خلافة الرسول صلّى الله عليه وآله بين الشورى والنصّ

الدكتور صائب عبد الحميد

خلافة الرسول صلّى الله عليه وآله بين الشورى والنصّ

المؤلف:

الدكتور صائب عبد الحميد


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8629-50-1
الصفحات: ١٣٥
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

Description: image001

١
٢

Description: image002

٣
٤



بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المركز

الحمدُ لله ربِّ العالمين ، والصلاة والسلام علىٰ أشرف مبعوث للعالمين ، نبينا محمد المصطفىٰ وعلىٰ آله الطيّبين الطاهرين ، ومن أخلص لهم من الصحابة والتابعين لهم بإحسانٍ إلىٰ يوم الدين. وبعد :

فقد أصبح من البداهة والضرورة بمكان أنّ أيّ قائدٍ من القوّاد ـ المخلصين لمبادئهم وشعوبهم ـ لا يعقل أن يترك أُمّته وأتباعه من بعده هملاً وبلا راع... ولذا نراهم ـ دائماً ـ يفكّرون في من يخلفهم عند غيابهم ـ حتىٰ في المدة القصيرة ـ ليقوم بالوظائف والمهام اللازمة.

وإذا كان ترك الأُمّة سدىً من سائر القادة مستحيلاً ، كان ذلك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستحيلاً بالأولوية القطعية ، فإنّه سيد العقلاء

٥

وأشرف المخلوقين من الأولين والآخرين ، وشريعته أفضل الشرائع ، وهو بالمؤمنين رؤوف رحيم.

إذن ، لابدّ من خليفةٍ له يخلفه في أُمّته ، ولابدّ أيضاً من أن يكون هو ـ قبل غيره ـ المهتمّ بهذا الأمر.

لاشك وأن الأُمّة يوم فقدت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت تتذكّر ما رأته وما سمعته من خلال أيام رسالته في هذا المجال ، لا سيّما أيامه الأخيرة حيثُ أوصىٰ بأشياء ، فإنّهم كانوا يحفظون وصاياه تلك ـ في الأقل لقرب العهد بها ـ وهي الوصايا التي ما زالت الأُمّة تحتفظ بها حتىٰ يومنا هذا.

فهل كان الذي سمعوه منه وحفظوه هو ( النص ) علىٰ واحدٍ معيّنٍ من بعده ، أو ترك الأمر إلىٰ الأُمّة نفسها لتختار له خلفاً يقوم بوظائفه وشؤونه ؟

وعلىٰ الجملة ، فهل الأساس في الإمامة والخلافة ـ علىٰ ضوء الكتاب والسُنّة ـ هو ( النص ) أو ( الشورىٰ ) ؟

ولكنا إذا ما عدنا إلىٰ خلفيات الواقع التاريخي لمسألة الخلافة في الإسلام ، ودرسناها بحياد تام ؛ لوجدناها قد حسمت بعيداً عن كلا الأمرين وذلك بإجراء سريع عاجل علىٰ أثر مبادرة جماعة من الأنصار مع نفر قليل من المهاجرين إلىٰ اجتماع السقيفة في وقت انشغال المسلمين وعلىٰ رأسهم أهل البيت عليهم‌السلام وبنو هاشم كلهم

٦

بتجهيز النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإلقاء النظرة الأخيرة علىٰ الجسد المطهّر العظيم ومن ثم مواراته الثرىٰ في موكب حزين.

ومع قلّة المجتمعين في السقيفة فإنّ مادار بينهم لم يسفر عن رضا الجميع ولا عن اتّفاقهم أو تشاورهم ، بل تطاير الشرُّ فيها ، وكانت بيعتهم ـ كما قال عمر ـ ( فلتة وقىٰ الله شرّها ).

وهذا يعني أنّ الشورىٰ لم تتحقق بين أصحاب السقيفة أنفسهم فضلاً عمن غاب عنها ورفضها كأهل البيت عليهم‌السلام ، وأصحابهم ، وبني هاشم كلهم ، والامويين أيضاً كما يدلّ عليه موقف عميدهم ، فهذا هو الواقع التاريخي الذي ساد بعد اجتماع السقيفة.

ولأجل صيانته ، والحفاظ علىٰ كرامة السلف الماضين حاولت طائفة التنظير لمسألة الخلافة من خلال ذلك الواقع فتشبثت بالشورىٰ ، لكن لما اصطدمت بالواقع التاريخي الذي أشرنا إليه ، عادت إلىٰ النص...

وحينئذٍ يأتي البحث عن من هو ( المنصوص عليه ) من قبل الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

وهذا الكتاب الذي نقدّمه باعتزاز إلىٰ القراء قد أُجريت فيه موازنة دقيقة ، وحوار علمي بين منطق أصحاب ( الشورىٰ ) وبين منطق أصحاب ( النص والتعيين ) ، مع إيراد أقوىٰ ما يمتلكه الطرفان من الأدلة ومناقشتها بحياد وموضوعية ، مع بيان أي من المنطقين هو

٧

المتماسك وأيُّهما المتهافت.

نترك للقارئ والباحث حريّة اختيار ما توصل إليه البحث من نتائج في ضوء استخدام المصادر المعتبرة ، مع أصالة المنهج المتبع ، وقوة التحليل.

والله الهادي إلىٰ سواء السبيل

مركز الرسالة

٨

تمهيد

لا تزال مشكلة ( أساس نظام الحكم في الإسلام ) تُعدّ من اُمّهات المشاكل التي لم يُحسم فيها القول بين المسلمين بعد..

إنّها واحدة من المشاكل الكبرىٰ التي تعرّضت دائماً لإشكالات الرُؤىٰ المذهبية ، شأنها شأن أخواتها من المشكلات التاريخية والعقيدية.

ليس النزاع في أصل النظام ، فإنّ أحداً لا يستطيع أن يتصوّر أُمّة تحيا بلا نظام ، ونظاماً يسود بلا قيادة..

وقديماً تحدّث الفقهاء وفلاسفة السياسة المدنية عن هذا الأصل :

ـ فأحمد بن حنبل يُعرّف الفتنة بأنها حال الاُمّة إذا لم يكن إمام يقوم بأمر الناس.

ـ وتحدّث المسعودي عن حاجة الدين إلىٰ الملك ، وحاجة الملك إلىٰ الدين ، ورأىٰ أنّه لا غنىٰ لأحدهما عن الآخر..

ـ ورأىٰ ابن حزم أنّ ذلك معلوم بضرورة العقل وبديهته ، وأنّ قيام الدين ممتنع غير ممكن إلاّ بالاسناد إلىٰ واحد يكون علىٰ رأس هذا النظام.

ـ وعبّر ابن خلدون عن هذا النظام بأنّه قوانين سياسية مفروضة يسلّمها الكافة وينقادون إلىٰ أحكامها ، فإذا خلت الدولة من مثل هذه السياسة لم يستتب أمرها ولم يتم استيلاؤها ( سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ).

٩

وقبل هذا كلّه قد تعامل المسلمون مع هذا الأصل كضرورة واقعية إثر وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

أما النزاع الدائر فهو في أساس ذلك النظام.. في الاسلوب الذي يقود رأس النظام إلىٰ موقع الرئاسة..

لقد حاول البعض علىٰ امتداد تاريخنا السياسي التركيز علىٰ نظرية الشورىٰ أصلاً في النظام ، مستنداً علىٰ أمثلة تاريخية معدودة ، صاغ منها اُنموذجاً للشورىٰ في الإسلام.

وتناولت ذلك كتب العقائد والأحكام السلطانية ثم تقدّمت به خطوة أُخرى إلىٰ أمام لتنتزع لهذه النظرية أصالتها من مصادر التشريع الإسلامي ؛ القرآن والسُنّة.. لتكتسب نظرية الشورىٰ بعد ذلك أصالة دينية متقدمة علىٰ شهودها التاريخي ، بل ومبرّرة له.

وكلّ ذلك يدور حول الخلافة الاُولى للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.. فشكّل الاتجاهان ـ دراسات التاريخ السياسي ، والدراسات العقيدية ـ وحدة موضوعية كافحت علىٰ امتداد هذا الزمن الطويل من أجل تدعيم تلك النظرية وتأصيلها..

لكن هل استطاعت هذه المسيرة المتوحّدة أن تُقدّم الكلمة الأخيرة في الموضوع ، وتضع الحل الحاسم للأسئلة التي تثار حوله ؟

هل استطاعت أن تثبت أصالة الشورىٰ طريقا إلىٰ خلافة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

هل استطاعت أن تثبت ما هو أوسع من ذلك ؛ أصالة الشورىٰ في حل

١٠

مشكلة النظام السياسي في الإسلام ؟

هل استطاعت أن تنفي الاُطروحات الاُخر المزاحمة للشورىٰ ، من قبيل : النصّ ، والغلبة وغيرها ؟

ما هو مستوىٰ النجاح الذي حققّته في كلِّ واحد من هذه الميادين ؟

وماذا عن قدرة الاطروحات الاُخرىٰ علىٰ منازعة نظرية الشورىٰ والحلول محلّها بديلاً في تعيين أساس نظام الحكم في الإسلام ؟

مواضيع عديدة تتفرّع عن هذه الأسئلة الكبيرة تبنّىٰ هذا البحث المقتضب دراستها ومناقشتها ، مناقشة موضوعية عُمدتها البرهان العلمي والدليل الحاسم ، بعيداً عن الالتفاف علىٰ النصوص ، وتحويل القطعي إلىٰ ظنّي ، والصريح إلىٰ مؤوّل ، والخاص إلىٰ العام ، والصحيح إلىٰ ضعيف ، ونحو ذلك من أساليب الجدل..

ويقع البحث في قسمين رئيسيين ؛ يتناول القسم الأول نظرية الشورىٰ من جميع وجوهها ، فيدرس الشورىٰ في القرآن والسنة ، ثم الشورىٰ في واقعها التاريخي وفي الفقه السياسي ، مع أهم ما يتّصل بهذه العناوين من مباحث.

فيما يتناول القسم الثاني ( نظرية النصّ ) وفق المنهج نفسه ، مستوفياً ما يتعلّق بهذا الموضوع بحثاً ونقداً.

ليخلص إلىٰ النتيجة التي يقررّها البحث في كلا قسميه..

والله المسدّد للصواب

١١

١٢

Description: image003

١٣
١٤



الشورىٰ في الكتاب والسُنّة

ثلاثة نصوص في القرآن الكريم تتحدث عن الشورىٰ ، ولكن علىٰ مستويات مختلفة :

النصّ الأول :

قوله تعالىٰ في شأن الرضاع : ( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ... فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ) (١).

وهذا حديث في أجواء الاُسرة الواحدة ، يتشاور الأبوان في شأن وليدهما الرضيع ، هل تُتمّ اُمّه رضاعه إلىٰ الحولين ، أم تفصله عن الرضاع ؟ تفاهم ثنائي في مسألة علىٰ ضوء المعرفة بحال الأم وحال الرضيع ، وجوّ الاُسرة العامّ ، ينتهي إلىٰ قرار مشترك لا إكراه فيه.

وربما النتهىٰ قرارهما بعد التشاور إلىٰ أن يسترضعا له مرضعة غير اُمّه ( وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) (٢).

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٣٣.

(٢) البقرة ٢ : ٢٣٣.

١٥

فهذه الآية الشريفة تعالج قضيّةً من قضايا الاُسرة ، وما يتعلّق منها بالرضيع خاصّة ، ضماناً لمصلحته ، وحفاظاً علىٰ سلامة الجوّ الاُسري الذي قد يحطّمه استبداد أحد الزوجين بالامر كلّه (١).

النصّ الثاني :

في الحديث عن غزوة اُحد وما انتهت إليه من هزيمة القسم الأعظم من جيش المسلمين وتركهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع بضعة نفر من أصحابه يكافحون العدوّ لوحدهم ، ممّا هو مدعاة لإشعارهم بتقصيرهم الشديد وذنبهم الكبير الذي ارتكبوه ، خصوصاً وأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يخرج إلىٰ اُحد إلاّ برأيهم ورغبتهم وإلحاحهم ، لكنّ الذي وجدوه من النبيّ القائد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو عكس ما يظنّون ممّا هو معتاد لدىٰ القادة إزاء الجند المنهزم عن قائده ساعة الحرب ! وجدوا منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليناً معهم وإكراماً زادهم شعوراً بالتقصير حين لم يلجئهم إلىٰ التماس الأعذار ، أو التذلّل.

فبارك الله تعالىٰ هذا الخُلق الكريم ، وهذا السلوك الحكيم ، إذ جاء التنزيل : ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) (٢) فإنّما كان لينك معهم وغضّك عن ذنبهم برحمة من الله تعالىٰ ، وأيّ رحمة ، أيّ رحمةٍ هذه التي جعلتك تلين لجند أخرجوك إلىٰ القتـال برأيهم ، فلمّا حمي الوطيس فرّوا عنك ونجوا بأنفسهم ؟!

وإتماما لهذه الرحمة الواسعة ، تنزّل الأمر الالهي بما يدعو إلىٰ إعادة

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ١ : ٢٨٥ ، فتح القدير ١ : ٢٤٦ ـ ٢٤٧ ، الميزان في تفسير القرآن ٢ : ٢٥٣.

(٢) آل عمران ٣ : ١٥٩.

١٦

المجتمع الاسلامي إلىٰ تماسكه الأوّل ، بل أكثر ، وإعادة هذا الرعيل الكبير إلىٰ موقع إجتماعي طبيعي يستطيع من خلاله أن يستأنف نشاطه ويصحح عثرته ، فقال تعالىٰ : ( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) (١) فلم تقف الرحمة عند اللين والعفو والاستغفار ، بل امتدت إلىٰ مشاورتهم في الاُمور التي تصحّ المشاورة فيها ، عندئذٍ فقط سيجدون أنفسهم أعضاء فاعلين في هذا البناء الاجتماعي الذي ينشده الإسلام.

لكنّ التنزيل لم يترك الأمر بالمشورة مرسلاً ، بل وضع له نظاماً واضح المعالم ، فالنبيّ القائد المستشير حين يعزم علىٰ أمرٍ فيه الصواب والصلاح ينبغي أن ينفذ فيه ، سواء كان موافقاً لآراء المستشارين أو مخالفاً لها : ( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ) (٢).

موضوع الشورىٰ وأهدافها

الشورى التي دعت إليها هذه الآية الكريمة ما هو موضوعها ، وما هي أهدافها ، بعد أن عرفنا أنّ الشورىٰ في المورد الأوّل كان موضوعها الرضاع ، وأهدافها : ضمان مصلحة الرضيع ، وسلامة المحيط الاُسري ؟

إنّ الشورىٰ هنا مختلفة عن الاُولى ، فالمستشير هنا هو النبيّ القائد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمستشار هم جمهور الناس من أصحابه.

فما هي الاُمور التي كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مدعوّاً لاستشارتهم فيها ؟ أهي أمور الدين ، أم اُمور الدنيا ؟

__________________

(١) آل عمران ٣ : ١٥٩.

(٢) آل عمران ٣ : ١٥٩.

١٧

ولأي شيءٍ هذه المشورة ، ألأجل أن يستنير بآرائهم ويهتدي بها إلىٰ الصواب ؟ أم ماذا ؟ للمفسّرين هنا كلام تتّفق معانيه وأدلّته كثيرا ، وتختلف قليلاً ، فممّا اتّفقوا فيه كلامهم في حدود الاجابة علىٰ سؤالنا الأوّل ؛ أيّ الاُمور هذه التي يستشيرهم فيها ؟

قال الشوكاني ـ وقوله جامع لأقوال المفسّرين ـ : إن المراد أيّ أمرٍ كان ممّا يشاوَر في مثله ، أو في أمر الحرب خاصّة كما يفيده السياق... والمراد هنا المشاورة في غير الاُمور التي يرد الشرع بها (١).

فالمشاورة إذن ليست في أمور الدين والأحكام ، فهذه من شأن التنزيل وحده ، وليست محلاًّ للرأي والنظر.

فموضوع المشاورة إذن هو أمور الدنيا ، وقد تقدّم أنّ السياق يدلّ علىٰ أنّ المراد هو شأن الحروب وخططها ، وليس السياق وحده يدلّ علىٰ هذا ، بل التاريخ أيضاً أثبت أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد استشار أصحابه في بعض شؤون الحرب ، كالذي حدث في اختيار لقاء العدوّ يوم بدر ، وفي اُسارىٰ بدر ، وفي الخروج إلىٰ اُحد ، وفي الخندق.

أمّا وراء شؤون الحرب ، فإن حصل فنادرٌ جدّاً ، وحتىٰ شؤون الحرب لم تكن كلّها خاضعة للشورىٰ ، بل كان قرار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في اختيار الحرب وتحديد مكانها وزمانها حاسماً وسابقاً لأيّ مستوىٰ من مستويات الشورىٰ ، وهو قرار باق وحاكم حتّىٰ لو كثر فيه الخلاف ، كما هو واضح جدّاً في بعثة اُسامة ، وفي اختيار زيد بن حارثة أميراً علىٰ جيش مؤتة ولو

__________________

(١) فتح القدير ١ : ٣٩٣.

١٨

بعد جعفر بن أبي طالب ، وفي عقد الصلح في الحديبية مع مشركي قريش ، وغير ذلك كثير.

وسوف يُطلّ علينا البحث في أهداف هذه الشورىٰ بمزيد من الوضوح في موضوع الشورىٰ ومساحتها.

أمّا أهداف هذه الشورىٰ :

فتطالعنا بها أحاديث مرفوعة إلىٰ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأقوال لقدماء المفسّرين أو متأخّريهم.. ومن مجموع ما ورد يظهر لهذه الشورىٰ بعدان :

البعد الأول :

نكتشفه في النصوص الآتية :

ـ عن قتادة ، قال : أمر الله نبيّه أن يشاور أصحابه في الاُمور ، وهو يأتيه وحي السماء ، لأنّه أطيب لأنفس القوم ، وأنّ القوم إذا شاور بعضهم بعضاً وأرادوا بذلك وجه الله عزم لهم علىٰ الرشدة (١).

إنّه إذن أمر للقائد أن يشاور قومه وأصحابه ، لما في ذلك من المنافع المذكورة.

ـ وعن الحسن ، قال : قد علم الله أنّه ما به إليهم من حاجة ، ولكن أراد أن يستنّ به من بعده (٢).

فهي إذن سنّة من السنن المُلزمة للقائد ، مارسها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليكون من

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٣٥٨.

(٢) الدر المنثور ٢ : ٣٥٨.

١٩

بعده من القادة أولىٰ بممارستها والرجوع إليها.

ـ قال الرازي : ليقتدي به غيره في المشاورة ، ويصير سنّة في اُمّته (١).

فنحن مازلنا في دائرة واحدة ، وهي دائرة الشورىٰ التي يمارسها القائد في تخطيطه السياسي والاجتماعي والتنظيمي ، مع قواعد شعبية واسعة ، أو مع طليعة ممتازة ، أو مع واحد تميّز بخبرة خاصّة في شأن من الشؤون التي يمكن أن تتسع لها الشورىٰ ، من غير الاحكام والتشريعات وما تخصّصت النصوص الشرعية في بيانه.

إذن نحن إزاء شورىٰ يمكن أن نطلق عليها اسم ( شورىٰ الحاكم ).

هل اتّخذت هذه الشورىٰ نظاماً ثابتاً ؟

منذ أن نزلت هذه الآية الكريمة وحتّىٰ وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هل اتّخذت الشورىٰ شكلاً معيناً ونظاماً ثابتاً ؟

ومن جميع أمثلة الشورىٰ وتطبيقاتها ـ ومعظمها في شؤون الحرب ـ نجد أنّ النبي القائد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يختار للمشورة أحياناً من يشاء ، وأحيانا يستمع إلىٰ مشير يبدي رأيه ابتداءً ، دون أن ينتخب أشخاصاً بأعيانهم للمشاورة في النوازل..

ـ فيوم الخندق ؛ أشار عليه سلمان الفارسي رضي‌الله‌عنه بحفر خندق حول المدينة ، فأخذ برأيه ، وأمر بحفر الخندق ، فحُفر ، وعاد علىٰ الإسلام والمسلمين بكلِّ خير.. (٢).

__________________

(١) تفسير الرازي ٩ : ٦٦.

(٢) تاريخ الطبري ٢ : ٥٦٦ عن الواقدي ، تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم ، دار التراث.

٢٠