الإمامة في أهمّ الكتب الكلاميّة وعقيدة الشيعة الإماميّة

السيّد علي الحسيني الميلاني

الإمامة في أهمّ الكتب الكلاميّة وعقيدة الشيعة الإماميّة

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٧

المنسوب إلى الحكيم نصير الطوسي ، كيف نصر الأباطيل ، وقرّر الأكاذيب ... ).

أقول :

أمّا القدح والطّعن في الصّحابة فنحن لسنا بصدد ذلك ، لكنّ البحث ـ لأجل إثبات أمر أو دفعه ـ قد ينجّر إلى ذكر أمور تؤدّي إلى الطعن والقدح ، لا في كلّ الصّحابة وإنّما في بعضهم ... ولذا اضطّر السّعد نفسه في أواخر الكتاب إلى الإشارة إلى بعض ما كان من الصّحابة ثم الاعتراف بأنّه : ( ليس كلّ صحابي معصوماً ولا كلّ من لقي النبي بالخير موسوماً ) ٣١١.

نحن قد أوردنا سابقاً عن حال الصّحابة جملاً عن الكتاب والسنّة.

وأمّا الأخبار الواردة في هذا الباب فإنّها متواترةً قطعاً ، لا سيّما الوارد منها من طرقنا ... وتلك كتبنا تشهد بذلك ، بل لقد أقرّ غير واحد من علماء طائفته بتواتر بعض ما يحتجّ به أصحابنا ـ كما سترى ـ لكنّ السّعد يجهل ذلك كلّه أو يتجاهله ...

وأمّا ذكره المحقق العظيم الجامع بين العلوم العقلية والنقلية نصير الدين الطوسي وكتابه ( تجريد الاعتقاد ) بما ذكره فعدول عن النظر والحجاج إلى القذف والسباب والافتراء ، أو استعمال طريقة جهّال العامّة في التشنيع على المذاهب وسبّ أهلها ، وقلّما يستعمل ذلك إلاّ عند نفاد الحجة وقلّة الحيلة ... وكذلك حال السّعد في هذا الكتاب ، كما سترى أجوبته عمّا ذكره من الدليل والنص في هذا الباب.

انتفاء شرائط الإمامة عن غيره

قال (٢٦٨) :

( الأول : ـ إنّ بعد رسول الله إماماً ، وليس غير عليّ ، لأنّ الإمام يجب أن يكون معصوماً ومنصوصا عليه وأفضل أهل زمانه. ولا يوجد شيء من ذلك في باقي الصّحابة ، أمّا العصمة والنص فبالإتفاق ، وأمّا الأفضلية فلما سيأتي.

٢٠١

والجواب : أوّلاً : منع الأشتراط : وثانياً : منع انتفاء الشرائط في أبي بكر ).

أقول :

أمّا الجواب الأوّل فممنوع ، بالأدلّة القائمة على اشتراط العصمة والنص والأفضلية في الامام.

وأمّا الجواب الثاني : فيكفي في ردّة اعترافه غير مرة بانتفاء العصمة والنص في أبي بكر ، وكذا تقريره الاتفاق على نفيها في غير علي عليه‌السلام من الصّحابة. وأمّا الافضلية فسيأتي الكلام عليها.

قال : ( ويمكن أن تجعل الأدّلة بحسب الشروط ).

أقول : فَلِمَ جعلها وجهاً واحداً؟ وكذلك فعل بالنسبة إلى حديثي الغدير والمنزلة كما سياتي ، وقد كثّر عدد الوجوه التي زعمها على إمامة أبي بكر؟

قال :

( وربما يورد في صورة القلب فيقال ... وأمّا ما يقال ... فحمل نظر ).

أقول :

فهلاّ أوضح وجه النّظر!!

آية : إنّما وليّكم الله

قال ( ٢٦٩) :

( الثاني : قوله تعالى : ( إنّما وليّكم الله ... (١) والجواب ... ).

أقول :

لم يمكنه إنكار نزول الآية باتفاق المفسّرين في أمير المؤمنين ، ولا إنكار أنّ من معاني « الولي » هو « المتصرف » وإنّما اعترض على الاستدلال بوجوه :

والعمدة ـ بدليل تقديمه على غيره ، وعدم ذكر بعضهم كابن روزبهان غيره ـ

__________________

(١) سورة المائدة : ٥٥.

٢٠٢

هو الأخذ بسياق الآية فقال بعد بيان ذلك : ( وبالجملة ، لا يخفى على من تأمّل في سياق الآية وكان له معرفة بأساليب الكلام أن ليس المراد بالولي فيها ما يقتضي الإمامة ، بل الموالاة والنصرة والمحبّة ).

وهذا الاعترض موجود في ( المواقف ) وهذه عبارته : « ولأنّ ذلك غير مناسب لما قبلها وهو قوله : ( يأ أيّها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ) وما بعدها وهو قوله : ( ومن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا فان حزب الله هم الغالبون ) قال الشارح : « فإنّ التولي ههنا بمعنى المحبة والنصرة دون التصرف ، فوجب أن يحمل ما بينهما على النصرة أيضاً ليتلائم أجزاء الكلام » (١).

ولكن يجاب عنه ـ بعد التسليم بقرينيّة السّياق مطلقاً ـ إنّ الآية التي ذكروها ليست قبل هذه الآية ، بل مفصولة عنها بآيات عديدة أجنبية عنها ، ولنذكر الآيات كلّها :

( يا أيها الذين أمنوا لا تنخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولّهم منكم فإنّه منهم إنّ الله لا يهدي القوم الظالمين * فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسرّوا في أنفسهم نادمين * ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين * يا أيها الذين آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقومٍ يحبّهم ويحبّونه أذلّة على المؤمنين أعزّة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم * إنّما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا فإنّ حزب الله هم الغالبون ).

__________________

(١) شرح المواقف ٨/٣٦٠.

٢٠٣

فظهر أن لا قرينيّة للآية : ( يا أيّها الذين آمنوا لا تتخذوا ... ) بالنسبة إلى الآية : ( إنما وليّكم الله ... ) وأمّا الآية التي بعدها وهي : ( ومن يتولّ الله ورسوله ... ) فهي مناسبة لكون المراد هو « الأولوية بالتصرّف » بكلّ وضوح ، لأنّ المراد بتولي الله ورسوله والذين آمنوا هو اتخاذهم أولياء والقول بولايتهم بالمعنى الذي أريد من « الولي » في قوله : ( انما وليّكم الله ... ) فكيف لا تحصل المناسبة؟

وإذا ارتفعت هذه الشبهة ... والآية نازلة في أمير المؤمنين باتفاق المفسرين ـ لم يعبأ باحتمال كون « الواو » في « وهم راكعون » عاطفة لا حاليّة ... إذ المراد هو الامام علي عليه‌السلام الذي تصدّق بخاتمة وهو راكع.

نعم هنا اشكال أنّ ( ( الذين آمنوا ) صيغة جمع فلا يصرف إلى الواحد إلاّ بدليل ).

والجواب : إنّ الدليل هو إتفاق المفسّرين الذي اعترفوا به ، ونظائره في القرآن كثيرة ...

وإلى هنا ظهر تماميّة الاستدلال بالآية المباركة ... ويبقى ما ذكره بقوله : ـ ( إنّ ظاهر الآية ثبوت الولاية بالفعل وفي الحال ... ).

وقد أخذه من شيخه العضد حيث قال : « المراد هو الناصر وإلاّ دلّ على إمامته حال حياة الرّسول » (١).

وقد ذكرنا في جوابه : إنّ التصرّف من شؤون صاحب الولاية ، سواء كان نبياً أو وصي نبي ، فقد يكون حاصلاً له بالفعل وقد لا يكون وقد لا يحصل كما وقع بالنسبة إلى كثير من الأنبياء والأوصياء ... فالمقصود بالاستدلال إثبات الولاية لأمير المؤمنين عليه‌السلام ، وأمّا فعليّة التصرّف فقد يقال بحصولها له في حياة النبي أيضاً ونفوذه إلاّ حيثما لا يرضى النّبي ، وهو لا يفعل ما لا يرضاه قطعاً.

__________________

(١) شرح المواقف ٨/٣٦٠.

٢٠٤

وقد يقال بتوقّف تصرّفه على وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا كما في الوصية ، حيث يثبت استحقاقها للوصي ، لكنه يمنع من التّصرف مادام الوصيّ موجوداً ، ولعلّه لوضوح الجواب عن هذا الوجه أعرض ابن روزبهان عن ذكره.

ولعله لذلك أيضاً كان معتمد الفخر الرازي وجهاً آخر ذكره السّعد ، لكن أجاب عنه.

وأمّا ما ذكره السّعد من أنه ( لو كانت في الآية دلالة على إمامة على لما خفيت على الصّحابة ... ) فهذا أولاً : استبعاد محض ، وقد تقدم ما يقتضي رفعه. وثانياً : منقوض بما استدلّوا به على إمامة أبي بكر ، مع معارضة الأنصار والمهاجرين له.

هذا تمام الكلام على ما ذكره حول الآية المباركة. وقد عرفت أنّها مجرّد شبهات واهية تبعثها التعصّبات الباردة ...

حديث الغدير

قال (٢٧٢) :

( والجواب منع تواتر الخبر ، فإنّ ذلك من مكابرات الشيعة ، كيف؟ وقد قدح في صحته كثير من أهل الحديث ، ولم ينقله المحققون منهم ... وأكثر من رواه يرووا المقدّمة ... وبعد صحّة الرواية فموخّر الخبر ... ).

أقول :

لا يخفى أنّه لا يناقش إلاّ في سند الحديث ودلالته ، أمّا شيخه العضد فأضاف ـ تبعاً للرازيّ ـ إنكار وجود الإمام عليه‌السلام مع النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يوم الغدير.

وأيضاً إنّه لم يصرّح بعدم صحته سنداً ، خلافاً لشيخه حيث منع صحته. فالكلام معه في جهتين :

٢٠٥

١ ـ سند حديث الغدير

إنّ حديث الغدير متواتر عند أصحابنا بطرقهم وأسانيدهم ، كما لا يخفى على من راجع كتبهم ، ويكفي لكون الحديث متفقاً بين الفريقين ، قابلاً للاحتجاج به لإثبات إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام تنصيص بعض علماء المخالفين على صحّته ... إلاّ أنّ الواقع فوق ذلك ، فقد نصّ غير واحد منهم على تواتره ...

فممّن نصّ على صحته من أئمّة الحديث عند القوم :

١ ـ أبو عيسى الترمذي صاحب الصحيح المتوفى سنة ٢٧٩ فإنّه قال بعد أن أخرجه : « هذا الحديث حسن صحيح » (١).

٢ ـ أبو جعفر الطحاوي المتوفى سنة ٢٧٩ فإنّه قال بعد أن رواه : « فهذا الحديث صحيح الإسناد ولا طعن لأحدٍ في رواته » (٢).

٣ ـ ابن عبدالبرّ القربطبي المتوفى سنة ٣٦٤ فإنه قال بعد أحاديث منها حديث الغدير : « هذه كلّها آثار ثابتة » (٣).

٤ ـ الحاكم النيسابوري المتوفى سنة ٤٠٥ حيث أخرجه بعدّة طرق وصحّحها (٤).

٥ ـ الذهبي المتوفى سنة ٧٤٨. فإنّه وافق الحاكم على تصحيحه في تلخيصه (٥) كما نقل عنه ابن كثير ذلك واعتمده.

٦ ـ ابن كثير المتوفى سنة ٧٧٤ فقد ذكر الحديث ثم قال : « قال شيخنا أبو

__________________

(١) صحيح الترمذي : ٢/٢٩٨.

(٢) مشكل الآثار : ٢/٣٠٨.

(٣) الاستيعاب ٢/٢٧٣.

(٤) المستدرك على الصحيحين ٣/١٠٩.

(٥) تلخيص المستدرك ٣/١٠٩.

٢٠٦

عبدالله الذهبي : هذا حديث صحيح » (١).

٧ ـ ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة ٨٥٢ حيث قال : « وأمّا حديث من كنت مولاه فعلي مولاه ، فقد أخرجه الترمذي والنسائي ، وهو كثير الطرق جداً ، وقد استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد ، وكثير من أسانيدها صحاح وحسان ... » (٢).

٨ ـ ابن حجر المكي المتوفى سنة ٩٧٤ : « إنّه حديث صحيح لا مرية فيه ، وقد أخرجه جماعة كالترمذي والنسائي وأحمد ، فطرقه كثيرة جداً ، ومن ثمّ رواه ستة عشر صحابياً. وفي رواية لأحمد : إنّه سمعه من النبي ثلاثون صحابياً وشهدوا به لعلي لما نوزع أيام خلافته كما مر وسيأتي ، وكثير من أسانيدها صحاح وحسان ، ولا التفات لمن قدح في صحته ، ولا لمن قدح صحته ، ولا لمن ردّه بأن علياً كان باليمن ، لثبوت رجوعه منها ... » (٣).

٩ ـ علي القاري المتوفى سنة ١٠١٤ فإنّه قال بعد أن رواه : « والحاصل : إن هذا حديث صحيح لا مرية فيه ، بل بعض الحفاظ عدّه متواتراً ... فلا التفات لمن قدح في ثبوت هذا الحديث ، وأبعد من ردّه بأنّ عليّاً كان باليمن ... » (٤).

١٠ ـ المناوي المتوفى سنة ١٠١٣ حيث قال : « قال ابن حجر : حديث كثير الطرق جداً ، قد استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد ، منها صحاح ومنها حسان ... » (٥).

أقول : في هذه الكلمات :

أولاً : هذا الأثر ثابت.

__________________

(١) تاريخ ابن كثير ٥/٢٠٩.

(٢) فتح الباري ٧/٦١.

(٣) الصواعق المحرقة : ٢٥.

(٤) المرقاة في شرح المشكاة ٥/٥٦٨.

(٥) فيض القدير ٦/٢١٨.

٢٠٧

وثانياً : إنّه صحيح.

وثالثاً : إنّه كثير الطرق جداً.

ورابعاً : إنّه لا التفات لمن قدح في صحته.

وخامساً : إنّه متواتر عند بعض الحفّاظ.

ومع ذلك نذكر جماعة ممّن نص على تواتره وهم :

١ ـ شمس الدين أبو عبدالله الذهبي.

٢ ـ ابن كثير الدمشقي. قال ابن كثير : « قال شيخنا الحافظ أبو عبدالله الذهبي : الحديث متواتر ، أتيقّن أن رسول الله قاله » (١).

٣ ـ ابن الجزري المتوفى سنة ٨٣٣ ، قال : « صحيح عن وجوه كثيرة ، متواتر عن أمير المؤمنين علي ، وهو متواتر أيضاً عن النبي ، رواه الجم الغفير عن الجم الغفير ، ولا عبرة بمن حاول تضعيفه ممّن لا اطلاع له في هذا العلم وصحّ عن جماعة ممن يحصل القطع بخبرهم » (٢).

٤ ـ جلال الدين السيوطي المتوفى سنة ٩١٠.

٥ ـ المنّاوي حيث قال بشرح الحديث نقلاً عن السيوطي : « قال حديث متواتر » (٣).

وبعد ، فما تقول في قول السّعد : ( والجواب منع تواتر الخبر فإنّ ذلك من مكابرات الشّيعة ، كيف وقد قدح في صحته كثير من أهل الحديث )؟

ثم في قوله : ( ولم ينقله المحققون منهم كالبخاري ومسلم والواقدي )؟

على أنّ عدم النقل لا يدلّ على القدح ، وهو يعلم بذلك ، فلذا غيّر العبارة ، ولو أردنا التكلّم في البخاري ومسلم وكتابيهما لطال بنا المقام ، وإن شئت فراجع

__________________

(١) تاريخ ابن كثير ٥/٢٠٩.

(٢) أسنى المطالب : ٤٨.

(٣) فيض القدير : ٦/٢١٨

٢٠٨

كتابنا ( التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشّريف ).

وأمّا قوله : ( وأكثر من رواه لم يرووا المقدمة التي جعلت دليلاً على أن المراد بالمولى الأولى ).

فكأقواله السّابقة ... وذلك لأنّ الأكثر رووا المقدمة أيضاً ، ولو سلّم ففي رواية الأقل غنى وكفاية ... وممّن روى المقدمة أيضاً :

معمر بن راشد.

عبدالله بن نمير.

أبو نعيم الفضل بن دكين.

عفان بن مسلم.

أبوبكر ابن أبي شيبة.

قتيبة بن سعيد الثقفي.

أحمد بن حنبل.

ابن ماجة القزويني.

أبوبكر البزّار.

أحمد بن شعيب النسائي.

أبويعلى الموصلي.

محمد بن حرير الطبري.

أبو الحسن الدار قطني.

أبو موسى المديني.

ابن كثير الدمشقي.

راجع : مسند أحمد ٤/٣٧٢ ، ٥/٣٤٧ ، الخصائص : ٩٥ سنن ابن ماجة ١/٤٣ ، تاريخ ابن كثير ٧/٣٤٨ ـ ٣٤٩ ، الرياض النضرة ٢/٢٢٣ ، كنز العمال ١٣/١٣١ ، ١٣٤ ، ١٥٨ ، وغيرها من المصادر المعتبرة ...

٢٠٩

هذا كلّه في الكلام على سند حديث الغدير بايجاز ، فانظر وأنصف من « المكابر »؟

٢ ـ دلالة حديث الغدير

قال : ( وبعد صحة الرواية :

فموخّر الخبر ـ أعني قوله : اللهّم وال من والاه ـ يشعر بأن المراد هو الناصر والمحب ، بل مجرد احتمال ذلك كاف في دفع الاستدلال.

ولو سلّم فغايته الدلالة على استحقاق الإمامة وثبوتها في المآل ، لكن من أين يلزم نفي إمامة الأئمّة قبله ...

وإذا تأمّلت فما يدعون من تواتر الخبر حجة عليهم لا لهم ... )

أقول :

هذا غالية ما أمكنه الاعتراض به على الاستدلال بحديث الغدير ... ولا يخفى أنّ هذا الموضع من المواضع التي خالف فيها السّعد مشايخه المتقدمين عليه كالقاضي العضد والفخر الرازي ... فإنّ أولئك أنكروا أن يكون ( المولى ) يجيء بمعنى ( الأولى ) ثم ذكروا شبهات لهم بناء على ذلك ... آخذين كلّ ما هنا لك من مشايخ المعتزلة ... أمّا السّعد فلم ينكر مجئ كلمة ( المولى ) بمعنى ( الأولى ) بل ظاهره الإقرار ، فكان الكلام معه أخصر وطريق الإفحام أقصر.

لقد دلّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا : بلى. قال : فمن كنت مولاه فعلي مولاه » على الأولوية ، وأكّدت ذلك الدلائل والقرائن الكثيرة الثابتة في رواية الفريقين :

من وجوه دلالة حديث الغدير

منها : نزول الآيات من القرآن الكريم في ذلك اليوم :

قوله تعالى : ( يا أيّها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربّك وانْ لم تفعل

٢١٠

فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس ) نزلت قبل خطبة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

وقوله تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام ديناً ) نزلت بعد الخطبة الشريفة (٢).

وقوله تعالى : ( سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع ). نزلت في قضية الرجل الذي جاء إلى النّبي بعد الخطبة قائلاً : « يا محمد أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إلاّ الله وأنك رسول الله ، فقبلناه منك. وأمرتنا أن نصلّي خمساً ، فقبلناه منك. وأمرتنا بالزكاة فقبلناه. وأمرتنا أن نصوم شهر رمضان فقبلناه منك ، وأمرتنا بالحج فقبلناه. ثم لم ترض بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمّك ففضّلته علينا وقلت : من كنت مولاه فعليّ مولاه؟ فهذا شيء منك أم من الله عزّ وجلّ؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والذي لا إله إلاّ هو إن هذا من الله.

فولّى الرّجل قائلاً : اللهم ان كان ما يقوله محمد حقاً فامطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذابٍ أليم.

فما وصل إلى راحلته حتى رماه الله بحجرٍ فسقط على هامته وخرج من دبره فقتله.

فأنزل الله تعالى ذلك » (٣).

ومنها : شعر حسان بن ثابت في ذلك اليوم بإذنٍ من النّبي ومشهدٍ من الصّحابة ... وفيه :

__________________

(١) روى نزولها : ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر وأبو نعيم والثعلبي والواحدي والعيني والسيوطي وغيرهم ، لاحظ : الدر المنثور ٢/٢٩٨ ، أسباب النزول : ١١٥ ، الفخر الرازي ١٢/٤٩ وغيرها.

(٢) روى نزولها : ابن مردويه وأبو نعيم وابن المغازلي والخطيب الخوارزمي و ...

(٣) روى ذلك : الثعلبي والسمهودي والمنّاوي والحلبي وجماعة آخرون.

٢١١

« فقال له قم يا علي فانني رضيتك من بعدي إماماً وهادياً » (١).

ومنها : مناشدة الامام أمير الؤمنين عليه‌السلام الناس عن حديث الغدير (٢).

ومنها : مناشدة الزهراء عليها‌السلام واحتجاجها بالحديث (٣).

ومنها : بعض ألفاظ الحديث : كقوله :

« يا أيها الناس من وليّكم؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ـ ثلاثاً.

ثم أخذ بيد علي فقال : من كان وليّه فهذا وليه ، أللهم وال من والاه وعاد من عاداه » (٤).

فلو كان المراد من « المولى » هو « المحب والناصر » لما قال الأصحاب في الجواب : « الله ورسوله أعلم ».

وكقوله : « إنّ الله ولييّ وأنا ولي كلّ مؤمنٍ ، من كنت مولاه فعلي مولاه » (٥).

وكقوله : « أيّها الناس إني ولّيكم. قالوا : صدقت ، فرفع يد علي فقال : هذا وليّي المؤدّي عنّي ، وإنّ الله موال من والاه ومعاد من عاداه » (٦) فإنّ « المؤدّي عنّي » قرينة على أنّ « الولاية » هي الأولوية ، وعلى أنّ الدعاء جاء في حقّ من قبل ولايته وأطاعه فيما يؤديه ، وعلى من لم يقبل ولايته ولم يطع أوامره ونواهيه الالهية ...

وكقوله : « من كنت أولى به من نفسه فعليّ وليّه ، أللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه » (٧).

__________________

(١) روى ذلك : ابن مردويه وأبو نعيم والخوارزمي وسبط ابن الجوزي والسيوطي وآخرون.

(٢) روى ذلك من أكابر الحفاظ : عبدالرزاق وأحمد والبزار والنسائي وأبو يعلى والطبراني والخطيب وابن الأثير وابن كثير والسيوطي وغيرهم.

(٣) أسنى المطالب للحافظ ابن الجزري.

(٤) الخصائص : ١٠١.

(٥) كنز العمال : ١٢/٢٠٧.

(٦) الخصائص ١٠٠ ، تاريخ ابن كثير ٥/٢١٢.

(٧) المعجم الكبير ٥/١٨٦.

٢١٢

ومنها : شهادة صحابة مشهورين بولاية أمير المؤمنين عليها‌السلام وإمامته إستناداً إلى حديث الغدير ... فإنّهم دخلوا عليه فقالوا : « السلام عليك يا مولانا. قال : وكيف أكون مولاكم وأنتم قوم عرب؟ قالوا : سمعنا رسول الله يقول : من كنت مولاه فهذا مولاه » (١).

ومنها : تهنئة الشيخين وسائر الصحابة أمير المؤمنين عليه‌السلام قائلين « أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة » (٢).

ومنها : إستنكار بعض الصحابة هذا الكلام (٣) فلو كان بمعنى « الناصر والمحب » لما استنكر.

ومنها : تمنّي بعض الصحابة ورود هذا الكلام في حقّه (٤).

إلى غير ذلك من الوجوه ...

فهل يبقى مجال بالنظر إلى كل ذلك لاحتمال ـ أو دعوى ـ إشعار مؤخر الحديث بأنّ المراد بالمولى هو الناصر والمحب؟ وهل يعقل أن يكون ذلك الاهتمام الذي كان من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمجرّد بيان كون علي عليه‌السلام محبّاً وناصراً لمن كان النّبي محبّاً وناصراً له؟

ثم أي منافاة بين هذه الجملة وجملة « من كنت مولاه » لتكون مشعرة بما يدعيه السّعد؟ بل إنها أيضاً من مؤكّدات الدلالة على الأولوية ، لأنّه لو كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد قال : « من كانت طاعتي مفترضة عليه فطاعة علي عليه مفترضة ، أللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه » لكان كلاماً صحيحاً لا تهافت فيه.

ومن هنا ترى أن بعض حفّاظهم المحققين ـ كمحب الدين الطبري المتوفى

__________________

(١) مسند أحمد ٥/٤١٩ ، الرياض النضرة ٢/٢٢٢ ، تاريخ ابن كثير ٧/٣٤٧ ، المرقاة في شرح المشكاة ٥/٥٧٤.

(٢) رواه جماعة من كبار المحدثين ، منهم أبوبكر ابن أبي شيبة ، كنز العمال ١٣/١٣٤.

(٣) مسند أحمد ٤/٣٧٠ ، الخصائص ١٠٠ ، ابن كثير ٧/٣٤٦.

(٤) رواه ابن ماجة ١/٤٥ عن سعد بن أبي وقاص.

٢١٣

سنة ٦٩٤ ـ يستبعد ما ادّعاه السعّد من المعنى (١) بل إنّ بعض مؤلّفيهم المتعصّبين يكذبّ مؤخر الحديث فيقول : « إن هذا اللفظ وهو قوله : أللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله. كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث ... » قال : « إن دعاء النبي مجاب ، وهذا الدعاء ليس بمجاب ، فعلم أنه ليس من دعاء النبي ... » (٢).

وأمّا : ( ولو سلّم فغايته الدلالة على الامامة ، وهو جواب لم يذكره القوم ) ففيه : أنّه قد ذكره القوم قبله بقرون ، سواء أراد من « القوم » قومه أو أصحابنا ، فقد ذكر شيخنا أبوجعفر الطوسي المتوفى سنة ٤٦٠ « فأمّا الجواب عمّا قالوه من ثبوت الإمامة بعد عثمان. فهو : ما تقدّم عند كلامنا في النص الجلي ، وهو : إن الأمة مجمعة على أنّ إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد قتل عثمان لم تحصل له بنص من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تناول تلك الحال واختص بها دون ما تقدّمها. ويبطله أيضاً : إنّ كلّ من أثبت لأمير المؤمنين عليه‌السلام النص على الامامة بخبر الغدير أثبته على استقبال وفاة الرسول من غير تراخ عنها » (٣).

أقول :

ويبطله أيضاً : أنه كانت ولاية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عامة كما يدلّ عليه كلمة « من » الموصولة ، فكذا علي. فيجب أنْ يكون علي هو الولي لأبي بكر دون العكس.

ويبطله أيضاً : انّه بعد التسليم بدلالة حديث الغدير على إمامة الأمير والاعتراف بعدم النصّ على خلافة من تقدمه ، يكون تقييد إمامته عليه‌السلام بالزمان المتأخر عن زمانهم تقييداً بلا دليل.

__________________

(١) الرياض النضرة ١/٢٠٥.

(٢) منهاج السنة ٤/١٦.

(٣) تلخيص الشافي ٢/٢٠٠.

٢١٤

أقول : بل ورد النّص عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عدم استخلافه أحداً ممّن تقدّم عليه ، وقوله في علي : « أما والذي نفسي بيده لئن أطاعوه ليدخلّن الجنّة أجمعون » رواه غير واحد من محدثيهم بأسانيدهم عن ابن مسعود عن النّبي.

وأمّا قوله : ( وإذا تأمّلت فما يدّعون من تواتر الخبر حجة عليهم لا لهم ، لأنّه لو كان مسوقاً لثبوت الامامة دالاً عليه لما خفي على عظماء الصحابة ... ).

فتكرار لما سبق ...

فتلخّص ـ أن الحديث متواتر سنداً ، نصّ دلالةً ... والحمد الله على ذلك.

حديث المنزلة

قال (٢٧٥) :

( وأما حديث المنزلة ... والجواب : منع التواتر ، بل هو خبر واحد في مقابلة الاجماع. ومنع عموم المنازل ... ولو سلّم العموم فليس من منازل هارون الخلافة والتصرّف بطريق النيابة على ما هو مقتضى الامامة ، لأنه شريك له في النبوّة ، وقوله : أخلفني ليس استخلافاً بل مبالغة وتأكيداً في القيام بأمر القوم. ولو سلّم فلا دلالة على بقاءها بعد الموت ... ).

سند حديث المنزلة

أقول :

أمّا الكلام في السند فإنّ السّعد لم يمنع صحة الحديث كما فعل شيخه في ( المواقف ) ـ تبعاً للآمدي الزّنديق بنصّ الذّهبي ـ وإنّما منع التواتر قال : ( بل هو خبر واحد في مقابلة الاجماع ).

والجواب : إن حديث المنزلة مخرّج في كتابي البخاري ومسلم (١) اللذين هما

__________________

(١) صحيح البخاري ، كتاب المغازي ، غزوة تبوك. صحيح مسلم ، الترمذي ، ابن ماجة ، أبو داود

٢١٥

أصحّ الكتب عندهم بعد القرآن ، واشتهر بينهم قطعيّة صدور أحاديثهما (١) ، مضافاً إلى تصريح غير واحد من كبار محدّثيهم بتواتره ، قال ابن عبدالبرّ : « هو من أثبت الأخبار وأصحّها ، رواه عن النبي سعد بن أبي وقاص ـ وطريق سعد فيه كثيرة جدّاً ، قد ذكر ابن أبي خيثمة وغيره ـ ورواه : ابن عباس وأبو سعيد الخدري ، وأم سلمة وأسماء بنت عميس وجابر بن عبدالله ، وجماعة يطول ذكرهم » (٢).

ثمّ إن ظاهر قوله ( خبر واحد في مقابلة الاجماع ) هو أن الموجب لأن يكون حديث المنزلة خبراً واحداً هو الاجماع المدّعى على خلافة أبي بكر ، لكنّ الاجماع المذكور لو سلّم لا يوجب أن يكون الخبر الثابت يقيناً خبراً واحداً مفيداً للظن ، وإنّما يوجب رفع اليد عن ظهور الخبر المتواتر في مدلوله المنافي للاجماع. وعلى الجملة فإنّ المقابلة للاجماع إنّما تؤثّر في دلالة الخبر وان كان متواتراً ، ولا تؤثر في سند الخبر المتواتر بأن تجعله ظنيّاً ... ومن هنا يفهم أن السّعد يرى الحديث متواتراً سنداً ، وأنّه تام الدلالة على إمامة علي عليه‌السلام ، إلاّ أنّ الاجماع هو المانع من الإذعان بذلك!

لكنك قد عرفت حال الاجماع المزعوم حتى من كلام السّعد نفسه ...

دلالة حديث المنزلة

وأما الكلام في الدّلالة فالجواب عن الشبهة الأولى ـ وهي عمدة ما في المقام ـ هو أن معيار العموم جواز الإستثناء كما نصّ عليه الأصوليّون قاطبة ، كما لا يخفى على من لاحظ مباحث العموم في ( المنهاج للبيضاوي ) وشروحه ، وفي ( مسلّم الثبوت للبهاري ) وشرحه ، وغيرها من كتب الأصول ، ومن الواضح جداً أنّ اسم

__________________

... لاحظ جامع الأصول ٩/٤٦٨.

(١) لاحظ كلام الحافظ ابن القيسراني المقدسي في كتاب الجمع بين رجال الصحيحين وكلام النووي وشارحه السيوطي في تدريب الراوي. وغيرهما.

(٢) الاستيعاب ، ترجمة أمير المؤمنين ٣/١٠٩٠.

٢١٦

الجنس المضاف من ألفاظ العموم كما نص عليه جميعهم كذلك ، منهم السّعد نفسه في شرح شرح مختصر الأصول ، تبعاً لابن الحاجب والقاضي العضد ، فقد جاء في ( شرح المختصر ) ما نصه : « ثمّ الصيغة الموضوعة له ، أي للعموم ، عند المحققين هي هذه : فمنها : أسماء الشرط والاستفهام نحو : من وما ومهما وأينما ، ومنها : الموصولات نحو : من وما والذي ، ومنها : الجموع المعرفة تعريف جنس لا عهد ، والمجموع المضافة نحو العلماء وعلماء بغداد ، ومنها : اسم الجنس كذلك أي معرفّاً تعريف جنس أو مضافاً » (١).

وفي ( شرح المنهاج ) : « المسألة الثانية فيما يفيد العموم ... وأما الجمع المضاف سواء كان جمع كثرة نحو قوله تعالى : ( يا عبادي ) الآية : أو جمع قلة نحو قوله عليه‌السلام : أولادنا أكبادنا. وكذا اسم الجنس يكون عاماً إذا كان محلّىً بالألف واللام نحو قوله : ( يا أيّها النّاس اعبدوا ) أو مضافاً نحو قوله تعالى : ( عن أمره ) ».

وفي ( فواتح الرحموت ) : « إنّ المفرد المضاف أيضاً من صيغ العموم ، كيف ويصح الاستثناء وهو معيار العموم ».

وكما تجد هذه القاعدة في الكتب الأصولية ، كذلك تجدها في الكتب الأدبية ، وفي كلام السّعد نفسه ، فقد ذكر السّعد في ( شرحه المختصر على تلخيص المفتاح ) بتعريف علم البلاغة : « فمقتضى الحال هو الاعتبار المناسب للحال والمقام. يعني إذا علم أن ليس ارتفاع شأن الكلام الفصيح في الحسن الذاتي إلاّ بمطابقته للاعتبار المناسب على ما يفيده إضافة المصدر ، ومعلوم أنه إنما يرتفع بالبلاغة ... فليتأمل » قال الخطائي في حاشية :

« قوله : على ما يفيد إضافة المصدر. لأنّها تفيد الحصر كما ذكروا في ضربي زيداً قائماً أنه يفيد انحصار جميع الضربات في حال القيام. وفيه تأمّل. لأن إضافة

__________________

(١) شرح مختصر الأصول ٢/١٠٢.

٢١٧

المصدر إنما تفيد العموم لأنّ اسم الجنس المضاف من أدوات العموم ، والانحصار في المثال المذكور إنما هو من جهة أنّ العموم فيه يستلزم الحصر ... ».

وفي حاشية الجلبي على ( شرحه المطوّل ) : « قوله : واستغراق المفرد أشمل. قد سبق تصريح الشارح بأنّ اضافة المصدر تفيد الحصر وحقق هناك أن مبناه كون المصدر المضاف من صيغ العموم ، فهذه القضية كلية ... ».

هذا ، ولو أردنا أيراد كلماتهم لطال بنا المقام ... فالعجب من السّعد كيف ينسى في هذا الموضع ما قرّره هو وغيره من الأعلام؟

فظهر سقوط قوله : ( منع عموم المنازل ).

وكذا قوله : ( بل غاية الاسم المفرد المضاف إلى العلم الإطلاق ، وربما يدعى كونه معهوداً معيّناً كغلام زيد ).

فإنّ تبادر العهد من « غلام زيد » بسبب القرينة لا يستلزم عدم العموم في كلّ اسمٍ مضاف ، لانّ اسم الجنس المعرّف باللام والجمع باللام أو المضاف الدالة على العموم ـ كما صرّح بذلك علماء الأصول ـ تحمل على العهد أينما تحقّق العهد ، وهذا لا ينفي كونها للعموم حيث لا عهد ، فكذا في اسم الجنس المضاف ، قال الجلال المحلّي في ( شرح جمع الجوامع ) : « والجمع المعرّف باللاّم نحو : قد أفلح المؤمنون ، أو الاضافة نحو : يوصيكم الله في أولادكم للعموم ما لم يتحقق عهد لتبادره إلى الذّهن ».

وكيف يقول : ( غاية الاسم ... الاطلاق )؟ والحال أنّه حيث لا يتحقق العهد يكون الأستثناء صحيحاً ، وقد عرفت أن صحّته دليل العموم ، كما عرفت أن اسم الجنس المضاف من صيغ العموم.

سلّمنا أن غايته الإطلاق ، فإنّ الاطلاق أيضاً كاف لإثبات دلالة الحديث على إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، لانّ المتكلّم الحكيم إذا جاء بلفظ مطلق ولم ينصب قرينة على التقييد أفاد العموم وإلاّ لزم الإهمال ، بل لقد نصّ السّعد نفسه في ( شرح التوضيح ) على أنّه لابدّ من حمل صيغ العموم على الكلّ احترازاً عن

٢١٨

ترجيح البعض بلا مرجّح ، فكذلك الأمر في عموم المطلق وشموله لجميع أفراده.

إذنْ ، لا سبيل إلى إنكار دلالة الحديث على العموم ، ومن هنا اعترف شيخه القاضي العضد بذلك (١) إلاّ أنّه ادعى العهد ، لكنّ السّعد يقول : ( وربما يدعى كونه معهوداً كغلام زيد ) فهو غير جازم بالعهد ، وذلك لأنّه يدري أنّ العهد المدعى ليس إلاّ قرينيّة زمان صدور الحديث ، وهو وقت الخروج عن المدينة إلى تبوك ... كما نصّ عليه شارح المواقف ... وهو موقوف على كون المورد مخصّصاً وهو باطل ، ولذا قال : ( وأمّا الجواب : بأنّ النبي لمّا خرج ... فربّما يدفع بأنّ العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ، بل ربما يحتجّ ... ).

هذا أولاً :

وثانياً : إنّ ورود الحديث غير مختص بهذا المورد ، فقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا الكلام لعلي عليه‌السلام في مواضع عديدة ، منها عند المؤاخاة ، وقد أوردنا الخبر في ذلك في ( الطّرائف ) عن أحمد بن حنبل كما في ( كنز العمّال ) ، وسيأتي خبر آخر فيه قريباً.

وأمّا قوله : ( وليس الاستثناء المذكور إخراجاً ... بل منقطع ... ).

فهذا الإشكال ذكره شيخه القاضي العضد ... فأنصف السّعد وأجاد في دفعه بقوله : ( اللهمّ إلاّ أن يقال : إنها بمنزلة المستثنى ، لظهور انتفائها ).

إلى هنا تمّ دلالة الحديث على العموم ...

قال : ( ولو سلّم العموم فليس من منازل هارون الخلافة والتصرّف ... وقوله : اخلفني ليس استخلافاً ... ).

ويردّه تصريح كبار المفسّرين منهم بتفسير قوله : ( اخلفني ) بأنّ المعنى « كن خليفتي ونافذ أمرك فيهم » فلاحظ تفاسير : ( الكشاف ) و ( الرازي ) و ( البيضاوي ) و ( النيسابوري ) و ( النسفي ) و ( ابن كثير ) و ( الخازن ) ...

__________________

(١) المواقف في علم الكلام ٨/٣٦٣.

٢١٩

وإذا كان من جملة المنازل الثابتة لهارون بخلافته : فرض طاعته ونفوذ أمره في الأمّة ، فعلي عليه‌السلام المنزّل منزلة هارون كذلك ، ولو صرّح النبي بهذا المعنى وقال : أنت مني بمنزلة هارون من موسى في فرض الطّاعة ونفوذ الأمر وإن لم تكن شريكي في النبّوة ، لكان كلاماً مستقيماً لا تنافي فيه أصلاً.

ويؤكّد ذلك أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غير واحد من الأخبار المعتبرة بإطاعة علي إطاعةً مطلقة ، وأنّ من أطاع علياً فقد أطاعه ومن أطاعه فقد أطاع الله ، منها : ما أخرجه الحاكم بسنده عن أبي ذر رحمه‌الله قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاع علياً فقد أطاعني ومن عصى علياً فقد عصاني. هذا الحديث صحيح الإسناد » (١).

هذا ، ولولا دلالة هذا الحديث على حصول تلك المنازل لعلي عليه‌السلام لم يقل عمر بن الخطّاب ـ فيما رواه جماعة منهم الحاكم وابن النجّار كما في ( كنز العمال ) ـ « كفّوا عن ذكر علي بن أبي طالب ، فإنّي سمعت رسول الله يقول في علي ثلاث خصالٍ لئن تكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس : كنت أنا وأبوبكر وأبو عبيدة بن الجرّاح ونفر من أصحاب رسول الله والنّبي متكئ على علي بن أبي طالب ، حتى ضرب بيده على منكبه ثم قال : وأنت يا علي أوّل المؤمنين إيماناً وأوّلهم إسلاماً ثم قال : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى. وكذب عليّ من زعم أنّه يحبّني ويبغضك ».

ولم يقل مثله سعد بن أبي وقاص كما رواه ابن ماجة في ( سننه ) وغيره.

ولم يحتج به كبار الصحابة في مواطن مختلفة ، وأمير المؤمنين نفسه في احتجاجه على أهل الشورى.

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين ٣/١٢١.

٢٢٠