التقيّة في الفكر الإسلامي

السيد ثامر هاشم العميدي

التقيّة في الفكر الإسلامي

المؤلف:

السيد ثامر هاشم العميدي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8629-82-X
الصفحات: ١٨٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

نفسه أو بعض أعضائه التلف إن لم يفعل ما أُمِر به ، فأبيح له في هذه الحال أن يُظهِر كلمة الكفر) (١) وفي تفسير الماوردي : (إنّ الآية نزلت في عمار بن ياسر وأبويه ياسر وسمية وصهيب وخباب ، أظهروا الكفر بالاكراه وقلوبهم مطمئنة بالإيمان) (٢).

وبالجملة ، فان جميع ما وقفت عليه من كتب التفسير وغيرها متفق على نزول الآية بشأن عمار بن ياسر وأصحابه الذين وافقوا المشركين على ما أرادوا وأعذرهم الله تعالى بكتابه الكريم ، على أن بعضهم لم يكتف ببيان هذا ، بل توسع في حديثه عن التقيّة ، مبيناً مشروعيتها ، مع الكثير من أحكامها بكل صراحة (٣).

____________

(١) أحكام القرآن / الجصاص ٣ : ١٩٢ ، دار الفكر ، بيروت.

(٢) تفسير الماوردي (النكت والعيون) ٣ : ٢١٥ ، دار الكتب العلمية ، بيروت.

(٣) اُنظر : تفسير الواحدي الشافعي ١ : ٤٦٦ مطبوع بهامش تفسير النووي المسمى بـ (مراح لبيد) دار إحياء الكتب العربية ، مصر ، والمبسوط للسرخسي ٢٤ : ٢٥. وأحكام القرآن للكيا الهراسي ٣ : ٢٤٦ ، دار الكتب العلمية ، بيروت / ١٤٠٥ هـ. والكشاف / الزمخشري ٢ : ٤٤٩ ـ ٥٥٠ ، دار المعرفة ، بيروت. والمحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز / ابن عطية الأندلسي ١٠ : ٢٣٤ ـ ٢٣٥ تحقيق المجلس العلمي بفاس / ١٤٠٧ هـ. وأحكام القرآن / ابن العربي ٢ : ١١٧٧ ـ ١١٨٢ دار المعرفة ، بيروت (وفيه كلام طويل عن التقيّة). وزاد المسير في علم التفسير / ابن الجوزي ٤ : ٤٩٦ ، ط ٤ ، المكتب الإسلامي ، بيروت / ١٤٠٧ هـ. والتفسير الكبير / الفخر الرازي ٢٠ : ١٢١ ، ط ٣. والمغني / ابن قدامة ٨ : ٢٦٢ و ١٠ : ٩٧ مسألة ٧١١٦ ، ط ١ ، دار الفكر ، بيروت / ١٤٠٤ هـ. والجامع لأحكام القرآن / القرطبي ١٠ : ١٨١ ، دار إحياء التراث العربي. وأنوار التنزيل وأسرار التأويل / البيضاوي ١ : ٥٧١ ، ط ٢ ، مصر / ١٣٨٨ هـ. وتفسير الخازن / علي بن محمد الخازن الشافعي ١ : ٢٧٧. وتفسير ابن جزي الكلبي : ٣٦٦ ، دار الكتاب العربي ، بيروت / ١٤٠٣ هـ. وتفسير البحر المحيط / أبو

٤١

الآية الثانية : حول موالاة الكافرين تقيةً :

ويدل عليه قوله تعالى : ( لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ) (١).

لا فرق بين (التقاة) والتقية :

هذه الآية المباركة ما أصرحها بالتقيّة ، وقد مرّ في تعريف التقيّة لغةً بأنه لا فرق بين علماء اللغة بين (التقاة) و (التقيّة) فكلاهما بمعنى واحد ، ومن

____________

حيان الأندلسي ٥ : ٥٣٨ ، ط ٢ ، دار الفكر ، بيروت / ١٤٠٣ هـ. وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير ٢ : ٦٠٩ ، ط ١ ، دار الخير ، دمشق / ١٩٩٠ م. وغرائب القرآن / النيسابوري ١٤ : ١٢٢ مطبوع بهامش تفسير الطبري ، ط ٢ ، دار المعرفة ، بيروت / ١٣٩٢ هـ. وفتح الباري شرح صحيح البخاري / ابن حجر العسقلاني ١٢ : ٢٦٢ ـ ٢٦٣ ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت / ١٤٠٦ هـ. ومنهاج الطالبين / النووي الشافعي ٤ : ١٣٧ ، ١٧٤ دار الفكر ، بيروت. وانظر تعليق الشربيني عليه في مغني المحتاج في شرح المنهاج ٤ : ١٣٧ مطبوع بهامش منهاج الطالبين. وروح البيان / البروسوي الحنفي ٥ : ٨٤ ، ط ٧ ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت / ١٤٠٥ هـ. وفتح القدير / الشوكاني ٣ : ١٩٧ ، دار المعرفة ، بيروت. وتفسير النووي (مراح لبيد) ١ : ٤٦٦. ومحاسن التأويل / القاسمي ١٠ : ١٦٥ ، ط ٢ ، دار الفكر ، بيروت / ١٣٩٨ هـ. وتيسير التفسير / محمد بن يوسف أطفيش الأباضي ٧ : ٩٧ ، طبعة وزارة التراث القومي والثقافي في سلطنة عمان. وتفسير المراغي ١٤ : ١٤٦ ، ط ٢ ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت / ١٩٨٥ م. وصفوة التفاسير / محمد علي الصابوني الوهابي ، ط ١ ، عالم الكتب ، بيروت / ١٤٠٦ هـ.

أقول : إنما ذكرنا هذه القائمة الطويلة من مصادر تفسير الآية ـ وكلها مصادر غير شيعية لكي يعلم من مراجعتها اتفاقهم جميعاً على مشروعية التقيّة في حالة الاكراه عليها ، ولكن بعض المتطفلين على من الكلام الذي ليس له في ميزان العلم أي وزن ولا اعتبار.

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٢٨.

٤٢

هنا قرأ ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو رجاء ، وقتادة ، والضحاك ، وأبو حيوة ، وسهل ، وحميد بن قيس ، والمفضل عن عاصم ، ويعقوب ، والحسن البصري ، وجابر بن يزيد : (تَقِيَّةَ) (١).

ما أورده الطبري في تفسيرها :

أخرج الطبري في تفسير هذه الآية ، من عدة طرق ، عن ابن عباس ، والحسن البصري ، والسدي ، وعكرمة مولى ابن عباس ، ومجاهد ابن جبر ، والضحاك بن مزاحم جواز التقيّة في ارتكاب المعصية عند الاكراه عليها كاتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين في حالة كون المتقي في سلطان الكافرين ويخافهم على نفسه ، وكذلك جواز التلفظ بما هو لله معصية بشرط أن يكون القلب مطمئناً بالايمان ، فهنا لا أثم عليه (٢).

هذا مع اعتراف سائر المسلمين بأن الآية لم تنسخ فهي على حكمها منذ نزولها وإلى يوم القيامة ، ويؤيّد هذا :

قول الحسن البصري : (إنَّ التقيّة جائزة إلى يوم القيامة). وهو ما حكاه الفقيه السرخسي الحنفي ، وقال معقباً : (وبه نأخذ ، والتقيّة أن يقي نفسه من العقوبة بما يظهره وإن كان يضمر خلافه) (٣).

____________

(١) اُنظر : حجة القراءات / أبو زرعة : ١٦٠. ومعاني القرآن / الزجاج ١ : ٢٠٥. وتفسير الرازي ٨ : ١٢. والنشر في القراءات العشر ٣ : ٥. والجامع لأحكام القرآن ٤ : ٥٧. والبحر المحيط ٢ : ٤٢٤. وفتح القدير ١ : ٣٠٣.

(٢) تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) ٦ : ٣١٣ ـ ٣١٧ ، ط ٢ ، دار المعرفة ، بيروت / ١٣٩٢ هـ.

(٣) المبسوط / السرخسي ٢٤ : ٤٥ من كتاب الاكراه.

٤٣

احتجاج مالك بالآية في خصوص طلاق المكره :

احتج إمام المذهب المالكي (مالك بن أنس) بهذه الآية ، على أن طلاق المكره تقية لا يقع ، ونسب هذه الفتيا إلى ابن وهب ورجال من أهل العلم على حد تعبيره ثم ذكر اسماء الصحابة الذين قالوا بذلك أيضاً ، ونقل عن ابن مسعود قوله : (ما من كلام يدرأ عني سوطين من سلطان إلّا كنت متكلماً به) (١).

ما ذكره الزمخشري في تفسير الآية :

قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى : ( إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) : (إلّا أن تخافوا أمراً يجب اتقاؤه تقية .. رخص لهم في موالاتهم إذا خافوهم ، والمراد بتلك الموالاة : مخالفة ومعاشرة ظاهرة ، والقلب بالعداوة والبغضاء وانتظار زوال المانع) (٢).

أحكام التقيّة المستفادة من هذه الآية بنظر الرازي :

وأما الفخر الرازي فقد بين في تفسير الآية أحكام التقيّة ، قائلاً : (إعلم أن للتقية أحكاماً كثيرة ، إلى أن قال : الحكم الرابع : ظاهر الآية يدل على أن التقيّة إنّما تحلّ مع الكفار الغالبين ، إلّا أن مذهب الشافعي : إنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلّت التقيّة محاماة على النفس.

الحكم الخامس : التقيّة جائزة لصون النفس ، وهل هي جائزة لصون

____________

(١) المدونة الكبرى / مالك بن أنس ٣ : ٢٩ ، مطبعة السعادة ، مصر.

(٢) الكشاف / الزمخشري ١ : ٤٢٢.

٤٤

المال ؟

يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « حرمة مال المسلم كحرمة دمه » ، ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من قتل دون ماله فهو شهيد » ، ولأن الحاجة إلى المال شديدة ، والماء إذا بيع بالغبن سقط فرض الوضوء ، وجاز الاقتصار على التيمم رفعاً لذلك القدر من نقصان المال ! فكيف لا يجوز هاهنا ؟).

ثم رجّح بعد هذا قول الحسن البصري (التقيّة جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة) على قول من قال بأنّها كانت في أول الإسلام ، وقال : (هذا القول أولى ؛ لأن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الامكان) (١).

ما نقله أبو حيّان من أقوال مهمّة في تفسير الآية :

هذا وقد نقل أبو حيان الأندلسي المالكي في البحر المحيط ، في تفسير الآية المذكورة قول ابن مسعود : (خالطوا الناس وزايلوهم وعاملوهم بما يشتهون ، ودينكم فلا تثلموه).

وقول صعصعة بن صوحان لاُسامة بن زيد : (خالص المؤمن وخالق الكافر ، إنّ الكافر يرضى منك بالخُلق الحسن).

وقول الإمام الصادق عليه‌السلام : « إن التقيّة واجبة ، إني لأسمع الرجل في المسجد يشتمني فأستتر منه بالسارية لئلا يراني » (٢).

قوله : فيمن يتّقى منه ، وما يبيح التقية ، وبأي شيء تكون :

وقال أبو حيان ـ بعد نقله الأقوال المتقدّمة في التقية ـ ما هذا لفظه :

____________

(١) التفسير الكبير / الفخر الرازي ٨ : ١٣.

(٢) تفسير البحر المحيط / أبو حيان الآندلسي ٢ : ٤٢٤.

٤٥

(وقد تكلم المفسرون هنا في التقيّة إذ لها تعلق بالآية ، فقالوا : أمّا الموالاة بالقلب فلا خلاف بين المسلمين في تحريمها ، وكذلك الموالاة بالقول والفعل من غير تقية ، ونصوص القرآن والسُنّة تدل على ذلك.

والنظر في التقيّة يكون : فيمن يتقى منه ، وفيما يبيحها ، وبأي شيء تكون من الأقوال والأفعال ؟

فأما من يتقى منه : فكل قادر غالب يكره يجوز منه ، فيدخل في ذلك الكفار ، وجورة الرؤساء ، والسلابة ، وأهل الجاه في الحواضر.

وأمّا ما يبيحها : فالقتل ، والخوف على الجوارح ، والضرب بالسوط ، والوعيد ، وعداوة أهل الجاه الجورة.

وأمّا بأي شيءٍ تكون ؟ من الأقوال : فبالكفر فما دونه ، من بيع ، أو هبة وغير ذلك. وأمّا من الأفعال : فكل محرم.. وقال مسروق : إن لم يفعل حتى مات دخل النار ، وهذا شاذ) (١).

ما يدل على جواز التقيّة بين المسلمين أنفسهم :

وجدير بالاشارة هنا ، هو ما صرّح به فقهاء الفريقين ومفسروهم من جواز التقيّة بين المسلمين أنفسهم استناداً إلى طائفة اُخرى من الآيات الكريمة من قبيل قوله تعالى : ( وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) (٢).

فهو : (يدل على حرمة الاقدام على ما يخاف الإنسان على نفسه أو

____________

(١) تفسير البحر المحيط ٢ : ٤٢٤.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٩٥.

٤٦

عرضه أو ماله) (١).

وقد استدل الفخر الرازي بهذه الآية على وجوب التقيّة في بعض الحالات ، لقوله بوجوب إرتكاب المحرم بالنسبة لمن اُكره عليه بالسيف ، وعدّ امتناع المكره حراماً ؛ لأنّه من القاء النفس إلى التهلكة ، مع أن صون النفس عن التلف واجب استناداً إلى هذه الآية (٢) ولا معنى لوجوب ارتكاب المكره للمحرم غير التقيّة.

ومن ذلك قوله تعالى : ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (٣) والحرج هو الضيق لغة ، والتقيّة عادة ما يكون صاحبها في حرج شديد ، ولا يسعه الخروج من ذلك الحرج بدونها.

ومنه أيضاً ، قوله تعالى : ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) (٤).

فقد جاء تفسيرها عن الإمام الصادق عليه‌السلام بالتقيّة ، فقال عليه‌السلام : « التي هي أحسن : التقيّة » (٥).

إلى غير ذلك من الآيات الاُخرى المستدل بها على جواز التقيّة بين المسلمين أنفسهم فضلاً عن جوازها للمسلمين مع غيرهم (٦) ، زيادة على

____________

(١) مواهب الرحمن / السيد السبزواري في تفسير الآية المذكورة.

(٢) التفسير الكبير / الفخر الرازي ٢٠ : ٢١ في تفسير الآية ١٠٦ من سورة النحل.

(٣) سورة الحج : ٢٢ / ٧٨.

(٤) سورة فصلت : ٤١ / ٣٤.

(٥) اُصول الكافي ٢ : ٢١٨ / ٦ باب التقيّة.

(٦) راجع : جامع أحاديث الشيعة ١٨ : ٣٧١ ـ ٣٧٢ باب وجوب التقيّة ، فقد ذكر في أول الباب

٤٧

ما سيأتي في أدلتها الاُخرى كالسنة المطهّرة ، والاجماع ، والدليل العقلي القاضي بعدم الفرق في تجنب الضرر سواء كان الضرر من مسلم أو كافر.

المبحث الثاني

أدلة التقيّة من السُنّة المطهّرة

القسم الأول : الأحاديث النبوية الدالة على التقيّة.

توطئة في أنه هل تجوز التقيّة على الأنبياء عليهم‌السلام ؟

إنَّ نظرة سريعة في كتب الصحاح والسنن والمسانيد تكفي للخروج بالقناعة الكاملة على ورود التقيّة في أحاديث غير قليلة في تلك المصادر المعتبرة عند العامّة التي نسبت التقيّة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في القول والفعل معاً.

وهنا ، قد يتوهم البعض فيزعم أن التقيّة غير جائزة على الأنبياء مطلقاً ! وهذا غير صحيح قطعاً ، لأنَّ غير الجائز عليهم صلوات الله عليهم هو ما بلغ من التقيّة درجة الكفر بالله عزَّ وجلَّ ، أو كتمان شيء من التبليغ المعهود اليهم ونحو هذا من الاُمور التي لا تنسجم وعصمتهم عليهم‌السلام بحال من الأحوال ؛ لأنها من نقض الغرض والإغراء بالقبيح وهم عليهم‌السلام منزهون عن كل قبيح عقلاً وشرعاً ، إذ لا يؤتمن على الوحي إلّا المصطفون الذين لا يخشون في الله لومة لائم.

____________

عشر آيات ، يستفاد من بعضها جواز التقيّة بين المسلمين أنفسهم.

٤٨

نفي السرخسي وقوع التقية من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في التبليغ :

قال السرخسي الحنفي في معرض حديثه عن تقية عمار بن ياسر باظهار كلمة الكفر بعد الاكراه عليها مع اطمئنان قلبه بالايمان : (إلّا أن هذا النوع من التقيّة يجوز لغير الأنبياء والرسل عليهم‌السلام ، فأما في حق المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين فما كان يجوز ذلك فيما يرجع إلى أصل الدعوة إلى الدين الحق) (١).

ويفهم من كلامه جواز التقيّة على الأنبياء والمرسلين فيما لا يمس أصل دعوتهم ، أما إنكارها ، أو كتمانها عن الخلق ، أو تكذيب أنفسهم ونحو هذا فهو مما لا يجوز عليهم.

بيان ما يصحّ من التقية على المعصوم عليه‌السلام :

إنّ كل شيء لا يعلمه البشر على واقعه إلّا من جهة المعصوم عليه‌السلام نبياً كان أو إماماً لا تجوز التقيّة فيه على المعصوم ، وأما ما يجوز له فيه التقيّة فهو كل مالا يتنافى ومقام التبليغ والتعليم والهداية إلى الحق حتى ولو انحصر وصول الحق إلى طائفة دون اُخرى ، كما لو اتقى المعصوم عليه‌السلام في ظرف خاص من شرار الناس تأليفاً لقلوبهم كما سيأتيك مثاله في صحيح البخاري ونحو هذا من المصالح العائدة إلى نفس المعصوم أو دعوته ، وبشرط أن يبين وجه الحق لأهل بيته ، أو لمن يثق به من أصحابه ، أو على أقل تقدير لمن لا يخشى من مغبة مفاتحته بالحقيقة ؛ لكي لا يكون ما

____________

(١) المبسوط / السرخسي ٢٤ : ٢٥ ، ثمّ شتم الشيعة لتجويزهم ـ فيما يزعم ـ التقية على الأنبياء فيما يرجع إلى أصل دعوتهم !! وقد افترى على الشيعة في هذا ؛ إذ لم يجوّز ذلك أحد منهم ، بل جوّزه ابن قتيبة الدينوري على ما سيأتي قريباً مع مناقشته.

٤٩

خالفها هو السُنّة المتبعة.

تصريح ابن قتيبة بتقية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في تأخير تبليغ آية الولاية :

ذهب ابن قتيبة الدينوري (ت / ٢٧٦ هـ) إلى أبعد مما أشرنا إلى وجوده في صحيح البخاري ، حيث جوّز التقية على نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله في مقام التبليغ أيضاً ، فقال عن آية تبليغ الولاية من قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) (١) ما هذا نصه :

(والذي عندي في هذا أنّ فيه مضمراً يبينه ما بعده ، وهو إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يتوقّى بعض التوقّي ، ويستخفي ببعض ما يُؤمر به على نحو ما كان عليه قبل الهجرة ، فلمّا فتح الله عليه مكّة وأفشى الإسلام ، أمرَهُ أنْ يُبلِّغ ما أُرسِل إليه مجاهراً به غير متوقٍّ ولا هائبٍ ولا متألّف.

وقيل له : إن أنت لم تفعل ذلك على هذا الوجه لم تكن مبلّغاً لرسالات ربِّك.

ويشهد لهذا قوله بَعدُ : ( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) أي : يمنعك منهم.

ومثل هذه الآية قوله : ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) (٢) (٣).

بيان خلط ابن قتيبة بين التقية في التبليغ والتقية لأجله :

والذي نراه : أنّ ابن قتيبة خلط في هذا بين التقيّة في التبليغ ، وبين التقيّة لأجله ، والأول من كتمان الحقّ المنزّه عنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والثاني لا ريب فيه ،

____________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٦٧.

(٢) سورة الحجر : ١٥ / ٩٤.

(٣) المسائل والأجوبة في الحديث والتفسير / ابن قتيبة : ٢٢٢ ، ط ١ ، دار ابن كثير / ١٤١٠ هـ.

٥٠

وهو الذي نعتقده في خصوص آية التبليغ ، وبيان ذلك إنّ الوعيد والانذار الموجه إلى النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله تعالى : ( وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) ظاهره الوعيد والانذار وحقيقته معاتبة الحبيب لحبيبه على تريثه بخصوص الولاية ، وليس المقصود من الآية تهاون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أمر الدين أو عدم الاكتراث بشأن الوحي وكتمانه ، فحاشا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ذلك ولا يقول هذا إلّا زنديق أو جاهل.

نعم ، آية التبليغ تدل على تريث النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعض التريث لجسامة التبليغ الذي جعله الله تعالى موازياً لثقل الرسالة كلّها ، ريثما يتم له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تدبير الأمر بتهيئة مستلزماته ، كجمع حشود الصحابة الذين رجعوا من حجة الوداع وكانوا يزيدون على مائة ألف صحابي ، مع تمهيد السبيل أمام هذه الحشود الكثيرة لكي تقبل مثل هذا التبليغ الخطير ، خصوصاً وإنّ فيهم الموتورين بسيف صاحب الولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فضلاً عن المنافقين ، والذين في نفوسهم مرض والأعراب الذين أسلموا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبهم ، ولا شكّ أن وجود تلك الأصناف في مكان واحد مدعاة للخشية على حاضر ذلك التبليغ ومستقبله.

فالتريث أو سمِّه التقيّة إن شئت لم يكن خوفاً على النفس من القتل ، بل كان تقية لأجل التبليغ نفسه والحرص على كيفية أدائه بالوجه الأتم ، إذ تفرّس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وجوه تلك الأصناف من الصحابة مخالفته ، فأخّر التبليغ إلى حين ، ليجد له ظرفاً صالحاً وجواً آمناً تنجح فيه دعوته ولايخيب مسعاه ، فأخذ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعدّ للاَمر أُهبته ، ومنها طلب الرعاية الالهية لنصرة هذا التبليغ نفسه من تلك الجراثيم المحدقة ، كما يدل عليه قوله

٥١

تعالى : ( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ).

ومما يدل على وجود تلك الخشية جملة من الأخبار المروية في كتب العامّة أنفسهم.

ما رواه العامّة من تقية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لأجل التبليغ خشية من الصحابة :

أخرج الحاكم الحسكاني الحنفي في شواهد التنزيل ، بسنده عن ابن عباس وجابر بن عبدالله الأنصاري ، أنهما قالا : (أمر الله محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يُنَصِّب عليّاً للناس ليخبرهم بولايته ، فتخوّف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقولوا : حابا ابن عمه ، وأن يطعنوا في ذلك عليه ، فأوحى الله إليه : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ) الآية ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بولايته يوم غدير خم) (١).

وأخرج بسنده عن أبي هريرة : (إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسرَّ أمر الولاية ، فأنزل الله تعالى : «يا أيُّها الرَّسُولُ بَلِّغ» (٢) ).

وأخرج بسنده عن ابن عباس هذا المعنى قائلاً : (فكره أن يحدّث الناس بشيء منها ـ أي : الولاية ـ إذ كانوا حديثي عهد بالجاهلية ...

حتى كان يوم الثامن عشر أنزل الله عليه : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ) إلى أن قال فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الغد فقال : « يا أيُّها الناس إنّ الله أرسلني إليكم برسالة وإنّي ضقت بها ذرعاً مخافة أن تتهموني وتكذّبوني حتى عاتبني ربي فيها بوعيد أنزله عليَّ بعد وعيد ، ثم أخذ بيد عليٍّ فرفعها حتى رأى الناس بياض إبطيهما ثم قال : أيُّها الناس ، الله مولاي وأنا مولاكم ، فمن

____________

(١) شواهد التنزيل / الحسكاني الحنفي ١ : ٢٥٥ / ٢٤٩ في الشاهد رقم ٣٥ ، وأورده الآلوسي في روح المعاني عند تفسيره للآية ٦٧ من سورة المائدة ، فراجع.

(٢) شواهد التنزيل ١ : ٢٤٩ / ٢٤٤.

٥٢

كنت مولاه فعليٌّ مولاه ، اللّهمّ والِ من والاه ، وعادِ من عاداه ، وانصر من نصره ، وأخذل من خذله ، وأنزل الله : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) (١) » (٢).

وأخرج بسنده عن أبي جعفر محمد بن علي (الإمام الباقر عليه‌السلام) أنّه قال : « إنّ جبريل هبط على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال له : إنّ الله يأمرك أن تدل أُمتك على صلاتهم.. إلى أن قال : إنّ الله يأمرك أن تدل أُمتك على وليهم على مثل ما دللتهم عليه من صلاتهم وزكاتهم وصيامهم وحجهم ليلزمهم الحجة من جميع ذلك. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا رب إن قومي قريبو عهد بالجاهلية ، وفيهم تنافس وفخر »... الخبر (٣).

وقال السيوطي في تفسير آية التبليغ في الدر المنثور : (أخرج أبو الشيخ ، عن الحسن أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « إنّ الله بعثني برسالة فضقت بها ذرعاً وعرفت أن الناس مكذبي ، فوعدني لأبلغن أو ليعذبني » ، فأنزل : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ) ثم قال : وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ؛ عن مجاهد ، قال : لما نزلت ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ) قال : « يارب ! إنّما أنا واحد ، كيف أصنع ليجتمع عليَّ الناس» فنزلت : ( وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) (٤).

ما ورد موافقاً لأخبار العامّة من طرق الشيعة :

ورد في بعض كتب الشيعة الإمامية ، ما يؤيّد صحّة الأخبار المتقدّم

____________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٣.

(٢) شواهد التنزيل ١ : ٢٥٦ ـ ٢٥٨ / ٢٥٠.

(٣) شواهد التنزيل ١ : ٢٥٣ ـ ٢٥٥ / ٢٤٨.

(٤) الدر المنثور ٣ : ١١٧ في تفسير الآية ٦٧ من سورة المائدة ، طبع دار الفكر ، بيروت.

٥٣

ذكرها عن العامّة ، فقد ذكر الطبرسي وجود هذه الأخبار ونظائرها في كتب الفريقين مصرحاً بأن هذا هو المشهور عند أكثر المفسرين ثم قال : (وقد اشتهرت الروايات عن أبي جعفر وأبي عبدالله عليهما‌السلام إنّ الله أوحى إلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يستخلف عليّاً عليه‌السلام ، فكان يخاف أن يشق ذلك على جماعة من أصحابه) (١).

وفي كشف الغمة ، أورد سبب نزول الآية ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ) عن زيد ابن علي ، أنّه قال : (لما جاء جبريل عليه‌السلام بأمر الولاية ضاق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بذلك ذرعاً ، وقال : قومي حديثو عهد بالجاهلية ، فنزلت) (٢).

وسوف يأتي قريباً ما يؤيد قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن القوم حديثو عهد بالجاهلية كما في صحاح القوم وسننهم ومسانيدهم.

خلاصة رأينا في تبليغ آية الولاية :

من كل ما تقدم يعلم أن الله تعالى أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد تريثه لتدبير أمر تبليغ الولاية العامة بتبليغ عاجل ، مبيناً له أهمية هذا التبليغ ، ووعده العصمة من الناس ولا يهديهم في كيدهم ، ولا يدعهم يقلبوا له أمر الدعوة بالتكذيب بعد أن يعي الولاية من يعيها ويعقلها من المؤمنين ، ولن يضر الحقيقة الالتفاف حولها بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما حصل في السقيفة المشؤومة ( لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ) (٣).

____________

(١) مجمع البيان ٣ : ٢٢٣ في تفسير الآية ٦٧ من سورة المائدة ، طبع دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

(٢) كشف الغمة ١ : ٤٣٦ ، نشر أدب الحوزة ، ط ٢ ، قم.

(٣) سورة الانفال : ٨ / ٤٢.

٥٤

وهكذا تم التبليغ بخطبة وداع بعيدة عن أجواء التقيّة التي استخدمها من حضر الغدير لكتمان ما سمعه يوم ذاك بأذنيه وشاهده بعينيه وأدركه بلبه ووعاه بأُذنه كما سيوافيك.

فالتقيّة هنا وإن اتصلت بالتبليغ إلّا أنها لأجله ، ولم تكن لأجل الخوف على النفس الذي هو من أشد ما يخاف عليه الإنسان عند الإكراه ، ومن يزعم بخلاف هذا فان القرآن الكريم يكذبه ، إذ امتدح رسل الله وانبياءه ونبينا العظيم أشرفهم وأكرمهم وأحبهم وأقربهم درجة عند الله عزَّ وجل بقوله تعالى : ( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا ) (١).

نعم هي تقية لأجل التبليغ ، تقية مؤقتة ممن كان المترقب من حالهم أنهم سيخالفونه مخالفة شديدة قد تصل إلى تكذيبه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ونظير هذا هو ما حصل في بدايات أمر الدعوة إلى الدين الجديد في مكة ، فقد اتفق الكل على بدء الدعوة إلى الإسلام سراً ، وصرّح أرباب السِّير وغيرهم بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يجهر بالدعوة إلى الإسلام إلّا بعد ثلاث سنوات على نزول الوحي ، لان الخوف من قائد المشركين أبي سفيان وأعوانه من الشياطين كأبي جهل ونظرائه كان قائماً على أصل الدعوة وأنصارها في ذلك الحين ، فكان من الحكمة أن تمر الدعوة إلى الإسلام بهذا الدور الخطير (٢) وفي الحديث : « إنّ الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً

____________

(١) سورة الاحزاب : ٣٣ / ٣٩.

(٢) انظر : السيرة النبوية / ابن هشام ١ : ٢٨٠. والسيرة النبوية / ابن كثير ١ : ٤٢٧. والسيرة

٥٥

فطوبى للغرباء » (١).

وهكذا كل دعوة إلى الحق في مجتمع متعسف ظالم ؛ لابدّ وأن تكون في بداياتها غريبة ، تلازمها التقيّة حتى لا يذاع سرها وتخنق في مهدها.

وعلى أيّة حال فان التقيّة الواردة في أفعال وأقوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأعظم بالنحو الذي ذكرناه أولاً مما لا مجال لإنكاره ، واليك جملاً منه :

الحديث الأول : تقية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قريش :

أخرج البخاري في صحيحه بسنده ، عن الاسود بن يزيد ، عن عائشة ، قالت : (سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، عن الجَدْرِ (٢) أمِن البيت هو ؟

قال : « نعم.

فقلت : فما لهم لم يدخلوه في البيت ؟

____________

الحلبية / ابن برهان ١ : ٢٨٣. والسيرة النبوية / دحلان ١ : ٢٨٢ مطبوع بهامش السيرة الحلبية. واُنظر كذلك تاريخ الطبري ١ : ٥٤١. والكامل في التاريخ / ابن الاثير ٢ : ٦٠. والبداية والنهاية / ابن كثير ٣ : ٣٧.

وإن شئت المزيد فراجع كتب التفسير في تفسير قوله تعالى : ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ). سورة الحجر : ١٥ / ٩٤ ، وقوله تعالى : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ). سورة الشعراء : ٢٦ / ٢١٤.

وفي عناوين تاريخ الخميس للدياربكري ١ : ٢٨٧ هذا العنوان : « ذكر ما وقع في السنة الثانية والثالثة من اخفاء الدعوة » وقد أخرج تحت هذا العنوان عن ابن الزبير أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لايظهر الدعوة إلّا للمختصين ، وإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أظهرها لعامّة الناس بعد ثلاث سنين عندما نزل قوله تعالى : ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ). سورة الحجر : ١٥ / ٩٤.

(١) ورد الحديث بألفاظ متقاربة في صحيح مسلم ١ : ١٣٠ / ٢٣٢. وسنن ابن ماجة ٢ : ١٣١٩ / ٣٩٨٦. وسنن الترمذي ٥ : ١٨ / ٧٦٢٩. ومسند أحمد ١ : ٧٤.

(٢) الجَدْرُ والحِجْرُ بمعنى واحد ، والمراد : حِجْر الكعبة المشرفة.

٥٦

قال : إنّ قومك قصرت بهم النفقة.

قلت : فما شأن بابه مرتفعاً ؟

قال : فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا ، ولولا أنّ قومك حديث عهد بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أُدخِلَ الجَدْرَ في البيت وأن الصق بابه في الأرض رحمهما‌الله (١).

وهذه المحاورة بين النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وزوجه ، قد أخرجها غير البخاري كلٌّ بطريقه إلى الأسود بن يزيد ، عن عائشة ، وهم :

مسلم في صحيحه من طريقين (٢) وابن ماجة بلفظ : (ولولا أنّ قومك حديث عهد بكفر مخافة ان تنفر قلوبهم) (٣) والترمذي ثم قال : (هذا حديث حسن صحيح) (٤) والنسائي (٥) وأحمد (٦).

وأخرج البخاري أيضاً من طريق عبدالله بن مسيلمة ، أنّ عبدالله بن

____________

(١) صحيح البخاري ٢ : ١٩٠ / ١٥٨٤ كتاب الحج ، باب فضل مكة وبنيانها ، ط ١ ، دار الفكر / ١٤١١ هـ و ٢ : ١٧٩ ـ ١٨٠ ، ط دار التراث العربي ، وأعاد روايتها في الجزء التاسع ص : ١٠٦ باب ما يجوز من اللّوْ ، من كتاب الأحكام.

(٢) صحيح مسلم ٢ : ٩٧٣ / ٤٠٥ و ٤٠٦ كتاب الحج ، باب جدر الكعبة وبابها ، ط ٢ ، دار الفكر ، ١٣٩٨ هـ.

(٣) سنن ابن ماجة ٢ : ٩٨٥ / ٢٩٥٥ ، كتاب المناسك باب الطواف بالحجر ، دار إحياء الكتب العربية بمصر.

(٤) صحيح الترمذي ٣ : ٢٢٤ / ٨٧٥ كتاب الحج ، باب ما جاء في كسر الكعبة ، تحقيق محمد فؤاد عبدالباقي دار إحياء التراث العربي.

(٥) سنن النسائي ٥ : ٢١٥ ، دار الجيل ، بيروت.

(٦) مسند أحمد ٦ : ١٧٦ ، دار الفكر ، بيروت و ٧ : ٢٥٣ / ٢٤٩١٠ ، ط ٢ ، دار احياء التراث العربي ، ١٤١٤ هـ.

٥٧

محمد بن أبي بكر أخْبَرَ عبدالله بن عمر أن عائشة قالت : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لها : « ألم تَرَيْ أن قومك لما بنوا الكعبة اقتصروا على قواعد إبراهيم ؟ فقلت : يا رسول الله ! ألا تردها على قواعد إبراهيم ؟

قال : لولا حِدْثان قومِكِ بالكفر لفعلت » (١).

وقد أخرجه مالك عن ابن شهاب ، عن سالم بسنده ومتنه (٢) وعنه النسائي في سننه (٣) وأخرجه أحمد في مسنده مرتين (٤) وأخرجه ثالثة وفيه أن الذي أخبرَ ابنَ عمر هو عبدالرحمن بن محمد بن أبي بكر (٥).

وأخرج البخاري أيضاً بسنده عن هشام المعني ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : (قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لولا حداثة قومِكِ بالكفر لنقضت البيت ثم لبنيته على أساس إبراهيم عليه الصلاة والسلام فإن قريشاً استقصرتْ بناءه وجعلتُ له خَلْفاً أي : باباً من الخلف » ) (٦).

وقد رواه أحمد (٧) والنسائي (٨) وقريب من لفظه ما أخرجه البخاري في بابه المذكور بسنده عن عروة بن الزبير ، عن عائشة (٩) ومثله النسائي (١٠)

____________

(١) صحيح البخاري ٢ : ١٩٠ / ١٥٨٣ من الباب السابق.

(٢) موطأ مالك : ٢٣٣ / ٨١٣ كتاب الحج ، باب ما جاء في بناء الكعبة.

(٣) سنن النسائي ٥ : ٢١٦.

(٤) مسند أحمد ٧ : ٢٥٣ / ٢٤٩١٢ و ٧ : ٣٥٢ / ٢٥٥٦٩ ، والطبعة الاولى ٦) ١٤٧ و ١٧٧.

(٥) مسند أحمد ٧ : ١٦٤ / ٢٤٣٠٦ ، والطبعة الاُولى ٦ : ١١٢.

(٦) صحيح البخاري ٢ : ١٩٠ / ١٥٨٥.

(٧) مسند أحمد ٧ : ٨٥ / ٢٣٧٧٦ ، والطبعة الاُولى ٦ : ٥٧.

(٨) سنن النسائي ٥ : ٢١٥.

(٩) صحيح البخاري ٢ : ١٩٠ / ١٥٨٦.

(١٠) سنن النسائي ٥ : ٢١٦.

٥٨

هذا وقد أخرج أحمد في مسنده حديث عائشة بألفاظ متقاربة عن غير من ذكرناه.

فقد أورده من رواية عبدالله بن الزبير بطريقين ، وعبدالله بن أبي ربيعة ، والحرث بن عبدالله ، كلهم ، عن عائشة (١).

وقد أخرج الحاكم حديث ابن الزبير ، عن عائشة بلفظ آخر مستدركاً به على البخاري ومسلم ، ثم قال : (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه هكذا) (٢).

كما أخرج أبو داود بسنده عن علقمة ، عن أمه ، عن عائشة ، ما يؤكد ان قريشاً أخرجوا الحجر من البيت حين بنوا الكعبة (٣).

ومن كل ما تقدم يعلم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يتقي قومه في عدم رد الحِجْر إلى قواعد إبراهيم عليه‌السلام مخافة أن تنفر قلوبهم ، لحداثة عهدهم بالكفر وقربهم من شرك الجاهلية ، وعلى حد تعبير العلّامة السندي في حاشيته على سنن النسائي : (إنّ الإسلام لم يتمكن في قلوبهم ، فلو هُدّمت لربما نفروا منه !!) (٤).

ولهذا نجد محاولة ابن الزبير في تهديم الكعبة وإعادة بنائها وإدخال

____________

(١) اُنظر : رواية ابن الزبير في مسند أحمد ٧ : ٢٥٧ / ٢٤٩٣٥ و ٢٤٩٣٨ والطبعة الاُولى ٦ : ١٧٩ و ١٨٠. ورواية ابن أبي ربيعة فيه ٧ : ٣٦٠ / ٢٥٦٢٠ والطبعة الأولى ٦ : ٢٥٣. ورواية الحرث فيه أيضا ٧ : ٣٧٣ / ٢٥٧٢٤ والطبعة الأولى ٦ : ٢٦٢.

(٢) مستدرك الحاكم ١ : ٤٧٩ ـ ٤٨٠ ، دار الفكر ، بيروت / ١٣٩٨ هـ.

(٣) سنن أبي داود ٢ : ٢٢١ / ٢٠٢٨ ، كتاب المناسك باب في الحجر ، دار الجيل ، بيروت / ١٤١٢ه.

(٤) حاشية العلّامة السندي مطبوع بهامش سنن النسائي ٥ : ٢١٤ طبع دار الجيل ، بيروت.

٥٩

الحجر في البيت ، قد باءت بالفشل ، إذ هدم عبدالملك بن مروان ما بناه ابن الزبير وأخرج الحجر من البيت ليعيده إلى ما كان عليه في عهد من لم يتمكن الإسلام يوماً في قلوب أكثرهم (١).

هل الحديث من صغريات قانون التزاحم ؟

قد يقال : إنّ هذا الحديث ونظائره الاُخرى لا علاقة لها بالتقيّة ، وإنّما هي من صغريات قانون التزاحم وتقديم الأهم على المهم ، أو دفع الأفسد بالفاسد !

والجواب : إنّها كذلك ولكن لا يمنع من أن تصب بعض موارد التزاحم في التقيّة ومنها هذا المورد ، إذ كما يحصل التزاحم بين أمرين بلا اكراه كمن دخل في صلاته وشاهد غريقاً في أنفاسه الأخيرة ، فالواجب حينئذ هو قطع الصلاة وانقاذ الغريق أخذاً بقانون تقديم الأهم على المهم ، فقد يحصل بالاكراه أيضاً كما لو أُكرِه شخص على قتل آخر أو سلب أمواله وإلّا قتل ، فالواجب هنا أن يتقي بسلب الأموال أخذاً بقانون دفع الأفسد بالفاسد ، وحينئذ يتحقق التزاحم والتقيّة في آن واحد.

ومن مراجعة أمثلة التزاحم في كتب الاُصول (٢) يعلم امكان دخول الكثير منها في دائرة التقيّة ، على ان السيد السبزواري قال عن التقيّة : (إنّها ترجع إلى القاعدة العقلية التي قررتها الشرائع السماوية ، وهي تقديم الأهم على المهم ، فتكون التقيّة من القواعد العقلية الشرعية) (٣).

____________

(١) راجع : مسند أحمد ٧ : ٣٦٠ / ٢٥٦٢٠ تجد التصريح بذلك في ذيل الحديث.

(٢) راجع : مصباح الاُصول ٣ : ٣٦١ و ٢ : ٥٦٢.

(٣) مواهب الرحمن في تفسير القرآن / السيد السبزواري ٥ : ٢٠٢ في تفسير الآية ٢٨ من

٦٠