شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ١

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: ثامن الحجج
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٦٣
الجزء ١ الجزء ٢

الإطلاق

ويقع البحث في جهات :

الجهة الأولى : في تحديد معنى الإطلاق :

الإطلاق بحسب مدلوله اللغوي يعني الإرسال بحيث يكون المطلق في سعة وفسحة ، فحينما يقال دابّة مطلقة فهذا يعني أنّها مرسلة وغير معقولة بعقال يمنعها عن الاسترسال في الحركة ، وكذلك حينما يقال أطلق الرجل عنان دابّته أي رفع عنها القيد المانع لها عن الاسترسال.

وهذا المعنى اللغوي للإطلاق لا يختلف كثيرا عن معناه في مصطلح الأصوليّين بل إنّ كلّ التعاريف المذكورة للإطلاق تحوم في حمى المعنى اللغوي ، وهذا واضح لمن تأمّل في التعاريف التي ذكروها للإطلاق.

وكيف كان فقد عرّف المصنّف رحمه‌الله الإطلاق بما يقابل التقييد ، ولمّا أن كان المراد من التقييد هو ملاحظة موضوع الحكم أو متعلّقه مكتنفا بقيد أو قيود موجبة لتضييق دائرة الموضوع أو المتعلّق فالإطلاق هو عدم ملاحظة تلك القيود.

فموضوع الحكم مثلا في كلّ من التقييد والإطلاق واحد غايته أنّ التقييد يضيف للموضوع قيودا زائدة توجب تضيّقه ، وهذا بخلاف الإطلاق

٢٤١

حيث إنّ الموضوع معه يكون عاريا عن كل قيد حتى لحاظ عدم القيد إذ أنّ لحاظ عدم القيد قيد ، في حين أنّه قد افترضناه عاريا عن كل قيد.

وبهذا يصحّ أن يقال إنّ الإطلاق هو عدم لحاظ القيد للطبيعة الواقعة موضوعا أو متعلّقا لحكم من الأحكام ، فالحكم قد جعل في حالات الإطلاق على الطبيعة المجرّدة عن كل القيود ، وهذا هو معنى أنّ الإطلاق من سنخ الأمور العدميّة إذ أنّ معناه عدم اللحاظ للقيد فكأنّ المطلق ـ بصيغة الفاعل ـ لم يلاحظ القيود من رأس ، وإنما جعل الحكم على الطبيعة المجرّدة دون أن يكون له التفات إلى القيود حتى يثبتها أو ينفيها إذ أنّ إثبات القيد أو نفيه هو معنى التقييد ، فإنّ نفي القيد معناه أنّ الطبيعة ـ الواقعة موضوعا أو متعلّقا للحكم ـ مقيدة بعدم القيد وبه لا يكون موضوع الحكم هو الطبيعة المجرّدة ، فحينما يقول المولى : « الميتة بشرط عدم الاضطرار والإكراه حرام » فإنّ المجعول عليه الحرمة في المثال ليس هو الطبيعة المجرّدة والمرسلة بل هي الطبيعة المقيّدة بعدم هذه القيود.

وبعبارة أخرى : إن الطبيعة المجعول عليها الحرمة ليست هي الميتة بما هي بل هي حصّة خاصّة من الميتة وهي الميتة المتّصفة بعدم الاضطرار والإكراه.

والمتحصّل ممّا ذكرنا أن الإطلاق يقابل التقييد تقابل التناقض حيث قلنا أنّ التقييد هو لحاظ القيود في مقام جعل الحكم على موضوعه أو متعلّقه ، والإطلاق هو عدم لحاظ القيود بل يكون الحكم مجعولا على الطبيعة المجرّدة عن القيود.

فالتقابل بين لحاظ القيد وعدم لحاظ هو تقابل التناقض كما هو

٢٤٢

واضح.

إذا اتّضح معنى الاطلاق ومعنى التقييد نقول : إنّ الإطلاق يمكن تصوّره في الموضوع كما يمكن تصوّره في المتعلّق ، وكذلك التقييد يمكن تصوّره في الموضوع والمتعلّق ، ومن أجل أن يتّضح المطلب نذكر لكل صورة من هذه الصور الأربع مثالا :

الصورة الأولى : الإطلاق في الموضوع : ومثاله قوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ) (١) ، فالميتة هي موضوع الحرمة في الآية الشريفة ، وتلاحظون أن الحكم قد جعل على الطبيعة المرسلة والمجرّدة عن القيود إذ لم يلحظ معها أيّ قيد ، أي أنّ مصبّ النظر في الآية الشريفة مقتصر على طبيعة الميتة بما هي.

الصورة الثانية : الإطلاق في المتعلّق : ومثاله « أكرم العلماء » فإنّ الإكرام هو متعلّق الوجوب الثابت بصيغة الأمر ، وتلاحظون أن متعلّق الحكم هو طبيعة الإكرام العاري عن تمام القيود ولذلك فهي تصدّق على كل أنحاء الإكرام.

الصورة الثالثة : التقييد في الموضوع :ويمكن التمثيل له بقوله تعالى : ( وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ ) (٢) فإن الموضوع للحرمة في الآية الشريفة هو طبيعي المال ولكن بإضافة قيد وهو اليتيم.

الصورة الرابعة : التقييد في المتعلّق : ومثاله أيضا قوله تعالى :

__________________

(١) سورة المائدة : آية ٣

(٢) سورة الانعام : آية ١٥٢

٢٤٣

( وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (١) فالمتعلّق للحرمة في الآية الشريفة هي طبيعي التصرّف في مال اليتيم ولكن لوحظ مع هذه الطبيعة قيد زائد وهو المستفاد من قوله تعالى : ( إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) إذ أنّ هذا تقييد لمتعلّق الحرمة فكأنّه قال : أنهاكم عن التصرّف بغير حق ، فـ « بغير حق » قيّد به التصرّف الذي هو متعلّق النهي في الآية الشريفة.

الجهة الثانية : هل الإطلاق مستفاد من الوضع أو من دالّ آخر؟

ويتحدّد الجواب عن هذا السؤال بتحديد ما هو الموضوع لألفاظ المفاهيم الواقعة موضوعا أو متعلّقا للأحكام ، فإذا قلنا إنّ ألفاظ المفاهيم موضوعة للطبايع بما هي دون أن يكون الإطلاق والتقييد دخيلا فيما هو الموضوع لها فهذا يعني أنّ الإطلاق غير مستفاد من الوضع ، وإذا قلنا إنّ ألفاظ المفاهيم موضوعة للطبايع بنحو الإطلاق فهذا يعني أنّ الإطلاق مستفاد من الوضع ، مثلا لو قلنا إنّ لفظ الإنسان أو لفظ الإكرام موضوعان لطبيعة الإنسان بما هي ولطبيعة الإكرام بما هو دون أن يلحظ مع هذه الطبيعة شيء آخر فهذا يعني أنّ الإطلاق كالتقييد يعرضان على الطبيعة وليس للفظ الإنسان أو للفظ الإكرام أيّ دلالة عليهما وإنّما يستفادان من دالّ آخر ، فحينما يقال : « أكرم الإنسان » فإنّ هنا مدلولين ، الأول طبيعة الإنسان والآخر الإطلاق ، والمدلول الأوّل مستفاد من لفظ الإنسان والمدلول الثاني مستفاد من دال آخر غير مفهوم الإنسان كما هو الحال في

__________________

(١) سورة الانعام : آية ١٥٢

٢٤٤

التقييد ، فحينما يقال : « أكرم الإنسان العالم » فإنّ مفهوم الإنسان أفاد معنى الطبيعة بما هي ، والعالم أفاد التقييد على نحو تعدد الدال والمدلول.

وهذا بخلاف ما لو قلنا إنّ لفظ الإنسان موضوع للطبيعة المطلقة فإنّ الإطلاق حينئذ مستفاد من نفس لفظ الإنسان ولا نحتاج إلى دالّ آخر لإفادته ، وبه يكون استعمال لفظ الإنسان في خصوص العالم استعمالا مجازيّا لأنّه استعمال في غير ما وضع له لفظ الإنسان ؛ إذ أنّه وضع للطبيعة المطلقة وقد استعمل في الطبيعة المقيّدة بالعالميّة.

الثمرة المترتّبة على ما هو الدالّ على الإطلاق :

ويترتّب على الخلاف فيما هو الدال على الإطلاق ثمرتان :

الثمرة الأولى : وقد أشرنا إليها فيما سبق ونذكرها لمزيد من التوضيح وهي أنّه بناء على أنّ ألفاظ المفاهيم موضوعة للطبايع بما هي فهذا يعني عدم وجود أيّ تجوّز في استعمال اللفظ الدال على الطبيعة في المقيّد بنحو يكون الدالّ على القيد لفظا آخر ، فيكون لفظ المفهوم محتفظا بمعناه وهو الطبيعة بما هي والقيد مستفاد من لفظ آخر على نحو تعدّد الدالّ والمدلول.

وأمّا بناء على أنّ ألفاظ المفاهيم موضوعة للطبايع المطلقة ، فهذا يعني أنّ استعمال ألفاظ المفاهيم وإرادة الطبايع المقيّدة استعمال مجازي إذ أنّه استعمال في غير ما وضعت له ألفاظ المفاهيم.

الثمرة الثانية : لو استعمل لفظ من ألفاظ المفاهيم في قضية من القضايا ولم ندر أنّه استعمل في الطبيعة المطلقة أو في حصة خاصة منها ، فإنّه بناء على القول الأول لا يمكن تحديد ما هو المراد من هذا اللفظ بواسطة

٢٤٥

الوضع إذ أنّ الوضع بناء على هذا القول لا يدلّ على أكثر من الطبيعة بما هي ، والإطلاق والتقييد أمران يعرضان عليها فنحتاج لإثبات أحدهما إلى دالّ آخر غير اللفظ الدال على الطبيعة.

وأمّا بناء على القول الثاني فإنّه في مثل هذا الفرض نحمل اللفظ على الطبيعة المطلقة إذ أنّه هو المعنى الموضوع له لفظ المفهوم حيث قلنا إنّ الإطلاق قد أخذ في المعنى المدلول عليه بلفظ المفهوم.

وبهذا تكون الدلالة الوضعيّة التصوّرية للفظ المفهوم هي الطبيعة المطلقة ومنه نحرز أنّ المتكلّم أراد من لفظ المفهوم الطبيعة المطلقة وذلك لقاعدة احترازية القيود.

الجهة الثالثة : الصحيح من القولين بنظر المصنّف رحمه‌الله :

وقد استوجه المصنّف رحمه‌الله من هذين القولين القول الأول القاضي بكون ألفاظ المفاهيم موضوعة للطبايع بما هي دون أن يكون لهذه الألفاظ دلالة على الإطلاق.

واستدلّ على ذلك بما عليه أهل المحاورة وبما هو المتفاهم عندهم من عدم عدّ استعمال لفظ المفهوم في الحصّة الخاصّة ـ على سبيل تعدّد الدال والمدلول ـ مجازا مما يكشف عن أنّ الموضوع له لفظ المفهوم هو الطبيعة فحسب دون أن تكون له دلالة على الإطلاق بالإضافة للطبيعة.

قرينة الحكمة : وبعد أن لم يكن الوضع دالا على الإطلاق يقع الكلام عمّا هو الدالّ على الإطلاق فنقول : إنّ الإطلاق ـ كما ذكرنا ـ هو عدم لحاظ القيود في الموضوع الذي يراد جعل الحكم له وإذا كان كذلك ففي

٢٤٦

كل مورد لا يذكر فيه المتكلّم أيّ قيد للموضوع المجعول عليه الحكم رغم أنّ المتكلّم في مقام بيان تمام غرضه ، وليس هناك مانع يمنعه عن بيان تمام مراده ، فهذا يعني أنّ الحكم قد جعل على الموضوع المطلق والمجرّد عن تمام القيود ، ولو لم يكن كذلك لذكر القيود المضيّقة لدائرة الموضوع ، وإلاّ لكان ذلك خلف كون المتكلّم في مقام البيان لتمام غرضه والذي استفدناه من ظهور حال كلّ متكلّم وأنّه يبيّن تمام مراده.

وبهذا يتّضح أنّ الإطلاق مستفاد من ظهور حال كلّ متكلّم في أنّ ما ذكره هو تمام مراده وأنّ الذي لم يذكره في كلامه فهو غير مراد له إذ أنّه لو كان مرادا لذكره ، فعدم ذكره له كاشف عن عدم إرادته ، إذ لو كان مريدا له ولم يذكره لكان ذلك نقضا للغرض ، والحكيم لا ينقض غرضه.

وبهذا البيان ـ المعبّر عنه بقرينة الحكمة ـ ينعقد الظهور للإطلاق.

ولمزيد من التوضيح نقول : إنّ الدالّ على الإطلاق هو قرينة الحكمة وهي تعني ظهور حال المتكلّم في عدم إرادة القيود التي لم يذكرها في كلامه.

ومنشأ هذا الظهور هو مجموعة من المقدمات ينعقد عن ترتيبها هذا الظهور الحالي السياقي وهذه المقدّمات هي :

أولا : افتراض الموضوع ـ الذي جعل المتكلّم له الحكم ـ مجرّدا عن أيّ قيد.

ثانيا : افتراض عدم وجود مانع يمنع عن بيان تمام المراد من تقيّة أو نحوها.

ثالثا : إنّ الأصل في كلّ متكلّم أن يكون في مقام بيان تمام أغراضه.

رابعا : إنّ كلّ متكلّم عاقل إذا تعلّق غرضه بشيء يسعى لتحقيق

٢٤٧

غرضه.

خامسا : إنّ عدم السعي لتحقيق الغرض نقض للغرض.

سادسا : إنّ الحكيم لا ينقض غرضه ولا يسمح بفوات وتضييع مراداته.

سابعا : إنّ عدم ذكر القيد مع عدم إرادته نقض للغرض وتفويت للمصالح المرادة كما أنّه خلف كون المتكلّم في مقام بيان تمام مراده.

ولو تأمّلنا هذه المقدّمات ورتّبناها على شكل أقيسة منطقيّة لوجدنا أنّها هي التي أوجبت ظهور حال المتكلّم في عدم إرادة القيود التي لم يذكرها وهذا هو عين قرينة الحكمة الموجبة لانعقاد الظهور في الإطلاق.

وخلاصة الكلام : إنّ قرينة الحكمة التي ينعقد بها الظهور في الإطلاق لا تكون إلاّ في مرحلة المدلول التصديقي الجدّي كما هو الحال في قاعدة احترازية القيود إذ أنّهما يشتركان في أنّ استفادتهما لا تتمّ إلاّ من خلال معرفة حال المتكلّم وأنّه جادّ في تفهيم مقاصده عن طريق ما جاء به من خطاب.

غاية ما في الأمر أنّ قاعدة احترازية القيود تفترق عن قرينة الحكمة في أنّ الاولى توجب انعقاد ظهور حال المتكلّم في أنّ ما ذكره من قيود في مرحلة المدلول الوضعي التصوّري هي مرادة في مرحلة المدلول التصديقي الجدّي.

أمّا قرينة الحكمة فهي توجب ظهور حال المتكلّم في أنّ الذي لم يذكره في خطابه في مرحلة المدلول الوضعي التصوّري فهو غير مراد له ، وبهذا ينعقد الظهور في الإطلاق إذ أنّ القيود التي لم يذكرها إذا لم تكن مراده

٢٤٨

فهذا يعني أنّ المراد هو الطبيعة المجرّدة فحسب إذ أنّها هي التي ذكرها المتكلّم في خطابه ، فبضمّ أنما ذكره من لفظ دالّ على الطبيعة فهو مريد له ، وأنّ الذي لم يذكره من قيود للطبيعة فهو غير مراد له ينعقد الظهور في الإطلاق.

وهنا إشكال قد يرد على انعقاد الظهور في الاطلاق بواسطة قرينة الحكمة وحاصله :

إنّ قرينة الحكمة تعتمد فيما تعتمد على استظهار كون المتكلّم في مقام البيان لتمام مراده ، وهذه المقدّمة غير حاصلة ؛ وذلك لأنّ المتكلّم إذا لم يبيّن ما يدلّ على الإطلاق فهو لم يبيّن تمام مراده ، إذ غاية ما بيّنه هو جعل الحكم على الطبيعة وهي بنفسها لا تقتضي الإطلاق كما لا تقتضي التقييد ، والحال أنّه إمّا أن يكون مريدا للإطلاق أو يكون مريدا للتقييد ، فما بيّنه إذن ليس تمام مراده إذ أنّ مراده لو كان التقييد فهو لم يأت بالتقييد كما هو الفرض ، ولو كان مراده الإطلاق فأيّ شيء يدلّ على الإطلاق؟ في حين لم يأت في كلامه إلاّ بما يدلّ على الطبيعة ، والطبيعة ـ كما هو مقتضى هذا المبنى ـ لا تستبطن هذا الإطلاق.

والجواب عن هذا الإشكال يتمّ بملاحظة ما ذكرناه من أنّ الإطلاق هو عدم لحاظ القيود ، فإذا كان المتكلّم قد جعل الحكم على الطبيعة ولم يقيّد هذه الطبيعة بأيّ قيد فإنّ هذا يعني عدم إرادة هذه القيود إذ أنّه لو كان مريدا لها ولم يذكرها فقد نقض غرضه والحكيم لا ينقض غرضه ، وبهذا ينعقد الإطلاق ، إذ أنّ الإطلاق كما قلنا ليس أكثر من عدم لحاظ القيود ، وقد ثبت بالمقدّمة السابقة أنّ المتكلّم لم يلاحظ القيود حينما جعل الحكم على الطبيعة.

٢٤٩

إذن فالذي هو مفتقر إلى مؤنة زائدة على ذكر الطبيعة هو التقييد إذ أنّه يعني لحاظ القيود ولا مثبت للحاظ القيود إلا ذكرها.

وهذا بخلاف الإطلاق فإنّ ذكر الطبيعة وحدها مع الظهور الحالي للمتكلّم في أنّ الذي لم يذكره لا يريده كاف في انعقاد الإطلاق.

وبعبارة أخرى : كاف في إثبات عدم إرادة القيود وهو معنى ثان للإطلاق إلا أن يقال بأنّ الإطلاق لا ينعقد إلاّ بتصريح المتكلّم بعدم إرادة القيود ، ولكن هذا القول بعيد عن الصواب وذلك لأنّه يستبطن أنّ المتكلّم لا بدّ أن يذكر كل ما يريد وكل ما لا يريد وإلاّ لا ينعقد لكلامه ظهور ، وهذا باطل حتما إذ أنّ المتفاهم العرفي من حال كلّ متكلّم أنّ الذي لم يذكره في خطابه فهو لا يريده وأنّ مقدار ما يريده هو مقدار ما بيّنه في خطابه.

وبهذا اتضح أنّ قرينة الحكمة هي الدالّ على الإطلاق ولهذا لا ينعقد للإطلاق ظهور فيما لو اختلّت بعض مقدمات قرينة الحكمة ، فلو أحرزنا من الخارج مثلا أنّ المتكلّم ليس في مقام البيان لتمام موضوع حكمه فإنّه لا ينعقد للإطلاق ظهور إذ لا يمكن في هذه الحالة استظهار أنّ الذي لم يذكره المتكلّم فهو غير مريد له إذ لعلّ بعض الذي لم يذكره مراد له ، ولا نافي لهذا الاحتمال بعد أن أحرزنا أن المتكلّم ليس في مقام البيان لتمام موضوع حكمه ، وهذا بخلاف ما لو كان الإطلاق مستفادا عن الوضع فإنّ ذكر الطبيعة وحدها كاف في انعقاد الظهور في الإطلاق حيث إن الطبيعة ـ بناء على هذا المبنى ـ تستبطن معنى الإطلاق وذلك لأنّ اللفظ الدال عليها موضوع للطبيعة المطلقة ، وبذكر اللفظ الدالّ على الطبيعة المطلقة تتنقّح الدلالة الوضعيّة التصوّرية ، وبضم هذه الدلالة إلى قاعدة احترازية القيود

٢٥٠

ـ التي تنشأ عن أصالة التطابق بين المدلول التصوّري والمدلول الجدّي ـ ينعقد الظهور في الإطلاق أي أنّ المتكلّم مريد للإطلاق.

وبتعبير آخر : إنّه لمّا كان معنى احترازيّة القيود هو أنّ كلّ ما ذكره في خطابه فهو مريد له ، فهذا يعني أنه مريد للإطلاق إذ أنّ ذكر ما يدلّ على الطبيعة ذكر للإطلاق حيث إنّ اللفظ الدال عليها موضوع للطبيعة المطلقة ، وهذا بخلاف المبنى الآخر حيث إنّ اللفظ الدال على الطبيعة لا يدلّ على أكثر منها وإنّ الإطلاق إنما هو مستفاد من قرينة الحكمة ولمّا كانت بعض مقدّمات قرينة الحكمة مفقودة في المقام فلا دالّ على الإطلاق.

الجهة الرابعة : أقسام الإطلاق :

ويمكن تقسيم الإطلاق إلى قسمين :

الأول : الإطلاق الشمولي.

الثاني : الإطلاق البدلي.

وكل واحد من هذين القسمين يمكن تقسيمه إلى قسمين فحاصل أقسام الإطلاق أربعة :

القسم الأول : الإطلاق الشمولي :

وهو ما كان الإطلاق فيه مستوعبا لتمام أفراد أو أحوال الطبيعة المطلقة بحيث يكون الحكم المجعول على الطبيعة المطلقة منحلاّ إلى أحكام بعدد أفراد أو أحوال تلك الطبيعة.

وبتعبير آخر : يكون الحكم مجعولا على كل أفراد أو أحوال الطبيعة على سبيل العطف بالواو.

وهذا القسم من الإطلاق يمكن تقسيمه إلى قسمين :

٢٥١

الأول : الإطلاق الشمولي الأفرادي : وهو ما كان مصب الحكم فيه هو أفراد الطبيعة ، فهو شمولي باعتبار استيعابه للطبيعة وأفرادي باعتبار أنّ مصبّه أفراد الطبيعة. ومثاله قوله تعالى : ( وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ) (١) فإنّ الحكم ـ وبواسطة قرينة الحكمة ـ مجعول على تمام أفراد الطبيعة « وهي الزور » فلذلك يمكن تحليل هذا الخطاب إلى قضايا ـ موضوعها فرد من أفراد الزور ومحمولها لزوم الاجتناب ـ بعدد أفراد الطبيعة.

الثاني : الإطلاق الشمولي الأحوالي : وهو ما كان مصبّ الحكم فيه أحوال الطبيعة الواقعة موضوعا أو متعلّقا لذلك الحكم ، فهو شمولي باعتبار استيعابه للطبيعة وأحوالي باعتبار أنّ الحكم وقع على أحوال الطبيعة ، ومثاله قوله تعالى : ( وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ ) (٢) فإن الحكم ـ وبواسطة قرينة الحكمة مجعول على تمام أحوال طبيعة اليتيم أي سواء كان رضيعا أو مراهقا وسواء كان سفيها أو عاقلا غنيا أو فقيرا وهكذا.

القسم الثاني : الإطلاق البدلي : وهو ما كان الحكم واقعا على أحد أفراد أو أحوال الطبيعة على سبيل البدل بحيث يمكن تحليل الطبيعة إلى أفرادها وجعل الحكم على الأفراد بنحو العطف « بأو » ، ولذلك يتحقق الامتثال بمجرّد الإتيان بفرد من أفراده.

وهذا القسم ينقسم أيضا إلى نفس القسمين اللّذين ينقسم عليهما الإطلاق الشمولي ، غايته أنّ الإطلاق هناك شمولي وهنا بدلي ويمكن التمثيل

__________________

(١) سورة الحج : آية ٣٠

(٢) سورة الانعام : آية ١٥٢

٢٥٢

للأول بقوله تعالى : ( أَقِمِ الصَّلاةَ ) (١) فإنّ الإطلاق هنا بدلي أفرادي حيث إنّ الحكم قد وقع على أحد أفراد الطبيعة « وهي الصلاة » على سبيل البدل.

ويمكن التمثيل للثاني بقوله تعالى : ( وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ ... ) (٢) فإنّ امتثال الأمر يتحقق ببعث حكم سواء كان عالما أو جاهلا شيخا أو كهلا.

وبما ذكرناه يتّضح أنّ الطبيعة الواحدة قد يعرضها في وقت واحد إطلاق أفرادي وإطلاق أحوالي كما في الآية الشريفة حيث يمكن التمسك بإطلاقها لإثبات إجزاء أيّ فرد من أفراد الأهل كما يمكن التمسك بإطلاقها لإثبات أيّ حالة يكون عليها الحكم المبعوث.

الإطلاق في المعاني الحرفية :

لا ريب في إمكان بل وقوع الإطلاق في المعاني الاسمية ـ والتي هي مستفادة من ألفاظها استقلالا ـ وذلك مثل : ( تصدّق على الفقير ) فإنّه يمكن بقرينة الحكمة أن يعرض الإطلاق طبيعة الفقير والذي هو من المعاني الاسمية إذ أنّ لفظ الفقير يدلّ على معناه استقلالا وكذلك الكلام في مثل : ( لا تكذب ) فإنّ طبيعة الكذب من المعاني الاسمية إذ هو دال على معناه استقلالا ، وهذا المقدار كما قلنا من صلاحية قرينة الحكمة لخلق الإطلاق لا ريب فيه ، إنّما الإشكال في صلاحية قرينة الحكمة لخلق الإطلاق في المعاني

__________________

(١) سورة الإسراء : آية ٧٨

(٢) سورة النساء : آية ٣٥

٢٥٣

الحرفية ـ والمستفادة من الهيئات الواقعة في إطار الجمل التامّة والناقصة وذلك مثل الحرمة المستفادة من هيئة ( لا تكذب ) فإنّ الكلام يقع فيها من حيث إمكان جريان قرينة الحكمة لإثبات الإطلاق في النسبة الزجريّة أو عدم إمكان ذلك.

وهذا ما أرجأ المصنّف البحث عنه إلى الحلقة الثالثة ، وسيتّضح هناك إمكان جريان قرينة الحكمة في المعاني الحرفيّة.

التقابل بين الإطلاق والتقييد :

وقبل البحث عن نحو التقابل بين الإطلاق والتقييد لا بدّ من بيان أقسام التقابل. وهي كما ذكر المناطقة على أربعة أقسام :

الأول : تقابل التضاد : وهو ما يكون بين الأمرين الوجوديين اللّذين يستحيل عروضهما على موضوع واحد في آن واحد ولا يكون تصوّر أحدهما مستدعيا لتصوّر الآخر. وإن حصل التداعي من تصوّر أحدهما لتصوّر الآخر فهو لأمر خارجي لا يقتضيه نفس تصوّر الضد.

ويمكن التمثيل لذلك بالحسن والقبح والحب والبغض الذكاء والغباء ، فإنّ كلاّ من الحسن والقبح أمران وجوديّان يستحيل عروضهما على موضوع واحد في آن واحد كما لا يلزم من تصوّر أحدهما تصوّر الآخر.

الثاني : تقابل التضايف : وهو يكون أيضا بين الأمرين الوجوديّين اللّذين يستحيل عروضهما على موضوع واحد ومن حيثيّة واحدة ، وجهة الافتراق بين التضاد والتضايف أنّ الأول لا يلزم من تصوّر أحدهما تصوّر الآخر بخلاف الثاني فإنّ تصوّر أحد المتضايفين يلزم منه تصوّر الآخر ، ومثاله : الأب والابن وأخوة زيد لعمرو وأخوة عمرو لزيد والقريب والبعيد

٢٥٤

والصغير والكبير وهكذا.

فإنّ التقابل بين الأب والابن تقابل التضايف ؛ وذلك لأنّهما أمران وجوديّان يستحيل اجتماعهما على موضوع واحد من حيثيّة واحدة إذ أنّه لا يمكن أن يكون زيد أبا لعمرو وابنا لعمرو نفسه ، وإلى هذا المقدار يكون تقابل التضايف هو عين تقابل التضاد إلاّ أنّهما يفترقان من حيث إنّ تقابل التضايف لا يكون إلاّ في العنوانين الذين يلزم من تصوّر أحدهما تصوّر الآخر كما في مثالنا ، فإنّ تصوّر عنوان الأب يستلزم تصوّر عنوان الابن وما ذلك إلاّ لأنّ العناوين المتضايفة عناوين نسبيّة إضافية أي أنّها تنتزع من إضافة أحد العنوانين إلى الآخر.

الثالث : تقابل التناقض : وهو ما يكون بين الوجود والعدم لذلك الوجود ، واستحالة اجتماعهما يعدّ من الأوليّات التي لا تفتقر إلى برهان ، كما أنّه يستحيل ارتفاعهما إذ أنّه ليس هناك حالة ثالثة ليست وجودا وليست عدما بل الأشياء لا تخلو إمّا أن تكون موجودة أو معدومة ، ومثاله : وجود الحيوان وعدم وجوده ، ووجود الكرم وعدم وجوده ، وهكذا.

إذن يفترق التقابل بين النقيضين عن التقابل بين الضدّين والمتضايفين أنّ النقيضين يستحيل خلو الواقع عنهما معا ، وهذا بخلاف الضدّين والمتضايفين.

وهناك فارق آخر وهو أنّ تقابل التناقض يتعقّل في الجواهر كما يتعقّل في الأعراض ـ كما اتضح ذلك من التمثيل السابق ـ وهذا بخلاف تقابل التضاد والتضايف فإنّه لا يكون إلاّ من الأعراض ، ولذلك قلنا ( إنهما يعرضان على موضوع واحد ).

٢٥٥

الرابع : تقابل الملكة وعدمها : وهو التقابل الواقع بين الوجود والعدم في موضوع يمكن أن يتّصف بذلك الوجود ؛ فلذلك لا يكون التقابل بين الملكة والعدم إلاّ في الأعراض إذ أنّ الملكة لا تجعل بجعل الذات بل هي تعرض على الذات أو لا تعرض ؛ وذلك لأنّ الذات تجعل بنحو الجعل البسيط والذي هو إيجاد نفس الذات ، وهذا بخلاف جعل الملكة فإنّه يكون بنحو الجعل التأليفي أي اتصاف الذات بشيء بعد تقرّر الذات في رتبة سابقة ، ومن هنا يتّضح إمكان خلوّ الواقع عن الملكة وعدمها بأن لا يكون الموضوع متّصفا بالملكة أو بعدمها إلاّ أنّ خلو الواقع منهما لا يتصوّر إلاّ في الموضوعات التي ليس لها شأنية الاتّصاف بالملكة ، أمّا في الموضوع الذي له شأنيّة الاتّصاف بالملكة فإنّه لا يمكن أن يخلو واقعه من الملكة وعدمها.

ويمكن التمثيل لهذا النوع من التقابل بالنطق وعدمه والشجاعة وعدمها ، فإنّ النطق هو الملكة وعدم النطق هو عدم الملكة ولا يمكن اجتماعهما على موضوع واحد في آن واحد ، كما أنّ عدم ملكة النطق مثلا لا يتّصف بها غير الإنسان كالنبات إذ أنّه غير متّصف بالملكة فلا يتّصف بعدمها ، وبهذا يتّضح إمكان خلوّ الواقع منهما فإنّ النبات لمّا لم يكن له شأنية الملكة فلا يتّصف بعدمها.

إذا اتّضحت أنحاء التقابل ، يقع الكلام فيما هو نوع التقابل بين الإطلاق والتقييد ، والبحث عنه تارة يقع في مقام الثبوت وأخرى في مقام الإثبات.

أمّا مقام الثبوت : فتوضيحه أنّ واقع التقابل يمكن تحديده وتضييق دائرة احتمالاته عن طريق ما ذكرناه في بيان معنى التقييد والإطلاق ، حيث

٢٥٦

قلنا إنّ التقييد هو لحاظ القيد والإطلاق هو عدم لحاظ القيد ، وإذا كان كذلك فنحو التقابل بينهما لا يمكن أن يكون من قبيل تقابل الضدّين أو تقابل المتضايفين لأنّ التقابل بين الضدّين وكذلك المتضايفين لا يكون إلاّ بين الأمرين الوجوديين ، والإطلاق ليس من سنخ الأمور الوجوديّة إذ أنّه كما قلنا عبارة عن عدم لحاظ القيد ، وبذلك تنحصر دائرة الاحتمالات عن واقع التقابل بين الإطلاق والتقييد في احتمالين :

الاحتمال الأول : هو تقابل التناقض : إذ أنّه يمكن أن ينسجم مع تعريف الإطلاق والتقييد كما هو واضح ، فيكون التقييد والإطلاق من قبيل وجود زيد وعدم وجوده ، ويترتّب على هذا الاحتمال أنّه في كلّ مورد يثبت فيه التقييد فهو يعني عدم الإطلاق وكذلك العكس ؛ وذلك لأنّ الواقع لا يخلو من أحد النقيضين كما اتّضح مما سبق.

الاحتمال الثاني : هو تقابل الملكة وعدمها : وهذا الاحتمال أيضا يمكن انسجامه مع تعريف الإطلاق والتقييد بحيث يكون التقييد هو الملكة والإطلاق هو عدم الملكة ، ويترتّب على ذلك أنّ الإطلاق لا يتصوّر إلاّ في مورد يمكن فيه التقييد كما هو الحال في النطق وعدمه.

أمّا مقام الإثبات : فالمتعيّن فيه هو تقابل الملكة وعدمها ، فالتقييد هو الملكة والإطلاق عدمها ؛ وذلك لأنّ مقام الإثبات يعني مقام ما يثبت الإطلاق والتقييد في مرحلة الدلالة على مقام الثبوت ، إذ أنّ وظيفة مقام الإثبات والدلالة هي الكشف عن مقام الثبوت والواقع ، ومن الواضح أنّ الذي يكشف عن التقييد الثبوتي هو ذكر القيد في مقام الدلالة ، وأنّ الذي يكشف عن الإطلاق الثبوتي هو عدم ذكر القيد في مورد يمكن فيه التقييد

٢٥٧

أي له شأنيّة أن يقيد ، ولو لم يكن المورد قابلا للتقييد لما كان عدم ذكر القيد دالا على الإطلاق الثبوتي ؛ وذلك لأننا بالوجدان نرى أنّ الموارد التي لا تقبل التقييد لا يكون عدم ذكر القيد لها كاشفا عن الإطلاق ، وهذا ما يدلّ على أنّ نحو التقابل بين الإطلاق والتقييد في مرحلة الإثبات هو تقابل العدم والملكة.

الحالات المختلفة لاسم الجنس :

وقبل بيان هذه الحالات لا بدّ من تشخيص معنى اسم الجنس فنقول :

إنّ اسم الجنس هو ما يوضع بإزاء الطبيعة التي يمكن أن تنطبق خارجا على كثرين ، باعتبارها الحقيقة المشتركة بينهم ، إلاّ أنّ هذا لا يعني أنّ اسم الجنس موضوع للطبيعة بقيد الانطباق على ما تصدق عليه من أفراد لأنّ ذلك يعني أنّ الإطلاق مأخوذ فيما وضع له اسم الجنس ، وقد قلنا إنّ الإطلاق كالتقييد يعرض على الطبيعة أو لا يعرض.

ويمكن التمثيل لاسم الجنس بكل المفاهيم المعبّر عنها في المنطق بالمفاهيم الكليّة ، والتي يكون لها مصاديق أو لا يكون لها مصاديق في الخارج كالإنسان والأسد والرجل والنار والحجر والشجر ، وهكذا فإنّ كلّ هذه العناوين مفاهيم كلّية لها مصاديق أو يمكن أن لا يكون لها مصاديق في الخارج.

وإذا اتّضح المراد من اسم الجنس ، فنقول : إنّ لاسم الجنس ثلاث حالات :

الحالة الأولى : وهي أن يكون اسم الجنس معرّفا باللاّم ، وذلك مثل

٢٥٨

قوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ) (١) وقوله تعالى : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) (٢) ، فإنّ الميتة والدم والصلاة كلّها أسماء أجناس معرّفة بالألف واللام ، وقد أضفت لام التعريف على هذه الأسماء خصوصية زائدة على ما هو الموضوع له اسم الجنس ، وهذه الخصوصية الزائدة هي التعريف إذ أنّه لا تستفاد هذه الخصوصيّة من حاقّ اسم الجنس.

ولام التعريف على أنحاء ، فتارة تفيد العهد الحضوري وتارة تفيد العهد الذكري ، وتارة تفيد العهد الذهني الخاص ، وأخرى تفيد العهد الذهني العام ويعبّر عنها في النحو الرابع بلام الجنس.

وهذه الأنحاء الأربعة للام التعريف تشترك في أنّها مفيدة للإشارة إلى ما هو متعيّن ومعهود عند المخاطب ، فدورها دور اسم الإشارة ، فكما أنّ اسم الإشارة توجّه المخاطب نحو ما هو معهود ومتعيّن عنده من معنى المشار إليه ، فكذلك لام التعريف ، فقولنا الأسد في قوّة قولنا « هذا أسد » من حيث إنّ اللام واسم الإشارة « هذا » يشيران إلى ما هو المتعيّن في الذهن عند المخاطب نيتجة ملابسات وعوامل اقتضت ذلك التعيّن والمعهوديّة ، غايته أن نوع التعيّن تختلف باختلاف أنحاء لام التعريف.

أمّا النحو الأول : للام التعريف ـ وهي العهديّة الحضوريّة ـ فتتحقّق في حالة يكون فيها اسم الجنس مذكورا في الخطاب قبل تعريفه ، فتعريف اسم الجنس بعد ذلك وفي نفس الخطاب يفيد العهد الحضوري لحضور اسم

__________________

(١) سورة المائدة : آية ٣

(٢) سورة الاسراء : آية ٧٨

٢٥٩

الجنس بنفسه في الخطاب ، وذلك مثل قوله تعالى : ( كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ ) (١) فإنّ لام المصباح ولام الزجاجة هي لام العهد الحضوري ؛ وذلك لأنّ اسم الجنس وهو « مصباح وزجاجة » قد ذكر في نفس الخطاب منكّرا قبل ذكره معرّفا باللام ، فلذلك تكون اللام في المصباح والزجاجة مشيرة لما هو متعيّن ومعهود عند المخاطب من معنى مصباح وزجاجة بسبب ذكر المتكلّم لهما في خطابه قبل ذكرهما معرّفين باللاّم.

وأمّا النحو الثاني : للام التعريف ـ وهي اللام المفيدة للعهد الذكري ـ فتتحقّق في حالة يكون فيها اسم الجنس مذكورا في خطابات سابقة على الخطاب الذي عرّف فيه اسم الجنس باللام ، كأن يقول المتكلّم « رأيت أسدا » ثم يقول بعد ذلك لنفس المخاطب « إنّ الأسد كان كبيرا » فإنّ اللام في هذا الخطاب هي لام العهد الذكري ، وهي تشير إلى ما هو المتعيّن والمعهود عند المخاطب بسبب ذكر اسم الجنس مجرّدا عن لام التعريف في خطاب سابق.

وأمّا النحو الثالث : للام التعريف ـ وهي اللام المفيدة للعهد الذهني الخاص ـ فهو ما إذا كانت هناك قرائن موجبة لمعهوديّة اسم الجنس وتعيّنه في ذهن المخاطب فتكون اللام الداخلة على اسم الجنس في الخطاب مشيرة إلى ذلك المعهود والمتعيّن في ذهن المخاطب بسبب تلك القرائن ، وذلك مثل

__________________

(١) سورة النور : آية ٣٥

٢٦٠