القواعد الفقهيّة - ج ١

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN: 964-400-030-7
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٣٨٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‌

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف خلقه محمّد وآله الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين.

وبعد ، فإنّي من سالف الزمان لمّا رأيت أن القواعد الفقهيّة المتفرّقة في أبواب العبادات والمعاملات والأحكام لم تجمع في كتاب مشروحا شرحا يذلّل صعابها ، ويكشف الغطاء واللثام عن معضلاتها ، فأحببت أن أجمعها وأشرحها لإيضاح تلك القواعد دلالة وسندا وموردا ، وأبيّن النسبة بينها ، وأعيّن الحاكم والمحكوم ، والوارد والمورد منها.

وأسأل الله تعالى التوفيق لإتمام هذا العمل ، فإنّه وليّ التوفيق وخير معين ورفيق ، وأسأل الله تبارك وتعالى أن يهديني إلى ما هو الحقّ من الوجوه والاحتمالات فإنّه الهاديّ إلى الرشاد ، وأرجو منه تعالى أن يهيّئ الأسباب لطبع جميع مجلّداتها تباعا ، وعليه التكلان.

١
٢

١ ـ قاعدة من ملك‌

٣
٤

قاعدة من ملك (*)

ومن القواعد الفقهيّة القاعدة المشهورة المعروفة المتداولة في ألسنة الفقهاء ويتمسّكون بها في موارد عديدة من المسائل الفقهيّة وهي قاعدة « من ملك شيئا ملك الإقرار به ».

وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى

في أنّها على فرض تماميّتها هل هي من

المسائل الفقهيّة وقواعدها ، أو من المسائل الأصوليّة؟

وقد بيّنّا في موارد متعدّدة في كتابنا « منتهى الأصول » الفرق بين القاعدة الفقهيّة والمسألة الأصوليّة ، وأنّ المناط في كون المسألة أصوليّة وقوعها كبرى في قياس يستنتج منه حكم كلّي فرعي إلهي (١).

وحيث أنّ هذه القاعدة ليست كذلك ، ولا تقع كبرى في قياس الاستنباط ، بل هي بنفسها حكم كلّي فرعي تنطبق على مواردها الجزئيّة الكثيرة في أبواب مختلفة ، كنفوذ إقراره في بيعه وشرائه وهبته وصلحه وعاريته وإجارته وتزويجه وطلاقه‌

__________________

(*) « الحقّ المبين » ص ٩٩ ـ ١٠٠ ؛ « خزائن الأحكام » ش ٤٨ ؛ « الرسائل الفقهية » ( الشيخ الأنصاري ) ص ١٧٩ ؛ « مناط الأحكام » ص ٢٠ ؛ « مجموعه رسائل » العدد ٢٢ ؛ « القواعد » ص ٢٩٣ ؛ « قواعد فقهية » ص ٩ ؛ « القواعد الفقهية » ( فاضل اللنكرانى ) ج ١ ، ص ١٩٩ ؛ « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج ٤ ، ص ٤٠١.

(١) « منتهى الأصول » ج ١ ، ص ٥ ـ ٦.

٥

وعتقه وسائر عقوده وإيقاعاته ومعاملاته ؛ فحال هذه القاعدة حال سائر القواعد الفقهيّة التي بعد أن أفتى الفقيه بمضمونها واستنبطها من أدلّتها يكون المجتهد والمقلّد في مقام تطبيقها على حدّ سواء ، فتكون كقاعدتي الفراغ والتجاوز وأصالة الصحّة وغير تلك من القواعد الفقهيّة الكثيرة.

نعم في بعض الأحيان تشخيص الموضوع وتعيينه بيد الفقيه والمجتهد ، ولا يمكن للعامي والمقلّد تشخيصه وتعيينه ، ولا حظّ له في ذلك أصلا مثل أنّ الصبيّ المميّز مالك وقادر على الوقف وأن يتصدّق وأن يوصي ، فإذا أفتى المجتهد بصحّة صدور هذه الأمور عن الصبي المذكور ، وأقرّ الصبيّ المذكور بأحد هذه الأمور أو بجميعها ، فللمقلّد والعامي حينئذ تطبيق هذه القاعدة والحكم بصدور الأمور المذكورة صحيحة عن الصبي المذكور ، بأن يقول : الصبي مالك للأمر الفلاني حسب فتوى الفقيه ، وكلّ من ملك شيئا ملك الإقرار به ، وهذا أيضا حسب فتوى الفقيه ، فيكون إقراره بالوقف أو الصدقة أو الوصيّة مثلا نافذ وجائز.

وهذا هو الفرق بين المسألة الأصوليّة والقاعدة الفقهيّة.

وأمّا الفرق بين القاعدة الفقهيّة ومسألتها : هو أنّ القاعدة الفقهيّة موضوعها أوسع من موضوع المسألة ، بأن تكون المسائل المتعدّدة الفقهيّة مندرجة تحت تلك القاعدة الفقهيّة ، ويمكن تطبيق تلك القاعدة على جميع تلك المسائل ، مثلا هذه القاعدة ـ التي الآن محلّ الكلام ـ مندرجة تحتها مسائل كثيرة فقهيّة في أبواب مختلفة من مسائل أبواب المعاملات ، وتنطبق على جميع تلك المسائل كما تقدّم الإشارة إليها.

والقواعد الفقهية في هذا الأمر ـ أي في سعة دائرة انطباقها على المسائل المختلفة المتشتّته في أبواب الفقه وضيقها ـ مختلفة جدّا.

فأصالة الصحّة في فعل الغير أو في فعل نفسه بناء على كونها غير قاعدة الفراغ ، أو قاعدة الفراغ مثلا وسيعة جدا ، وتجري في أبواب العبادات من الطهارات الثلاث‌

٦

والصلاة والصوم والحج ، وفي أبواب المعاملات ، أي في جميع العقود والإيقاعات.

فقد ظهر لك من جميع ما ذكرنا الفرق بين القاعدة الفقهيّة وبين المسألة الأصوليّة وبين القاعدة الفقهيّة ومسألتها.

الجهة الثانية

في الفرق بين هذه القاعدة وقاعدة

« إقرار العقلاء على أنفسهم نافذ ، أو جائز » ‌

وهو أنّ مفاد هذه القاعدة أوسع وأشمل من قاعدة إقرار العقلاء على أنفسهم نافذ أو جائز ؛ لأنّ مورد الإقرار في تلك القاعدة ـ أي المقرّ به ـ لا بدّ وأن يكون على ضرر المقرّ ، أمّا إذا كان على نفعه فغير جائز قطعا من جهة إقراره.

نعم يمكن أن يكون لنفوذه وجوازه جهة أخرى غير جهة نفوذ إقرار العقلاء على أنفسهم وبعبارة أخرى : موضوع حكم الشارع بالجواز والنفوذ في تلك القاعدة هو الإقرار الخاصّ ـ أي الإقرار على ضرر نفسه ـ لا مطلق الإقرار ولو كان له نفع فيه ، وأمّا في هذه القاعدة فعامّ ، سواء أكان له أو عليه.

وأيضا تشمل هذه القاعدة إقرار الصبي فيما له أن يفعله ، كتصرّفه في ما ملكه بالوقف أو الصدقة أو الوصية به ، بخلاف قاعدة « إقرار العقلاء على أنفسهم نافذ » فإنّها لا تشمله ؛ لانصراف العقلاء فيها إلى البالغين. ولذلك لو أقرّ الصبي بما هو ضرر عليه فيما ليس له أن يفعله ويتصرّف فيه ولا يملكه كالبيع وهبة ماله لغيره لا ينفذ في حقّه ، ويكون ذلك الإقرار في حكم العدم.

فلا وجه لاحتمال أن يكون مفاد كلتا القاعدتين واحدا ، حتّى يكون النصّ الوارد في قاعدة إقرار العقلاء دليلا على هذه القاعدة أيضا.

٧

واعترض على هذا الفرق الأخير أستاذنا المحقّق العراقي قدس‌سره بعدم انصراف العقلاء في تلك القاعدة إلى البالغين ؛ إذ لا فرق في نظر العرف بين من يكون عمره أقلّ من خمسة عشر سنة ـ بمقدار يسير كيوم بل كساعة ، وبين من يكون عمره هذا المقدار تماما بدون نقيصة. فالجملة بحسب المتفاهم العرفي تشمل كلتا الصورتين ، أي التامّ وغير التامّ إذا كان النقص قليلا ، وبعدم القول بالفصل يتمّ المطلوب.

وأمّا ادّعاء الإجماع على عدم شموله لغير البالغين ، ففيه : أنّ القدر المتيقّن منه على تقدير ثبوته وكونه من الإجماع المصطلح ـ أي : ما هو كاشف عن رأي المعصومين عليهم‌السلام ـ هو فيما إذا كان تصرّفه ممنوعا ، وأمّا في الأشياء التي شرع له جواز التصرّف ـ كالمذكورات أي الوصيّة والوقف والصدقة ـ فلا إجماع في البين ، بمعنى أنّه ليس اتّفاق على عدم نفوذ إقراره على نفسه.

وأمّا ما يتوهّم من أنّ عموم كونه مسلوب العبارة خصّص بجواز هذه التصرّفات الثلاث ، وأمّا إقراره بوقوع هذه التصرّفات فهو باق تحت عموم العامّ ، فليس بنافذ.

ففيه : أنّه لو صحّ هذا فحال قاعدة من ملك أيضا من هذه الجهة حال قاعدة الإقرار لا بدّ وأن يخصّص. انتهى ما ذكره أستاذنا المحقّق قدس‌سره في هذا المقام.

ولكن أنت خبير بأنّه لا شكّ في أنّ المتفاهم العرفي من هذه الجملة ، أي جملة « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » هو خصوص البالغين ، لا الأعمّ منهم ومن غيرهم.

وأمّا ما ذكره قدس‌سره من عدم الفرق في نظر العرف بين البالغ وغيره ممّن كان عمره أقلّ منه بقليل كاليوم والساعة ، ففيه : أنّ العرف يفهم من هذه الجملة خصوص البالغين ، وأمّا تطبيق هذا المفهوم على المصداق فليس بنظر العرف ، فإذا حدّد الشارع هذا المفهوم فيكون تطبيق هذا المفهوم على مصاديقه بالدّقة ، والاّ فهذا الإشكال متّحد الورود على جميع المفاهيم المحدّدة من قبل الشارع ، كمفهوم الكرّ والمسافة وسائر الأوزان والمقادير. فالعرف لا يفرق بين ما هو من مصاديق المفهوم المحدّد من قبل‌

٨

الشرع حقيقة وبالدّقة ، وبين ما هو أقلّ منه بقليل.

ولذلك لو انقطع الدم في الحيض قبل الثلاثة ولو بساعة ، أو نوى الإقامة عشرة أيّام إلاّ ساعة فليس ولا يتحقّق حيض ولا إقامة ، مع أنّ العرف لا يرى الفرق في إطلاق الثلاثة والعشرة أيّام في الثاني بين التامّ والناقص بقليل.

وفي كلامه قدس‌سره مواضع أخر للنظر تركناها خوفا من التطويل.

والحاصل أنّ القول بوحدة القاعدتين بعيد عن الصواب.

الجهة الثالثة

في الدليل على هذه القاعدة‌

الأول : ما أفاده أستاذنا المحقّق قدس‌سره من ثبوت الملازمة بين السلطنة على ثبوت الشي‌ء والسلطنة على إثباته ، بمعنى أنّ القدرة على وجود الشي‌ء واقعا ملازم مع القدرة على إيصاله إلى مرتبة الإظهار والإثبات ، مثلا لو كانت له السلطنة على بيع داره ، أو وقفه ، أو هبته ، أو غير ذلك من التصرفات فلا بدّ وأن تكون له السلطنة على إثبات هذا العمل والفعل.

وهذا الكلام بظاهره واضح الإشكال ، لأنّه لو كان المراد من السلطنة على إثباته بحيث أنّه يكون ثابتا في مرحلة الظاهر بمحض إظهاره وإقراره ، كي يترتّب عليه جميع آثار وجود ذلك الشي‌ء ، سواء أكان له أو عليه أو لغيره أو على ذلك الغير ، فهذا دعوى بلا بيّنة ولا برهان ؛ إذ ربما يكون الإنسان قادرا على شي‌ء ـ أي فعل وعمل ـ ولكن ليس قادرا على إثبات ذلك الشي‌ء بمحض إخباره وإقراره ، والاّ كان إخبار كلّ مخبر عن صدور فعل يكون حجّة على وجود ذلك الفعل وذلك العمل وإن أنكره من يتعلّق به العمل ، مثل إنّه لو استأجر البناء على أن يبني له الحائط أو شيئا آخر في داره أو في مكان آخر ، أو استأجر الخيّاط على أن يخيط له كذا ، فأخبر بوقوع ذلك البناء‌

٩

أو تلك الخياطة تكون أخبار البناء أو الخياط حجّة ، مع أنّه ليس كذلك قطعا.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ المراد من الملازمة بين السلطنة على إيجاد الشي‌ء والسلطنة على إثباته هو أنّ الشارع إن جعل سلطانا على أمر ، كما أنّه جعل الحاكم الشرعي سلطانا على نصب القيّم مثلا على القصر ، أو على جعل المتولّي للوقف الذي لم يجعل الواقف له متولّ ، فجعله الحاكم سلطانا على هذه الأمور ملازم مع جعل إخباره عن هذه الأمور وإقراره بها حجة على إثباتها ، فكلّ عمل وفعل تحت سلطنته شرعا ـ لا تكوينا فقط ـ يكون إقراره بوقوعه حجّة ، سواء أكان له أو عليه أو لغيره أو على ذلك الغير.

وفيه : أنّ هذه دعوى بلا برهان أيضا ، من جهة عدم لزوم لغويّة الجعل الأوّل ، أي كونه سلطانا على تلك الأمور من دون كون إخباره عن وقوعها حجّة ـ كما ربما يتوهّم ـ لإمكان الإشهاد على صدورها منه حتّى في مثل الرجوع إلى زوجته المطلقة رجعة في العدّة ، فيشهد عدلين على أنّه رجع إليها في العدّة.

نعم لو كان قوله : رجعت إليها في حال عدم انقضاء العدّة إنشاء ـ لا إخبارا عن صدور الفعل عنه ـ فهو بنفسه رجوع قوليّ ، ويترتّب عليه الأثر.

ويمكن أيضا أن يكون من قبيل إثبات الرجوع بإقراره ومن مصاديق هذه القاعدة.

وليس الجعل الثاني ـ أي جعل إقراره حجّة على وقوع ذلك الأمر الذي له السلطنة على إيقاعه ـ من لوازم الجعل الأوّل ، حتّى يكون الدليل الذي يدلّ على سلطنته على إيقاع ذلك الأمر يدلّ بالدلالة الالتزاميّة على سلطنته شرعا على إثباته ، فيكون إخباره عن وقوعه حجّة على وقوعه ؛ لأنّه لا ملازمة بينهما ، لا عقلا ولا شرعا ولا عرفا.

أمّا عدم الملازمة عقلا وشرعا فواضح ، وأمّا عرفا فمن جهة أنّ العرف لا يفهم‌

١٠

من قوله عليه‌السلام « الطلاق بيد من أخذ بالساق » (١) أنّ إخبار الزوج بطلاق زوجته حجّة على وقوعه.

الثاني : الإجماع ، وتقريبه أنّ هذه القضيّة الكلّيّة ، أي قولهم : « من ملك شيئا ملك الإقرار به » كأنّها من القضايا المسلّمة عندهم ، ويستدلّون بها على فتاويهم كما يستدلّون بالآية والرواية المعتبرة.

وقد صرّح العلاّمة قدس‌سره في التذكرة بسماع دعوى المسلم إن أمّن الحربي في زمان يملك أمانه وهو قبل الأسر ، وادّعى الإجماع على سماع هذه الدعوى. (٢).

ولا شكّ في أنّ هذا الإجماع الذي ادّعاه العلاّمة قدس‌سره إجماع على مورد من موارد هذه القاعدة ، ولا يثبت به الكلّيّة المذكورة ، ولكنّه يدلّ على أنّ هذه القضيّة في الجملة إجماعي.

وأنت إذا تتبّعت كلمات القوم ترى أنّ جلّ الأكابر والمحقّقين تمسّكوا بهذه الكلّيّة في موارد جزئيّة ، كأنّها دليل معتبر عندهم ، وأرسلوها إرسال المسلّمات كأنّها آية أو رواية.

وقد ذكر جملة من تلك الموارد شيخنا الأنصاري قدس‌سره في ملحقات المكاسب (٣) في مقام شرح هذه القاعدة ، فراجع. ولا يخفى أنّ مرادنا من تمسّكهم بهذه الكلّيّة في الموارد الجزئيّة ، أي في غير ما إذا كان على نفسه ، وإلاّ فيما إذا كان الإقرار على نفسه فذلك نافذ يقينا ؛ بدليل معتبر وهو قوله عليه‌السلام : « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » (٤) من دون احتياج إلى هذه القاعدة أصلا.

__________________

(١) « عوالي اللئالي » ج ١ ، ص ٢٣٤ ، ح ١٣٧ ؛ « سنن ابن ماجه » ج ١ ، ص ٦٧٣ ، ح ٢٠٨١ ، باب طلاق العبد.

(٢) « تذكرة الفقهاء » ج ١ ، ص ٤١٦.

(٣) « المكاسب » ص ٣٦٨.

(٤) « وسائل الشيعة » ج ١٦ ، ص ١١١ ، أبواب الإقرار ، باب ٣ ، ح ٢ ؛ « عوالي اللئالي » ج ١ ، ص ٢٢٣ ، ح ١٠٤ ، ج ٢ ، ص ٢٥٧ ، ح ٥.

١١

وعمدة الكلام في إثبات هذه القاعدة والكلّيّة هو فيما إذا كان إقراره وإخباره بوقوع ما يملك شرعا إيقاعه في غير موارد الإقرار على النفس ممّا كان له ، أو لغيره ، أو على غيره.

وما أحسن ما أفاد شيخنا الأعظم قدس‌سره في هذا المقام بقوله ولكن الإنصاف أنّ القضيّة المذكورة في الجملة إجماعيّة ، بمعنى أنّه ما من أحد من الأصحاب ممّن وصل إلينا كلامهم إلاّ وقد عمل بهذه القضيّة في بعض الموارد ، بحيث نعلم أنّه لا مستند سواها ، فإنّ من ذكرنا خلافهم إنّما خالفوا في بعض موارد القضيّة ، وعملوا بها في مورد آخر انتهى. (١)

ثمَّ يذكر بعض موارد خلاف بعضهم ، وموارد عمل ذلك البعض بهذه القاعدة. ثمَّ إنّه لا يخفى أنّ خلاف بعضهم في بعض المصاديق لا يضرّ بتحقّق الإجماع على اعتبار هذه القاعدة ، لأنّ معنى الإجماع على اعتبار دليل وقاعدة هو أن يستند الجميع إلى ذلك الدليل وتلك القاعدة ولو في مورد واحد ، لا أنّهم لا يختلفون ولو كان في واحد من صغرياته وموارده ؛ ولذلك قالوا : لو تحقّق الإجماع على عنوان مطلق ، يتمسّك بإطلاق ذلك العنوان لمورد الشكّ ، ولو كان ذلك المورد محلّ الخلاف. وذلك من جهة أنّ اعتبار القضيّة الكلّيّة إذا ثبت بدليل ـ وإن كان ذلك الدليل هو الإجماع ـ يطبق على جميع الموارد وإن كان بعضها محلّ خلاف.

الجهة الرابعة

في بيان ما هو المراد من هذه القاعدة وهذه القضية الكلية؟

أي ما هو الظاهر منها حسب متفاهم العرف حتّى يستكشف المراد.

فنقول : لا شكّ في أنّ مفهوم « الشي‌ء » عامّ ، يشمل الأعيان والأفعال ، وهذه‌

__________________

(١) « المكاسب » ص ٣٧٠.

١٢

القضيّة الكلّيّة الشرطيّة مركّبة من جملتين : إحديهما شرط ، والأخرى جزاء ، والقضيّة الشرطيّة المتكفّلة لبيان الحكم الشرعي يكون الشرط موضوعا للجزاء. فمعنى « من استطاع يجب عليه الحج » أنّ المستطيع يجب عليه الحج ، فالجملة الأولى من هذه الكليّة ـ أي من ملك شيئا ـ موضوع للجملة الثانية ، فيرجع مفاد هذه الكلّيّة ، إلى أنّ المالك لشي‌ء سواء أكان ذلك الشي‌ء عينا من الأعيان الخارجية ، أو فعلا من الأفعال ـ مالك للإقرار به. ولكن حيث أنّ نفس العين الخارجي ليست قابلة لتعلّق الإقرار بها إلاّ باعتبار تعلّق فعل من أفعاله بها ، فيرجع معنى هذه الكلّيّة إلى أنّ المالك لفعل من الأفعال يملك الإقرار بذلك الفعل ، وظاهر كون الإنسان مالكا لفعل ـ حيث أنّه في مقام التشريع ـ هو أن يكون سلطانا على ذلك الفعل شرعا ، أي كان له شرعا إيجاده وإيقاعه ، لا صرف القدرة التكوينية.

مثلا لو كان شرعا مالكا لبيع مال ـ أو شرائه أو هبته أو وقفه أو عتقه أو غير ما ذكر من أنحاء التصرّفات أو تزويج امرأة أو طلاقها ، أو أيّ تصرّف كان مشروعا له أي كان مجعولا له من طرف الشارع ـ متعلّقا بأيّ عين من الأعيان ، أو لم يكن متعلّقا بعين أصلا ، ففي جميع ذلك يملك الإقرار به ، سواء أكان له هذه السلطنة أوّلا وبالذات ، أو كانت آتية من قبل موكله أو من جهة ولايته.

فلو سلّمنا وجود الدليل على اعتبار هذه الجملة وهذه الكلّيّة لكان يجب الأخذ بهذه الظاهر ، وتطبيقه على جميع موارده ، إلاّ أن يأتي في مورد من موارده دليل من إجماع أو غيره على التخصيص وعدم نفوذ إقراره.

وحيث أنّ العمدة في دليلها الإجماع فلا بدّ وأن يلاحظ معقد الإجماع هل هو مطلق الأفعال التي يملكها ، سواء أكان له أو عليه. وكذلك بالنسبة إلى الآثار التي لذلك الفعل لغيره ، سواء أكان له أو عليه ، أو مخصوص نفوذه بالنسبة إلى الآثار التي لنفسه لا لغيره؟

١٣

وبعد ، إن قيل باختصاصه بالنسبة إلى نفسه ، فهل مطلق بالنسبة إلى ماله أو عليه أو مخصوص نفوذ إقراره بما عليه ، لا بما له؟

والإنصاف أنّ كلمات الفقهاء وعباراتهم في هذا المقام مختلفة جدّا ، والذي يظهر من مجموع كلماتهم وعباراتهم في مختلف أبواب الفقه أنّه لا اختصاص له بخصوص الآثار التي له بالنسبة إلى نفسه ، وتكون عليه لا له حتّى يكون مفاد هذه القاعدة مفاد قاعدة « إقرار العقلاء على أنفسهم نافذ ، أو جائز » فإنّهم متّفقون على سماع إقرار الولي الإجباري فيما يملكه ولو كان على ضرر المولى عليه.

ثمَّ إنّ ما ذكرنا ـ من نفوذ إقراره حتّى وإن كان بالنسبة إلى ضرر الغير ـ هو فيما إذا كان ذلك الأثر الذي ضرر على الغير أثرا لنفس فعله ، من دون مدخليّة فعل شخص آخر في ترتيب ذلك الأثر ، وإلاّ فهو مالك لإقرار فعل نفسه الذي يملكه ، لا لفعل غيره. فاذا كان موضوع الأثر مركّبا من فعل نفسه وفعل غيره ، فبإقراره لفعل نفسه لا يثبت الأثر.

ومما ذكرنا ظهر الفرق بين العقود والإيقاعات ، فإذا كان مالكا لإيقاع كطلاق أو عتق أو غيرهما ، فبإقراره يثبت وقوع ذلك الإيقاع. وأمّا إن كان مالكا لعقد من بيع أو هبة أو إجارة أو غير ذلك من العقود ، فبإقراره لصدور ذلك العنوان لا يثبت ذلك العنوان بالنسبة إلى الجزء الآخر الذي يملكه غيره.

الجهة الخامسة‌

في أنّ نفوذ إقراره بالنسبة إلى فعل يملكه شرعا مشروط بأن يكون مالكا حال الإقرار وفي زمانه ، أو يكفي كونه مالكا في زمان وقوع الفعل ولو لم يكن مالكا لذلك الفعل في زمان الإقرار؟ مثلا بعد أن بلغ الصبي يقر من كان وليا عليه بأنّه باع ماله الفلاني بكذا ، أو اشترى له بكذا في الزمن الذي كان وليّا عليه ، أو بعد انقضاء العدّة‌

١٤

يقرّ بالرجوع في زمان العدّة وهكذا في سائر الموارد ممّا يشاكل هذين المثلين.

والفروع الفقهيّة المترتبة على هذا الأمر كثيرة ، ويترتّب عليها نتائج مهمّة ، مثلا يقرّ وكيل شخص بعد عزله بصدور أفعال فيها ضرر على موكّله ، حين وكالته عنه في تلك الأفعال ، وكذلك مثلا يقرّ وليّ البنت بعد كبرها وصيرورتها مالكة أمرها بتزويجها من شخص معيّن في حال صغرها وكونها مولى عليها.

ومرجع هذه الجهة الخامسة إلى أنّه هل المراد من معقد الإجماع في هذه المسألة هو مالكيّته للفعل على تقدير وجوده ـ بمعنى أنّه لو فرضنا كونه صادقا في إقراره هذا ، كان صدور الفعل عن سلطنة شرعيّة عليه ـ أو أنّ المراد من مالكيّته لهذا الفعل الذي أقرّ بصدوره عنه هو أنّه لو لم يكن صادرا إلى حين الإقرار تكون لها السلطنة في تلك الحال على إيجاده؟

فبناء على احتمال الأوّل يكفي كونه مالكا حين وقوع الفعل الذي يدّعي وقوعه في ذلك الحين ، وأمّا بناء على احتمال الثاني فلا بدّ من كونه مالكا وقادرا وسلطانا على إيجاد الفعل حال إقراره.

ولا شكّ في أنّ المتيقّن من مورد انعقاد الإجماع ـ على تقدير تحقّقه كما رجحنا ذلك ـ هو الاحتمال الثاني. وأمّا الأوّل فلا مجال لإثباته بالإجماع وليس دليل لفظي من آية ، أو رواية معتبرة حتّى يتمسّك بإطلاقها.

نعم ربما يتوهّم جريان استصحاب بقاء السلطنة ـ التي كانت له حال وقوع الفعل الذي يقرّ بوقوعه ـ في الزمان المتقدّم وفي ذلك الزمان.

ولكن أنت خبير بأنّ موضوع تلك السلطنة المتيقّنة هو القادر والمالك لإيجاد الفعل في زمان إقراره ، والموضوع بهذا المعنى تبدّل يقينا ؛ لأنّه في المقام ليس قادرا شرعا على إيجاد ذلك الفعل حال الإقرار ، كما هو المفروض.

ولا يتوهّم أنّ مالكيّة إيجاد الفعل شرعا في القضيّة المتيقّنة ، وعدمها في المشكوكة‌

١٥

ليست من مقوّمات الموضوع في نظر العرف ؛ فوحدة القضيّتين بحسب الموضوع ـ التي شرط في جريان الاستصحاب ـ محفوظة عرفا.

وقد حقّق في محلّه أنّ المناط في الاتّحاد بين القضيّتين هو النظر العرفي وذلك من جهة أنّ العرف بمناسبة الحكم والموضوع يرون القدرة على إيجاد الفعل شرعا حال إقراره وفي زمانه من مقوّمات موضوع السلطنة على الإقرار بوقوعه ، فلا يبقى مجال لجريان هذا الاستصحاب.

فالنتيجة : أنّ هذه القاعدة لا تجري ، ولا يكون إقراره نافذا إلاّ فيما إذا كان قادرا لإيجاد الفعل حال إقراره فبناء على هذا لا ينفذ إقراره على الموكل بعد عزله أو انعزاله ولو كان زمان وقوع الفعل الذي أقرّ به قبل عزله أو انعزاله ، وكذا في سائر الفروع وباقي المقامات ، كما لو أقرّ بالرجوع في العدّة بعد انقضائها ، أو أقرّ الولي بعقد الصغيرة في صغرها بعد بلوغها ، وصيرورتها مالكة أمرها.

١٦

٢ ـ قاعدة الإمكان‌

١٧
١٨

قاعدة الإمكان (*)

ومن جملة القواعد الفقهيّة هي القاعدة المعروفة عندهم بقاعدة الإمكان وهي قولهم : « إنّ كلّ ما يمكن أن يكون حيضا فهو حيض ».

والبحث فيه عن جهات ثلاث :

الأولى : في معنى هذه الجملة والكليّة ، وأنّه ما المراد منها.

الثانية : في الدليل على هذه الكلية وانه ما هو.

الثالثة : في مواردها والفروع التي تنطبق هذه القاعدة عليها : فنقول :

أمّا الجهة الأولى

أي المراد من هذه الجملة وما هو معناها‌

فالعمدة فيها من الألفاظ هو لفظ « الإمكان » وأنّه ما المراد منه ، وإلاّ فلفظ « الحيض » معلوم أنّه عبارة : عن الدم السائل الذي يقذفه الرحم المتّصف بصفة كذا ، وله شروط وقيود باعتبار سنّ المرأة التي منها سيلان ذلك الدم ، وتوالي الدم ، واتّصافه بأوصاف مخصوصة ، ولا يكون أقلّ من ثلاثة أيّام متوالية ولا أكثر من عشرة ، ويكون بينه وبين الحيضة السابقة فصل أقلّ الطهر وهي عشرة أيّام متوالية وسائر القيود والشرائط المذكورة في الفقه في باب الحيض.

__________________

(*) « القواعد والفوائد » ج ٢ ، ص ٢١١ ؛ « عناوين الأصول » عنوان ٢٢ ؛ « مجموعه رسائل » العدد ١٠ ، ص ٤٧١ ، « القواعد » ص ٢٧ ؛ « ما وراء الفقه » ج ١ ، ص ١٥٥.

١٩

فنقول : الإمكان وإن كان في حدّ نفسه له معان متعدّدة ، من الإمكان العامّ والخاصّ والأخصّ والاستقبالي والاستعدادي والوقوعي والاحتمالي وبالقياس إلى الغير ، ولكن الظاهر أنّ المراد منه هاهنا هو الإمكان الوقوعي ، أي ما لا يترتّب على وقوعه وثبوته محذور عقلي ولا شرعي. كما قلنا في أنّ المراد من إمكان حجيّة الظن ـ مقابل قول ابن قبة حيث قال بامتناعها (١) هو إمكان وقوعا ، أي لا يلزم من حجيته محذور ، لا عقلا ولا شرعا.

فيكون مفاد الجملة بناء على هذا المعنى كل دم لا يلزم من كونه حيضا محذور لا عقلا ولا شرعا في عالم الإثبات لا بحسب الواقع فهو عند الشارع محكوم بالحيضيّة.

وهذا المعنى من الإمكان هو الدائر في المحاورات العرفيّة ، فإذا يقولون بأنّ الشّي‌ء الفلاني ممكن أن يقع ، يريدون به أنّه لا يلزم من وجوده محذور ، ولا شكّ في أنّ الفقهاء في ذكر هذه الجملة يتكلّمون على طريقة أهل المحاورة ، لا أنّهم يتكلّمون باصطلاح أو بمعنى غير جار استعمال اللفظ بذلك المعنى في محاوراتهم. ولعمري هذا واضح جدّا.

وأمّا الإمكان بالقياس إلى الغير الذي ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره في هذا المقام ، وقال بأنّ الإمكان في القاعدة بهذا المعنى فأجنبي عن المقام ؛ لأنّ الإمكان بالقياس إلى الغير معناه أنّه إذا قاسيناه بذلك الغير فهو ـ أي ذلك الغير ـ لا يوجب ضرورة وجوده ولا ضرورة عدمه ، وبعبارة أخرى : لا يستلزم وجوده ولا عدمه ، كما إذا فرضنا واجبين فكلّ واحد منهما لا علّة لوجود الآخر ولا لعدمه ، بل كلّ واحد منهما أجنبي عن الآخر.

فالقول بأنّ الحيض ممكن أي بالقياس إلى القيود والأدلّة الشرعيّة وهذا هو المراد منه فعجيب ؛ لأنّ الأدلّة الشرعيّة لا تخلو من أحد الأمرين : إمّا يقتضي الحكم‌

__________________

(١) حكى عنه في « فرائد الأصول » ج ١ ، ص ٤٠.

٢٠