شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ١

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: ثامن الحجج
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٦٣
الجزء ١ الجزء ٢

المعنى ، فقولنا مثلا ( سافرت إلى مكّة ) لا يصح استبدال ( إلى ) بـ ( الانتهاء ) ، فلا يصح أن نقول ( سافرت انتهاء مكة ) ، أو مثلا قولنا ( لا تضرب ) لا يصح استبدال ( لا ) ( بالنهي ) بأن نقول ( نهي تضرب ).

وهكذا الكلام في الهيئات التركيبيّة ، فإنه لا يصح استبدالها بما يماثلها من أسماء ، فقولنا : ( زيد يشرب الماء ) لا يصحّ استبداله ( شرب زيد للماء ) ؛ وذلك لأن النسبة في الجملة الأولى تامّة بخلافها في الجملة الثانية فإن النسبة فيها ناقصة مما يعبّر عن عدم الترادف بين الجملتين.

والسرّ في عدم صحّة استبدال الحروف والهيئات التركيبيّة بما يماثلها من أسماء هو أن الحروف والهيئات التركيبيّة تدل على النسب الربطيّة ، ومن الواضح أن النسب ليس لها وجود خارج إطار أطرافها ، فلذلك لا يمكن أن تلحظ مستقلة ، وهذا بخلاف الأسماء فإنها تدل على معانيها بالاستقلال ودون أن نستعين على ذلك بوجودها في إطار جملة من الجمل.

تنوّع المدلول التصديقي :

يمكن تصنيف البحث إلى ثلاث جهات :

الجهة الأولى : والكلام فيها عن المدلول التصوّري ، وقد قلنا إنّ المدلول التصوّري هو عبارة عن خطور المعنى في الذهن عند سماع اللفظ الموضوع لذلك المعنى ، ولا يختلف الحال في انخطار المدلول التصوّري بين أن يكون اللافظ ملتفتا أو ذاهلا أو كان اللفظ صادرا ممن يعقل أو ممن لا يعقل كصدور اللفظ اتفاقا من حيوان ، بل قلنا إنّ المدلول التصوّري ينقدح في الذهن حتّى لو علمنا أنّ المتكلّم لا يريده كما في موارد استعمال المتكلّم

٢٠١

اللفظ في المعنى المجازي.

كما أنّ المداليل التصوّريّة تحصل من الألفاظ والجمل سواء كانت تامّة أو ناقصة ، ثمّ إنه قد ذكرنا أنّ المداليل التصوّريّة منشؤها الوضع ؛ لذلك فهي تسمّى بالمداليل الوضعيّة نسبة إلى منشئها وهو الوضع ، نعم على مسلك التعهّد في الوضع ـ وهو مسلك السيد الخوئي قدس‌سره ـ لا يكون هناك مدلول تصوّري إلاّ في إطار المدلول التصديقي إذ أنّ منشأ الوضع هو التعهّد ، والتعهّد لا يتعقّل إلاّ من مريد عاقل وبالتالي لا يكون للألفاظ أو الجمل الصادرة من غير العاقل أي مدلول ، فهي ليست أكثر من أصوات عائمة في الهواء.

الجهة الثانية : والكلام فيها حول المدلول التصديقي الأول والمسمّى بالمدلول الاستعمالي ، وهو كما قلنا عبارة عن المدلول التصوّري الصادر من العاقل المريد لإخطار المعنى في ذهن السامع ، ولا يختلف الحال في المدلول الاستعمالي بين كون الألفاظ المستعملة لإفادته وإيقاعه في إطار جملة تامّة أو ناقصة أو كانت هذه الألفاظ مجرّد مفردات متناثرة ، وتشترك جميعها في أنّ المتكلّم بها قاصد لإخطار معانيها ومداليلها في ذهن السامع.

ومن هنا قالوا : إنّ الدلالة التصديقيّة الأولى دلالة حاليّة سياقيّة مستفادة من معرفة حال المتكلّم وأنّه ملتفت قاصد لإخطار مداليل كلامه في ذهن السامع.

ثم إنّ المدلول التصديقي الاستعمالي يحصل من كل متكلّم ملتفت بغض النظر عن كونه جادّا أو هازلا ، غايته أنّه إذا كان جادّا يحصل لكلامه مدلول آخر بالإضافة إلى المدلول الاستعمالي ، وهذا المدلول الآخر هو

٢٠٢

المعبّر عنه بالمدلول التصديقي الثاني.

الجهة الثالثة : والكلام فيها حول المدلول التصديقي الثاني المعبّر عنه بالمدلول الجدّي.

وقد قلنا إنّه عبارة عن المدلول التصوّري الصادر من العاقل المريد الجادّ في الحكاية عن الواقع الخارجي أو واقع نفسه ، والمناسب للحكاية عن الواقع الخارجي هو الجمل الخبريّة كما أنّ المناسب للحكاية عن واقع النفس هو الجمل الإنشائيّة.

وقد لا حظتم أنّ المدلول التصديقي الثاني يحتفظ بحيثيّة المدلول التصوّري والاستعمالي ، ويضيف عليهما حيثيّة ثالثة وهي أنّه مستفاد من متكلّم جاد في الحكاية عن الواقع.

كما أنّ هناك حيثيّة مترتّبة على هذه الحيثيّة الثالثة وهي أنّ المدلول التصديقي لا يتعقّل في غير الجمل التامّة ؛ وذلك لأنّ قصد الحكاية عن الواقع لا يتم بغير الجمل التامّة.

ومع اتّضاح هذا نقول : إنّ طبيعة المدلول التصديقي الثاني تختلف باختلاف نوعيّة الجملة فإذا كانت الجملة خبريّة فإنّ طبيعة مدلولها هي الحكاية عن ثبوت النسبة ـ بين المخبر به والمخبر عنه ـ في الواقع الخارجي أو الحكاية عن عدم ثبوت النسبة ، ومثال الأول : زيد عالم ، ومثال الثاني : زيد ليس بعالم.

أمّا إذا كانت الجملة إنشائيّة من نوع التمنّي مثلا فطبيعة مدلولها طلب المستحيل أو ما يقاربه كقول الله تعالى على لسان فرعون : ( لَعَلِّي أَبْلُغُ

٢٠٣

الْأَسْبابَ * أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى ) (١) ، كما أن طبيعة الجملة الإنشائيّة من نوع النهي هو إنشاء النسبة الزجريّة بين النهي والمنهي عنه كقوله تعالى : ( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً ) (٢).

والمتحصّل مما ذكرنا أنّ المدلول التصديقي ـ والذي يكون في الجمل التامّة ـ لا يتحقّق إلاّ من القاصد الجاد في الحكاية عن الواقع فهو بهذا غير مستفاد من الوضع وإنّما هو مستفاد من معرفة حال المتكلّم ، فلذلك لا تكون الجمل التامّة مفيدة للمدلول التصديقي الثاني لو كانت صادرة من غير عاقل أو من عاقل غير جادّ في الحكاية عن الواقع.

وهذا الكلام ينسجم مع جميع نظريّات الوضع ما عدا نظريّة التعهّد فإنّه بناء على نظرية التعهّد يكون المدلول التصديقي مستفادا عن الوضع والذي هو التعهّد ؛ وذلك لأن التعهّد كما قلنا هو التباني النفساني على أن لا يأتي باللفظ إلاّ إذا كان قاصدا لتفهيم المعنى ، وهذا يقتضي أن يكون متعلّق التعهّد واقعا تحت اختيار المتعهّد إذ من غير المعقول تعلّق التعهّد بشيء خارج عن القدرة والاختيار.

ومع اتّضاح هذا هناك أمر لا بدّ من التنبيه عليه ، وهو : أنّ المشهور ذهبوا إلى أن الجملة الخبريّة مثلا في مرحلة المدلول التصوّري تدل على ثبوت النسبة أو لا ثبوتها ، وبمجموع ما ذكرناه يتّضح استحالة تعلّق التعهّد بالجملة الخبريّة ـ بالمعنى المذكور عند المشهور ـ إذ أنّ ثبوت النسبة أو عدم

__________________

(١) سورة غافر : آية ٣٦ و ٣٧

(٢) سورة الإسراء : آية ٣٢

٢٠٤

ثبوتها خارج عن اختيار المتعهّد ؛ إذ أنّ ذلك من شؤون الواقع ، ولهذا لا بدّ أن يكون متعلّق التعهّد في الجملة الخبريّة هو قصد الحكاية عن وقوع النسبة أو عدم وقوعها لأنّ قصد الحكاية هو الواقع تحت الاختيار ، وبالتالي تكون الجمل الخبريّة موضوعة بناء على التعهّد لقصد الحكاية عن الواقع ، وهذا يقتضي أن تكون الجمل الخبريّة موضوعة للمدلول التصديقي الثاني ، فالمدلول التصديقي الجدّي إذن بناء على هذه النظريّة يكون هو المدلول الوضعي ، وهذا بخلاف ما ذهب إليه المشهور من أنّ المدلول التصديقي الجدّي إنّما هو مدلول حالي سياقي.

المقارنة بين الجمل التامّة والجمل الناقصة :

لا إشكال في أنّ هناك فرقا بين الجمل التامّة والجمل الناقصة ؛ وذلك لأننا نرى وبالوجدان أنّ الجمل التامّة توجب الاكتفاء بمدلولها والاستغناء بمدلولها عن الاستزادة من المتكلّم بحيث لا ينتظر السامع معها شيئا آخر ، وهذا بخلاف الجمل الناقصة فإنّ السامع يبقى معها منتظرا للمزيد.

ومن هنا اتّجه البحث عن ما هو السرّ في هذا الفارق الوجداني بين الجملتين ، وقد ذكر لهذا الفارق الواقع بين الجملتين مبرّران :

المبرّر الأوّل : هو ما ذهب إليه السيّد الخوئي رحمه‌الله من أنّ المنشأ لهذا الافتراق الواقع بين الجملتين هو الوضع ـ والذي هو التعهّد بحسب مذهبه في الوضع ـ فالجملة التامّة موضوعة لقصد الحكاية عن الواقع الخارجي أو واقع النفس ، ففي مثل الجمل الخبرية تكون هذه الجمل موضوعة للدلالة على أنّ المتكلّم قاصد للإخبار عن وقوع النسبة خارجا بين المخبر به والمخبر

٢٠٥

عنه.

وأمّا الجمل الناقصة فموضوعة لقصد إخطار معناها في ذهن السامع ، فهي إذن لا تفيد أكثر من المدلول الاستعمالي إذ أنّه لا يتعقّل في مثل الجملة الناقصة المدلول التصديقي الثاني ؛ إذ أنها لا تصلح للحكاية عن النسب التامّة والحال أن المدلول التصديقي الثاني متقوّم بالنسب التامّة كما أوضحنا كلّ ذلك فيما سبق.

والمتحصّل من هذا : أنّ المبرّر للافتراق بين الجملتين هو أنّ الجملة التامّة موضوعة للمدلول التصديقي الثاني ، والجملة الناقصة موضوعة للمدلول التصديقي الأول.

والجواب : هو عدم تماميّة هذا المبنى ؛ وذلك لأننا قلنا إنّ المدلول التصديقي ليس مستفادا عن الوضع وإنما هو مستفاد من حال المتكلّم ، والمستفاد من الوضع إنّما هو المدلول التصوّري وهو النسبة الارتباطيّة إلاّ أننا لمّا كنّا نرى أنّ النسبة التي هي مدلول الدلالة التصوّريّة تختلف باختلاف طبيعة الجملة من حيث التمام والنقصان اتّجه البحث عن مبرّر هذا الاختلاف ، وإلاّ فمدلول الدلالة التصوّريّة في الجمل التامّة والناقصة واحد وهو النسبة الارتباطيّة.

المبرّر الثاني : هو أنّه مع الاحتفاظ بأنّ الجملة التامّة والناقصة موضوعة للدلالة على النسبة الارتباطيّة إلاّ أنّ طبيعة هذه النسبة تختلف باختلاف الجمل ، فإن كانت من الجمل الناقصة فالنسبة فيها نسبة اندماجيّة موجبة لصيرورة الشيئين المنتسبين فيها شيئا واحدا ، فإنّ الصفة والموصوف مثلا ـ وكذلك المضاف والمضاف إليه ـ وإن كانا لبّا شيئين متغايرين ولكنّهما

٢٠٦

ـ وببركة النسبة ـ يصيران شيئا واحدا ويعبّران عن معنى واحد ، فقولنا : ( مكّة المكرّمة ) وإن كانا بحسب التحليل مفهومين إلاّ أنّه وبواسطة وقوعهما في إطار جملة ناقصة أصبحا مفهوما واحدا أو قل مفهومين مفيدين لذات واحدة ، وكذلك الكلام في مثل : ( غلام زيد ) ، فإنّ معنى غلام بحسب التحليل مباين لمعنى زيد إلاّ أنهما وببركة النسبة المدلول عليها من الجملة الناقصة صار هذان المفهومان حاكيين عن ذات واحدة ، وهذا هو معنى أنّ النسبة المدلول عليها من الجملة الناقصة نسبة اندماجيّة.

وأمّا النسبة في الجمل التامّة فهي نسبة غير اندماجيّة إذ تبقى معها الألفاظ الاسميّة محتفظة باستقلاليّتها وحكايتها عن معانيها المتباينة ولا تكون النسبة مؤثّرة في تحويل هذه المفاهيم المتغايرة إلى مفهوم واحد ، نعم الذي تحدثه النسبة في الجمل التامّة هو الربط بين هذه المفاهيم دون أن يؤثّر هذا الربط في تحويلها إلى معنى واحد ، ومثال ذلك : « الصلاة واجبة » فإنّ هذه الجملة تامّة حمل فيها الوجوب على الصلاة فصارت الصلاة منتسبة إلى الوجوب وهذه النسبة نسبة تامّة ، والذي يكشف عن تماميّة هذه النسبة هو أنّ المفهومين المنتسبين فيها لم يندمجا بواسطة النسبة ولم يتحوّلا إلى معنى واحد ، بل بقي مفهوم الصلاة ومفهوم الوجوب على حالهما في إفادة كلّ منهما لمعناه ، وغاية ما حقّقته النسبة هو ربط الوجوب بالصلاة وثبوت الوجوب للصلاة.

وبهذا يتّضح ما هو السرّ فيما نجده من الفارق بين الجملة التامّة والجملة الناقصة.

٢٠٧

الدلالات الخاصّة والمشتركة

قلنا ـ فيما سبق ـ إن دلالات الدليل الشرعي على قسمين ، فتارة تكون من قبيل العناصر المختصّة وأخرى من قبيل العناصر المشتركة ، والقسم الأول منها هو ما تكون فائدته ـ في الوصول إلى النتيجة الشرعيّة ـ محدودة ومختصّة بمورد أو موردين ، ومثل هذه الدلالات يتمّ تنقيحها في علم الفقه.

وأمّا القسم الثاني فهو ما تكون فائدته ـ في الوصول إلى النتائج الشرعيّة ـ عامّة ، وهذا النوع من الدلالات هو الذي يتصدّى علم الأصول لبيانه ، ومن هنا سوف يقع البحث عن الدلالات العامّة.

٢٠٨

الأمر والنهي

الأمر :

ويقع الكلام أولا حول الأمر :

والأمر ينفهم عن طريق أسلوبين من الكلام.

الأسلوب الأول :

مادّة الأمر : فإنّ مادة الأمر مفيدة لمعنى الأمر بأيّ صيغة أنشأت ، فهي مفيدة لمعناها إذا وقعت في إطار هيئة الفعل الماضي كقوله تعالى : ( وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ ) (١) ، وكذلك إذا وقعت في إطار هيئة الفعل المضارع كقوله تعالى : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ) (٢) ، وهكذا إذا وقعت بصيغة فعل الأمر كقوله تعالى : ( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ ) (٣) ، غايته أنه في هذه الحالة يكون مدلول الأمر استفيد من المادّة والهيئة بخلافه في سائر الصيغ والهيئات ، فإنّ مدلول

__________________

(١) سورة البيّنة : آية ٥

(٢) سورة آل عمران : آية ١١٠

(٣) سورة طه : آية ١٣٢

٢٠٩

الأمر يستفاد من مادّة الأمر فحسب.

والكلام عن سائر الهيئات والصيغ عينه الكلام عن الصيغ والهيئات التي مثلنا لها والتي قلنا إنّ مادّة الأمر مفيدة لمعناها بأيّ صيغة وقعت.

الأسلوب الثاني :

صيغة الأمر : وصيغة الأمر ـ وكذلك الفعل المضارع المقرون بلام الأمر ـ مفيدان لمعنى الأمر بأيّ مادة وقعتا ، مثلا قوله تعالى : ( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) (١) فإنّ صيغة « افعل » في صلّ مفيدة لمعنى الأمر وإن كانت المادة التي وقعت الصيغة في إطارها غير مادّة الأمر ، وكذلك الكلام في الفعل المضارع المقرون بلام الأمر مثل قوله تعالى : ( وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ ) (٢).

ومع اتّضاح ذلك يقع البحث أولا عن مادّة الأمر وهو في جهات :

الجهة الأولى :

فيما وضعت له مادّة الأمر : لم يقع خلاف في أنّ مادّة الأمر وضعت لحصّة خاصّة من مفهوم الطلب ، فهي تفيد معنى الطلب الخاصّ وهو الطلب التشريعي الصادر من العالي.

والمراد من الطلب التشريعي المأخوذ في تعريف مادّة الأمر يمكن توضيحه بهذا البيان : وهو أنّ كلّ أحد إذا تعلّقت إرادته التامّة بشيء فإنّه

__________________

(١) سورة التوبة : آية ١٠٣

(٢) سورة البقرة : آية ٢٨٢

٢١٠

يبادر نحو إيجاد متعلّق إرادته عن طريق وسيلتين :

الوسيلة الأولى : أن يبادر هو بنفسه لتحصيل مراده ومطلوبه ، وذلك كتحرّك العطشان نحو تحصيل الماء ، وهذا النوع من التحرّك نحو المراد والمطلوب يعبّر عنه بالطلب التكويني ، ومادّة الأمر لم توضع لإفادة هذا المعنى من الطلب ، وهذا النوع من الطلب هو المراد من قوله تعالى : ( وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ) (١) ، وقوله تعالى : ( أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً ) (٢).

الوسيلة الثانية : أن يطلب من غيره تحقيق مراده ومطلوبه ، وهذا ما يعبّر عنه بالطلب التشريعي ، وهو يصدق في تمام الموارد التي يطلب فيها المريد من غيره تحصيل إرادته بقطع النظر عن كون الطالب عاليا أو مستعليا أو ملتمسا أو راجيا أو ما إلى ذلك فإنّ كل هذا يصدق عليه طلب تشريعي.

وبهذا البيان اتّضح المراد من الطلب التشريعي المأخوذ في تعريف مادّة الأمر واتّضح أنّ مادّة الأمر مشمولة للطلب التشريعي ولكنّها غير مختصّة به ، بل إنّ الطلب التشريعي يصدق عليها وعلى غيرها ، ولذلك قلنا في التعريف إنّ الأمر لا يتحقّق إلاّ بالطلب التشريعي الصادر من العالي.

الجهة الثانية :

فيما وضعت له مادّة الأمر من معان أخرى : فقد ذكر اللغويّون أنّ

__________________

(١) سورة المؤمنون : آية ٧٣

(٢) سورة الكهف : آية ٤١

٢١١

مادة الأمر وضعت لمجموعة من المعاني :

منها : أنها وضعت لمعنى الشيء فإذا قلت : « وجدت أمرا » فهذا يعني « وجدت شيئا » ، ولعلّ منه قوله تعالى : ( وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ ) (١) أي الأشياء.

ومنها : أنّها وضعت لمعنى الحادثة ، كأن تقول : « حصل أمر » أي حادثة ، وكانت العرب إذا فاجأها حدث غريب غير متوقّع قالت : « أمر دبّر بليل » أي حادث خطّط له بليل.

ومنها : أنها وضعت لمعنى الغرض ، كما تقول : « عندي أمر أريد تحقيقه » أي عندي غرض ، ولعلّ منه قوله تعالى : ( ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ ) (٢) أي ثم لا يكن غرضكم من البغي عليّ مخفيّا.

وبهذا تكون مادّة الأمر من المشتركات اللفظيّة ، وإذا كان كذلك فهي لا تدل على الطلب الخاص إلاّ إذا قامت القرينة على تعيينه دون سائر المعاني.

الجهة الثالثة :

هل أنّ مادّة الأمر دالّة على مطلق الطلب الخاص وبذلك تشمل المستحب أو أنها دالّة على خصوص الوجوب منه؟

وقع الكلام في ذلك بين الأعلام وذهب المشهور منهم على دلالتها

__________________

(١) سورة لقمان : آية ٢٢

(٢) سورة يونس : آية ٧١

٢١٢

على الوجوب واستدلّ لذلك بمجموعة من الأدلّة :

الدليل الأول : قوله تعالى : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ) (١) ، وتقريب الاستدلال على الوجوب أنّ مطلق الأمر وقع متعلّقا للتحذير ولو كان الأمر صادقا على المستحب لما كان هناك أيّ مبرّر للتحذير عن مخالفته ؛ إذ أنّ التحذير عن المخالفة إنّما يناسب التكاليف الإلزاميّة.

وبتعبير آخر : التحذير عن المخالفة وقع على مطلق الأوامر الإلهيّة ولا معنى للتحذير عن مخالفة المستحبّات إذ أنّ ذلك خلف كونها مستحبّات مما يكشف عن أنّ الأوامر الإلهيّة خاصّة بالواجبات ، ثبت المطلوب.

الدليل الثاني : وهو قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لو لا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسواك » (٢) ، وتقريب الاستدلال على الوجوب هو أنّ المستحبّات لا مشقّة في جعلها على المكلّف لأنّه في سعة من جهتها ، فلو كان الأمر صادقا على المستحب فلا معنى لمراعاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للأمّة بعدم أمرها بالاستياك بعد أن كان الاستياك متوفّرا على ملاك يقتضي جعله على الأمّة ، نعم المناسب لمراعاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عدم إيقاع الأمّة في المشقّة من جهة الاستياك ـ رغم توفّره على الملاك ـ هو الوجوب.

وبتعبير آخر : إنّ مراعاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للأمّة في عدم أمرها بالاستياك باعتبار أنّ الأمر فيه مشقّة على الأمّة مما يعني أنّ الأمر يقتضي الإلزام إذ أنّه لا مشقّة مع عدم الإلزام.

__________________

(١) سورة النور : آية ٦٣

(٢) وسائل الشيعة : ج ٤ الباب ٣ من أبواب السواك ، وقد أرسلها الشيخ الصدوق عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معبّرا بـ « قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » مما يشعر بجزمه باعتبار الرواية

٢١٣

الدليل الثالث : هو التبادر : وهي علامة الحقيقة بتقريب أنّ المنسبق إلى الذهن عند إطلاق المولى للأمر هو الوجوب ، والانسباق من اللفظ هو التبادر.

البحث الثاني : في صيغة الأمر :

وهي هيئة فعل الأمر بقطع النظر عن المادّة الواقعة في إطارها ، ويقع البحث عنها في جهات :

الجهة الأولى : فيما وضعت له صيغة الأمر :

ذكروا أنّ صيغة الأمر وضعت لمجموعة من المعاني بالإضافة إلى معنى الطلب.

منها : أنّها وضعت للتمنّي ، كقوله تعالى : ( رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ ) (١).

ومنها : أنّها وضعت للترجّي ، كقوله تعالى : ( رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ ) (٢).

ومنها : أنّها وضعت للتهديد ، كقوله تعالى : ( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ) (٣).

ومنها : أنّها وضعت للتعجيز ، كقوله تعالى : ( قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ

__________________

(١) سورة المؤمنون : آية ٩٩ و ١٠٠

(٢) سورة المؤمنون : آية ١٠٧

(٣) سورة الإسراء : آية ٦٤

٢١٤

مِثْلِهِ ) (١).

إلاّ أن هذه المعاني لا يمكن أن تكون صيغة الأمر موضوعة لها ؛ وذلك لأننا حين نبحث عن وضع كلمة لمعنى إنما نبحث عن مدلولها التصوّري إذ أنه هو المدلول الوضعي ، وهذه المعاني التي ذكرت لصيغة الأمر إنما تناسب المدلول التصديقي إذ أنّ المدّعي لكونها موضوعة لهذه المعاني لاحظ وقوعها في إطار جملة تامّة ومرادة من المتكلّم بالمراد الجدّي ، وهذا إنما يناسب المدلول التصديقي الجدّي والذي هو غير مستفاد من الوضع بل إنّه مستفاد من حال المتكلّم وأنه في مقام الطلب أو التمنّي أو الترجّي أو ما إلى ذلك ، ونحن هنا نبحث عن مدلول الصيغة التصوّري الذي ينشأ عن الوضع.

فحقّ البحث أن يتّجه نحو ملاحظة الصيغة باعتبارها معنى حرفيا إذ أنّها من الهيئات وقد قلنا إن الهيئات من المعاني الحرفية ، فالبحث عن الصيغة يقع من حيثيّتين :

الحيثيّة الأولى : ملاحظة صيغة الأمر باعتبارها معنى حرفيّا والمعنى الحرفي كما ذكرنا موضوع للنسبة الربطيّة بين الطرفين غايته أن هذه النسبة تختلف باختلاف الهيئات والحروف كما اتّضح ذلك مما سبق ، وإذا لاحظنا صيغة الأمر وجدنا أنّها تدل على النسبة الربطيّة الطلبيّة بين متعلّق الصيغة وبين المطلوب منه الأمر ، فقول المولى « صلّ » تدلّ فيه هذه الصيغة على النسبة الطلبية بين متعلّق الصيغة وهو الصلاة المطلوبة وبين المأمور بالصلاة ، أو تكون هذه الصيغة مفيدة للنسبة الإرساليّة بين المرسل

__________________

(١) سورة يونس : آية ٣٨

٢١٥

« بصيغة المفعول » والمرسل إليه ـ بصيغة المفعول وهي الصلاة ، فعليه تكون النسبة الإرسالية أو الطلبيّة مفيدة لنحو من أنحاء الربط وهو الربط الواقع بين المأمور به والمأمور « وهو المكلّف » وكذلك متعلّق الأمر.

هذا هو المستفاد من صيغة الأمر إذ أنه هو المناسب لكون الصيغة من المعاني الحرفية.

وبهذا يتّضح أنّ صيغة الأمر ليست موضوعة لمفهوم الطلب أو الإرسال إذ أن ذلك لا يتناسب مع كونها معنا حرفيّا ، فالمعنى الحرفي لا يكون مدلوله معنى اسميّا ، نعم يمكن أن يكون للمعنى الحرفي ما يماثله في المعاني الاسميّة كما ذكرنا ذلك ، إلا أنّ هذا لا يعني أن المعنى الحرفي مرادف للمعنى الاسمي.

فكما قلنا إنّ « في » لا يرادف مفهوم الظرفيّة وإنما يماثلها ويوازيها فكذلك الكلام في صيغة الأمر فهي لا ترادف مفهوم الطلب أو الإرسال وإنما توازيه وتماثله مع الاحتفاظ بكون صيغة الأمر معنى حرفيّا مفيدا للنسبة وأنّ مفهوم الطلب معنى إسمي.

الحيثيّة الثانية : ملاحظة صيغة الأمر باعتبارها واقعة في إطار جملة تامّة مشتملة على فعل وهو صيغة الأمر وفاعل وهو المأمور وبهذا الاعتبار يمكن أن يكون للصيغة الواقعة في الجملة التامّة مدلول تصديقي ثان إلا أنّ هذا المدلول مستفاد من معرفة حال المتكلم وأنّه جادّ في الحكاية عن واقع نفسه ، فإذا جاء المتكلّم بصيغة الأمر في إطار جملة تامّة نبحث عن ما هو الداعي الذي دعاه لاستعمال الصيغة في الجملة التامّة وسنجد أنّ هذا الداعي هو أحد المعاني التي ذكرت لصيغة الأمر.

٢١٦

ومن هنا لا تكون هذه المعاني موضوعة لصيغة الأمر ، وإنّما هي مستفادة من معرفة الداعي الذي دعى المتكلّم أن يستعمل صيغة الأمر في الجملة التامّة ، وهذا يعني أنها مستفادة من معرفة حال المتكلّم والذي هو منشأ المدلول التصديقي الثاني.

إذن فهذه المعاني ليست أكثر من دواع يبرزها المتكلّم عن طريق صيغة الأمر فتبقى محتفظة بمدلولها التصوّري مع اكتسابها معنى زائدا هو الطلب أو التعجيز أو التمنّي وهكذا.

هذا بناء على ما هو المعروف من أنّ الدلالة التصوّرية هي الدلالة الوضعيّة ، وأما بناء على مسلك التعهّد ـ النافي لكون الدلالة التصوّرية هي الدلالة الوضعية وأنّ الدلالة الوضعيّة إنما هي الدلالة التصديقيّة وأنها تكون في الجمل التامة ـ يكون المدلول الوضعي فيها هو المدلول الجدّي ، فهنا لا محالة تكون صيغة الأمر الواقعة في إطار الجملة التامّة موضوعة لمجموع هذه المعاني على نحو الاشتراك اللفظي ، وقد بيّنّا فيما سبق كيفيّة الوضع في الجملة التامّة بناء على مسلك التعهّد وأنها موضوعة للمدلول التصديقي الثاني فراجع.

الجهة الثانية : فيما هو الظاهر من صيغة الأمر في مرحلة المدلول التصديقي الثاني :

والظاهر من صيغة الأمر في هذه المرحلة هو الطلب ؛ وذلك لأن المدلول التصوّري لصيغة الأمر هو إما النسبة الطلبية أو النسبة الإرساليّة وكلاهما يقتضي أن تكون صيغة الأمر في مرحلة المدلول التصديقي الثاني هو الطلب دون غيره من الدواعي المذكورة.

٢١٧

وتوضيح ذلك :

أما بناء على كون المدلول التصوّري هو النسبة الطلبيّة فلأنّ واقع الطلب فرد حقيقي للنسبة الطلبيّة بل إنّ واقع النسبة الطلبيّة ليس شيئا آخر غير مصداق الطلب ، فإرادة غير الطلب من النسبة الطلبيّة حينئذ خلاف الظاهر إذ أنّ ظاهر المتكلّم أنّه يستعمل الكلام فيما وضع له وهذا هو مدرك أصالة التطابق بين المدلول التصوّري والمدلول الجدّي.

وأما بناء على أن المدلول التصوّري هو النسبة الإرساليّة ؛ فلأنّ الإرسال يعني البعث والتحريك نحو الغاية والهدف ، فإذا قلت : « أرسلت زيدا » فإن المتفاهم من هذا التعبير هو بعث زيد نحو المطلوب.

ومع اتّضاح هذا نقول : إنّ صيغة الأمر إذا كانت موضوعة للنسبة الإرساليّة فهي ظاهرة في الطلب دون سائر المعاني ؛ وذلك لأن النسبّة الإرسالية والتي هي الربط المخصوص بين المرسل ـ بصيغة المفعول ـ والمرسل إليه إنما تنشأ غالبا عن تعلّق إرادة المستعمل للصيغة بالمرسل إليه ، وهذه الغالبية هي التي تكوّن الظهور في الطلب لكلّ صيغة أمر وقعت في إطار جملة تامّة.

وإذا تم ما ذكرناه فإنّ كلّ مورد من موارد استعمال الصيغة في إطار جملة تامّة يكون ظاهرا في الطلب ما لم تقم قرينة على الخلاف.

الجهة الثالثة : ظهور صيغة الأمر في الوجوب :

اتّضح ـ ممّا سبق ـ أنّ صيغة الأمر موضوعة للنسبة الطلبيّة أو الإرساليّة ، وظاهرة في الطلب في مرحلة المدلول الجدّي إلاّ أنّ الكلام يقع في أنّ هذا الطلب الذي هو المدلول الجدّي للصيغة هل هو مطلق الطلب أو

٢١٨

خصوص الطلب الوجوبي؟

نقول : إنّ المشهور بين الأعلام ( رضوان الله عليهم ) هو أنّ صيغة الأمر في مرحلة المدلول التصديقي الجدّي ظاهرة في خصوص الطلب اللزومي وأنّ المتكلّم الجاد حين استعمال الصيغة يريد الطلب الوجوبي واستدلّ على ذلك بما هو المتفاهم عرفا من صيغة الأمر عندما يكون المستعمل لها جادّا.

وبعبارة أخرى : إنّ المتبادر من صيغة الأمر عند أهل المحاورة هو الوجوب.

إذا اتّضح هذا فنقول : إنّه وقع الكلام في الأفعال المفيدة للطلب والتي لا تكون من قبيل فعل الأمر ، وهذه الأفعال يمكن تصنيفها إلى صنفين :

الأول : الفعل المضارع المقرون بلام الأمر : كقوله تعالى : ( وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً ) (١) ، فإنّ ( يستعفف ) في الآية الشريفة وإن كان فعلا مضارعا إلاّ أنّه مفيد للطلب ببركة اقترانه بلام الأمر ، وهذا النوع من الأفعال لم يختلف الأعلام ( رضوان الله عليهم ) في كونه مشمولا لتمام الأحكام الواقعة على صيغة الأمر ، فكما أنّ صيغة الأمر مثلا موضوعة للنسبة الإرساليّة أو الطلبيّة فكذلك الفعل المضارع المقرون بلام الأمر ، وكما أنّ صيغة الأمر في مرحلة المدلول الجدّي ظاهرة في الطلب الوجوبي فكذلك الفعل المضارع المقرون بلام الأمر.

الثاني : الفعل المضارع المجرّد والفعل الماضي : كقوله عليه‌السلام : « لا تعاد

__________________

(١) سورة النور : آية ٣٣

٢١٩

الصلاة إلاّ من خمس ... » (١) ، وكذلك قوله تعالى : ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) (٢) ، هذا في الفعل المضارع ، وأمّا الفعل الماضي فيمكن أن نمثّل له بما لو سأل سائل عمّن صلّى قبل الوقت فجاء الجواب « أعاد صلاته » فإنّ هذه الجملة المشتملة على الفعل وكذلك الجمل السابقة جمل خبريّة إلاّ أنّها استعملت لغرض الإنشاء والطلب ، فهي خبريّة صورة إلاّ أنّها إنشائيّة طلبيّة روحا. وهذا النوع من الأفعال المفيدة للإنشاء والطلب وقع الكلام عنها من حيث دلالتها على الوجوب أو عدم دلالتها ، وهذا ما أرجأ المصنف بحثه إلى الحلقة الثالثة.

الجهة الرابعة : والكلام فيها عن الأوامر الإرشاديّة :

تنقسم الأوامر سواء المدلول عليها بالصيغة أو بالمادّة أو بشيء آخر إلى قسمين : أوامر مولويّة وأوامر إرشاديّة ، وهذا التقسيم إنّما هو بلحاظ ما تكشف عنه الأوامر.

أمّا الأوامر المولويّة : فهو ما يكون مدلولها حكما من الأحكام التكليفيّة الطلبيّة والتي هي الوجوب والاستحباب ، ومولويّتها ناشئة عن أنّ المولى يجعل هذه الأحكام على عهدة المكلّف بحيث يكون المكلّف مبعوثا نحو تحقيق متعلّقاتها أداء لحقّ المولويّة للمولى ، غايته أنّ المولى قد يرخّص في ترك بعض متعلّقات هذه الأوامر إلاّ أنّ الترخيص لا يسقطها

__________________

(١) معتبرة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام ، وسائل الشيعة : الباب ١ من أبواب أفعال الصلاة الحديث ١٤

(٢) سورة التوبة : آية ٧١

٢٢٠