شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ١

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: ثامن الحجج
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٦٣
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

٣
٤

المقدّمة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف خلقه ، وأكمل موجوداته أبي القاسم محمد وعلى آله الأخيار الأبرار الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا.

( رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي ).

إنّ من ألطاف الله جلّ وعلا أن وفقني لشرح الحلقة الثانية من حلقات السيّد الشهيد قدس‌سره والتي هي من أهمّ كتب الدراسات الحوزويّة ، والتي يتأهّل بها الطالب للدخول في مرحلة السطح الأعلى ، وأسأل الله تعالى أن يكون هدفي من كتابة هذا الشرح هو المساهمة في تيسير فهم هذا الكتاب على الطالب الكريم.

وقد بذلت جهدي في بيان مطالبه واتّخذت طريقة التقرير وسيلة لإيضاح مباحثه وعالجت موضوعاته بواسطة تصنيفه وتبويبه بطريقة رأيتها مناسبة ، وقد أكثرت فيه من الأمثلة والتطبيقات لغرض إيقاف

٥

الطالب الكريم على ثمرات هذه البحوث ، وقد جهدت أن لا أخرج عن إطار المباحث التي عرضها السيّد الشهيد قدس‌سره في كتابه إلاّ في حالات يستدعي فيها البيان ذلك ، وقد احتفظت بالعناوين الرئيسيّة للكتاب تيسيرا للمراجعة.

أسأل الله تعالى أن يكون ما كتبته قربانا أتوسّل به لقضاء حاجتي وهي أن يجعل عاقبتي إلى خير ، ومنقلبي منقلبا محمودا عنده ، وأن لا يكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا وأن يحشرني في زمرة الأبرار من آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والحمد لله ربّ العالمين

محمّد صنقور البحراني

قم المقدّسة

٦

تمهيد

تعريف علم الأصول

موضوع علم الأصول

فائدة علم الأصول

٧
٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمّد وآله الطاهرين.

تعريف علم الأصول :

عرّف المشهور علم الأصول « بأنّه العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الحكم الشرعي » والمراد من هذا التعريف هو أنّ علم الأصول عبارة عن مجموعة من القواعد والضوابط الكلية التي تساهم في استخراج الحكم الشرعي من مصادره كالكتاب والسنّة.

فليس للفقيه أن يدخل إلى مصادر التشريع لاستنباط واستخراج الحكم الشرعي إلا عبر هذه الضوابط والقواعد التي تنقّح في علم الأصول فمثلا لو أراد الفقيه أن يستنبط حكم فعل من أفعال المكلّفين مثل ردّ التحية فهو يواجه أمامه نصا قرآنيا وهو قوله تعالى ( وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها ) (١) ولا يمكن الحكم بالوجوب مثلا إلا أن ينقّح مسألتين أصوليّتين ، ألاولى : ظهور صيغة الأمر في الوجوب ، الثانية : حجيّة الظهور ، وهاتان المسألتان تبحثان في علم الأصول لغرض إثباتهما أو نفيهما فإذا تنقّح للفقيه ثبوتهما بالدليل القطعي يتشكّل عنده قياس منطقي مكوّن

__________________

(١) النساء : ٨٦

٩

من صغرى وكبرى.

أمّا الصغرى : في كل صيغة أمر فهي ظاهرة في الوجوب.

وأمّا الكبرى : فهي أن كل ظهور حجّة.

فينتج ظهور الأمر في الوجوب حجة ثم يشكل الفقيه قياسا آخر يجعل نتيجة القياس الأول كبرى للقياس الثاني ، ويجعل صغراه النص القرآني هكذا.

إن كلمة ( فَحَيُّوا ) في الآية الشريفة صيغة أمر.

وظهور الأمر في الوجوب حجّة.

فينتج وجوب رد التحيّة.

فنلاحظ أن نتيجة القياس الأول وهو « ظهور صيغة الأمر في الوجوب حجّة » ـ الذي استفدنا صغراه وكبراه من علم الأصول ـ قد وقع كبرى للقياس الثاني وجعلنا الصغرى النص القرآني فأنتج وجوب رد التحيّة.

وخلاصة الكلام أن الفقيه لا يتمكّن من استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها إلاّ عن طريق علم الأصول ، ينقح فيه مجموعة من القواعد تكون بمثابة الوسائل الآلية لمعرفة الأحكام الشرعية من مصادرها.

الإشكال على التعريف :

ثم إن المصنّف أورد على التعريف بإيراد حاصله : أن الغرض من التعريف هو بيان الضابطة التي تتميّز من خلالها المسألة الأصولية من غيرها والتعريف قد جعل عنوان القواعد الممهّدة هو المميّز للمسألة الأصولية من غيرها والحال أن صلاحية المسألة للتمهيد لاستنباط الحكم

١٠

الشرعي فرع بحثها في علم الأصول ، فأولا نبحثها ثم نعرف أنها تمهّد لاستنباط الحكم الشرعي أو لا ، وهذا يقتضي أن نبحث كل المسائل لنرى أيّها تمهّد وأيّها لا تمهّد ، وهذا غير مراد حتما إذن فثمّة ضابطة تحدّد أيّ المسائل تبحث في علم الأصول وأيّها لا تبحث ، وهذه الضابطة لا بدّ من بيانها في التعريف وهي غير التمهيد ، إذ أن التمهيد يقع في طول معرفة المسألة الأصولية التي تحدّد أيّها يمهّد وأيّها لا يمهّد للاستنباط.

وبعبارة أخرى : لا بد أن يكون التعريف مشتملا على الضابطة التي تحدّد ما هي المسائل الداخلة في علم الأصول والمسائل الخارجة ، وجعل الضابطة « هي الممهّدة » يقتضي ان تكون أصولية المسألة منوطة بتمهيدها للإستنباط في حين أنّ معرفة المسائل الممهّدة للاستنباط متوقّفة على علم الأصول ، فتحديد القواعد الممهّدة للاستنباط متأخر عن بحثها في علم الأصول فكيف تكون هي المحدّدة لمسائل علم الأصول.

ولذا عرّف علم الأصول بتعريف آخر غير مشتمل على وصف القواعد بالممهّدة حيث عرّف « بأنّه العلم بالقواعد التي تقع في طريق الاستنباط » فكل مسألة تكون طريقا ووسيلة للوصول إلى الحكم الشرعي فهي مسألة أصولية. فمثلا ظهور صيغة النهي في الحرمة تساعد على الوصول إلى بعض الأحكام الشرعية فهي إذن مسألة أصولية وهذا بخلاف قاعدة « إن الحديد يتمدّد بالحرارة » فإنّ هذه الكبرى الكلية لا تساهم في استنباط حكم فهي إذن ليست مسألة أصولية. وهذا التعريف لا يرد عليه ما أورد على التعريف الأول ، إذ أنه واف بالغرض ، حيث إن الغرض منه معرفة المسألة الأصولية من غيرها وقد تحقق ذلك بهذا

١١

التعريف ، إذ أنّه قال إن المسألة الأصولية هي التي تساهم في استنباط الحكم الشرعي فيخرج ما سوى ذلك عن علم الأصول.

الإشكال على التعريف الثاني :

إلا أن المصنّف رحمه‌الله أورد على التعريف بما حاصله : أن هذا التعريف فاقد لبعض شرائط التعريف المذكورة في علم المنطق وهو المنع من دخول الأغيار ، فلا بدّ من كون التعريف مانعا من تداخل العلوم ، وهذا التعريف غير مشتمل على هذا الشرط حيث إنه يسمح لدخول كثير من مسائل اللغة مثلا في علم الأصول ، والحال أنها خارجة عنه قطعا ، فمثلا ظهور كلمة « الصعيد » في مطلق وجه الأرض يساهم في استنباط حكم شرعي وهو صحة التيمّم بمطلق وجه الأرض في حين أن معرفة المعنى اللغوي لكلمة الصعيد أو غيرها من موضوعات أو متعلقات الأحكام خارجة عن علم الأصول قطعا. فإذن التعريف يلزم منه دخول كثير من المسائل في علم الأصول وهي ليست منه.

التعريف على مختار المصنّف رحمه‌الله :

ثم إن المصنّف طرح تعريفا آخر لعلم الأصول وهو « العلم بالعناصر المشتركة في عملية الاستنباط » وهذا التعريف يشترك مع التعريف الثاني في كون ضابطة المسألة الأصولية هي : ما يقع في طريق استنباط الحكم الشرعي ، ولكن أضاف عليه المصنّف رحمه‌الله قيدا زائدا مضيّقا بذلك دائرة ما يبحث في علم الأصول ، فعلم الأصول وإن كان هو البحث عن المسائل التي تقع في طريق الاستنباط إلاّ أنّه ليس كل المسائل التي تساهم في الاستنباط ، بل هي المسائل التي يمكن الاستفادة منها في أكثر أبواب الفقه

١٢

حين إرادة استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها ، فمثلا حجية خبر الثقة يمكن الاستفادة منها ـ إذا ثبتت ـ في استنباط كثير من الأحكام الشرعيّة وهذا بخلاف تحرير معنى كلمة الصعيد ، فإنه لا يستفاد منها إلا في معرفة حكم أو حكمين شرعيّين ، وهكذا مسألة ظهور صيغة الأمر في الوجوب والنهي في الحرمة فإنّه يمكن الاستفادة منهما في جميع أبواب الفقه من الطهارة إلى الديّات ، ولذلك عبّر المصنّف عن مثل هذه المسائل : بالعناصر المشتركة ، حيث إنها مسائل سيّالة يحتاج إليها الفقيه لاستنباط كثير من الأحكام الشرعيّة في كثير من الأبواب الفقهيّة.

وأمّا العناصر المختصّة مثل معنى كلمة « الصعيد » أو معنى كلمة « الكر » وإن كانت نافعة في استنباط حكم شرعي إلا أنها لا تساهم إلا في استنباط حكم أو حكمين ، إذن فكل مسألة تساهم في استنباط حكم شرعي فهي مسألة أصولية ولكن بشرط أن تكون مسألة سيّالة مطّردة صالحة لأن يستفاد منها في استنباط كثير من الأحكام الشرعيّة.

قوله رحمه‌الله : « إبداء الضابط الموضوعي » ، أي لا بدّ أن يكون التعريف محدّدا للموضوع الذي يكون جامعا لمسائل العلم ، وموجبا لتمييز المسائل الداخلة في هذا العلم عن المسائل الخارجة عنه ، وإلاّ لم يتحقّق الغرض من التعريف ، والذي هو تشخيص العلم المعرّف وتحديده بحيث تعرف به مسائل العلم المعرّف عن مسائل العلوم الأخرى.

موضوع علم الأصول :

تعارف أهل كل فنّ أن يصدّروا بحثهم عن ذلك الفن ببيان تعريفه

١٣

وموضوعه وفائدته ، وهذا ما يعبّر عنه بالمبادئ التصوريّة للعلم والتي تعطي تصورا عن معنى العلم وما هي حدوده المانعة عن تداخله مع العلوم الأخرى وما هو الغرض منه والفائدة المترتّبة عليه.

وقبل بيان موضوع علم الأصول لا بدّ من بيان مقدّمة ، وهي :

إن الموضوع عند أهل المنطق هو الشيء الذي يحكم عليه بحكم ، فالموضوع عند المناطقة هو المسند إليه عند أهل البلاغة ، فعندما نقول « إن زيدا عالم » فزيد الذي أسند إليه العالمية هو الموضوع الذي حكم عليه بحكم وهو « عالم ». وبعد بيان ذلك نقول إن موضوع كل علم عبارة عن العنوان الجامع لموضوعات مسائل ذلك العلم.

والمراد من مسائل كل علم هي القضايا الحمليّة التي يتصدّى ذلك العلم لبيانها والاستدلال عليها. إذن العلم مجموعة من المسائل والقضايا الحمليّة يكون القاسم المشترك بين هذه المسائل هو كون موضوعاتها ترجع إلى عنوان جامع يعبّر عنه بموضوع العلم ، مثلا : علم النحو يبحث فيه عن مجموعة من المسائل مثل « الفاعل مرفوع » « المفعول منصوب » « والمبتدأ مرفوع » « والمضاف إليه مجرور » ، ولو لا حظنا جميع هذه المسائل المتكوّنة من موضوع وحكم لرأينا أن موضوعاتها ترجع إلى عنوان جامع وهو « الكلمة » ، فالكلمة المتعنونة بعنوان الفاعل حكمنا عليها بالرفع ، والكلمة المتعنونة بعنوان المفعول حكمنا عليها بالنصب وهكذا مئال موضوعات مسائل علم النحو إلى موضوع واحد ، وهو عنوان الكلمة.

إذا اتضح معنى موضوع العلم تصل النوبة لبيان موضوع علم الأصول فنقول وعلى الله التكلان.

١٤

إن الأصوليّين اختلفوا فيما هو موضوع علم الأصول ، فذكر القدماء أن موضوعه هو الأدلّة الأربعة « الكتاب الكريم ، السنة الشريفة ، الإجماع والعقل » ويقصدون من ذلك أن مدار المسائل الأصولية هو الأدلّة الأربعة ، فكل مسألة يكون موضوعها أحد الأدلّة الأربعة فهي مسألة أصولية ، مثلا حجيّة النص القرآني مسألة أصولية لأن موضوعها الكتاب الذي هو أحد الأدلّة الأربعة إذ أن النص القرآني الذي هو عبارة ثانية عن الكتاب هو الموضوع والحجية والدليليّة هو المحمول والحكم ، وهكذا حجية قول وفعل وتقرير المعصوم مسألة أصولية ؛ لأن موضوعها عبارة ثانية عن السنة الشريفة ومحمولها الحجيّة.

الإشكال على مبنى القدماء

وأورد المصنّف على هذا المبنى أنه يلزم منه خروج كثير من المسائل الأصولية التي يقطع بأصوليّتها. فإذن هذا الموضوع لا ينطبق عليه ضابطة موضوع العلم ، إذ أنه لا يجمع تحت عنوانه ـ وهو الأدلّة الأربعة ـ جميع موضوعات مسائل هذا العلم ، فمثلا موضوع الاستلزامات ـ التي هي عبارة عن ملازمة حكم لحكم آخر ـ « هو الحكم » والحكم ليس داخلا تحت عنوان الأدلّة الأربعة ، فمثلا الحكم بوجوب شيء يقتضي النهي عن ضدّه ، والحكم بحرمة شيء يقتضي الفساد ، والحكم بوجوب شيء يقتضي وجوب مقدّمته. كل هذه مسائل أصولية موضوعها الحكم ، والحكم لا يدخل تحت عنوان الأدلّة الأربعة.

وكذلك البحث عن حجيّة الأمارات الظنيّة فإنها كثيرا ما لا تؤول موضوعاتها إلى عنوان الأدلّة الأربعة ، فمثلا حجيّة الشهرة موضوعها

١٥

الشهرة ومحمولها الحجية ، وكذلك حجية خبر الثقة فإن موضوعها خبر الثقة ومحمولها الحجية ، ومن الواضح أن هذه الموضوعات لا تؤول إلى عنوان الأدلّة الأربعة.

وكذلك البحث عن الأصول العملية ـ التي تحدّد وظيفة المكلف في موارد فقدان الدليل أو إجماله ـ فإن موضوعها الشك ، فمثلا جريان البراءة حين الشك في حرمة شيء مع عدم وجود علم سابق بالحرمة ، فنلاحظ أنّ الموضوع لهذه المسألة هو الشك ومحمولها البراءة عن الحرمة.

وهكذا يتّضح أنّ عنوان الأدلّة الأربعة لا يصلح أن يكون موضوعا لعلم الأصول ، إذ أنّه ليس عنوانا جامعا لموضوعات مسائل هذا العلم.

القول الآخر لموضوع علم الأصول :

هو إنكار أن يكون لموضوع علم الأصول موضوع واحد جامع لجميع موضوعات مسائله ، وهذا القول تبنّاه مجموعة من الأعلام مثل السيد الخوئي رحمه‌الله ، وقالوا : إنّ ما تعارف عليه المناطقة من أن لكل علم موضوعا جامعا لجميع موضوعات مسائله لا أساس له إذ أنه يمكن أن لا يكون لبعض العلوم موضوع جامع.

ومن هنا ينشأ إشكال وهو : أنه بناء على هذا القول تتداخل العلوم ولا يمكن أن تكون هناك ضابطة تحدّد أنّ هذه المسألة من مسائل هذا العلم أو ذاك العلم ، ومن هنا تصدّى أصحاب هذا القول للجواب عن هذا الإشكال وحاصله : أنه يمكن أن يكون هناك ضابطة لتحديد مسائل كل علم تفيد فائدة الموضوع ولكنها ليست من قبيل الموضوع. وهذه الضابطة هي الغرض ، فتحديد الغرض من العلم يمنع من تداخل العلوم وبه تتحدّد

١٦

مسائل كل علم بحيث يكون الغرض موجبا لدخول بعض المسائل في هذا العلم مثلا وخروج مسائل أخرى عنه.

فمثلا علم الطب ليس له موضوع جامع لجميع موضوعات مسائله ، ولكن يمكن أن يكون الغرض من هذا العلم محدّدا لأيّ المسائل التي تكون داخلة في هذا العلم وأيّ المسائل تكون خارجة عنه. وهكذا علم الأصول تكون الضابطة في تحديد مسائله التي يبحث عنها هذا العلم هو الغرض ، فلو قلنا إن الغرض من هذا العلم مثلا هو البحث عن كل كبرى كلية تساهم في استنباط الحكم الشرعي لاقتضى ذلك معرفة المسائل المبحوثة في هذا العلم والمسائل الخارجة عنه.

إذن فليس الموضوع للعلم هو الضابطة الوحيدة المانعة من تداخل العلوم والموجبة لتحديد مسائل كل علم.

القول الثالث في بيان موضوع علم الأصول :

وهو ما تبنّاه المصنّف رحمه‌الله تعديلا لمبنى القدماء ومحاولة لسدّ ثغراته ، وهذا القول عبارة عن أن موضوع علم الأصول « هو الأدلة » بحذف قيد « الأربعة » ليكون الموضوع شاملا وجامعا لجميع موضوعات مسائل هذا العلم.

وبعبارة أخرى موضوع علم الأصول بحسب مبنى المصنّف هو كل دليل عام تكون له الصلاحية للاستدلال به على الحكم الشرعي. ويخرج بقولنا « عام » كل ما يصلح أن يكون دليلا على الحكم الشرعي ولكن في موارد محدودة وهو ما عبّر عنه المصنّف بالعنصر المختص.

إذن كل دليل وعنصر مشترك ـ لو ثبت كان صالحا للاستدلال به

١٧

على الحكم الشرعي ـ هو موضوع علم الأصول فهذا هو الموضوع الجامع لموضوعات مسائل علم الأصول ، والعناوين التي يتوخى منها الكاشفية والدليليّة على الحكم الشرعي تحدد في علم آخر غير علم الأصول ، وعلم الأصول يبحث عن دليليتها وكاشفيتها للحكم الشرعي وعدم ذلك فالشهرة والقياس والظهور وخبر الواحد عناوين يتوخى منها الدليليّة والمساهمة في الكشف عن الحكم الشرعي ، وهذه العناوين يتم تحريرها في علوم أخرى ، والذي يبحثه علم الأصول هو صلاحيتها للدليلية وعدم صلاحيتها فمثلا تحرير معنى الظهور ومعنى الشهرة ومعنى خبر الواحد ومعنى الشك يتم في علم الدراية والمنطق واللغة ، وبحث الأصولي عن هذه العناوين هي محاولة منه للبرهنة على صلاحيتها للمساهمة في الكشف عن الحكم الشرعي أو عدم ذلك وهذا معنى البحث عن دليليتها وعدمها الذي ادعينا أنه جامع لموضوعات علم الأصول.

ثم إننا لو حاولنا إرجاع هذه العناوين ـ الواقعة موضوعا لمسائل علم الأصول ـ إلى الموضوع ـ الذي هو كل دليل عام صالح للوقوع في طريق الاستنباط ـ لوجدنا أن ذلك ممكن بحيث لا يشذّ موضوع مسألة من هذه المسائل عن هذا الجامع.

فمثلا حجيّة الظهور موضوعها الظهور ومحمولها الحجيّة والدليليّة ، ومن الواضح أن الظهور من العناوين الصالحة للدليلية فهو ينضوي تحت عنوان ـ كل دليل عام صالح للوقوع في طريق الاستنباط ـ وهكذا حجية خبر الثقة والشهرة وكذلك الحكم بوجوب شيء هل يستلزم حرمة ضدّه ، فالحكم بالوجوب عنوان صالح للوقوع في طريق إثبات حرمة الضد وصالح

١٨

للوقوع في طريق إثبات وجوب المقدّمة وهكذا.

فمثل حرمة الضد ووجوب المقدمة محمولات لهذا الموضوع ـ وهو الحكم ـ وهو عنوان داخل تحت عنوان قولنا ـ كل دليل عام صالح للوقوع في طريق الاستنباط ـ وهكذا ينسحب الكلام إلى الأصول العملية ، فالبحث عن أنّ الشك مجرى للبراءة ـ مثلا ـ بحث عن صلاحية الشك لإثبات حكم شرعي ـ وهو الترخيص ـ وعدم صلاحيته.

وخلاصة القول إن موضوع علم الأصول هو الأدلة العامة الواقعة في طريق استنباط الحكم الشرعي.

قوله رحمه‌الله : « والبحث الأصولي يدور دائما حول دليليّتها » ، أي صلاحيّتها للدلالة على الحكم الشرعي ، أو قلّ أهليتها لإثبات الحكم الشرعي ، فالبحث الأصولي مثلا يبحث عن صلاحيّة الأدلّة الظنيّة المحرزة ، فمتى ما ثبتت لها الدليليّة ، فهذا معناه ثبوت الحجيّة والصلاحيّة للكشف عن الحكم الشرعي.

فائدة علم الأصول :

وبما بيّناه سابقا في مقام بحث تعريف وموضوع علم الأصول يتّضح مدى الفوائد المترتبة على هذا العلم ، إذ أنه تحرّر في هذا العلم وسائل المعرفة للأحكام الشرعية في كثير من الأبواب الفقهيّة فليس للفقيه طريق آخر يدخل من خلاله للفقه ومعرفة أحكام أفعال المكلفين.

نعم الفقيه في مقام تحديد الأحكام الشرعية وأن هذا حلال وهذا حرام أو واجب يحتاج إلى عناصر أخرى ليست من علم الأصول تكون

١٩

بمثابة المواد والصغريات للأقيسة التي يتوصل عن طريق تشكيلها للنتيجة الفقهيّة ، وهذه المواد والصغريات التي عبّر عنها بالعناصر الخاصة تتغير بتغير المطلوب الذي يريد الفقيه الوصول إليه ، فهي عناصر غير مطّردة في جميع أبواب الفقه ولا تكون الحاجة إليها إلا في موارد خاصّة وتكون موارد أخرى محتاجة إلى مواد وعناصر صغروية أخرى.

وهذا بخلاف المسائل الأصولية فإنها مطّردة ونافعة للوصول إلى كثير من النتائج الفقهيّة.

وخلاصة القول إنّ النتيجة الفقهية تتوقّف على نوعين من المقدّمات.

المقدّمة الأولى : هي العناصر الخاصّة التي ليس لها اطّراد لغير مواردها والتي عبّرنا عنها بمواد وصغريات أقيسة النتائج الفقهيّة من قبيل وجود رواية على حرمة لحم الأرنب وأنّها رواية معتبرة وأنّها ظاهرة في الحرمة وأنّها غير مبتلية بمعارض أو بمقيّد أو ما إلى ذلك.

ومن الواضح أن هذه الرواية بتمام حيثياتها لا يستفاد منها إلا في موردها وهو وقوعها صغرى لقياس يراد استنتاج حرمة لحم الأرنب منه.

المقدّمة الثانية : العناصر المشتركة وهي الأدلة العامة التي يمكن التوسّل بها للوصول إلى كثير من النتائج الفقهية المتفرقة في أبواب الفقه مثل حجيّة خبر الثقة وحجيّة الشهرة وحجيّة ظواهر الكتاب ، فإنّ هذه المسائل تقع في طريق استنباط أحكام شرعية كثيرة ومختلفة ، فيمكن الاستفادة منها في باب الطهارة والصلاة والحج والخمس والرهن والقصاص وهكذا.

إذا اتضح هذا فنقول : إن المقدمة الأولى يبحثها الفقيه في غير علم

٢٠