خلافة الرسول صلّى الله عليه وآله بين الشورى والنصّ

الدكتور صائب عبد الحميد

خلافة الرسول صلّى الله عليه وآله بين الشورى والنصّ

المؤلف:

الدكتور صائب عبد الحميد


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8629-50-1
الصفحات: ١٣٥
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

الوجع ، حسبنا كتاب الله (١) !.

وممّا يشهد لهذا القول ، بل يجعله يقيناً لا شكّ فيه ، ماثبت عن ابن عبّاس في وصف اختلافهم عند النبيّ الذي حال دون كتابة ذلك الكتاب ، فقد كان ابن عبّاس يصف هذا الحديث بأنّه ( الرزيّة ، كلّ الرزيّة ) ويذكره فيقول : ( يوم الخميس ، وما يوم الخميس ! قالوا : وما يوم الخميس ؟! قال : اشتدّ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجعه فقال : « ائتوني أكتب لكم كتابا لاتضلّوا بعدي » فتنازعوا ، وماينبغي عند نبيٍّ تنازع ! وقالوا : ماشأنهُ ! أهَجَر ؟ استفهموه !!. فقال : « دعوني ، فالذي أنا فيه خير » قال ابن عباس : إن الرزيّة كلّ الرزيّة ماحال بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب ، من اختلافهم ولغطهم ). ويبكي حتّىٰ يبلّ دمعُه الحصىٰ (٢).

فلو كان الأمر كما وصفه الحديث المنسوب إلىٰ عائشة « يأبىٰ الله والمؤمنون إلاّ أبا بكر » لم تكن ثمّة رزية يبكي لها ابن عبّاس كلّ هذا البكاء ويتوجّع كلّ هذا التوجّع.

إنّ بكاء ابن عبّاس وتوجّعه الشديد لهذا الحديث لهو دليلٌ لاشيء أوضح منه علىٰ أنّ الذي أراده النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ذلك الكتاب لم يتحقّق ، بل تحقّق شيء آخر غيره لم يكن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراده ولا أشار إليه أدنىٰ إشارة.

وتزداد هذه الحقيقة رسوخاً حين ندرك أنّ ابن عبّاس هو واحد من

__________________

(١) ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة ١١ : ٤٩.

(٢) صحيح البخاري ـ كتاب المرضىٰ ـ باب ١٧ / ٥٣٤٥ وفيه أن الذي اعترض علىٰ الرسول هو عمر ، صحيح مسلم ـ كتاب الوصيّة / ١٥ و ٢١ و ٢٢ ، مسند أحمد ١ : ٣٢٤ ، السيرة النبوية ـ للذهبي ـ : ٣٨٤ ، البداية والنهاية ٥ : ٢٤٨.

٨١

سادة بني هاشم الّذين لم يبايعوا لأبي بكر إلاّ بعد ستّة أشهر (١) !.

فمع هذه الثوابت لايبقىٰ احتمال لصحّة الحديث المنسوب إلىٰ عائشة !

٣ ـ حديث : « اقتدوا باللَّذَين مِن بعدي ، أبي بكر وعمر ».

أخرجه الترمذي وابن ماجة (٢) ، واعتمده كثيرون في إثبات النصّ علىٰ أبي بكر وعمر ، أو في إثبات صحّة خلافتهما (٣).

لكنّ ابن حزم استهجن كثيراً الاستدلالَ بهذه الرواية ، وعدّه عيباً يترصّدُ أمثالَه الخصوم ، فقال مانصّه : ( ولو أنّنا نستجيز التدليس والأمر الذي لو ظفر به خصومنا طاروا به فرحاً ، أو أبلسوا أسفاً ، لاحتججنا بما روي ( اقتدوا باللَّذَين من بعدي أبي بكر وعمر ) ولكنّه لايصحّ ، ويُعيذنا الله من الاحتجاج بما لايصحّ ) (٤).

٤ ـ نصوص أُخر نُسبت إلىٰ عليّ عليه‌السلام ، إمعاناً في سدّ الثغرات ، وقطع الطريق علىٰ الخصم ، استبعد المحبّ الطبري صحّة شيءٍ منها لتخلّف عليٍّ عن بيعة أبي بكر ستّة أشهر ، ونسبته إلىٰ نسيان الحديث في مثل هذه المدّة أمر بعيد (٥).

__________________

(١) السنن الكبرىٰ ٦ : ٣٠٠ ، تاريخ الطبري ٣ : ٢٠٨ ، مروج الذهب ٢ : ٣١٦ ، الكامل في التاريخ ٢ : ٣٣١ ، جامع الأُصول ٤ : ٤٨٢.

(٢) سنن الترمذي ـ مناقب أبي بكر ٥ / ٣٦٦٢ ، سنن ابن ماجة ١ : ٩٧.

(٣) شرح المواقف ٨ : ٣٦٤ ، شرح المقاصد ٥ : ٢٦٦ ، تثبيت الإمامة : ٩٢ رقم ٥٩.

(٤) الفصل ٤ : ١٠٨.

(٥) الرياض النضرة : ٤٨ ـ ٤٩.

٨٢

وهذا حقٌّ يؤيّده ما اشتهر عن عليّ عليه‌السلام من ذِكر حقّه في الخلافة (١).

هذه جملة مااعتمدوه من النصوص الحديثية في النصّ علىٰ أبي بكر وتقديمه.

ثانيا ـ نصوص من القرآن الكريم :

١ ـ قوله تعالىٰ : ( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ ) (٢).

قالوا : الخطاب هنا للصحابة ، فوجب أن يوجد في جماعة منهم خلافة يتمكّن بها الدين ، ولم يوجد علىٰ هذه الصفة إلاّ خلافة الخلفاء الأربعة ، فهي التي وعد الله بها (٣). حتّىٰ صرّح بعضهم بأنّ الآية نازلة فيهم ، أو في أبي بكر وعمر خاصّةً (٤).

وهذا الاستدلال ضعّفه المفسّرون بأمرين :

الأوّل : إنّ المراد في هذه الآية هو ( الوعد لجميع الأُمّة في ملك الأرض كلّها تحت كلمة الإسلام ، كما قال عليه الصلاة والسلام : « زُوِيَتْ لي الأرض ، فرأيت مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ مُلك أُمّتي مازُوِيَ لي منها » ). وأنّ ( الصحيح في هذه الآية أنّها في استخلاف الجمهور ،

__________________

(١) سيأتي في هذا البحث.

(٢) النور ٢٤ : ٥٥.

(٣) شرح المواقف ٨ : ٣٦٤ ، شرح المقاصد ٥ : ٢٦٥.

(٤) تفسير القرطبي ١٢ : ١٩٥.

٨٣

واستخلافهم هو أن يملّكهم البلاد ويجعلهم أهلها...

ألا ترى إلىٰ إغزاء قريش المسلمين في أُحد وغيرها ، وخاصّةً الخندق ، حتىٰ أخبر الله تعالىٰ عن جميعهم فقال : ( إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا ) (١). ثمّ إنّ الله ردّ الكافرين لم ينالوا خيراً ، وأمّن المؤمنين وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم ، وهو المراد بقوله : ( لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ ). وقوله : ( كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ) يعني بني إسرائيل ، إذ أهلك الله الجبابرة بمصر ، وأورثهم أرضهم وديارهم .. وهكذا كان الصحابة مستضعَفين خائفين ، ثمّ إنّ الله تعالىٰ أمّنهم ومكّنهم وملّكهم ، فصحّ أنّ الآية عامّة لأُمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير مخصوصة ، إذ التخصيص لايكون إلاّ بخبر ممّن يجب له التسليم ، ومن الأصل المعلوم التمسّك بالعموم ) (٢).

والثاني : ماذكروه في سبب نزول الآية ، فإنّه منطبق تماما علىٰ ماذُكر آنفاً ، لايُساعد علىٰ تخصيصها في الخلفاء الأربعة أو بعضهم ، وإنْ كان فيه مايفيد تخصيصها بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه (٣).

ففي رواية البراء ، قال : فينا نزلت ونحن في خوف شديد.

__________________

(١) الأحزاب ٣٣ : ١٠ و ١١.

(٢) تفسير القرطبي ١٢ : ١٩٦ ـ ١٩٧ ، تفسير الشوكاني ( فتح القدير ) ٤ : ٤٧. وأُنظر أيضاً : الميزان في تفسير القرآن ١٥ : ١٦٧.

(٣) كما تقدّم في آخر الكلام المنقول عن القرطبي ، وهو ماذهب إليه محمّد جواد مغنية في تفسيره الكاشف ٥ : ٤٣٦.

٨٤

وفي رواية أبي العالية ، يصف حال أصحاب الرسول وهم خائفون ، يُمسون في السلاح ويُصبحون في السلاح ، فشكوا ذلك إلىٰ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنزل الله الآية ، فأظهر الله نبيّه علىٰ جزيرة العرب ، فأمنوا ووضعوا السلاح.

ومثلها رواية أُبيّ بن كعب ، وقوله في رواية ثانية عنه : لمّا نزلت علىٰ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) الآية ، بشّر هذه الأُمّة بالسَنا والرفعة والدين والنصر والتمكين في الأرض ، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب (١).

أمّا رواية عبد بن حُميد عن عطيّة ففيها تخصيص آخر مخالف للتخصيص المذكور في الخلفاء الأربعة ، إذ قال عطيّة : هم أهل بيتٍ هاهنا ! وأشار بيده إلىٰ القِبلة (٢).

وفي هذا عطف علىٰ ماذهب إليه غالب مفسّري الشيعة من أنّ المراد بالّذين آمنوا وعملوا الصالحات هنا : النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة من أهل بيته عليهم‌السلام. وأنّ هذه الآية تبشّر بالمهدي الموعود من أهل البيت ودولته (٣).

فمع هذا القول ، أو مع ظهور ما تقدم من إفادتها العموم ، لا يبقىٰ وجه للتمسّك بها هنا.

٢ ـ قوله تعالىٰ ( قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ٢١٥ ـ ٢١٦.

(٢) الدر المنثور ٦ : ٢١٦.

(٣) مجمع البيان ٤ : ١٥٢ ، الميزان ١٥ : ١٦٦ ـ ١٦٧ ، الإفصاح في الإمامة : ١٠٢.

٨٥

شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْرًا حَسَنًا ) (١). فقد جعل الداعي مفترض الطاعة ، والمراد به أبو بكر وعمر وعثمان ، فوجبت طاعتهم بنصّ القرآن ، وإذ قد وجبت طاعتهم فرضاً فقد صحّت إمامتهم وخلافتهم (٢).

والصحيح الذي يوافق تاريخ نزول الآية الكريمة ، ويوافق الوقائع ، هو ماذكره الرازي من أنّ الداعي هو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) ، إذ كانت الآية المذكورة نازلة في الحديبية بلا خلاف ، وهي في سنة ستّ للهجرة ، وبعدها غزا النبيّ هوازن وثقيف وهم أُولو بأس شديد ، في وقعة حنين الشهيرة وذلك بعد فتح مكّة في السنة الثامنة للهجرة ، وفتح مكّة هو الآخر دعوة إلىٰ قتال قوم أُولي بأس شديد قاتَلوا الإسلام وأهله حتّىٰ أظهره الله عليهم في الفتح ، ثمّ كانت غزوة مؤتة الشديدة ، ثمّ غزوة تبوك وهي المعروفة بجيش العسرة ، التي استهدفت محاربة الروم علىٰ مشارف الشام ، ثمّ دعاهم مرّةً أُخرىٰ لقتال الروم في جيش أُسامة الذي جهّزه وأمر بإنفاذه وشدّد علىٰ ذلك في مرضه الذي توفّي فيه.

فكيف يقال إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يَدْعُهُم إلىٰ قتال بعد نزول الآية ؟!

ولأجل الفرار من هذا المأزق ذهبوا إلىٰ آية سورة التوبة النازلة في المخلَّفين : ( فَإِن رَّجَعَكَ اللهُ إِلَىٰ طَائِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا

__________________

(١) الفتح ٤٨ : ١٦.

(٢) الفصل ٤ : ١٠٩ ـ ١١٠ ، شرح المواقف ٨ : ٣٦٤ ، شرح المقاصد ٥ : ٢٦٦.

(٣) تفسير الرازي ٢٨ : ٩٢ ـ ٩٣.

٨٦

مَعَ الخَالِفِينَ ) (١).

قال ابن حزم بعد أن ذكر هذه الآية مانصّه : وكان نزول سورة براءة التي فيها هذا الحكم بعد غزوة تبوك بلا شكّ التي تخلّف فيها الثلاثة المعذورون الّذين تاب الله عليهم في سورة براءة ، ولم يغزُ عليه‌السلام بعد غزوة تبوك إلىٰ أن مات. وقال تعالىٰ أيضاً : ( سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمْ قَالَ اللهُ مِن قَبْلُ ) (٢) فبيّن أنّ العرب لايغزون مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد تبوك (٣) !.

وهذا أوّل التهافت ! فالآية الثانية ، آية سورة الفتح ، نزلت في الحديبية سنة ستّ للهجرة بلا خلاف ، أي قبل تبوك بثلاث سنين ! ويتّضح التهافت جليّاً حين يواصل القول مباشرةً : ( ثمّ عطف سبحانه وتعالىٰ عليهم إثر منعه إيّاهم من الغزو مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغلق باب التوبة فقال تعالىٰ : ( قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ) فأخبر تعالىٰ أنّهم سيدعوهم غير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلىٰ قومٍ يقاتلونهم أو يُسلمون ) (٤).

وهكذا قلب ترتيب الآيات ، فقدّم آية التوبة النازلة بعد تبوك سنة تسع ، وأخّر آية الفتح النازلة في الحديبية سنة ستّ ، ليتّفق له مايريد !!

__________________

(١) التوبة ٩ : ٨٣.

(٢) الفتح ٤٨ : ١٥.

(٣) الفصل ٤ : ١٠٩.

(٤) الفصل ٤ : ١٠٩.

٨٧

وهذا هو الخطأ الأوّل ، فكيف يكون مانزل سنة تسع من الهجرة مقدَّماً علىٰ مانزل سنة ستّ ؟!

وأمّا الخطأ الثاني فليس بأقلّ ظهوراً من الأوّل : فآية سورة الفتح النازلة في الحديبية في السنة السادسة قد جاء فيها الإخبار عن وقوع الدعوة ، وتعليق الثواب والعقاب بالطاعة والعصيان منهم ، فنصّ الآية يقول : ( سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ... ) وقد وقعت الدعوة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حقّاً في حُنين ومؤتة وتبوك.

أمّا آية سورة التوبة في المخلَّفين المنافقين فقد أغلقت عليهم طريق التوبة ومنعت خروجهم مع النبيّ ومع غيره أيضاً ، إذ كيف يدعوهم أبو بكر أو عمر إلىٰ جهاد الكفّار وهم قد شهد عليهم الله ورسوله بالكفر والموت علىٰ الضلال ؟! فقال تعالىٰ في تلك الآية نفسها : ( فَإِن رَّجَعَكَ اللهُ إِلَىٰ طَائِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الخَالِفِينَ * وَلا تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ ) (١).

وهذا صريح في حكم الله تعالىٰ عليهم بالكفر وقت نزول الآيات ، وأنّهم يموتون علىٰ الكفر والضلال ، وأكّد ذلك بقوله في الآية التالية مباشرة : ( وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ) (٢).

__________________

(١) التوبة ٩ : ٨٣ ـ ٨٤.

(٢) التوبة ٩ : ٨٥.

٨٨

فهؤلاء إذن المقطوع بكفرهم وموتهم علىٰ الكفر ، غير أُولئك الّذين ذكرتهم سورة الفتح ووعدتهم بالثواب إنْ هم استجابوا للداعي !

ثمّة التفاتة هامّة جدّا ، وهي : أنّه في ذات الواقعة التي نزلت فيها الآية الأُولىٰ : ( قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْرًا حَسَنًا... ) أي في الحديبية ذاتها ، قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لوفد قريش : « يا معشر قريش ، لَتنتهنَّ أو لَيبعثنَّ اللهُ عليكم من يضرب رقابكم بالسيف علىٰ الدين ، قد امتحن قلبه علىٰ الإيمان » قالوا : من هو يا رسول الله ؟ فقال أبو بكر : من هو يا رسول الله ؟ وقال عمر : من هو يا رسول الله ؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « خاصف النَعل » وكان قد أعطىٰ عليّاً نعلاً يخصفها.

أخرجه الترمذي والنسائي وابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة (١).

ونحو هذا تماماً قاله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لوفد ثقيف ، قال : « لَتُسلمُنَّ أو لأبعثنَّ عليكم رجلاً منّي ـ أو قال : مثل نفسي ـ ليضربنّ أعناقكم ، وليسبينّ ذراريكم ، وليأخذنّ أموالكم » قال عمر : فو الله ماتمنّيت الإمارة إلاّ يومئذٍ ، فجعلتُ أنصب صدري رجاء أن يقول : هو هذا. فالتفتَ إلىٰ عليٍّ فأخذ بيده وقال : « هو هذا ، هو هذا » (٢).

ونحوه ما أخبر به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه واقعٌ بعده ، فقال : « إنّ منكم من يقاتل

__________________

(١) سنن الترمذي ٥ / ٣٧١٥ ، سنن النسائي ٥ / ٨٤١٦ ، كتاب الخصائص بتخريج الأثري / ٣٠ ، المصنّف ، ابن أبي شيبة ـ فضائل علي ـ ٧ / ١٨.

(٢) أخرجه : عبد الرزّاق ، المصنّف ١١ : ٢٢٦ / ٢٠٣٨٩ ، المصنّف ، ابن أبي شيبة ـ فضائل عليّ ـ ٧ / ٢٣ و ٣٠ ، النسائي ، السنن ـ كتاب الخصائص ـ / ٨٤٥٧ ، ابن عبد البرّ ، الاستيعاب ٣ : ٤٦.

٨٩

علىٰ تأويل القرآن كما قاتلتُ علىٰ تنزيله » فاستشرف له القوم ، وفيهم أبو بكر وعمر ، فقال أبو بكر : أنا هو ؟ قال : « لا ». قال عمر : أنا هو؟ قال : « لا ، ولكن خاصف النعل » وكان عليٌّ يخصف نعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

وهذه نصوص اجتمعت صراحةً علىٰ نفي وإثبات :

نفت صراحةً أن يكون الداعي أبو بكر أو عمر..

وأثبتت صراحةً أنّ الداعي بعد الرسول هو عليّ !

وبعد وجود هذه النصوص الموثّقة المتضافرة فلا مسوِّغ للرجوع إلىٰ مداخلات المتكلّمين.

__________________

(١) مسند أحمد ٣ : ٨٢ ، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان ٩ : ٤٦ رقم ٦٨٩٨ ، المصنّف ، ابن أبي شيبة ـ فضائل عليّ ـ ٧ / ١٩ ، المستدرك ٣ : ١٢٣ ، البداية والنهاية ٧ : ٣٩٨.

٩٠

الاتجاه الثاني : النصوص الصحيحة الحاكمة

نصوص أيقن بها طائفة من الصحابة ، علىٰ رأسهم عليّ ، يقيناً لا يسمح أن يتسرّب إلىٰ مدلولها شكّ.. يقينا دفع عليّاً عليه‌السلام أن يردّ بدهشة علىٰ من دعاه لتعجيل البيعة بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قائلاً : « ومن يطلب هذا الأمر غيرنا » (١) ؟!.

لكنّ تسارع الأحداث تلك الأثناء ، وإحكام القبضة ، لم يتركا لشيء من تلك النصوص موقعاً يرتجىٰ ، أمّا حين تحقّقت بارقة أمل يوم اجتماع الأصحاب الستّة للشورىٰ ولم يُبَتّ في الأمر بعد ، فلم يتوانَ عليٌّ عليه‌السلام عن التذكير بطائفة منها (٢).

وبعد أن تمّت له البيعة كانت الأذهان أكثر استعداداً للإصغاء ، وأوسع فسحةً للتأمّل.. فبالغ في التذكير ببعضها ، نصّاً أو دلالةً ، حتّىٰ امتلأت بها خطبه الطوال والقصار ، وكان لايخلو تذكيره أحيانا من تقريع ، ظاهر.. أو خفيّ !

وبواحد من مواقفه نستهلّ هذه الطائفة من النصوص :

١ ـ « من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه » :

خطب عليٌّ عليه‌السلام في الناس ، فقال : أنشدُ الله مَن سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) الإمامة والسياسة : ١٢.

(٢) أُنظر : الاستيعاب ، بحاشية الإصابة ٣ : ٣٥ ، شرح نهج البلاغة ٦ : ١٦٧ ـ ١٦٨.

٩١

يقول يوم غدير خُمّ : « مَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه » لَما قام فشهد !

فقام اثنا عشر بدرياً ، فقالوا : نشهد أنّا سمعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول يوم غدير خُمّ : « ألستُ أوْلى بالمؤمنين من أنفسهم » ؟ قلنا : بلىٰ ، يا رسول الله.

قال : « فمَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه ، اللّهمّ والِ مَن والاه ، وعادِ مَن عادا » (١).

وحديث غدير خمّ لم يرد في مسند أحمد أكثر منه طُرُقاً إلاّ حديثاً واحداً (٢) !. أمّا في كتاب ( السُنّة ) لابن أبي عاصم ( ٢٨٧ ه‍ ) وتاريخ ابن كثير ، فلا يضاهيه حديث (٣) !!. ورواه غيرهم بأسانيد صحيحة ، كالترمذي وابن ماجة ، والنسائي ، وابن أبي شيبة ، والحاكم (٤). ونَصَّ الذهبي علىٰ تواتره (٥).

__________________

(١) مسند أحمد ١ ، ٨٤ و ٨٨ و ١١٨ و ١١٩ ـ مرّتان ـ ، سنن النسائي ـ كتاب الخصائص ـ / ٨٥٤٢ ، البداية والنهاية ٥ : ٢٢٩ ـ ٢٣٢ و ٧ : ٣٨٣ ـ ٣٨٥ من نحو عشرين طريقاً.

(٢) أخرج أحمد حديث الغدير من تسع عشرة طريقاً ، المسند ١ : ٨٤ و ٨٨ و ١١٨ ـ ثلاث مرّات ـ و ١١٩ ـ مرّتان ـ و ١٥٢ و ٣٣١ ، و ٤ : ٢٨١ و ٣٦٨ و ٣٧٠ و ٣٧٢ ـ مرّتان ـ و ٥ : ٣٤٧ و ٣٥٨ و ٣٦١ و ٣٦٢ و ٤١٩.

ولا يضاهيه إلاّ حديث « مَن كذب عليَّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار » فقد خرّجه من نحو ٢٥ طريقاً.

(٣) أُنظر : البداية والنهاية ٥ : ٢٢٨ ـ ٢٣٣ و ٧ : ٣٨٣ ـ ٣٨٦ ، فقد خرّجه من نحو ٤٠ طريقاً ، بما فيها طرق حديث المناشدة المتقدّمة.

(٤) سنن الترمذي ٥ / ٣٧١٣ ، سنن ابن ماجة ١ / ١١٦ و ١٢١ ، الخصائص ـ للنسائي ، بتخريج الأثري ـ / ٨٠ و ٨٢ ـ ٨٥ و ٩٠ و ٩٥ و ١٥٣ ، المصنّف ، ابن أبي شيبة ـ باب فضائل عليّ ـ ٧ / ٩ و ١٠ و ٢٩ و ٥٥ ، المستدرك ٣ : ١٠٩ ـ ١١٠.

(٥) أُنظر : البداية والنهاية ٥ : ٢٣٣.

٩٢

لكن بعد هذا جاء دور المتكلّمين ، فبذلوا جهودا مضنيةً في تأويله وصرفه عن معناه ، بل تجريده من كلّ معنىً !!

فحين رأوا أنّ الإقرار بدلالته علىٰ الولاية العامّة يفضي إلىٰ إدانة التاريخ وتخطئة كثير من الصحابة ، ذهبوا إلىٰ تأويله بمجرّد النصرة والمحبّة ، فيكون معنىٰ الحديث : يا معشر المؤمنين ، إنّكم تحبّونني أكثر من أنفسكم ، فمن يحبّني يحبّ عليّاً ، اللّهمّ أحبّ من أحبّه ، وعادِ من عاداه (١) !.

وحين رأوا أنّ جماعة من الصحابة قد عادَوه وحاربوه ، ومنهم : عائشة وطلحة والزبير ، وأنّ آخرين قد أسّسوا دينهم ودنياهم علىٰ بغضه ، ومنهم : معاوية وعمرو بن العاص والمغيرة ومروان وعبد الله بن الزبير.. ذهبوا إلىٰ حقّ هؤلاء في الاجتهاد مقابل ذلك النصّ ، فهم معذورون وإن أخطأوا ، بل مأجورون أجراً واحداً لأجل اجتهادهم (٢) !!.

وهكذا أصبح الخروج علىٰ نصوص الشريعة حتّىٰ في مثل تلك الطرق السافرة ، اجتهاداً يُثاب صاحبه ، وليس بينه وبين الآخر الذي تمسّك بالشريعة وقاتل دونها إلاّ فرق الأجر ! فالذي قاتل الشريعة له نصف أجر الذي قاتل دونها !!

لقد كان الأوْلىٰ بهم أن يتابعوا سُنّة الرسول ، ويوقِّروا نصّه الشريف الثابت عنه ، بدلاً من إفراطهم في متابعة الأمر الواقع الذي ظهر فيه اختلاف كثير..

__________________

(١) الآلوسي ، روح المعاني ٦ : ١٩٥ وما بعدها.

(٢) أُنظر : الفصل في الملل والنحل ٤ : ١٦١ و ١٦٣ ، البداية والنهاية ٧ : ٢٩٠ ، الباعث الحثيث : ١٨٢.

٩٣

فالحقّ أنّ هذا نصٌّ صريح في ولاية عليٍّ عليه‌السلام ، لا يحتمل شيئاً من تلك التأويلات التي ما كانت لتظهر لولا الانحياز للأمر الواقع ومناصرته.

وممّا يزيد في ظهور هذا النصّ نصوص أُخرىٰ تشهد له وتبيّنه ، كما نرىٰ في النصوص الآتية :

٢ ـ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ عليّاً منّي وأنا منه ، وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي ». حديث صحيح (١).

٣ ـ ومثله قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عليّ : « إنّه منّي وأنا منه ، وهو وليّكم بعدي.. إنّه منّي وأنا منه وهو وليّكم بعدي » يكرّرها (٢).

٤ ـ ومثله قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليٍّ : « أنت وليّي في كلّ مؤمن بعدي ». أو : « أنت وليّ كلّ مؤمن بعدي ومؤمنة » (٣).

وبعد اليقين بصحّة هذه الاحاديث ، لايمكن أن تفسّر بحسب ظاهرها فتدين الواقع التاريخي !

فلمّا أرادوا تفسير الولاية هنا أيضاً بالنصرة والمحبّة ، نظير ما في قوله تعالىٰ : ( وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ) (٤) ، صدمهم قوله : « بعدي » الذي لا يمكن أن يتشابه معناه !

__________________

(١) مسند أحمد ٤ : ٤٣٧ ـ ٤٣٨ ، سنن الترمذي ٥ / ٣٧١٢ ، الخصائص ـ للنسائي بتخريج الأثري ـ / ٦٥ و ٨٦ ، المصنّف ، ابن أبي شيبة ـ فضائل عليّ ـ ٧ / ٥٨ ، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان ٩ : ٤١ / ٦٨٩٠.

(٢) مسند أحمد ٥ : ٣٥٦ ، الخصائص ، بتخريج الأثري : / ٨٧.

(٣) مسند أحمد ١ : ٣٣١ ، الخصائص ، بتخريج الأثري : / ٢٣ ، المستدرك ٣ : ١٣٤.

(٤) التوبة ٩ : ٧١.

٩٤

ولمّا كانت قدسية الرجال أعظم من قدسية النصّ ، رغم ثبوت صحّته عندهم ، شهروا سيف التكذيب ، فقالوا : إسناده صحيح مع نكارة في متنه لشذوذ كلمة « بعدي » !

ولمّا أرادوا البرهان علىٰ هذه النكارة والشذوذ فمن اليسير جدّاً أن يرموا بها « شيعيّاً » ورد في إسناد بعضها (١) !.

لكن من البديهي أنّ مثل هذا البرهان الأخير يحتاج إلىٰ توثيق ، خصوصاً إزاء حديث يرِد بأسانيد صحيحة متعدّدة ، فكيف وثّقوه ؟!

ليتهم لم يوثّقوه ، ليتهم تركوه مجازفةً كمجازفات الكثير من أصحاب الأذواق !!

قالوا في توثيقه : يؤيّده أنّ الإمام أحمد روىٰ هذا الحديث من عدّة طرق ليست في واحدة منها هذه الزيادة (٢) !

إنّها مقالةُ مَن لايخشى فضيحة التحقيق !!

فالنصوص الثلاثة التي ذكرناها لهذا الحديث ، وفي جميعها كلمة « بعدي » جميعها في مسند أحمد (٣) !

وأغرب من هذا أنّ المحقّق الذي ينقل قولهم المتقدّم ويعتمده ، يخرّج بعضها علىٰ مسند أحمد نفسه (٤) !!.

__________________

(١) علماً أنّ التشيّع في مصطلحهم : هو تفضيل عليٍّ علىٰ عثمان ، لا غير ، والطعن علىٰ ملوك بني أُميّة !

(٢) أُنظر : أبا إسحاق الأثري ، في تخريجه الحديث ٦٠ من كتاب ( الخصائص ).

(٣) مسند أحمد ١ : ٣٣١ ، ٤ : ٤٣٨ ، ٥ : ٣٥٦. وقد ذكرناها في تخريج النصوص كلٌّ في محلّه.

(٤) الأثري ، كتاب ( الخصائص ) للنسائي ، / ٨٧.

٩٥

ومرّة أُخرىٰ ينهار ذلك البرهان وتوثيقه أمام الحديث الذي رواه أحمد في مسنده وفيه : « أنت وليّي في كلّ مؤمن بعدي » (١) ، وليس في إسناده واحد من أُولئك ( الشيعة ) الّذين اتُّهِموا به ! بل اتّفق علىٰ صحّته الحاكم والذهبي والألباني (٢) !

إنّ هذه الدلائل ليست فقط تثبت صحّة قوله « بعدي » ، إنّما تثبت أيضاً أنّ الرواية التي وردت في مسند أحمد أو غيره وليس فيها كلمة « بعدي » إنّما قام ( بتهذيبها ) أنصار التاريخ الّذين نصروه حتّىٰ في أوج انحرافه عن السُنّة..

كيف لا ؟! وهي إدانة صريحة لمساره المنحرف الذي صار عقيدةً يتديّنون بها ، ويضلِّلون مَن خالفهم فيها !

٥ ـ الحديث الذي غاب عن ( السنن ) وأظهره أصحاب التاريخ والتفسير :

« إنّ هذا أخي ، ووصيّي ، وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا » (٣).

فإذا كان الذي دهش قريشاً في جاهليّتها هو أن يؤمر أبو طالب بأن

__________________

(١) مسند أحمد ١ : ٣٣١ من حديث ابن عبّاس.

(٢) المستدرك ٣ : ١٣٣ ـ ١٣٤ وتلخيصه ، للذهبي في الصفحة ذاتها ، كتاب السُنّة لابن أبي عاصم ـ بتخريج الألباني ـ : ٥٥٢.

(٣) تاريخ الطبري ٢ : ٢١٧ ، الكامل في التاريخ ٢ : ٦٢ ـ ٦٤ ، السيرة الحلبية ١ : ٤٦١ ، شرح نهج البلاغة ١٣ : ٢١٠ و ٢٤٤ وصحّحه ، مختصر تاريخ دمشق ـ لابن عساكر ـ ، ابن منظور ١٧ : ٣١٠ ـ ٣١١ ، تفسير البغوي ( معالم التنزيل ) ٤ : ٢٧٨ ، تفسير الخازن ٣ : ٣٧١ ـ ٣٧٢ نقلاً عن سيرة ابن إسحاق ، المنتخب من كنز العمّال ـ بهامش مسند أحمد ـ ٥ : ٤١ ـ ٤٢.

٩٦

يسمع لابنه ويطيع (١) ، فقد دهشها بعد الإسلام أن يؤمر كلّ الصحابة بذلك !

قال ابن كثير : ذكروا في إسناد هذا الحديث عبد الغفّار بن القاسم ، وهو كذّاب ، شيعي ، اتّهمه عليّ بن المديني بوضع الحديث ، وضعّفه الباقون (٢).

لكنّ أبو مريم ، عبد الغفّار بن القاسم ، قد حفظ له التاريخ غير ما ذكر ابن كثير !

حفظ لنا خلاصة سيرته ، وصلته بالحديث ، ومنزلته فيه ، ثمّ حفظ علّة تركهم حديثه :

قال ابن حجر العسقلاني : ( كان ـ أبو مريم ـ ذا اعتناء بالعلم وبالرجال.. وقال شعبة : لم أرَ أحفظ منه.. وقال ابن عديّ : سمعتُ ابن عقدة يثني علىٰ أبي مريم ويُطريه ، ويجاوز الحدّ في مدحه ، حتّىٰ قال : لو ظُهر علىٰ أبي مريم مااجتمع الناس إلىٰ شعبة ) (٣) !!.

إذن لأمرٍ ما لم يُظهَر علىٰ أبي مريم ! قال البخاري : عبد الغفّار بن القاسم ليس بالقويّ عندهم.. حدّث بحديث بُرَيدة « عليٌّ مولى مَن كنتُ مولاه » (٤) !.

__________________

(١) حين قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك لعلي ، قام الناس يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع !

(٢) البداية والنهاية ٣ : ٣٨ ـ ٣٩.

(٣) لسان الميزان ٤ : ٤٢ رقم ١٢٣.

(٤) لسان الميزان ٤ : ٤٣.

٩٧

لكنّ حديث بريدة هذا قد أخرجه ابن كثير نفسه من طريق آخر وصفه بأنّه إسناد جيّد قويّ ، رجاله كلّهم ثقات (١) !.

ذلك هو أبو مريم !

٦ ـ خلاصة وصيّة النبيّ لأُمّته في حفظ رسالته : « ألا أيُّها الناس ، إنّما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربّي فأُجيب ، وأنا تاركٌ فيكم الثَقَلَين : أوّلهما كتاب الله ، فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به.. وأهل بيتي ، أُذكّركم الله في أهل بيتي ، أُذكّركم الله في أهل بيتي ، أُذكّركم الله في أهل بيتي » (٢).

ـ « إنّي تاركٌ فيكم ماإنْ تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي : كتاب الله حبل ممدود من السماء إلىٰ الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتىٰ يردا علَيَّ الحوض.. فانظروا كيف تخلفوني فيهما » (٣).

ـ « إنّي تارك فيكم خليفتين : كتاب الله ، وأهل بيتي... » (٤).

تلك خلاصة رسالة السماء... ومفتاح المسار الصحيح الذي أراده النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لشريعته.

وهذا كلام لا يختلف في فهمه عامّيٌّ وبليغ.. فمن أين يأتيه التأويل ؟!

إنّه لو قُدِّر أن تتحقّق الخلافة لعليٍّ أوّلاً ، لَما ارتاب أحد في هذا النصّ

__________________

(١) البداية والنهاية ٥ : ٢٢٨.

(٢) صحيح مسلم ٤ / ٢٣٠٨ من عدّة طرق.

(٣) سنن الترمذي ٥ / ٣٧٨٨ ، مسند أحمد ٣ : ١٧.

(٤) مسند أحمد ٥ : ١٨٢ و ١٨٩.

٩٨

الصريح الصحيح.. لكنّ اختلاف المسار الجديد عنه ، وتقديس الرجال ، هما وراء كلّ ما نراه من ارتياب وتجاهل لنصّ لا شيء أدلّ منه علىٰ تعيين أئمّة المسلمين ، خلفاء الرسول !!

إنّ أغرب ما جاء في ( تعطيل ) هذا النصّ قولٌ متهافتٌ ابتدعه ابن تيميّة حين قال : ( إنّ الحديث لم يأمر إلاّ باتّباع الكتاب ، وهو لم يأمر باتّباع العترة ، ولكن قال : أُذكّركم الله في أهل بيتي ) (١) !.

فقط وفقط ، ولا كلمة واحدة !!

ولهذا القول المتهافت مقلِّدون ، والمقلِّد لا يقدح في ذهنه ما يقدح في أذهان البسطاء حتىٰ ليعيد علىٰ شيخه السؤال : أين الثقل الثاني إذن ؟! أين الخليفة الثاني إذن ، والنبيّ يقول « الثقلين.. خليفتين » ؟! ومَن هذان اللذان لن يفترقا حتىٰ يردا الحوضَ معاً ؟!

« كتاب الله » و « عترتي أهل بيتي » إنّهما المحوران اللذان سيمثّلان محلّ القُطب في مسار الإسلام الأصيل غدا بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وليس بعد هذا الحديث ، وحديث غدير خمّ ، مايستدعي البحث عن نصوص أُخر لمن شاء أن يؤمن بالنصوص..

الخطاب الجامع.. مفترق الطرق :

في حديث صحيح ، جمع الخطاب وأوجز :

قال الصحابي زيد بن أرقم : لمّا دفع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حجّة الوداع ونزل

__________________

(١) منهاج السُنّة ٤ : ٨٥ ، الفرقان بين الحقّ والباطل : ١٣٩.

٩٩

غدير خمّ ، أمر بدوحاتٍ فقُمِمْن (١) ، ثمّ قال : « كأنّي دُعيتُ فأجبتُ ، وإنّي تارك فيكم الثَقَلين ، أحدهما أكبر من الآخر : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي. فانظروا كيف تخلفوني فيهما ! فإنّهما لن يفترقا حتىٰ يردا علَيَّ الحوض ».

ثمّ قال : « إنّ الله مولاي ، وأنا وليّ كلّ مؤمن » ثمّ أخذ بيد عليّ رضي‌الله‌عنه ، فقال : « مَن كنتُ وليّه فهذا وليّه ، اللّهمّ والِ مَن والاه ، وعادِ مَن عاداه ».

قال أبو الطفيل : قلتُ لزيد : سمعتَه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!

قال : نعم ، وإنّه ما كان في الدوحات أحد إلاّ رآه بعينه وسمعه بأُذنيه (٢).

هذا الخطاب ، علىٰ نحو مائة ألف من المسلمين شهدوا حجّة الوداع ، وعند مفترق طرقهم إلىٰ مدائنهم ، لم يعِشِ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعده إلاّ نحو ثمانين يوماً (٣) ، ليكون هذا الخطاب ذاته بعد اليوم الثمانين مفترق الطرق بين المسلمين ، وحتىٰ اليوم !!

ثمانون يوماً لا تكفي لنسيانه !!

__________________

(١) أي : كُنِسْنَ.

(٢) أخرجه : النسائي ، السنن ٥ / ٨٤٦٤ ، الأثري ، تخريج خصائص علي عليه‌السلام / ٧٦ وذكر له عدّة مصادر منها : مسند أحمد ١ : ١١٨ ، البزّار / ٢٥٣٨ ـ ٢٥٣٩ ، وابن أبي عاصم : ١٣٦٥ ، والحاكم ، المستدرك ٣ : ١٠٩ ، وأخرجه ابن كثير ، البداية والنهاية ٥ : ٢٢٨ وقال : قال شيخنا الذهبي : هذا حديث صحيح ، وأخرجه اليعقوبي ، التاريخ ٢ : ١١٢.

(٣) كانت خطبة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غدير خمّ يوم ١٨ ذي الحجّة سنة ١٠ ه‍ ، ووفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم ٢ أو ١٢ ربيع الأوّل من سنة ١١ ه‍ ، حسب اليعقوبي والطبري والكليني ، أو ٢٨ صفر ، حسب الطبرسي.

١٠٠