شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ١

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: ثامن الحجج
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٦٣
الجزء ١ الجزء ٢

موضوعا للحرمة ، فالقطع الطريقي صالح للكشف عن تحقق هذا الموضوع وذلك عن طريق حصول القطع للمكلّف بأنّ هذه المرأة في العدّة ، وحينما يحصل هذا القطع للمكلّف يجد نفسه مذعنة بتحقّق موضوع الحرمة خارجا.

وأمّا الثاني : وهو الدليل الظني المحرز والمعبّر عنه بالأمارات ، وكيفية تحقيقه لموضوع الحرمة ـ وهو القطع بكونها في العدة ـ هو أن تقوم بيّنة مثلا على أن هذه المرأة في العدّة ، وهنا وقع البحث عند الأعلام في صلاحيّة مثل البيّنة لتنقيح وتحقيق موضوع الحرمة ـ والذي هو القطع بكون المرأة في العدّة ـ والبيّنة لا تحقّق القطع بل أكثر ما تحقّقه هو الظن ، نعم الأدلة الظنيّة المحرزة قام الدليل القطعي على حجيتها ، إلاّ أن القدر المحرز من قيام الدليل هو حجيّتها وتنجيزها أو تعذيرها لما تكشف عنه من أحكام شرعيّة ، وهذا هو معنى قيام الأمارات مقام القطع الطريقي ، أما قيامها مقام القطع الموضوعي وتحقيقها لموضوع حكم أخذ في موضوع ذلك الحكم القطع بشيء من الأشياء ، فهذا يحتاج إلى دليل مستقل.

وهذا البحث هو المتصدّي لهذه المهمّة أي مهمة إثبات أو نفي قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي بعد الفراغ عن قيامها مقام القطع الطريقي كما بيّنّا ذلك.

فنقول : إن الأعلام « رضوان الله عليهم » قد اختلفوا في ذلك ومنشأ الخلاف الواقع بينهم هو الاختلاف فيما هو المراد من القطع المأخوذ موضوعا في حكم من الأحكام.

وبعبارة أخرى : ان الاختلاف في تحديد معنى القطع الموضوعي هو

١٤١

المؤثر في ما هو المبنى في المقام.

وهنا يوجد اتجاهان :

الاتجاه الأوّل : المراد من القطع المأخوذ في موضوع حكم من الأحكام هو الحجة وليس القطع إلا واحدا مما له الحجة ، وليس هو المقصود بالذات بل هو كل ما يصلح للتنجيز والتعذير ، فكما أن القطع صالح للتنجيز والتعذير كذلك الأمارة ، فتكون الأمارة محقّقة أيضا لموضوع حكم أخذ فيه القطع إذ المراد من القطع هو ما له الحجية ، والأمارة مما لها الحجية ، وما القطع الذي ذكر في موضوع الحكم إلا مثالا لما له الحجيّة.

وبناء على هذا المبنى تكون الأمارات صالحة للقيام مقام القطع الموضوعي ، ففي مثالنا ـ وهو أن المرأة المقطوع بكونها في العدّة يحرم الزواج منها ـ يمكن للأمارة أن تحقّق موضوع هذا الحكم وأن تثبت أنّ هذه المرأة في العدّة ، وذلك لما قلنا من أن القطع المأخوذ في هذا الحكم ما هو إلاّ مثال للحجية ، والحجية هي موضوع هذا الحكم واقعا ، فكأنما المولى قال : المرأة التي قامت الحجة على أنها في العدّة يحرم الزواج منها.

الاتجاه الثاني : أن المراد من القطع المأخوذ في موضوع حكم من الأحكام هو الكاشف التام عن متعلّقه.

وبعبارة أخرى : إن القطع الذي جعل موضوعا للحكم هو القطع الحقيقي والذي لا يكون معه شك ، وبناء على هذا الفهم من معنى القطع المأخوذ في الموضوع لا تكون الأمارات صالحة لتنقيح الموضوعات المأخوذ فيها القطع وذلك لأنها لا تبلغ مرتبة العلم الذي لا يكون معه شك ، فهي لا تخرج عن حيّز الظن ، ففي مثالنا لا تكون البيّنة صالحة

١٤٢

لتحقيق موضوع حرمة الزواج من هذه المرأة ، إذ أن البيّنة لا تبلغ مرتبة العلم الذي ليس معه شك في حين أن موضوع الحرمة هو العلم بكون المرأة في العدّة.

نعم لو استظهرنا من الأدلة التي دلّت على حجيّة الأمارة أنّ الأمارة منزّلة منزلة العلم تعبّدا بحيث يكون هذا التنزيل التعبّدي ملغيا لمقدار النقص في كاشفية الأمارة ، ففي هذه الحالة لا إشكال في صلوح الأمارة لتنقيح الموضوع المأخوذ فيه القطع أي قيامها مقام القطع الموضوعي في ذلك.

ومن الواضح أنّ هذا التنزيل يحتاج إلى لسان خاص ولا يكفي فيه جعل الأمارة حجة أي أن قيام الدليل القطعي على حجيّة الأمارة لا يفي بإثبات كون الأمارة منزّلة منزلة القطع ، إذ أن جعل الأمارة حجة لا يعني أكثر من كون الأمارة صالحة للتنجيز والتعذير أما أنها صالحة للقيام مقام ما أخذ القطع فيه فليس لهذه الأدلة المثبتة للحجيّة دلالة عليه ، فنحتاج لإثبات هذه الخصوصيّة الزائدة ـ وهي تنزيل الأمارة منزلة العلم ـ إلى لسان خاص يثبت التنزيل عرفا كما في تنزيل الطواف في البيت منزلة الصلاة حيث إن مبرّر هذا التنزيل هو هذه الرواية « الطواف بالبيت صلاة » (١) إذ أنّ هذه الرواية يستفاد منها التنزيل عرفا.

والمتحصّل مما ذكرنا أن قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي مبنيّ على

__________________

(١) مستدرك الوسائل : الباب ٣٨ من أبواب الطواف الحديث ٢ ، سنن النسائي : ٥ / ٢٢٢ ، سنن الدارمي : ٢ / ٦٦ الحديث ١٨٤٧

١٤٣

تحديد المراد من القطع المأخوذ في الموضوع ، فبناء على الاتجاه الأول تكون الأمارة صالحة للقيام مقام القطع الموضوعي ، وعلى الثاني لا تكون الأمارة صالحة لذلك إلاّ أن يستفاد من دليل حجّيتها التنزيل أو يستفاد من دليل آخر غير دليل الحجيّة كأن يقوم دليل آخر على تنزيل الأمارة منزلة العلم بعد الفراغ عن ثبوت الحجيّة لها.

وأمّا الثالث : وهو الأدلة العمليّة فلم يتعرّض المصنّف لها ولا بأس ببيان كيفيّة قيامها مقام القطع الموضوعي ، وذلك عن طريق الرجوع إلى المثال السابق ، فقول المولى : « المرأة المقطوع بكونها في العدّة يحرم الزواج منها » حكم شرعي ترتّب على موضوع أخذ في هذا الموضوع القطع ، فلو كنّا على يقين سابق بكون هذه المرأة في العدّة فهنا يجري الاستصحاب ، فيقع الكلام في هذا الاستصحاب هل هو كاف في تحقيق موضوع الحرمة أو لا؟ فلو كان كافيا لذلك فهذا يعني قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي ، وأما إذا لم يكن كافيا لذلك فهو يعني عدم قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي.

١٤٤

المطلب الخامس

إثبات الدليل لجواز الإسناد

قلنا في بحث جواز الإسناد : إن المراد من جواز الإسناد هو جواز إضافة ونسبة الحكم المنكشف إلى المولى ، فلو كشف الدليل عن وجوب شيء أو حرمة شيء فإن جواز الإسناد يعني صحة إضافة ونسبة هذا الحكم إلى المولى بأن نقول إن المولى قد أوجب هذا وحرّم هذا.

والمتصدّي لإثبات جواز الإسناد وعدمه هو علم الفقه ؛ إذ أن البحث في هذه المسألة إنما هو عن حكم فعل من أفعال المكلّفين ، وبيان أحكام أفعال المكلّفين إنما هو من وظائف علم الفقه لا علم الأصول ، إذ قلنا إن الذي يبحث عنه في علم الأصول إنما هو الأدلة العامّة التي يمكن أن تقطع طريقا في استنباط الأحكام الشرعيّة.

ومع اتّضاح هذه المقدّمة ، نقول : إن إسناد الحكم إلى الشارع يتصوّر له ثلاث حالات :

الحالة الأولى : الإسناد بغير علم ، كأن ينسب المكلّف حكما إلى الشارع دون أن يكون له أيّ مستند على ذلك.

وفي مثل هذه الحالة لا إشكال في حرمة الإسناد وقد تصدّى الفقهاء

١٤٥

( رضوان الله عليهم ) للاستدلال على هذا الحكم.

الحالة الثانية : الإسناد بعلم ، وهذه الحالة هي القدر المتيقّن من جواز الإسناد وقد تحدّثنا عنها في بحث سابق.

الحالة الثالثة : الإسناد اعتمادا على دليل ظنّي محرز « الأمارة » إلا أنه مما دل الدليل القطعي على حجّيته ، ويمكن التفصيل في هذه الحالة بين إسناد نفس الحجية إلى الشارع المقدّس كأن نقول إن الشارع قد جعل الحجية لخبر الثقة وبين إسناد الحكم المنكشف بهذا الدليل إلى الشارع المقدّس.

أمّا الأول : وهو إسناد نفس الحجية إلى الشارع ، فهو داخل في الحالة الثانية إذ أن إسناد الحجيّة إلى الشارع ـ وأنّ هذا حكم ظاهري قد جعل الشارع له الحجية ـ إسناد بعلم لأنّ فرض الكلام أنّ هذا الدليل الظني مما دل الدليل القطعي على حجيّته.

وأمّا الثاني : وهو إسناد الحكم المنكشف بالدليل الظني إلى الشارع ، كأن يسند حرمة العصير العنبي ـ التي كشفت عنها الأمارة ـ إلى الشارع.

وهذا المقدار هو الذي وقع فيه الكلام بين الأعلام ( رضوان الله تعالى عليهم ) ، فمن قال بعدم جواز الإسناد أرجع هذه الحالة إلى الحالة الأولى ـ وهي الإسناد بغير علم ـ بدعوى أنها لا تنقّح موضوع الحكم بجواز الإسناد والذي هو القطع بالحكم الذي يراد إسناده إلى المولى حيث قلنا في بحث جواز الإسناد إن موضوع جواز الإسناد هو القطع بكون الحكم صادرا عن المولى ، فالقطع قد جعل موضوعا لجواز الإسناد ، والأمارة لا تحقق هذا الموضوع ، إذ أن جعل الحجية لها لا يفيد أكثر من جواز الاستناد

١٤٦

إليها في مقام العمل ، وهذا هو معنى جعل المنجزيّة والمعذريّة للأمارة ـ كما قلنا ذلك في بحث جواز الإسناد ـ.

وفي مقابل هذا القول ، ذهب بعض الأعلام إلى جواز الإسناد اعتمادا على الأمارة ، وذلك لأن الأمارة تقوم مقام القطع الموضوعي ، إذ أن المراد من القطع المأخوذ في موضوع جواز الإسناد هو مطلق الحجّة ، وما القطع إلاّ مثال للحجّة ، فالمأخوذ واقعا في موضوع جواز الإسناد هو الحجة الأعم من الدليل القطعي أو الدليل الظني الذي دلّ الدليل القطعي على حجّيته ، أو بأن يقال بأنّ القطع المأخوذ في موضوع جواز الإسناد وإن كان هو القطع الحقيقي ولكن لمّا كان دليل الحجية للأمارة قد نزّل الأمارة منزلة العلم تعبّدا فإنّ هذا يصلح أن يكون مبرّرا لصلوح الأمارة لتنقيح وتحقيق موضوع جواز الإسناد ، فكما أنّ القطع الطريقي ينقّح موضوع جواز الإسناد فكذلك الأمارة بناء على التنزيل. وبهذا تقوم الأمارة مقام القطع الموضوعي وتكون مصحّحة لجواز الإسناد.

وهناك حالة رابعة لإسناد الحكم للشارع أهملها المصنّف رحمه‌الله وهي الإسناد اعتمادا على الأدلّة العمليّة كما لو أسند الحكم إلى الشارع اعتمادا على الاستصحاب ، وهنا يأتي التفصيل السابق أيضا بين إسناد نفس حجية الاستصحاب إلى الشارع ، وهذا لا إشكال في جوازه وذلك لأنّ إسناد نفس حجية الاستصحاب إلى الشارع إسناد بعلم لقيام الدليل القطعي على حجيّة الاستصحاب.

ويبقى الكلام في جواز إسناد نفس الحكم المستصحب إلى الشارع ، كإسناد وجوب الجمعة المستفاد من الاستصحاب إلى الشارع.

١٤٧

وهنا يأتي نفس الكلام السابق من أنّ المراد من القطع هو الحجة أو القطع الحقيقي ، فإن كان الأوّل فالاستصحاب مصحّح لجواز الإسناد ، وإن كان الثاني فالاستصحاب لا يصحّح الإسناد إلاّ إذا قلنا بأنّ دليل الحجية للاستصحاب قد نزّل الاستصحاب منزلة العلم. والبحث في محلّه.

هذا تمام الكلام في المبادئ التي أراد المصنّف إيرادها قبل بحث الأدلة المحرزة.

والمراد من المبادئ في المقام هي : المبادئ التصديقيّة لهذا العلم ، والتي هي في مقابل المبادئ التصورية ، وقد بيّنّا معنى المبادئ التصوّرية في بحث موضوع علم الأصول.

أمّا المبادئ التصديقية لكل علم فهي عبارة عن المقدّمات التي يكون تحريرها نافعا في الاستدلال على مسائل ذلك العلم ، فتكون هذه المبادئ بمثابة الأصول الموضوعية التي يرجع إليها الباحث عن ذلك العلم لتحصيل الوثوق بنتائج تلك المسائل.

وبتعبير آخر : هذه المبادئ تبحث لغرض إيقاعها بعد ذلك في كبرى أو صغرى أقيسة ذلك العلم.

وتطبيق ما ذكرنا على المقدّمات الخمس التي بحثناها يتّضح بالتأمّل ، فمثلا قاعدة أنّ الأصل عند الشك في الحجية هو عدم الحجية يمكن الاستفادة منها في بحث حجية قول اللغوي أو حجية خبر الثقة في الموضوعات ، وكذلك لو شككنا في إطلاق حجية الاستصحاب في حالات الشك في المقتضي ، وهكذا.

١٤٨

الدليل الشرعي

ويقع البحث عنه في مباحث :

المبحث الأول : في تحديد دلالات الدليل الشرعي والذي ـ كما قلنا ـ يبحث عن الحد الأصغر لقياس نتيجته الدليل الشرعي.

المبحث الثاني : في إثبات صغرى الدليل الشرعي : وهو ـ كما قلنا ـ ما يبحث عن الأدلّة المحقّقة لصغرى قياس نتيجته الدليل الشرعي.

المبحث الثالث : في إثبات حجيّة الدلالة في الدليل الشرعي وهو ـ كما قلنا ـ البحث عن كبرى قياس نتيجته الدليل الشرعي.

١٤٩
١٥٠

المبحث الأوّل

تحديد دلالات الدليل الشرعي

١ ـ الدليل الشرعي اللفظي

٢ ـ الدليل الشرعي غير اللفظي

١٥١
١٥٢

الدليل الشرعي اللفظي

تمهيد :

قلنا ـ فيما سبق ـ إن الدليل الشرعي اللفظي هو : عبارة عن الخطابات الصادرة عن الشارع المقدّس ، كالقرآن الكريم ، وكالأحاديث الواصلة لنا عن المعصومين عليهم‌السلام.

وهذا النوع من الأدلّة الشرعيّة له ارتباط وثيق باللغة العربية وبما يحكمها من ضوابط وأصول. ومنشأ هذا الارتباط هو أنّ مادة هذا الدليل الشرعي هي الألفاظ العربية إذ أنّ مدار البحث في الدليل الشرعي اللفظي هو استنطاق الآيات والروايات لغرض التعرّف على الأحكام الشرعيّة المودعة في هذه المركّبات اللفظية فلا بدّ للممارس لعملية الاستنباط أن يكون متوفّرا على آلة الدخول في هذا المعترك الشائك. وهذا ما يبرر البحث عن مجموعة من الضوابط اللغوية التي تساهم في معرفة ما للألفاظ من علاقة بالمعاني ، كما تساهم في تشخيص الظهور وعلاقة هذا الظهور باللفظ أو بمناسبات الحكم والموضوع مثلا ، كما أنها تساعد على استكشاف الخلل الذي قد يتّفق وقوعه في بعض الروايات نتيجة نقلها بالمعنى أو وقوع التصحيف الناشئ من اشتباه النسّاخ.

فالتعرّف على ضوابط اللغة العربية وبالخصوص ما سنطرحه منها مهم جدا للممارس لعملية الاستنباط.

١٥٣

الظهور التصوّري والظهور التصديقي :

يمكن تقسيم دلالات الألفاظ على المعاني إلى ثلاث دلالات :

الأولى : الدلالة التصوّريّة :

وهي الدلالة التي توجب خطور معنى اللفظ في الذهن ، وهذا النوع من الدلالات لا يتوقّف على كون المتلفّظ بها عاقلا فضلا عن أن يكون ملتفتا ، بل إنّ هذه الدلالة تتحقّق بمجرّد صدور اللفظ من أي لافظ حتى وإن كان ببغاء ، أو كان من غير ملتفت كأن كان نائما ، أو ملتفتا ولكنه لم يقصد إخطار هذا المعنى من اللفظ بل أراد إخطار معنى آخر كما لو أراد من اللفظ غير ما وضع له كأن يقول : « زرت في هذا اليوم ثعلبا » فإنّ السامع وإن كان يعلم بأنّ اللافظ لم يرد من الثعلب معناه الحقيقي ، ولكن مع ذلك ينخطر في ذهنه معنى الثعلب.

وهذه الدلالة تسمّى أيضا بالدلالة الوضعيّة ؛ وذلك لأنّ منشأ خطور المعنى من اللفظ هو العلم بأنّ هذا اللفظ وضع لهذا المعنى ؛ فلذلك لا يحصل هذا الخطور الذهني من اللفظ ممن لا يعلم بالوضع ، فالجاهل باللغة العربية لا يحصل له تصوّر معنى « الماء » من إطلاق لفظ « الماء ».

الثانية : الدلالة التصديقيّة :

وهي التي توجب أيضا خطور معنى اللفظ في الذهن إلا أنها توجب شيئا آخر بالإضافة إلى ذلك وهو أن المتكلّم أراد إخطار هذا المعنى في ذهن السامع ، فهي إذن تضيف إلى الدلالة التصورية معنى زائدا ، وهذا هو المبرّر لاختلافها عن الدلالة التصوريّة.

١٥٤

وبهذا يتّضح أن الدلالة التصديقيّة تتوقّف على كون المتلفّظ عاقلا وملتفتا إذ أنه لا يمكن استظهار كون المتكلّم مريدا لإخطار المعنى من اللفظ ما لم يكن التفاته محرزا.

ومن هنا تعرف أن هذا النحو من الدلالة يتوقّف على مقدّمتين :

المقدّمة الأولى : هي علم السامع بالوضع ، وهذه هي جهة الاشتراك بينها وبين الدلالة التصوّرية.

المقدّمة الثانية : العلم بأنّ المتكلّم عاقل ملتفت وهذه هي جهة الافتراق عن الدلالة التصوّرية.

إذن حقيقة الدلالة التصديقيّة هو أنها دلالة حالية مستفادة من ظهور حال المتكلّم.

ومثالها أن يأتي المتكلّم الملتفت بلفظ الأسد ، فإنّ السامع حينئذ يتصوّر معنى الأسد ويعرف أنّ المتكلّم قصد إخطار معنى الأسد في ذهن السامع.

وتسمّى هذه الدلالة بالتصديقيّة الأولى ، وتسمّى أيضا بالدلالة الاستعمالية ، والتي هي بمعنى استعمال اللفظ لغرض إخطار المعنى في ذهن السامع.

الثالثة : الدلالة التصديقية الثانية :

وهي التي تكون متوفّرة على الدلالتين الأولى والثانية بالإضافة إلى دلالة ثالثة وهي قصد المتكلم الحكاية عن الواقع الأعم من الواقع الخارجي أو واقع نفسه ، فحينما يقول المتكلّم الملتفت الجاد « زيد فقير » فهو يحدث في ذهن السامع ثلاث دلالات :

١٥٥

الأولى : تصور معنى « زيد » ، وتصور معنى « فقير » وتصور النسبة بين « زيد و « فقير ».

الدلالة الثانية : هي أن المتكلم استعمل هذه الألفاظ لغرض إخطار هذه المعاني في ذهن السامع.

والدلالة الثالثة : هي أن المتكلم قاصد الحكاية عن واقع خارجي هو « فقر زيد » ، وهذه هي الدلالة التصديقية الثانية.

وقد يكون المتكلّم قاصدا الحكاية عن واقع نفسه كما في الجمل الإنشائيّة ، كأن يقول المتكلّم الملتفت الجاد « أكرموا العلماء » فإنّ هذه الجملة متوفّرة على الدلالتين الأولى والثانية ، بالإضافة إلى دلالة ثالثة وهي قصد المتكلم الحكاية عن واقع نفسه ، وهو أن له إرادة في إكرام العلماء.

وهذه الدلالة تفترق عن الدلالتين ـ بالإضافة إلى ما ذكرناه ـ بأنها لا تتعقل إلا في الجمل التركيبية التامة إذ أن قصد الحكاية عن الواقع الخارجي أو واقع النفس لا يكون إلا بجملة مشتملة على موضوع وحكم ويكون الحكم فيها منتسبا إلى الموضوع.

وهذا بخلاف الدلالة التصورية وكذلك الدلالة التصديقية الأولى فإنهما يمكن تعقلهما في الجمل التركيبية التامة وكذلك يمكن تعقلهما في المفردات اللفظية غير الواقعة في إطار جمل تركيبية تامة ، فلفظ الماء إذا صدر عن غير ملتفت فالدلالة تصورية ، وإذا صدر من ملتفت فالدلالة تصديقية أولى ، وكذلك لو قال « زيد فقير » فإذا صدرت هذه الجملة من متكلّم نائم أو غافل فهي تصورية وإن صدرت من ملتفت قاصد لإخطار هذه الجملة في ذهن السامع إلا أنه غير جاد وغير قاصد الحكاية والإخبار عن الواقع

١٥٦

بل كان هازلا أو كاذبا ، فهذه دلالة تصديقية أولى ، والمسماّة بالدلالة الاستعمالية.

وبهذا البيان يتّضح معنى الدلالة التصديقية الثانية والتي تسمّى بالدلالة الجدّية ، واتّضح أيضا أن هذه الدلالة لا تستفاد من حاق اللفظ ، بل إنها مستفادة منه ومن شيء آخر وهو العلم بحال المتكلم وأنه جاد فيما يقول وقاصد للحكاية عن الواقع.

والمتحصّل مما ذكرنا أن الدلالة التصورية دلالة لفظية ناشئة عن العلم بالأوضاع اللغوية ، والدلالة التصديقية الأولى والثانية دلالة حالية مستفادة من معرفة حال المتكلّم فإن كان المتكلّم مريدا لإخطار المعاني من الألفاظ فحسب فهي دلالة تصديقية أولى ، وإن كان مريدا ـ بالإضافة إلى ذلك ـ الحكاية عن الواقع وجادّا في حكايته فالدلالة تصديقيّة ثانية.

الوضع وعلاقته بالدلالات المتقدّمة

ذكرنا في البحث السابق أن الدلالة التصورية هي الدلالة الموجبة لتصوّر المعنى عند إطلاق اللفظ ، فاللفظ بمثابة السبب لخطور المعاني في الذهن ، وهنا نتساءل عن ما هو المنشأ لهذه السببية الواقعة بين الألفاظ ومعانيها وما هو السرّ في هذه العلاقة.

وهنا نشأت مجموعة من النظريات لغرض الكشف عن منشأ هذه العلاقة.

النظرية الأولى : السببيّة الذاتية :

هي أن العلاقة الواقعة بين اللفظ والمعنى هي علاقة السببيّة الذاتية ،

١٥٧

فاللفظ سبب ذاتي لوجود المعنى.

وبعبارة أخرى : إن المعنى لازم ذاتي للفظ ، واللازم الذاتي ـ كما ذكرنا في بحث القطع ـ هو المحمول الخارج عن الذات اللازم لها بحيث يستحيل تخلّفه عنها ، فعلاقة اللفظ بالمعنى كعلاقة النار بالحرارة ، فكما أنّ الحرارة لازم ذاتي للنار ، كذلك المعنى لازم ذاتي للفظ ، وهذا يقتضي استحالة تخلّف انخطار المعنى عند إطلاق اللفظ لأن ذلك خلف الذاتيّة الواقعة بينهما.

والجواب على هذه النظريّة :

هو أننا بالوجدان نرى أن انخطار المعاني من الألفاظ يحتاج إلى اكتساب ، فغير العالم بالأوضاع اللغوية لا ينقدح في ذهنه المعنى عند إطلاق لفظه وما ذلك إلا لأن تصوّر المعاني عن الألفاظ مفتقر إلى دراسة الأوضاع اللغوية وهذا ما ينافي الذاتية المدعاة ، إذ أن الذاتية تقتضي كفاية تصوّر اللفظ لانقداح المعنى في الذهن ، كما هو الشأن في سائر اللوازم الذاتية بالنسبة لملزوماتها.

وبهذا اتّضح فساد هذه النظرية التي تبنّاها مجموعة من الأدباء.

النظريّة الثانية : السببية الوضعية الاعتبارية :

إنّ العلاقة الواقعة بين اللفظ والمعنى نشأت عن الأوضاع اللغوية وذلك أن الواضع يضع لفظا بإزاء معنى من المعاني فيكون هذا الوضع سببا في نشوء هذه العلاقة وانتقال ذهن السامع إلى المعنى حين إطلاق اللفظ.

وإذا كانت العلاقة ناشئة عن الوضع فهذا يعني أن هذه العلاقة اعتباريّة وليس لها واقع وراء اعتبار الواضع.

ومع اتّضاح هذا نقول : إنّ مجموعة من الأعلام « رضوان الله تعالى

١٥٨

عليهم » تبنّوا هذه النظرية وأن منشأ هذه العلاقة بين اللفظ والمعنى هو اعتبار الواضع إلا أنهم اختلفوا في كيفيّة الاعتبار الذي أنشأ العلاقة ، فهل هو اعتبار السببيّة أو اعتبار الآلية أو أنه اعتبار اللفظ علامة على المعنى.

ولتوضيح هذه المسالك الثلاثة لا بدّ من إفراد كل واحد منها ببيان.

المسلك الأول :

والذي هو مسلك السببيّة وهو عبارة عن أنّ الواضع يعتبر اللفظ سببا في تصوّر المعنى ، فكأنّ اللفظ علّة لانخطار المعنى في الذهن والمعنى المتصوّر عن اللفظ معلول لها ، غايته أنها عليّة ومعلوليّة اعتباريّة.

ويمكن إيضاح ذلك ببعض الاعتبارات الشرعيّة مثل أن يقول المولى : ( إذا قالت المرأة للرجل زوّجتك نفسي ، وقال الرجل للمرأة قبلت الزواج ) فإنّ المرأة بهذا الكلام تصبح زوجة والرجل يصبح زوجا لها ، فكأنّما المولى اعتبر هذه الألفاظ سببا لتحقّق الزوجيّة ، فكذلك المقام فإنّ الواضع إذا اعتبر اللفظ سببا في تصوّر المعنى فإن ذلك يقتضي تصوّر المعنى عند إطلاق اللفظ إذ أنّ تصوّر المعنى يصبح مسبّبا عن اللفظ.

المسلك الثاني :

والذي عبّرنا عنه بمسلك الآليّة ، وهو عبارة عن اعتبار الواضع اللفظ آلة في تفهيم المعنى.

والفرق بين الآلية والسببيّة هو : أنّ الآلة ليست أكثر من الوسيلة التي يتوصّل بها إلى الغرض ، فهي كالمنشار بالنسبة للنجار ، فكما أنّ المنشار قد توجد وبإزائها الخشبة ومع ذلك فهي لا تنشر الخشبة إلاّ أن يأتي النجار فينشر الخشبة بها ، فكذلك اللفظ ليس له أن يخطر المعنى في الذهن إلاّ أن

١٥٩

يستعمله مستعمل فعند ذلك يحصل الانخطار.

وهذا بخلاف السببية فإنّ السببية تقتضي تحقّق المسبّب بمجرّد وجود سببه التام. ومن هنا فإنّ اللفظ يوجب تصوّر المعنى مطلقا بناء على السببية ولا يوجبه بغير الاستعمال بناء على الآلية.

المسلك الثالث :

والذي عبّرنا عنه بمسلك العلاميّة ، والذي هو عبارة عن اعتبار الواضع اللفظ علامة على المعنى فهو بمثابة الإشارات التي يحدثها الأخرس لغرض تفهيم مراداته وكالعلامات الموضوعة على الطرقات لبيان أنّها مغلقة أو سالكة.

وباتّضاح هذه المسالك الثلاثة ، نجد أنها وإن كانت تختلف في بيان كيفيّة الاعتبار إلاّ أنّها تشترك في أنّ المنشأ للعلاقة بين اللفظ والمعنى هو اعتبار الواضع.

والجواب على هذه النظريّة بتمام مسالكها :

إنّ هذه النظريّة تفترض أن المنشأ لحدوث العلاقة بين اللفظ والمعنى هو الاعتبار ، والاعتبار ليس له واقع إذ أنّه ليس له وجود وراء اعتبار المعتبر في حين أننا نرى وبالوجدان أنّ العلاقة بين اللفظ والمعنى علاقة واقعيّة حتى لو قطعنا النظر عن الاعتبار والمعتبر ، فلو كانت العلاقة اعتباريّة محضة فإنّ ذلك يقتضي انتهاء العلاقة بمجرّد قطع النظر عن الاعتبار إذ أنّ الاعتبار متقوّم بالالتزام به فلو ألغيناه أو تجاوزناه فإن ذلك يفضي إلى انعدام العلائق الناشئة عنه.

ومن هنا نقول : إنّ هذه النظريّة لم تقف على السر في نشوء هذه

١٦٠