المطلوب المولوي فيه هو تحقّق المأمور به خارجا دون أن يكون للمولى أيّ غرض في امتثال مكلّف بعينه.

وبعبارة أخرى : الطلب الكفائي هو ما كان الخطاب فيه متوجّها لكافة المكلّفين إلاّ أنّ امتثال أحدهم موجب لسقوطه عن البقيّة ، وذلك مثل : دفن الميّت المسلم ، فإنّ الأمر بدفن الميّت متوجّه لكل مكلّف إلاّ أنّ امتثال أحدهم موجب لسقوطه.

ومع اتّضاح هذه المقدّمة يقع الكلام فيما هو منشأ استظهار النفسيّة والتعيينيّة والعينيّة من الطلب حين عدم القرينة على الخلاف ، فنقول :

أمّا استظهار النفسيّة فيتم بهذا التقريب ، وهو : أنّ إثبات النفسيّة للطلب لا يحتاج إلى بيان زائد على ذكر ما يدل على الطلب ، إذ أنّ طبع كل طلب أن يكون متعلّقه مطلوبا بنفسه ، وهذا بخلاف الطلب الغيري ، فإنّ إثباته يحتاج إلى بيان زائد عن ذكر الطلب ، إذ أنّ مطلوبيّته منوطة بمطلوبيّة ما وجب لأجله ، ومن هنا يحتاج الطلب الغيري إلى ذكر قيد وهو كون الواجب الذي وجب الغيريّ لأجله مطلوبا ، فإذا لم يذكر القيد رغم أنّ المتكلّم في مقام بيان تمام موضوع حكمه ، فهذا يوجب ظهور حال المتكلّم في عدم إرادة القيد ، وإذا لم يكن القيد مرادا فهذا يقتضي النفسيّة إذ أنّ ثبوتها ليس معلّقا على شيء من القيود.

وبهذا تثبت النفسيّة بواسطة الإطلاق وقرينة الحكمة.

وبتعبير آخر : لمّا كانت النفسيّة غير معلّقة على أي قيد ، وكانت

٢٧٦

الغيريّة معلّقة على مطلوبيّة الغير ، فهذا يعني أنّ إرادة الغيريّة تستوجب ذكر القيد المعلّق ثبوتها عليه ، ومع عدم ذكر القيد يستكشف عدم إرادته إذ المفترض أنّ المتكلّم في مقام البيان ، ومع استظهار عدم إرادة القيد تتعيّن النفسيّة إذ أنّ هذا هو مقتضى الإطلاق الذي يعني عدم لحاظ القيد.

وأمّا استظهار التعيينيّة وكذلك العينيّة ، فيتّضح مما ذكرناه في استظهار النفسية ، وذلك أنّ الطلب التخييري يحتاج إلى بيان زائد على الطلب وهو التقييد بعدم امتثال البدل ، وكذلك الطلب الكفائي فإنّه يستوجب التقييد بعدم امتثال مكلّف آخر للطلب ، فمع عدم ذكر القيد يستظهر الإطلاق والذي يقتضي التعيينيّة العينيّة ، إذ أنّ ثبوتهما لا يحتاج إلى بيان زائد على ذكر أصل الطلب.

٢٧٧
٢٧٨

العموم

تعريف العموم :

المراد من العموم هو : الاستيعاب المفاد بالوضع ، فلو قال المتكلّم ( أكرم كل عالم ) فإنّ لفظ كلّ عالم يستوعب كل فرد من أفراد طبيعة العالم ، وهذا الاستيعاب لتمام أفراد الطبيعة استفيد من وضع لفظ كل بإزاء مفهوم الاستيعاب ، فكل مفيدة لاستيعاب مدخولها بواسطة الوضع ، وهذا بخلاف الإطلاق فإنّه وإن كان يفيد الاستيعاب لجميع أفراد الطبيعة إلاّ أنّ الدال على الاستيعاب إنّما هو قرينة الحكمة ، فحينما يقول المتكلّم ( أكرم العالم ) فإنّ لفظ العالم يشمل ويستوعب جميع أفراد طبيعة العالم إلاّ أنّ هذا الاستيعاب والشمول استفيد بواسطة قرينة الحكمة والتي تعني ظهور حال المتكلّم في عدم إرادة القيد الموجب لتضييق دائرة الطبيعة.

فكلّ من الإطلاق والعموم يوجبان انحلال الحكم إلى أحكام بعدد أفراد الطبيعة المجعول لها ذلك الحكم ، إلاّ أنّ ما أوجب الانحلال في الإطلاق هو قرينة الحكمة ، وما أوجب الانحلال في العموم هو الوضع ، فحينما يقول المتكلّم ( أكرم كلّ عالم ) تنحلّ هذه القضية إلى قضايا بعدد أفراد الطبيعة المجعول لها الحكم ، فيكون موضوع كل قضية فرد من أفراد طبيعة العالم ، ويكون محمولها وجوب الإكرام ، وهذا الانحلال استفيد بواسطة وضع لفظ

٢٧٩

( كل ) للاستيعاب والشمول.

وكذلك الكلام لو قال المتكلّم ( أكرم العالم ) فإن هذه القضية تنحلّ إلى قضايا بعدد أفراد طبيعة العالم ، ويكون محمول هذه القضايا هو وجوب الإكرام ، إلا أن هذا الانحلال استفيد بواسطة أنّ المتكلّم لم يذكر أيّ قيد للطبيعة في حين أنّه في مقام بيان تمام موضوع الحكم ، مما يكشف عن عدم إرادة القيد ، وبهذا تكون الطبيعة على سعتها مشمولة للحكم.

وبما ذكرناه من معنى العموم يتّضح خروج أسماء الأعداد عن العموم ، فإنّ أسماء الأعداد وإن كانت مستوعبة لوحداتها إلا أن ذلك هو مقتضى طبع اسم العدد ، فليس الاستيعاب مستفادا من وضع اسم العدد لذلك ، وإنما هو موضوع لمعناه ، والاستيعاب فيه إنما هو أثر تكويني له أو قل لازم ذاتي له ، فكما أن الزوجيّة أو الفردية أثر تكويني ولازم ذاتي لاسم العدد ، فكذلك الاستيعاب لوحداته.

ويمكن تنظير الاستيعاب لاسم العدد بالحرارة للنار ، فكما أنّ النار ليست موضوعة لإفادة معنى الحرارة وإنما الحرارة لازم ذاتي للنار فكذلك الاستيعاب بالنسبة لاسم العدد.

فمثلا العدد عشرة يدلّ على مرتبة من مراتب الأعداد ، هذه المرتبة هي المتكوّنة من مجموعة من الأعداد الفردية تساوي عشر وحدات ، هذا ما وضع له لفظ العشرة ، وأما انقسامه إلى متساويين ووقوعه بين مرتبتين من مراتب العدد ، وكذلك استحالة انقسامه على الثلاثة بدون كسر فهذا ما يقتضيه واقع العدد عشرة وليس هو من المدلولات الوضعيّة للفظ العشرة ، وبهذا يتّضح أن استيعاب اسم العدد عشرة لوحداته ليس هو من مدلولات

٢٨٠