خلافة الرسول صلّى الله عليه وآله بين الشورى والنصّ

الدكتور صائب عبد الحميد

خلافة الرسول صلّى الله عليه وآله بين الشورى والنصّ

المؤلف:

الدكتور صائب عبد الحميد


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8629-50-1
الصفحات: ١٣٥
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

فلمّا تجنّب الخلفاء مبدأ الشورىٰ ومبدأ النصّ والاستخلاف معاً ، واختاروا مبدأ القهر والاستيلاء والتغلّب بالسيف ، قبلنا به واحداً من طرق الخلافة !

فكم بين الشورىٰ ، والتغلّب بالسيف ؟!

إنّ إقرار مبدأ التغلّب بالسيف لَيُعدّ أكبر انتكاسة لمبدأ الشورىٰ !

وإذا كانت الشورىٰ مستمدّة من القرآن ، فمن أين استمدّت قاعدة التغلّب بالسيف ؟!

وثَمَّ سؤال أشدّ إحراجاً من هذا :

فإذا كانت الشورىٰ هي القاعدة الشرعية المستمدّة من القرآن ، فماذا عن عهود الخلافة التي لم تتمّ وفق هذه القاعدة ؟!

وحين لم يتوفّر الجواب الذي ينقذ هذه النظرية من هذا المأزق الكبير ، رأينا أنّ المهرب الوحيد هو أن نبرِّر جميع صور الخلافة التي تحقّقت في الواقع : فمرّةً بعقد رجل واحد ومتابعة أربعة ، ومرّة بنصّ من الخليفة السابق ، ومرّة في ستّة يجتمعون لانتخاب أحدهم ، ومرّة بالقهر والاستيلاء ، حتىٰ أدّىٰ هذا المبدأ الأخير إلىٰ أن تصبح الخلافة وراثة بحتة لا أثر للدِين فيها.

مصير شروط الإمامة :

إنّ هذه الطريقة في تبرير الأمر الواقع لم تسقط الشورىٰ وحدها ، بل أسقطت معها أهمّ شروط الإمامة الواجبة لصحّة عقدها ، والتي منها :

٤١

١ ـ العدالة : إذ قالوا أوّلاً في بناء نظرية الخلافة : لاتنعقد إمامة الفاسق ، لأنّ المراد من الإمام مراعاة النظر للمسلمين ، والفاسق لم ينظر لنفسه في أمر دينه ، فكيف ينظر في مصلحة غيره (١) ؟!

وقالوا : إنّ هذا الفسق يمنع من انعقاد الإمامة ، ومن استدامتها ، فإذا طرأ علىٰ من انعقدت إمامته خرج منها (٢).

٢ ـ الاجتهاد : إذ عدّوا في شروط الإمام : أن يكون من أفضلهم في العلم والدين ، والمراد بالعلم هو العلم المؤدّي إلىٰ الاجتهاد في النوازل والأحكام ، فلاتنعقد إمامة غير العالم بذلك ، لأنّه محتاج لأنْ يصرّف الأُمور علىٰ النهج القويم ويُجريها علىٰ الصراط المستقيم ، ولأنْ يعلم الحدود ويستوفي الحقوق ويفصل الخصومات بين الناس ، وإذا لم يكن عالماً مجتهداً لم يقدر علىٰ ذلك (٣).

لكن سرعان ماانهارت هذه الشروط حين تغلّب علىٰ الخلافة رجال لم يكن فيهم شيء منها ، لا العدالة ، ولا العلم المؤدّي إلىٰ الاجتهاد..

قال الفرّاء : قد روي عن أحمد ألفاظ تقتضي إسقاط اعتبار العدالة والعلم والفضل ، فقال : ( ومن غلبهم بالسيف حتىٰ صار خليفةً وسمّي أمير المؤمنين ، فلا يحلّ لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماماً عليه ، برّاً كان أو فاجرا ، فهو أمير المؤمنين ) (٤) !

__________________

(١) مآثر الإنافة ١ : ٣٦ ، الأحكام السلطانية ـ للماوردي ـ : ٦ ، الأحكام السلطانية ـ للفرّاء ـ : ٢٠.

(٢) الأحكام السلطانية ـ للماوردي ـ : ١٧.

(٣) مآثر الإنافة ١ : ٣٧ ، الأحكام السلطانية ـ للفرّاء ـ : ٢٠.

(٤) الأحكام السلطانية ـ للفرّاء ـ : ٢٠.

٤٢

وقال القلقشندي : إن لم يكن الخليفة المتغلّب بالقهر والاستيلاء جامعاً لشرائط الخلافة ، بأن كان فاسقاً أو جاهلاً ، فوجهان لأصحابنا الشافعية ، أصحّهما : انعقاد إمامته أيضاً (١) !

التبرير :

إنّ مثل هذا الرأي الذي ينقض شرائط الخلافة بعد أن نقض أساسها ، لا بُدّ له من تبرير مقبول.

والتبرير الذي قدّمته هذه النظرية هنا هو : ( الاضطرار ) !

لأنّا لو قلنا : لاتنعقد إمامته ، لزم ذلك بطلان أحكامه كلّها المالية والمدنيّة ، فيتعيّن علىٰ الخليفة الذي يأتي بعده وفق الشروط الشرعية أن يقيم الحدود ثانياً ، ويستوفي الزكاة والجزية ثانياً ، وهكذا (٢).

والضرورة أيضاً تقتضي صحّة خلافته : لحفظ نظام الشريعة ، وتنفيذ أحكامها (٣) ، ولأنّه لابُدّ للمسلمين من حاكم (٤).

إذن قبولها علىٰ هذه الصورة يستدعي السعي الدائم لإزاحتها وإرجاع الأمر إلىٰ صيغته الشرعية متىٰ ما وجدت الأُمّة سبيلاً إلىٰ ذلك.

هذا ماذهب إليه الشيخ محمّد رشيد رضا وقد استعرض هذه الآراء ، فقال : معنىٰ هذا أنّ سلطة التغلّب كأكل الميتة ولحم الخنزير عند

__________________

(١) مآثر الإنافة ١ : ٥٨.

(٢) اُنظر : مآثر الإنافة ١ : ٥٨.

(٣) مآثر الإنافة ١ : ٧١.

(٤) الأحكام السلطانية ـ للفرّاء ـ : ٢٤.

٤٣

الضرورة ، تنفذ بالقهر ، وتكون أدنىٰ من الفوضىٰ !

ومقتضاه أنّه يجب السعي دائماً لإزالتها عند الإمكان ، ولايجوز أن توطّن الأنفس علىٰ دوامها ، ولا أن تجعل كالكرة بين المتغلّبين يتقاذفونها ، ويتلقّفونها كما فعلت الأُمم التي كانت مظلومة وراضية بالظلم (١).

لكنَّ الواقع كان علىٰ العكس من ذلك ، فقد حرّموا دائماً الخروج علىٰ السلطان الجائر والفاسق ، وعدّوا أيّ محاولة من هذا القبيل من الفتن التي نهىٰ عنها الدين وحرّم الدخول فيها..

يقول الزرقاني : أمّا أهل السُنّة فقالوا : الاختيار أن يكون الامام فاضلاً عادلاً محسناً. فإن لم يكن فالصبر علىٰ طاعة الجائر أوْلىٰ من الخروج عليه ، لِما فيه من استبدال الخوف بالأمن ، وإهراق الدماء ، وشنّ الغارات ، والفساد ، وذلك أعظم من الصبر علىٰ جوره وفسقه (٢) !

كما ثبت عن أحمد بن حنبل أنّه قال : ( الصبر تحت لواء السلطان علىٰ ماكان منه من عدلٍ أو جور ، ولايُخرَج علىٰ الأُمراء بالسيف وإنْ جاروا ) (٣).

استعرض الشيخ أبو زهرة هذين القولين ، ثمّ قال : وهذا هو المنقول عن أئمّة أهل السُنّة ؛ مالك ، والشافعي ، وأحمد (٤).

__________________

(١) الخلافة : ٤٥ ، عنه : نظام الحكم والإدارة في الإسلام : ١٢٦.

(٢) شرح الموطّأ ٢ : ٢٩٢ ، عنه : المذاهب الإسلامية : ١٥٥.

(٣) المذاهب الإسلامية : ١٥٥.

(٤) المذاهب الإسلامية : ١٥٥.

٤٤

فهل ينسجم هذا الاعتقاد مع أحكام الاضطرار والإكراه ؟!

لقد طعن الشيخ محمّد رشيد رضا هذه العقيدة في الصميم حين قال :

« وقد عُني الملوك المستبدّون بجذب العلماء إليهم بسلاسل الذهب والفضّة والرُتَب والمناصب ، وكان غيرهم أشدّ انجذاباً ، ووضع هؤلاء العلماء الرسميّون قاعدة لأُمرائهم ولأنفسهم هدموا بها القواعد التي قام بها أمرُ الدِين والدنيا في الإسلام ، وهي : أنّه يجوز أن يكون أولياء الأُمور فاقدين للشروط الشرعية التي دلّ علىٰ وجوبها واشتراطها الكتاب والسُنّة ، وإنْ صرّح بها أئمّة الاُصول والفقه ، فقالوا : يجوز ، إذ فُقِدَ الحائزون لتلك الشروط.

مثال ذلك : إنّه يشترط فيهم العلم المعبَّر عنه بالاجتهاد ، وقد صرّح هؤلاء بجواز تقليد الجاهل ، وعدّوه من الضرورة ، وأطلق الكثيرون هذا القول ، وجرىٰ عليه العمل. وذلك من توسيد الأمر إلىٰ غير أهله الذي يقرّب خطوات ساعة هلاك الأُمة ، ومن علاماتها : ذهاب الأمانة ، وظهور الخيانة.. ولا خيانة أشدّ من توسيد الأمر إلىٰ الجاهلين..

روى مسلم وأبو داوود حديث ابن عبّاس : « من استعمل عاملاً من المسلمين وهو يعلم أنّ فيهم أوْلىٰ بذلك منه وأعلم بكتاب الله وسُنّة نبيّه ، فقد خان الله ورسوله وجميع المسلمين » (١).

وطعنها أيضاً في قوله : ماأفسد علىٰ هذه الأُمّة أمرها وأضاع عليها ملكها إلاّ جعل طاعة هؤلاء الجبّارين الباغين واجبة شرعاً علىٰ الإطلاق ،

__________________

(١) تفسير المنار ٥ : ٢١٥ ـ ٢١٦ باختصار.

٤٥

وجعل التغلّب أمراً شرعيّاً كمبايعة أهل الحلّ والعقد للإمام الحقّ ، وجعل عهد كلّ متغلّب باغٍ إلىٰ ولده أو غيره من عصبته حقّاً شرعياً وأصلاً مرعياً لذاته (١) !.

وهذه حقيقة تاريخية ، وليست دعوىٰ مجازفٍ أو متهاون.

صورتان :

صورتان نقف عندهما يسيراً بعد هذا الشوط المضني ، لنواصل بعدهما المشوار..

الصورة الأولىٰ : مذهب عظماء السَلَف ؟!

لقد أسقط مذهب الكثير من عظماء السلف وأشرافهم فلا يُذكر لهم اسم ، ولايُشرَك لهم قول في هذه النظرية.

فلا ذكر للسبط الشهيد الإمام الحسين بن عليّ وثورته (٢).. ولا لمئات المهاجرين والأنصار وبقيّة الصحابة في مدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونهضتهم علىٰ يزيد بن معاوية (٣).. ولا عبد الله بن الزبير.. ولا الشهيد زيد بن عليّ بن

__________________

(١) الخلافة : ٥١ ، عنه : نظرية الحكم والإدارة في الإسلام : ١٢٦.

(٢) قُتل الإمام الحسين عليه‌السلام مع نيّف وسبعين من أهل البيت والتابعين وفيهم الصحابي أنس بن الحارث الذي روىٰ حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ ابني هذا ـ يعني الحسين ـ يُقتل بأرض يقال لها كربلاء ، فمن شهد منكم ذلك فلينصره » البداية والنهاية ٨ : ٢٠١ ، أُسد الغابة ، والإصابة : ترجمة أنس بن الحارث.

(٣) قُتل منهم ثمانون صحابيا ولم يبق بدريّ بعد ذلك ، وقتل من قريش والأنصار سبع مئة ، ومن التابعين والعرب والموالي عشرة آلاف ، وأُبيحت المدينة ثلاثة أيّام وانتُهكت الأعراض حتىٰ ولدت الأبكار لايُعرَف من أولدَهنّ !

أُنظر تفاصيل وقعة الحرّة في أحداث سنة ٦٣ ه‍ في المنتظم لابن الجوزي ٦ : ١٢ ـ ١٧ ، تاريخ الطبري ٥ : ٤٨٢ ـ ٤٩٥ ، واُنظر تاريخ الخلفاء للسيوطي : ١٩٥.

٤٦

الحسين.. ولا الصحابي سليمان بن صُرَد الخزاعي ومن معه أصحاب ثورة التوّابين.. ولا القُرّاء في الكوفة وثورتهم !

كما أُسقط أيضاً مذهب أبي حنيفة من بين أئمّة أهل السُنّة ، وذلك لأنّه ـ كما جاء في غير واحدٍ من المصادر ـ كان يساند الثائرين علىٰ خلفاء الزور فساند زيد الشهيد ابن زين العابدين عليه‌السلام وساند ثورات أولاد الامام الحسن عليه‌السلام حتىٰ مات في السجن وهو علىٰ موالاتهم ، وكان يسمّي خلفاء بني أمية وبني العباس ( اللصوص ) (١) !.

كلّ أُولئك أُسقطوا من هذه النظرية ، فأُخرجوا عن دائرة أهل السُنّة !!

لقد بالغ بعض كبار المتكلّمين باسم أهل السُنّة في النَيْل من أُولئك العظماء الأشراف ، ووجوه القوم وكبارهم ، ولعلّ من أشهرهم ابن تيميّة الذي ذهلته العصبية حتىٰ تمرّد علىٰ جميع الضوابط الدينية والقيم الخُلقية ، فوصف نهضة سيّد شباب أهل الجنّة سبط الرسول وريحانته بأنّها فساد كبير ! ولايرضىٰ بها الله ورسوله ! وكذا وصف نهضة بقيّة المهاجرين والأنصار في المدينة المنوّرة ، ثمّ بالغ في إعذار يزيد في التصدّي لهم وقتلهم جميعاً لأجل حفظه ملكه ؛ ولم ينكر علىٰ يزيد إلاّ أنّه أباح المدينة ثلاثة أيام (٢).

وقال في هذا الأمر أيضاً : ممّا يتعلّق بهذا الباب أن يُعلَم أنّ الرجل العظيم في العلم والدِين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلىٰ يوم

__________________

(١) اُنظر الملل والنحل ١ : ١٤٠ ، الكشاف ، للزمخشري : عند الآية ١٢٤ من سورة البقرة ( لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ).

(٢) اُنظر : منهاج السُنّة ٢ : ٢٤١ ـ ٢٤٣ و ٢٥٣ ، الوصيّة الكبرىٰ : ٥٤.

٤٧

القيامة ، أهل البيت وغيرهم ، قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقروناً بالظنّ ونوع من الهوىٰ الخفيّ ، فيحصل بسبب ذلك مالاينبغي اتّباعه فيه وإنْ كان من أولياء الله المتّقين ، ومثل هذا إذا وقع صار فتنة (١) !!

تُرىٰ لماذا كان ابن تيميّة أعلم بمداخل الفتنة وأبعد عن الهوىٰ الخفيّ من أُولئك العظماء من الصحابة وأهل البيت ؟! هل لأنّه رضي إمامةَ الفاجر والجاهل ، ورفضَها أُولئك ؟!

هكذا تُلقي هذه النظرية بنفسها في مأزقٍ حرج حين تُعرِض عن ذلك الأثر الضخم من آثار عظماء السَلَف وأئمّتهم.

الصورة الثانية : الخارج المأجور

مازال إظهار الخلاف للحاكم محرَّماً ، والخروج عليه فتنةً وفساداً كبيراً ، مازال هذا الحكم ثابتاً لا يتزحزح..

إذن لماذا أصبح الخارج علىٰ الإمام ، مرّةً واحدة فقط في تاريخ الإمامة ، مأجوراً ؟!

حين كان الإمام هو عليٌّ بن أبي طالب ، أخصّ الناس برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأكثرهم علما وجهادا وأوْلاهم بالعدل ، عندئذٍ فقط حقَّ للناس أن يخرجوا علىٰ الإمام !

وسوف لايكون خروجهم ـ هذه المرّة ـ فتنة وفساداً ، بل هو اجتهاد ، وهم مأجورون عليه ، مثابون لأجله وإن أخطأوا !!

__________________

(١) منهاج السُنّة ٢ : ٢٤٥.

٤٨

إنّها صور لو عرضتَ أيّا منها علىٰ تلك النظرية لوجدت فتقاً لايُرتَق إلاّ بتكلّفٍ ظاهر ، والتواءٍ سافر.

ولنعد الآن إلىٰ دعائم هذه النظرية..

٤٩

٥٠

Description: image004

٥١

٥٢



ضرورة النصّ بين الخليفة والنبيّ :

لانزاع بينهم في ثبوت حقّ الخليفة في النصّ علىٰ مَن يخلفه ، ولافي نفوذ هذا النصّ ، لأنّ الإمام أحقّ بالخلافة ، فكان اختياره فيها أمضىٰ ، ولا يتوقّف ذلك علىٰ رضىٰ أهل الحلّ والعقد (١).

وإنّما صار ذلك للخليفة خوفاً من وقوع الفتنة واضطراب الأُمّة (٢).

فمن أجل ذلك كان بعض الصحابة يراجع عمر ويسأله أن ينصّ علىٰ من يخلفه (٣).

تُرىٰ ، لماذا لا يكون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوْلىٰ بالتفكير في ذلك ، وبرعاية هذه المصلحة ؟!

إنّه الرحمة المهداة ، بلا شكّ.. أليس من تمام الرحمة وجمالها أن يُجنّب أُمّته المحذور من الاختلاف بعده ؟!

لقد أحبّ أُمّته وحرص عليها ( عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) (٤).

وأيضاً : فقد كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلم أنّنا سوف لاننتظر بعده نبيّاً يُعيد نظمَ أمرنا !

__________________

(١) الأحكام السلطانية ـ للفرّاء ـ : ١٠ ، الأحكام السلطانية ـ للبغوي ـ : ٢٥ ـ ٢٦.

(٢) الفصل ٤ : ١٦٩ ، تاريخ الأُمم الإسلامية ـ للخضري ـ : ١ : ١٩٦.

(٣) الكامل في التاريخ ٣ : ٦٥.

(٤) التوبة ٩ : ١٢٨.

٥٣

لقد بصر ابن حزم بذلك ، فحاول أن يتداركه ، فقال : وجدنا عقد الإمامة يصحّ بوجوه : أوّلها وأصحّها وأفضلها أن يعهد الإمام الميّت إلىٰ إنسان يختاره إماماً بعد موته ، سواء جعل ذلك في صحّته أو عند موته ، كما فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأبي بكر ، وكما فعل أبو بكر بعمر ، وكما فعل سليمان بن عبد الملك بعمر بن عبد العزيز.

قال : وهذا هو الوجه الذي نختاره ، ونكره غيره ، لِما في هذا الوجه من اتّصال الإمامة ، وانتظام أمر الإسلام وأهله ، ورفع مايتخوّف من الاختلاف والشغب ممّا يُتوَقّع في غيره من بقاء الأُمّة فوضىٰ ، ومن انتشار الأمر وحدوث الأطماع (١).

لقد لحظ ابن حزم أكثر من ثغرة في تلك النظرية ، فأظهر مهارةً في محاولة رتقها ، بأنْ جمع بين الضرورات الدينية والعقلية والاجتماعية وبين الأمر الواقع ، ليخرج بصيغة أكثر تماسكاً.

فتَرْكُ الأُمّة دون تعيين وليّ الأمر الذي يخلف زعيمها يعني بقاء الأُمّة فوضىٰ ، وتشتّت أمرها ، وظهور الأطماع في الخلافة لا محالة.. وهذا ممّا ينبغي أن يدركه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيبادر إلىٰ تلافيه ، ولو في مرضه الذي توفّي فيه.

وتعيين الخليفة بهذه الطريقة سيضمن اتّصال الإمامة ، وانتظام أمر الإسلام.

وإذا كان أبو بكر قد أدرك ذلك فنصَّ علىٰ مَن يخلفه ، وأدركه أيضاً

__________________

(١) الفصل ٤ : ١٦٩.

٥٤

عمر ، وأدركه سليمان بن عبد الملك ، فكيف نظنّ بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قد أغفل ذلك ؟!

إنّها إثارات جادّة دفعته إلىٰ حلٍّ وحيد يمكنه أن ينقذ هذه النظرية ، كما ينقذ الأمر الواقع بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتمثّل هذا الحلّ عنده بنصّ النبيّ علىٰ أبي بكر بالخلافة !

إذن فلا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد ترك هذا الأمر للأُمّة ، أو تركها فوضىٰ ، ولاكانت بيعة أبي بكر فلتة !

إنّها أُطروحة متينة ، كفيلة بقطع النزاع ، لو تمّت.. !

ولكنّها ـ للأسف ـ لم تكن سوىٰ مجازفة ، فمن البديهي عندئذٍ أن تكون عاجزةً عن تحقيق الأمل المنشود منها !

فلا هي تداركت تلك النظرية وعالجت ثغراتها ، ولا هي أنقذت الأمر الواقع !

وذلك لسبب بسيط ، وهو أنّ النصّ علىٰ أبي بكر لم يثبت ، بل لم يدّعِ وجوده أحد ، بل تسالمت الأُمّة علىٰ عدمه.

فمن أراد أن يثبت مثل هذا النصّ علىٰ أبي بكر بالخصوص ، فعليه أن ينفي حادثة السقيفة جملةً وتفصيلاً.

عليه أن يكذّب بكلّ ماثبت نقله في الصحاح من كلام أبي بكر وعمر وعليٍّ والعبّاس والزبير في الخلافة..

عليه أن يهدم بعد ذلك كلّ ماقامت عليه نظرية أهل السُنّة في الإمامة ، فلم تُبْنَ هذه النظرية أوّلاً إلاّ علىٰ أصل واحد ، وهو البيعة لأبي بكر بتلك

٥٥

الطريقة التي تمّت في السقيفة وبعدها !!

عليه أن ينفي ماصرّحوا به من ( الإجماع علىٰ أنّ النصّ منتفٍ في حقّ أبي بكر ) (١) !

ولم يكن هذا الطرح منسجماً مع هذه المدرسة ومبادئها ، وإنّما هو محاولة لسدّ ثغراتها ، ومقابلة للإلحاح الذي تُقدّمه النظرية الاُخرىٰ القائمة علىٰ أساس النصّ ، ولقطع دابر النزاع ، كما ذكر ابن حزم.

إنّه كان مقتنعاً بضرورة النصّ ، ولكنّه أراد نصّاً منسجماً مع الأمر الواقع ، وإنْ لم يسعفه الدليل !!

إقرار بقدر من النصّ :

لم يختف النصّ إلىٰ الأبد في هذه النظرية ، والشورىٰ هنا ليست مطلقة العنان ، فليس لأهل الحلّ والعقد أن ينتخبوا من شاءوا بلا قيد.

إنّ هناك حدّاً تلتزمه الشورىٰ ، وهذا الحدّ إنّما رسمه النصّ الثابت.

قالوا : إنّ من شرط الإمامة : النَسَب القرشي ، فلا تنعقد الإمامة بدونه.. وعلّلوا ذلك بالنصّ الثابت فيه ، فقد ثبت عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « الأئمّة من قريش ».

وقال : « قدّموا قريشاً ولا تتقدّموها ». وليس مع هذا النصّ المسلَّم شبهةٌ لمنازع ، ولا قول لمخالف (٢).

__________________

(١) شرح المقاصد ٥ : ٢٥٥ ، ومصادر أُخرىٰ.

(٢) الأحكام السلطانية ـ للماوردي ـ : ٦.

٥٦

واشترطوا لهذا القرشي أن يكون قرشيّاً من الصميم ، من بني النضر بن كنانة ، تصديقاً للنصّ (١).

وقال أحمد : ( لا يكون من غير قريش خليفة ) (٢).

واستدلّوا علىٰ تواتر هذا النصّ بتراجع الأنصار وتسليمهم الخلافة للمهاجرين القرشيّين حين احتجّوا عليهم بهذا النصّ في السقيفة (٣).

وقال ابن خلدون : بقي الجمهور علىٰ القول باشتراطها ـ أي القرشية ـ وصحّة الخلافة للقرشيّ ولو كان عاجزا عن القيام بأُمور المسلمين (٤).

وهكذا ثبت النصّ الشرعي ، وثبت تواتره ، وثبت الإجماع عليه.

وحين تراجع بعضهم عن الالتزام بهذا النصّ ـ كأبي بكر الباقلاّني ـ فسّر ابن خلدون سرّ تراجعه ، وردّ عليه ، فقال : لمّا ضعف أمر قريش ، وتلاشت عصبيّتهم بما نالهم من الترف والنعيم ، وبما أنفقتهم الدولة في سائر أقطار الأرض ، عجزوا بذلك عن أمر الخلافة وتغلّبت عليهم الأعاجم ، فاشتبه ذلك علىٰ كثير من المحقّقين حتىٰ ذهبوا إلىٰ نفي اشتراط القرشية ، وعوّلوا علىٰ ظواهر في ذلك مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « اسمعوا وأطيعوا وإنْ وليَ عليكم عبدٌ حبشي » (٥).

__________________

(١) الأحكام السلطانية ـ للفرّاء ـ : ٢٠ ، الفصل ٤ : ٨٩ ، مآثر الإنافة ١ : ٣٧ ، مقدّمة ابن خلدون : ٢١٤ فصل ٢٦.

(٢) الأحكام السلطانية ـ للفرّاء ـ : ٢٠.

(٣) الفصل ٤ : ٨٩.

(٤) المقدّمة : ٢١٥.

(٥) والخوارج أيضاً احتجّوا بهذا حين لم يجدوا بينهم قرشياً يسندون إليه الزعامة فيهم !

٥٧

قال : وهذا لاتقوم به حجّة في ذلك ، لأنّه خرج مخرج التمثيل ، للمبالغة في إيجاب السمع والطاعة (١).

وثبت النصّ واستقرّ ، ولا غرابة ، فهو نصّ صحيح ، بل متواتر.

وهو فوق ذاك ينطوي علىٰ فائدة أُخرىٰ ، فهو النصّ الذي يعزّز أركان هذه النظرية ، إذ يضفي الشرعية علىٰ الخلافة في كافة عهودها ، ابتداءً من أوّل عهود الخلافة ! وانتهاءً بآخر خلفاء بني العبّاس ، فهذا كلّ مايتّسع له لفظ القرشيّة هنا.

لمّا تغلب معاوية بالسيف بلغه أنّ عبد الله بن عمرو بن العاص يُحدِّث أنّه سيكون ملك من قحطان ، فهبّ معاوية غضبا فجمع الناس وخطبهم قائلاً : أمّا بعد ، فإنّه بلغني أنّ رجالاً منكم يحدّثون أحاديث ليست في كتاب الله ولاتؤثر عن رسول الله ، أُولئك جهّالكم ! فإيّاكم والأمانيّ التي تضلّ أهلها ، فإنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « إنّ هذا الأمر في قريش ، لايعاديهم أحد إلاّ كبّه الله في النار علىٰ وجهه » (٢).

وقفة مع هذا النصّ :

عرف المهاجرون القرشيّون الثلاثة ـ أبو بكر وعمر وأبو عبيدة ـ هذا النصّ فاحتجّوا به علىٰ الأنصار في السقيفة ، فأذعن الأنصار ، وعاد القرشيّون بالخلافة ، أبو بكر ، ثمّ عمر ، ثمّ مالت عن أبي عبيدة ، لا لعدم كفاءته وهو القرشيّ المهاجر ، بل لأنّه قد توفّي في خلافة عمر ، فلمّا حضرت عمر الوفاة تأسّف عليه ، وقال : ( لو كان أبو عبيدة حيّاً

__________________

(١) مقدّمة ابن خلدون : ٢١٤ ـ ٢١٥ فصل ٢٦.

(٢) صحيح البخاري ـ كتاب الأحكام ـ باب ٢ / ٦٧٢٠.

٥٨

لولّيتهُ ) (١).. والأمر ماضٍ مع النصّ.

ولكن حين لم يكن أبو عبيدة حيّاً كاد ذلك المبدأ ـ النصّ ـ أن ينهار ، وكاد ذلك النصّ المتواتر أن يُنسىٰ ، كلّ ذلك علىٰ يد الرجل الذي كان من أوّل المحتجّين به علىٰ الأنصار ، عمر بن الخطاب ! إنّه لمّا لم يجد أبا عبيدة حيّاً ، قال : ( لو كان سالم مولىٰ أبي حذيفة حيّا لولّيتُه ) (٢).

ولمّا لم يكن سالم حيّاً ، قال : ( لو كان معاذ بن جبل حيّا لولّيتُه ) (٣)..

فهل كان سالم قرشياً ؟! أم كان معاذ كذلك ؟!

أمّا سالم : فأصله من إصْطَخْر ، من بلاد فارس ، وكان مولىً لأبي حذيفة (٤) !

وأمّا مُعاذ : فهو رجل من الأنصار الّذين أغار عليهم القرشيّون الثلاثة في السقيفة ، وفيهم عمر ، واحتجّوا عليهم بأنّ الأئمّة من قريش ، وهيهات أن ترضىٰ العرب بغير قريش ! هذا الكلام قاله عمر في خطابه للأنصار في السقيفة ، ثمّ واصل خطابه قائلاً : ( ولنا بذلك الحجّة الظاهرة ، مَن نازعنا سلطانَ محمّد ونحن أولياؤه وعشيرتُه ، إلاّ مُدْلٍ بباطلٍ ، أو متجانفٍ لإثم ، أو متورّط في هَلَكة ) (٥) ؟!.

إنّ تعدّد هذه المواقف المختلفة أضفىٰ كثيراً من الغموض علىٰ عقيدة

__________________

(١) مسند أحمد ١ : ١٨ ، الكامل في التاريخ ٣ : ٦٥ ، صفة الصفوة ١ : ٣٦٧ ، سير أعلام النبلاء ١ : ١٠.

(٢) الكامل في التاريخ ٣ : ٦٥ ، صفة الصفوة ١ : ٢٨٣ ، طبقات ابن سعد ٣ : ٣٤٣.

(٣) مسند أحمد ١ : ١٨ ، صفة الصفوة ١ : ٤٩٤ ، طبقات ابن سعد ٣ : ٥٩٠ ، سير أعلام النبلاء ١ : ١٠.

(٤) سير أعلام النبلاء ١ : ١٦٧.

(٥) راجع : الكامل في التاريخ ٢ : ٣٢٩ ـ ٣٣٠ ، الإمامة والسياسة : ١٢ ـ ١٦.

٥٩

عمر في الخلافة ، ممّا يزيد في إرباك نظرية الخلافة والإمامة إذا ماأرادت أن تُساير جميع المواقف ، من هنا اضطرّوا إلىٰ الضرب علىٰ اختلافات عمر حفاظاً علىٰ صورة أكثر تماسكاً لهذه النظرية ، كلّ ذلك لأجل تثبيت هذا المبدأ القائم علىٰ النصّ الشرعي : « الأئمّة من قريش ».

واضح إذن كيف تمّ الانتصار للنصّ علىٰ الرأي المخالف !

وواضح أيضاً كيف كان قد تمّ الانتصار لمبدأ النصّ علىٰ مبدأ الشورىٰ ، وذلك حين رأىٰ الخليفة ضرورة النصّ علىٰ من يخلفه ، هذا بغض النظر عن السر الذي ذكرناه في طرح نظرية الشورىٰ !

فدخل النصّ إذن في قمّة النظام السياسي !

إذن ، ثبت لدينا نصّ صريح صحيح وفاعل في هذه النظرية ، وهو الحديث الشريف « الأئمّة من قريش » وقد أخرجه البخاري ومسلم وأصحاب السنن والسير بألفاظ مختلفة.

ضرورة التخصيص في النصّ :

١ ـ إنّ قراءةً سريعة في تاريخنا السياسي والاجتماعي توقفنا علىٰ حقيقة أنّ النصّ المتقدّم « الأئمّة من قريش » بمفرده لايحقق للإمامة الأمل المنشود منها في حراسة الدين والمجتمع.

وأوّل من لمس هذه الحقيقة هم الصحابة أنفسهم منذ انتهاء عصر الخلفاء الأربعة ، ثمّ أصبحت الحقيقة أكثر وضوحاً لدىٰ من أدرك ثاني ملوك بني أُميّة ـ يزيد بن معاوية ـ ومَن بعده.

ففي صحيح البخاري : لمّا كان النزاع دائراً بين مروان بن الحكم وهو

٦٠