القواعد الفقهيّة - ج ١

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN: 964-400-030-7
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٣٨٤

المفادين فلا يمكن جمعهما في استعمال واحد في مقام الجعل والتشريع.

الثاني : في مقام الإثبات والاستظهار من الأدلّة ، وأنّه بعد الفراغ عن إمكان جعل كبرى واحدة تشملهما ، هل هناك في أدلّة الباب دليل يدلّ على مثل هذا الجعل أم لا؟

أمّا المقام الأوّل : فالذي يقول بعدم إمكان الجمع بينهما في جعل واحد ، يقول بأنّ الشكّ في قاعدة التجاوز متعلّق بأصل وجود الشي‌ء ، وفي قاعدة الفراغ بصحّة الموجود ، وأن الأوّل مفاد كان التامّة ، والثاني مفاد كان الناقصة. والتعبّد بوجود الشي‌ء غير التعبّد بصحّة الموجود ؛ فلا يمكن الجمع بينهما في استعمال واحد ، إلاّ بناء على جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ، وهو محال.

أقول : لا يفيد في المقام القول بجواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ؛ لأنّه على فرض الجواز أيضا يكون المجعول أمرين مختلفين ، وهو خلاف المفروض في المقام ؛ لأنّ المفروض والمدّعى في المقام أن يكون المجعول معنى واحد جامعا بين مفادي قاعدة التجاوز ـ الذي هو التعبّد بوجود المشكوك ـ وقاعدة الفراغ الذي هو التعبّد بصحّة الموجود ، أعني تماميّة ما أوجده من دون وقوع خلل فيه.

فالمدّعى هو أنّ المجعول معنى واحد يكون مفاد كلتا القاعدتين ومضمونهما من ذلك المعنى الواحد ، فلو أمكن ذلك يكون من باب استعمال اللفظ في معنى واحد لا من باب استعماله في المتعدّد ، وإن لم يكن جعل ذلك المعنى الواحد الجامع بين المفادين فجواز استعمال اللفظ في المعاني المتعددة لا أثر له.

نعم أجاب شيخنا الأعظم الأنصاري قدس‌سره عن هذا الإشكال (١) بإمكان إرجاع قاعدة الفراغ أيضا إلى مفاد كان التامّة ، بأن يقال : إنّ التعبّد فيها أيضا يرجع إلى التعبّد بوجود الصحيح ، لا التعبّد بصحّة الموجود ، حتّى يكون مفاد كان الناقصة.

__________________

(١) « فرائد الأصول » ج ٢ ، ص ٧١٥.

٣٢١

وبعبارة أخرى : جعل الصحّة قيدا للموضوع لا للمحمول كي يكون المحمول هو الوجود المطلق ، فيكون مفاد كان التامة ، بأن يقال عند الشكّ في صحّة العمل الذي فرغ عنه ـ صلاة كان ذلك العمل أو حجّا أو غيره ـ : العمل الصحيح وجد.

والمناط في مفاد كون القضيّة مفاد كان التامّة أن يكون المحمول هو الوجود المطلق ، ولو لوحظ ألف قيد في جانب الموضوع. ومناط كونها مفاد كان الناقصة هو أن يكون المحمول هو الوجود المقيّد ، سواء أكان الموضوع مطلقا أو مقيّدا ، فالإطلاق والتقييد في جانب المحمول هو المناط في كون القضيّة مفاد كان التامّة أو الناقصة. وأمّا الإطلاق والتقييد في جانب الموضوع فلا أثر لهما أصلا ، فبناء على ما ذكره قدس‌سره تكون الكبرى المجعولة معنى واحدا ، وهو التعبّد بوجود الشي‌ء.

وأورد عليه شيخنا الأستاذ قدس‌سره أوّلا : بأنّ التعبد بوجود الصحيح لا يثبت صحّة الموجود ، إلاّ بناء على القول بالأصل المثبت ، والأثر مترتّب على صحّة الموجود لا على وجود الصحيح.

إن قلت : يكفي في سقوط الأمر والامتثال التعبّد بوجود الصحيح.

قلت : على فرض كفايته في العبادات لا يكفي في المعاملات ؛ لأنّ الأثر فيها مترتّب على كون هذه المعاملة الموجودة في الخارج ـ بعد الفراغ عن كونها موجودة ـ صحيحة ، لا على وجود المعاملة الصحيحة. نعم لو قلنا بأنّ هاتين القاعدتين من الأمارات لا يبقى وجه لهذا الإشكال ؛ لأنّه حينئذ مثبتاتهما حجّة.

وثانيا : بأنّ متعلّق التجاوز الواردة في الأخبار في قاعدة الفراغ ذات الشي‌ء ونفسه ، وفي قاعدة التجاوز محلّه ، ولا جامع بينهما. (١)

ولكن يمكن أن يجاب عن هذا الإشكال بأنّ التجاوز عن الشي‌ء كما أنّه يصدق بالتجاوز عن نفسه وإتمامه والمضي عنه ، كذلك يصدق بالتجاوز عن محلّه الذي عيّن له‌

__________________

(١) « فوائد الأصول » ج ٤ ، ص ٦٢٠.

٣٢٢

الشارع.

وأجاب شيخنا الأستاذ قدس‌سره عن هذا الإشكال بأنّ متعلّق التجاوز في قاعدة الفراغ أيضا محلّ الجزء المشكوك وجوده ، لأنّ الشكّ في صحّة العمل المركّب الذي صدر عنه بعد الفراغ عنه أيضا مسبّب عن وجود ذلك الجزء المشكوك الوجود في محلّه ، ومعلوم أنّ حصول هذا الشكّ المسبّبي إنّما يكون بعد التجاوز عن محلّ ذلك الجزء المشكوك الوجود (١).

ولكن أنت خبير بأنّ هذا الكلام معناه إرجاع قاعدة الفراغ إلى قاعدة التجاوز ، بل إنكار قاعدة الفراغ بالمرّة ، مضافا إلى أنّه يلزم الاستخدام في ضمير قوله عليه‌السلام « إنّما الشكّ في شي‌ء لم تجزه » (٢) إذ المراد بناء على هذا الجواب من « الشي‌ء » نفس المركّب ، ومن الضمير في « لم تجزه » الراجع إلى « الشي‌ء » الجزء المشكوك الوجود ، وهذا هو الاستخدام وهو خلاف الأصل والظاهر.

إن قلت : إن المراد من « الشي‌ء » أيضا هو الجزء المشكوك.

قلت : فلا ينتج صحّة المركّب إلاّ على القول بالأصل المثبت.

وثالثا : بأنّ متعلّق الشكّ في قاعدة التجاوز هو الجزء ، وفي قاعدة الفراغ هو الكلّ ، ولا جامع بين الجزء والكلّ في عالم اللحاظ ؛ لأنّ لحاظ الجزء شيئا بحيال ذاته لا يكون إلاّ في الرتبة السابقة على المركّب والكلّ ، لأنّ النسبة بين الأجزاء والكلّ نسبة العلّية والمعلوليّة ، وللأجزاء تقدّم على الكلّ.

وبعبارة أخرى : شيئيّة الأجزاء مندكّة في شيئيّة الكلّ ، ففي مرتبة لحاظ الكلّ شيئا لا يمكن لحاظ الجزء شيئا ؛ لأنّه لا شيئيّة له في تلك المرتبة.

__________________

(١) « فوائد الأصول » ج ٤ ، ص ٦٢٣.

(٢) « تهذيب الأحكام » ج ١ ، ص ١٠١ ، ح ٢٦٢ ، باب صفة الوضوء والفرض منه والسنة ، ح ١١١ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١ ، ص ٣٣٠ ، أبواب الوضوء ، باب ٤٢ ، ح ٢.

٣٢٣

والحاصل : أنّه ليس لحاظ شيئيّة الجزء وشيئيّة الكلّ في مرتبة واحدة ، ففي مرتبة لحاظ شيئيّة الجزء ليس كلّ في البين حتّى يلاحظ شيئيّته ، وفي مرتبة لحاظ شيئيّة الكلّ لا شيئيّة للجزء ؛ لأنّ شيئيّة الجزء في هذا اللحاظ مندكّة في شيئيّة الكلّ ، فالجمع بينهما في لحاظ واحد ممّا لا يمكن أن يكون.

ولكن أنت خبير بأنّ ما لا يمكن الجمع بينهما في لحاظ واحد هو شيئيّة الجزء بعنوان أنّه جزء مع شيئيّة الكلّ بعنوان أنّه كلّ ، لا شيئيّة الجزء والكلّ بعنوان أنّهما موجودان وشيئان كسائر الأشياء ، فلا مانع من شمول عنوان « الشي‌ء » لهما كما أنّه يشمل سائر الأشياء ، ولا يحتاج إلى شيئيّة الجزء والكلّ بعنوان أنّه جزء وكلّ ، حتّى يقال بأنّه لا يمكن اجتماعهما في لحاظ واحد.

وبعبارة أخرى : لا شكّ في أنّ كلّ موجود ـ سواء أكان موجودا في الخارج ، أو كان موجودا في الذهن ، أو كان موجودا في عالم الاعتبار ـ شي‌ء ؛ لأنّ الشيئيّة مساوق للوجود يدور معه حيثما دار ، فالجزء والكلّ شي‌ء بعناية واحدة وهي أنّهما موجودان. نعم الذي لا يمكن هو لحاظ الاثنين ـ أي : الكل والجزء ـ بعنوانهما الخاصّ في لحاظ واحد ، واستعمال واحد ، من لفظ واحد.

إذا عرفت ما ذكرنا فلا يبقى وجه لما تكلّفه شيخنا الأستاذ قدس‌سره في مقام الجواب عن هذا الإشكال : بأنّ مصداقيّة الجزء للشي‌ء بعناية التعبّد وتنزيل الشكّ في الجزء في خصوص باب الصلاة منزلة الشكّ في الكلّ ، ولذا لا تجري قاعدة التجاوز في غير باب الصلاة مطلقا ، ولا خصوصيّة للطهارات الثلاث حتّى يقال إنّ خروجها وتخصيصها بالإجماع والأخبار ؛ لأنّه بناء على هذا لا عموم للقاعدة ، فيكون خروج الطهارات الثلاث كغيرها من سائر المركّبات ما عدا الصلاة من باب التخصّص لا التخصيص.

وحاصل ما أفاده قدس‌سره في دفع هذا الإشكال هو أنّ الكبرى المجعولة هي عبارة عن‌

٣٢٤

عدم الاعتناء بالشكّ في وجود الشي‌ء بعد التجاوز عنه. (١)

ولكن انطباق هذه الكبرى على الكلّ لا يحتاج إلى عناية أخرى لأن شيئيّة الكلّ وجدانيّة قطعيّة ، وأمّا انطباقها على الجزء لا يمكن إلاّ بعد عناية أخرى وهو تنزيل الجزء منزلة الكلّ في هذا الأثر ، كي يصير الجزء بواسطة هذا التنزيل فردا ومصداقا تعبديا لمفهوم الشي‌ء في تلك الكبرى المجعولة.

وحيث أنّ هذا التعبّد والتنزيل وقع في الصلاة دون سائر المركّبات ، كما يدلّ عليه رواية زرارة قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل شكّ في الأذان وقد دخل في الإقامة ، قال عليه‌السلام : « يمضي ». قلت : رجل شكّ في الإقامة وقد كبّر ، قال عليه‌السلام : « يمضي ». قلت : رجل شكّ في التكبير وقد قرأ ، قال عليه‌السلام : « يمضي ». قلت : شكّ في القراءة وقد ركع ، قال عليه‌السلام : « يمضى ». قلت : شكّ في الركوع وقد سجد ، قال عليه‌السلام : « يمضي في صلاته » ثمَّ قال عليه‌السلام : « يا زرارة إذا خرجت من شي‌ء ثمَّ دخلت في غيره فشكّك ليس بشي‌ء ». (٢)

فلذلك لا تجري هذه القاعدة إلاّ في الصلاة ، وسائر المركّبات خارجة عن عمومها تخصّصا لا تخصيصا ، ولا فرق في ذلك بين الطهارات الثلاث وغيرها.

ولكن أنت خبير أنّ معنى هذا الكلام هو إنكار قاعدة التجاوز والالتزام بجريان قاعدة الفراغ في خصوص أجزاء الصلاة لمكان ذلك التنزيل دون سائر المركبات ، فكأنّه جعلت أجزاء الصلاة بواسطة التنزيل المذكور كأنّه مركّب مستقلّ من المركّبات العباديّة ، ففي الحقيقة هو التزم بأنّه هناك قاعدة واحدة وهي قاعدة الفراغ ، ولكنّها لا تجري في الأجزاء إلاّ في أجزاء الصلاة بواسطة التنزيل.

وقد عرفت عدم تماميّة ما أفاد ويأباه الذوق السليم ، والسليقة المستقيمة تحكم بأنّ قوله عليه‌السلام « إنّما الشكّ في شي‌ء لم تجزه » مفهوم عام يشمل أجزاء الصلاة وغيرها‌

__________________

(١) « فوائد الأصول » ج ٤ ، ص ٦٢٣.

(٢) « تهذيب الأحكام » ج ٢ ، ص ٣٥٢ ، ح ١٤٥٩ ، باب أحكام السهو ، ح ٤٧ ؛ « وسائل الشيعة » ج ٥ ، ص ٣٣٦ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب ٢٣ ، ح ١.

٣٢٥

من المركّبات التي لأجزائها محلّ شرعي ، ويصدق بعد التجاوز عن ذلك المحلّ الشرعي إذا شكّ في إتيان ذلك الجزء أنّه شكّ بعد التجاوز عنه ؛ فتخصيصها بخصوص أجزاء الصلاة لا وجه له.

فحينئذ لا بدّ وأن يكون عدم جريانها في أجزاء الطهارات الثلاث لجهة ، من إجماع أو غيره ، كما ادّعاه شيخنا الأعظم الأنصاري قدس‌سره. (١)

هذا كلّه في مقام الثبوت.

وأمّا في مقام الإثبات بعد الفراغ عن إمكان جعل كبرى واحدة تشمل كلتا القاعدتين في عالم الثبوت.

فنقول أوّلا : لا بدّ من ذكر الأخبار الواردة في هذا الباب حتّى نرى ما ذا يستفاد :

منها : رواية حماد بن عثمان قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أشكّ وأنا ساجد ، فلا أدري ركعت أم لا؟ فقال عليه‌السلام : « قد ركعت ». (٢)

ومنها : ما ذكرنا وتقدّم من رواية زرارة ونقلناها ، ومحلّ الشاهد ما في آخرها من قوله عليه‌السلام : « يا زرارة إذا خرجت من شي‌ء ثمَّ دخلت في غيره فشكّك ليس بشي‌ء ».

ومنها : رواية إسماعيل بن جابر قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : « إن شكّ في الركوع بعد ما سجد فليمض ، وإن شكّ في السجود بعد ما قام فليمض ، كلّ شي‌ء شكّ فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمضى عليه ». (٣)

ومنها : موثقّة ابن بكير عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال عليه‌السلام : « كلّ ما‌

__________________

(١) « فرائد الأصول » ج ٢ ، ص ٧١٢.

(٢) « تهذيب الأحكام » ج ٢ ، ص ١٥١ ، ح ٥٩٤ ، باب تفصيل ما تقدّم ذكره في الصلاة ، ح ٥٢ ؛ « الاستبصار » ج ١ ، ص ٣٥٨ ، ح ١٣٥٦ ، باب من شكّ وهو قائم فلا يدرى أركع أم لا ، ح ٦ ؛ « وسائل الشيعة » ج ٤ ، ص ٩٣٦ ، أبواب الركوع ، باب ١٣ ، ح ٢.

(٣) « تهذيب الأحكام » ج ٢ ، ص ١٥٣ ، ح ٦٠٢ ، باب تفصيل ما تقدّم ذكره في الصلاة ، ح ٦٠ ؛ « الاستبصار » ج ١ ، ص ٣٥٨ ، ح ١٣٥٩ ، باب من شكّ وهو قائم فلا يدري أركع أم لا ، ح ٩ ؛ « وسائل الشيعة » ج ٤ ، ص ٩٣٧ ، أبواب الركوع ، باب ١٣ ، ح ٤.

٣٢٦

شككت فيه ممّا قد مضى فامضه كما هو ». (١)

ومنها : موثّقة ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا شككت في شي‌ء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكّك بشي‌ء ، إنّما الشكّ إذا كنت في شي‌ء لم تجزه » (٢).

ومنها : موثّقة بكير بن أعين قال : قلت له : الرجل يشكّ بعد ما يتوضّأ قال عليه‌السلام : « هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ » (٣).

وهناك روايات أخر نقلوها ليست بصراحة ما ذكرناها من حيث اشتمالها على الكبرى الكليّة ، وفيما ذكرناها غنى وكفاية.

فنقول : أمّا قوله عليه‌السلام في الرواية الأولى ، أي رواية زرارة « يا زرارة إذا خرجت من شي‌ء ودخلت في غيره فشكّك ليس بشي‌ء » فهي كبرى كلّية ينطبق على الخروج عن الجزء ودخوله في جزء آخر ، أو مطلق ما كان غيره كي يشمل الجزء الأخير ، وعلى الخروج عن المركّب المأمور به والدخول في غيره ، مثل الصلاة والحجّ وغيرهما.

وأمّا مسألة لزوم الدخول في الغير ـ أو يكفي صدق التجاوز عن الشي‌ء والمضي عنه ، وإنّما ذكره الدخول في الغير لأجل تحقّق التجاوز عن الشي‌ء ـ فهذا شي‌ء سنتكلّم عنه إن شاء الله تعالى في المباحث الآتية.

والحاصل : أنّه بناء على ما ذكرنا وعرفت « الشي‌ء » له معنى عامّ ينطبق على الجزء وعلى المركّب الذي نسمّيه بالكلّ ، والخروج عنه له مصداقان كما تقدّم :

__________________

(١) « تهذيب الأحكام » ج ٢ ، ص ٣٤٤ ، ح ١٤٢٦ ، باب أحكام السهو ، ح ١٤ ؛ « وسائل الشيعة » ج ٥ ، ص ٣٣٦ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب ٢٣ ، ح ٣.

(٢) « تهذيب الأحكام » ج ١ ، ص ١٠١ ، ح ٢٦٢ ، باب صفة الوضوء والغرض منه والسنّة ، ح ١١١ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١ ، ص ٣٣٠ ، أبواب الوضوء ، باب ٤٢ ، ح ٢.

(٣) « تهذيب الأحكام » ج ١ ، ص ١٠١ ، ح ٢٦٥ ، باب صفة الوضوء والغرض منه والسنة ، ح ١١٤ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١ ، ص ٣٣١ ، أبواب الوضوء ، باب ٤٢ ، ح ٧.

٣٢٧

أحدهما : التجاوز عن محلّه الذي عيّن الشارع له ، وبهذا الاعتبار يشمل قاعدة التجاوز.

والثاني : التجاوز عن نفسه والفراغ عنه ، وبهذا الاعتبار يشمل قاعدة الفراغ.

والجامع بينهما هو عنوان الخروج عن الشي‌ء ، ولا يلزم محذور أصلا.

وأمّا قوله عليه‌السلام في رواية إسماعيل بن جابر : « كلّ شي‌ء شكّ فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه » لا شكّ في أنّه أيضا كبرى كليّة أمر عليه‌السلام بالمضي وعدم الاعتناء بالشكّ في كلّ ما شكّ فيه ، سواء أكان ذلك المشكوك فيه نفس المركّب أو جزء من أجزائه بعد ما مضى عنه ، غاية الأمر المضي عن المركّب بإتمامه والفراغ عنه وعن الجزء بالمضي عن محلّه ، كما بيّنّا لك في رواية زرارة فلا نعيد.

وعلى هذا القياس قوله عليه‌السلام في موثقّة ابن بكير « كل ما شككت ممّا قد مضى فامضه كما هو ».

وأمّا قوله عليه‌السلام في موثّقة ابن أبي يعفور : « إنّما الشكّ إذا كنت في شي‌ء لم تجزه » فبمفهوم الحصر يدلّ على أنّه إذا جزت عن شي‌ء فليس شكّ هناك ، بمعنى أنّ الشارع ألقى الشكّ في كلّ شي‌ء جزت عنه ، وجعل وجوده بمنزلة العدم ، فيكون حال هذه الرواية أيضا حال سائر الروايات من كونه عليه‌السلام بصدد بيان كبرى كليّة ، أي عدم الاعتناء بالشكّ في كلّ شي‌ء جزت عنه ، سواء أكان ذلك الشي‌ء نفس المركب أو أحد أجزائه.

ولا فرق في حكم الشارع بعدم الاعتناء بالشكّ بعد أن خرج عن المشكوك ودخل في غيره بأن يكون الخروج عن جزء والدخول في جزء آخر ، وبين أن يكون الخروج عن مجموع المركّب والدخول في شي‌ء آخر غيره.

نعم الخروج عن الجزء باعتبار الخروج عن محلّه ؛ لأنّ المفروض أن أصل وجود الجزء مشكوك ، فلا معنى للخروج عن نفس الجزء. وأمّا عدم الفرق في حكمه بعدم‌

٣٢٨

الاعتناء بالشكّ بعد التجاوز عن المشكوك أو بعد المضي عنه بين الكلّ والجزء ، فالأمر أوضح كما هو واضح.

[ المبحث ] الرابع

في أنّه ما المراد من المضي والتجاوز في القاعدتين؟

حيث جعل الشارع موضوع حكمه بعدم الاعتناء بالشكّ أحد هذين العنوانين ، أو عنوان الخروج عن المشكوك والدخول في غيره؟

أقول : قد تقدّم أنّ لمفهوم التجاوز والمضي مصداقين :

أحدهما : التجاوز عن نفس الشي‌ء بمعنى إتمام وجوده والمضي عنه ، وهذا مورد قاعدة الفراغ.

والثاني : التجاوز عن محلّه ، وهذا مورد قاعدة التجاوز.

وهذان كلاهما مصداقان حقيقيان لمفهوم التجاوز عن الشي‌ء ، وليس في الثاني منهما تجوّز أو إضمار ، بل التجاوز عن المحلّ الذي عيّن الشارع لشي‌ء يكون تجاوزا عن ذلك الشي‌ء حقيقة ، فالذي يقرأ السورة مثلا تجاوز حقيقة عن فاتحة الكتاب ، وهكذا الأمر في جميع أجزاء المركّبات التدريجيّة الوجود التي جعل الشارع لإيجاد أجزائها ترتيب ، فكلّ جزء له محلّ شرعي لا يجوز تقديمه عليه ولا تأخيره عنه ؛ لا كلام في هذا.

وإنّما الكلام في أنّه هل المحلّ العادي للجزء أيضا هكذا ، بمعنى أنّ التجاوز عن المحلّ العادي للشي‌ء هل تجاوز عن الشي‌ء أم لا؟ فإن صدق عليه التجاوز عن الشي‌ء حقيقة ، كما أنّه يصدق على التجاوز عن محلّه الشرعي التجاوز عن ذلك الشي‌ء حقيقة ، كما أنّه عليه‌السلام طبق الكبرى على التجاوز عن محلّه الشرعي في ما نقلناه من رواية‌

٣٢٩

زرارة وغيرها ، فتشمل القاعدة التجاوز عن المحلّ العادي أيضا ، وتترتّب على التعميم ثمرات فقهيّة مهمّة ، مثلا الذي من عادته الوضوء عقيب الحدث الأصغر ، أو الغسل عقيب الحدث الأكبر فلو شكّ في وقت من الأوقات أنّه توضّأ عقيب الحدث الأصغر ، أو اغتسل عقيب الحدث الأكبر ، فعلى التعميم لا بدّ وأن نقول في الأوّل بطهارته من الحدث الأصغر ، وفي الثاني بطهارته من الحدث الأكبر.

ولكن أنت خبير بأنّه لا وجه لإلحاق المحلّ العادي بالمحلّ الشرعي ؛ لأنّه ليس في الأخبار عنوان « التجاوز عن المحلّ » حتى نتكلّم في أنّ لفظ « المحلّ » هل يشمل المحلّ العادي أم لا؟ بل الموجود فيها عنوان « المضي عن الشي‌ء والتجاوز عنه » وأمثال ذلك من العناوين ، فالمدار على صدق أحد هذه العناوين.

وقد عرفت أنّ في التجاوز عن المحلّ الشرعي يقال بأنّه تجاوز عن عن الشي‌ء حقيقة بلا تجوّز ولا إضمار على ما هو التحقيق ، أو بتقدير لفظ « المحلّ » كما أنّه ربما قال به المشهور من باب دلالة الاقتضاء ، صونا للكلام عن اللغويّة ، كما أنّهم قالوا بتقدير « الأهل » في قوله تعالى ( ـ ( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ) ـ ) (١) لأجل هذه الجهة.

إن قلت : فبناء على هذا يكون لفظ « المحلّ » المقدّر أعمّ من المحلّ الشرعي والعادي.

قلت : إنّ هذا التقدير من ناحية دلالة الاقتضاء ، وتطبيقه عليه‌السلام التجاوز عن الشي‌ء على التجاوز عن المحلّ الشرعي حيث أنّه عليه‌السلام طبّق هذه الكبرى ـ أي قوله « إنّما الشكّ في شي‌ء لم تجزه » وأمثالها ـ على الشكّ في وجود الأجزاء بعد التجاوز عن محلّها الشرعي ، كما تقدّم في بعض الروايات المتقدّمة ، حيث قال عليه‌السلام بعد قول السائل : رجل شكّ في الأذان وقد دخل في الإقامة ، قال عليه‌السلام : « يمضى ». قلت : رجل شكّ في الإقامة وقد كبّر ، قال عليه‌السلام : « يمضى ». وهكذا سأل السائل عن الشكّ في‌

__________________

(١) يوسف (١٢) : ٨٢.

٣٣٠

الأجزاء بعد تجاوز المحلّ الشرعي ، فأجابه بأنّه « يمضي » إلى أن قال عليه‌السلام : « يا زرارة إذا خرجت من شي‌ء ودخلت في غيره فشكّك ليس بشي‌ء ».

فلا بدّ من أن نقول بأنّ المراد من الخروج عن الشي‌ء في هذه الرواية والمضي والتجاوز في سائر الروايات ، هو الخروج عن محلّها الشرعي والمضي والتجاوز عنه ؛ لأنّ هذا المقدار هو الذي طبّق الإمام عليه‌السلام ، وأمّا أكثر من هذا المقدار ـ أي المحلّ الشرعي كي يشمل المحلّ العادي ـ فلا تقتضيه دلالة الاقتضاء ، وليس لفظ « المحلّ » في البين حتّى نأخذ بعمومه.

وهنا وجه آخر لشمول التجاوز عن الشي‌ء التجاوز عن المحلّ الشرعي ، وهو تنزيل التجاوز عن محلّه الشرعي الذي عيّن له الشارع ، كما في المركّبات المترتّبة الأجزاء منزلة التجاوز عن نفس الشي‌ء ، وادّعاء أنّه هو ، كما ذهب إليه شيخنا الأستاذ (١) قدس‌سره ومعلوم أنّ مثل هذا التنزيل والادّعاء من طرف الشارع لا يكون إلاّ بالنسبة إلى المحلّ الشرعي الذي عيّن له هو ، وأمّا المحلّ العادي فأجنبي عن تنزيله.

ولكن التحقيق : في وجه عدم التعميم هو الوجه الأوّل الذي ذكرنا الشمول التجاوز عن الشي‌ء التجاوز عن المحلّ الشرعي ، وهو أنّه لمفهوم التجاوز عن الشي‌ء مصداقان : أحدهما التجاوز عن نفسه ، والثاني التجاوز عن محلّه الشرعي.

وبعبارة أخرى : التجاوز عن الشي‌ء كما أنّه يتحقّق بإيجاد الشي‌ء والفراغ عنه ، كذلك يتحقّق حقيقة لا ادّعاء بالتجاوز عن المحلّ الذي عيّن الشارع له في المركّبات المترتّبة الأجزاء.

والسرّ في ذلك : أنّ المهيّات المخترعة المترتّبة الأجزاء التدريجيّة الوجود في عالم التشريع ، مثل المهيّات التدريجيّة الوجود في عالم التكوين ، فكما أنّه لو ترك آية من سورة من سور القرآن ، أو شعر من أشعار قصيدة معيّنة معلومة وشرع في الآية التي‌

__________________

(١) « فوائد الأصول » ج ٤ ، ص ٦٢٧.

٣٣١

بعد تلك الآية المتروكة ، وهكذا شرع في البيت الذي بعد ذلك البيت المتروك ، يقال : تجاوز من تلك الآية المتروكة ومن ذلك البيت المتروك ، كذلك لو ترك جزء من هذا المركّب المترتّب الأجزاء شرعا ودخل في الجزء الذي بعده ، يقال : إنّه تجاوز عن ذلك الجزء المتروك وتعدّى عنه.

وبناء على هذا الوجه أيضا لا ربط له بالمحلّ العادي ؛ لأنّ جريان العادة بإيجاد شي‌ء في محلّ من دون أن يكون ترتّب تكويني أو تشريعي في البين ، لا يوجب صدق التجاوز بالنسبة إلى الجزء أو الكلّ المشكوك الوجود في ذلك المحلّ العادي.

هذا ، مضافا إلى أنّ تعميم القاعدة والقول بصدق التجاوز بالنسبة إلى المحلّ العادي مستلزم لتأسيس فقه جديد ، وهذا بنفسه محذور ، ولو لم يكن محذور آخر في البين. كيف وقد عرفت ما فيه ، وأنّ الشكّ في وجود جزء من أجزاء المركّب أو تمامه بعد التجاوز عن المحلّ الذي جرت العادة بإتيان ذلك الجزء ، أو ذلك الكلّ في ذلك المحلّ ، ليس مشمولا لقاعدة التجاوز في الجزء ، ولا لقاعدة الفراغ في الشكّ في الكلّ.

ثمَّ أنّه لو شكّ في الجزء الأخير من المركّب المترتّب الأجزاء كالتسليم في باب الصلاة ، فهل تجري قاعدة التجاوز أو الفراغ ، أو إحديهما ، أو لا يجري شي‌ء منهما؟ احتمالات.

وتحقيق المقام : هو أنّ الجزء الأخير لا بدّ وأن يكون في المركّب المترتّب الأجزاء ، وإلاّ تكون الأجزاء عرضيّة ولا يبقي معنى للجزء الأخير حينئذ. وذلك المركّب المترتّب الأجزاء على قسمين ؛ لأنّه إمّا أن يعتبر الموالاة بين أجزائه أم لا.

فنقول : أمّا ما لم يعتبر الموالاة بين أجزائه كالغسل ، إذا شكّ في جزئه الأخير أي غسل الجانب الأيسر ، فجريان قاعدة التجاوز فيه لا وجه له أصلا ؛ لأنّه لم يتحقّق بالنسبة إليه تجاوز ، لا عن نفس وجوده لأنّ المفروض أنّه مشكوك الوجود ، ولا عن محلّه الشرعي لأنّ المفروض عدم اعتبار الموالاة فيه ؛ ففي أيّ وقت أتى به يكون في‌

٣٣٢

محلّه. وأمّا إلحاق المحلّ العادي بالمحلّ الشرعي فقد عرفت الحال فيه.

وأمّا بالنسبة إلى قاعدة الفراغ فجريانها أيضا لا يخلو عن إشكال ؛ لأنّ المفروض أنّ الجزء الأخير مشكوك الوجود ، فكيف يصدق الفراغ عن ذلك العمل والمضي عنه؟ نعم ربما يصدق الفراغ عرفا إذا شكّ في جزء يسير من الجزء الأخير في المثال المذكور ، كما أنّه لو شكّ في غسل إصبع من الجانب الأيسر مع القطع بغسل ذلك الجانب إلاّ هذا المقدار اليسير منه.

والحاصل : أنّ المناط في جريانها هو صدق عنوان الفراغ عن العمل ومضي المركّب عرفا.

وأمّا ما اعتبر فيه الموالاة كالصلاة والوضوء ، فلا يبعد جريانهما بناء على عدم اختصاص قاعدة التجاوز بخصوص الصلاة حتّى في الجزء الأخير من الوضوء إذا كان الشكّ بعد فوات الموالاة ، لأنّه يصدق عليه التجاوز والمضي عن العمل ، وعن الجزء الأخير أيضا.

وأمّا بناء على اختصاص قاعدة التجاوز بالصلاة ، ففيها حتّى بالنسبة إلى الجزء الأخير تجري كلتا القاعدتين. وأمّا في غيرها فلا تجري إلاّ قاعدة الفراغ ، فإذا شكّ في التسليم فتجري القاعدتان إذا كان مشغولا بالتعقيب ؛ لصدق التجاوز عن محلّه الشرعي ، وأيضا الفراغ بدخوله في التعقيب ، لأنّ محلّ التعقيب شرعا بعد التسليم.

وأمّا إذا شكّ في التسليم ولم يكن دخل في التعقيب بعد ، فإمّا أن يكون بعد صدور المنافي عنه ـ ولا فرق في ما نذكره بين المنافي العمدي والسهو كالحدث ، وبين ما هو المنافي عمدا لا سهوا كالتكلّم ، ولا بين أن يكون المنافي أمرا وجوديا كالحدث والتكلّم ، أو عدميّا كالسكوت الطويل الماحي لصورة الصلاة ، أو لا بل يكون قبل صدور المنافي عنه ـ فإذا كان بعد صدور المنافي عنه بجميع أقسامه فالظاهر أيضا جريان كلتا القاعدتين ، أمّا قاعدة التجاوز لأنّ محلّ التسليم شرعا قبل فعل المنافي ،

٣٣٣

فيكون الشكّ بعد التجاوز عن محلّه. وأمّا قاعدة الفراغ لصدق عنوان الفراغ بعد الاشتغال بالمنافي ولو كان أمرا عدميا كالسكوت الطويل.

وأمّا إذا كان قبل صدور المنافي وقبل أن يدخل في التعقيب ، فالظاهر عدم جريان كلتا القاعدتين ؛ لعدم التجاوز عن محلّ الجزء المشكوك ، وعدم صدق الفراغ عن العمل والمضي عنه ؛ لأنّه لو علم بالترك وأتى به لكان في محله.

هذا تمام الكلام في معنى التجاوز على الجزء والفراغ عن المركّب وحكم الشكّ في الجزء الأخير.

المبحث الخامس

في أنّ الدخول في الغير معتبر في جريان القاعدتين أم لا؟

فنقول : اعتبار الدخول في الغير في كلتا القاعدتين أو إحديهما تارة يكون من جهة توقّف تحقّق هذه العناوين ، أي عنوان « التجاوز » و « المضي » و « الفراغ » عليه ، وأخرى يقال باعتباره تعبّدا ، من جهة دلالة الدليل عليه من دون توقّف أحد هذه العناوين عليه.

وتفصيل الحال : هو أنّه أمّا في قاعدة التجاوز بالنسبة إلى غير الجزء الأخير فواضح أنّه لا يتحقّق التجاوز وما شابهه من العناوين إلاّ بعد الدخول في الجزء المترتّب عليه ، أي على المشكوك ؛ لأنّ التجاوز فيها لا يتحقّق إلاّ بالتجاوز عن محلّ الجزء ، ومعلوم أنّ التجاوز عن محلّ المشكوك لا يصدق إلاّ بعد الدخول في الجزء التالي ، وإلاّ فالمحلّ باق بعد. وأمّا السكوت الطويل الماحي لصورة الصلاة عقيب الجزء المشكوك الوجود وإن كان يوجب التجاوز عن المحلّ ، ولكن من جهة أنّه قاطع يكون موجبا لبطلان الصلاة ، فلا يبقى مجال لجريان قاعدة التجاوز وتصحيح الصلاة بها.

فبالنسبة إلى غير الجزء الأخير لا يتحقّق التجاوز عن المحلّ الذي هو معتبر في‌

٣٣٤

جريان قاعدة التجاوز إلاّ بالدخول في الغير.

وأمّا بالنسبة إلى الجزء الأخير ، كالتسليم في باب الصلاة يمكن أن يقال : إنّ التجاوز لا يصدق إلاّ بعد الدخول في شي‌ء غير الصلاة من تعقيب ، أو فعل ما هو مناف للصلاة.

ولكن التحقيق : أنّ السكوت الطويل ها هنا يوجب تحقّق عنوان التجاوز وتجري قاعدة التجاوز ، من دون أن يكون الدخول في الغير في البين ، فما أفاده شيخنا الأستاذ قدس‌سره من اعتبار الدخول في الغير في قاعدة التجاوز مطلقا (١) ليس كما ينبغي.

وأمّا في قاعدة الفراغ ، فإذا كان منشأ الشكّ في صحّة العمل ما عدا الجزء الأخير فبإتيان الجزء الأخير يصدق الفراغ والتجاوز إذا كان إتيان معظم الأجزاء معلوما ، من دون الاحتياج إلى الدخول في الغير. وأمّا إذا كان المنشأ هو الشكّ في إتيان الجزء الأخير فربما يقال بأنّه لا يصدق الفراغ إلاّ بالدخول في الغير ، بل ربما يقال بعدم صدق الفراغ ما لم يحرز إيجاد الجزء الأخير بالوجدان أو بالتعبّد.

ولكن التحقيق : أنّه إذا كان إتيان معظم الأجزاء محرزا وكان في حالة منافية للصلاة مثلا ، يصدق الفراغ والتجاوز ولو كان العمل ممّا له صورة وهيئة اتّصالية ، فالسكوت الطويل القاطع للهيئة الاتّصالية أيضا يوجب صدق عنوان الفراغ ، إذا كان قد أتى بمعظم الأجزاء مع عدم دخوله في الغير.

والحاصل : أنّ الدخول في الغير ليس ممّا يعتبر في تحقّق عنوان الفراغ ، فإن كان فلا بدّ وأن يكون بتعبّد شرعي ، وطريق إثباته ملاحظة الأدلّة الواردة في هذا الباب.

فنقول : في رواية زرارة قال عليه‌السلام : « يا زرارة إذا خرجت من شي‌ء ثمَّ دخلت في غيره فشكّك ليس بشي‌ء » ، وفي رواية إسماعيل بن جابر « كلّ شي‌ء شكّ فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه ». وظاهر هاتين الروايتين اعتبار الدخول في‌

__________________

(١) « فوائد الأصول » ج ٤ ، ص ٦٣١.

٣٣٥

الغير ، كما أنّ ظاهر موثقّة ابن بكير قال عليه‌السلام : « كلّما شككت فيه ممّا قد مضى فامضه كما هو » عدم الاعتبار من جهة الإطلاق.

وموثقّة ابن أبي يعفور « إذا شككت في شي‌ء من الوضوء وقد دخلت في غيره فشكّك ليس بشي‌ء ، إنّما الشكّ إذا كنت في شي‌ء لم تجزه » مختلف صدرا وذيلا ، فباعتبار الصدر يدلّ على الاعتبار ، وباعتبار الذيل مطلق. ومقتضى القواعد الأوّلية حمل المطلق على المقيّد والقول باحتياج جريانهما إلى الدخول في الغير بعد إحرازه وحدة المطلوب.

ولكن يمكن أن يقال بورود القيد مورد الغالب ، كما في قوله تعالى شأنه : ( وَرَبائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ) ـ ) (١) فلا موجب لحمل المطلق على المقيّد ، بل لا بدّ وأن يؤخذ بالإطلاق. ولكن يعارض هذا الوجه أنّه يمكن أن يقال مقابل هذا القول بأنّ المطلق محمول على الغالب لأنّه غالبا الفراغ عن الشي‌ء والتجاوز عنه ملازم مع الدخول في الغير ، لا سيما إذا عممنا الغير ، وقلنا بشموله لكلّ حالة مغايرة للحالة التي كان هو فيها من الاشتغال بالمركب ، فلا إطلاق في البين.

ولكن في كلا الأمرين تأمّل ، أمّا احتمال ورود القيد مورد الغالب فمنفي بأنّ الأصل في باب القيود أن يكون القيد احترازيّا ، إلاّ أن يدلّ دليل معتبر على أنّه وارد مورد الغالب وليس احترازيّا ، وإلاّ فبصرف احتمال ذلك لا يرفع اليد عن ظهوره في كونه احترازيّا.

وأمّا احتمال حمل المطلق على الغالب وانصرافه إليه فقد حقّقنا في محلّه أنّ غلبة الوجود لا يوجب الانصراف ، ولا ينسدّ باب التمسّك بالإطلاق ؛ لأنّ أغلب الطبائع بعض أفرادها أو بحسب بعض حالاتها أكثر وجودا من الأبعاض الأخر ، بل الانصراف لا يكون إلاّ بظهور المطلق في البعض المنصرف بواسطة كثرة الاستعمال ،

__________________

(١) النساء (٤) : ٢٣.

٣٣٦

وإثبات هذا المعنى في المقام لا يخلو عن إشكال ، فلا مناص إلاّ عن الأخذ بالقواعد الأوّلية وحمل المطلق على المقيّد.

المبحث السادس‌

في أنّ الغير المعتبر دخوله فيه في خصوص قاعدة التجاوز يشمل مقدمات الأجزاء ، مثل الهوى للركوع ، والنهوض للقيام ، وهكذا أبعاض الأجزاء كأبعاض السورة مثلا أم لا؟

فنقول : الاحتمالات ثلاثة :

أحدها : اختصاص الغير بالأجزاء المذكورة في الروايات ، كرواية زرارة ، ورواية إسماعيل بن جابر.

وهذا الاحتمال مبني على اختصاص قاعدة التجاوز بالصلاة ، وبناء على هذا الاحتمال لا تشمل السورة إذا شكّ في الحمد بعد دخوله فيها ، وأيضا لا تشمل التشهّد إذا شكّ في السجود بعد دخوله فيه ؛ إذ لا ذكر من هذين ، أي السورة والتشهد في تلك الأخبار.

الثاني : شموله لكلّ جزء من أجزاء الصلاة المستقلّة بالتبويب في الكتب الفقهيّة.

وهذا الاحتمال أوسع من الاحتمال الأوّل لشموله للسورة والتشهّد ، ولكن لا يشمل مقدّمات الأجزاء ، ولا أجزاء الأجزاء.

والثالث : التعميم لكلّ ما يصدق عليه مفهوم الغير ، ولكن بشرط أن لا يكون خارجا عن الصلاة ، بناء على اختصاص القاعدة بالصلاة ومطلقا ، سواء أكان منها أو من غيرها بناء على عدم اختصاصها بها.

وشيخنا الأستاذ قدس‌سره رجّح الاحتمال الثاني ، وذلك من جهة ما أفاد وبيّنّاه فيما تقدّم‌

٣٣٧

من أنّ إطلاق الشي‌ء على الأجزاء يكون بالعناية والادّعاء ، وإلاّ لا يكون الجزء شيئا في عرض شيئيّة الكلّ. وحيث أنّ هذا الادّعاء والتنزيل لم يتحقّق من قبل الشارع إلاّ في الأجزاء المستقلّة بالتبويب ، فلا يطلق الشي‌ء والغير على ما عداها من أجزاء الأجزاء ومقدّماتها.

إن قلت : إنّ التنزيل قد وقع في الأجزاء المذكورة في الروايات فقط ، أعني الروايتين المتقدّمتين من زرارة وإسماعيل بن جابر ، وليس فيهما عين ولا أثر من السورة والتشهّد.

قلنا : إنّ ذكر تلك الأجزاء من باب المثال ، وإلاّ فالمقصود بالتنزيل هو مطلق الإجزاء المستقلّة بالتبويب. هذا ما أفاده شيخنا الأستاذ قدس‌سره (١).

ولكن قد عرفت عدم تماميّة هذا الكلام وأنّ الشي‌ء يطلق على الأجزاء والكلّ في عرض واحد حقيقة بدون عناية وادّعاء وتنزيل ، بل يستعمل في الجامع بينهما ، ولا تلاحظ في حال الاستعمال خصوصيّة كلّ واحد منهما حتّى تقول بعدم إمكان الجمع بين اللحاظين في استعمال واحد وأمثال ذلك ممّا تقدّم ذكره من المحاذير.

هذا ، مضافا إلى أنّ الكلام في عموم الغير لا الشي‌ء ، ولا شكّ في أنّه بعد ما شمل الشي‌ء المتجاوز عنه الأجزاء المستقلّة بعناية كما أفاد ، أو بدون الاحتياج إلى عناية وتنزيل كما ادّعينا يشمل لفظ الغير من غير ذلك الشي‌ء الحقيقي كما نقول ، أو الادّعائي كما يقول هو قدس‌سره.

وفي شمول لفظ « الغير » للأجزاء المستقلّة كما يقول هو قدس‌سره ، أو لجميع ما هو غير ذلك الجزء المتجاوز عنه كما نقول ، لا يحتاج إلى إعمال عناية وادّعاء وتنزيل أصلا.

فظهر من جميع ما ذكرنا أنّ المراد من « الغير » المعتبر في جريان قاعدة التجاوز الدخول فيه ، سواء أكان اعتباره من باب تحقّق التجاوز والمضي به ، أو كان من جهة‌

__________________

(١) « فوائد الأصول » ج ٤ ، ص ٦٣٥.

٣٣٨

دلالة الأخبار تعبّدا ، هو مطلق ما كان مصداقا لمفهوم غير الجزء المشكوك الوجود ، فتشمل الأجزاء وأجزاء الأجزاء ومقدّمات الأجزاء.

وحيث قلنا بعدم اختصاصها بالصلاة فلا فرق فيما ذكرنا من شمول لفظ « الغير » للأجزاء ، وأجزاء الأجزاء ومقدّمات الأجزاء بين الصلاة وسائر المركّبات التي أمر الشارع بإيجادها كالحجّ مثلا ، فإذا شكّ في أثناء السعي مثلا في الطواف أو في جزء منه ، يكون مشمولا لقاعدة التجاوز.

نعم يبقى الكلام في وجه عدم جريانها في الطهارات الثلاث ـ الوضوء والغسل والتيمم ـ وسنتكلّم عنه إن شاء الله تعالى.

ومن الواضح الجلي أنّه بناء على ما ذكرنا لا يبقى فرق في صدق الغير أن يكون من الأجزاء المستحبّة أو الواجبة ، بل وإن لم يكن جزء وكان خارجا عن حقيقة المركّب كالتعقيب.

المبحث السابع

في جريان قاعدة التجاوز في الشروط‌

وتحقيق المقام هو أنّ الشرائط على أقسام :

الأوّل : أن يكون شرطا عقليّا لتحقّق عنوان المأمور به ، كقصد الظهريّة والعصريّة في صلاة الظهر والعصر مثلا ، فإنّ عنوان الظهريّة والعصريّة لا يمكن أن يتحقّق في صلاتيهما إلاّ بهذا القصد ؛ لأنّها أمور قصديّة.

الثاني : ما يكون شرطا شرعيّا لصحّة المأمور به وتحقّقه ، كالاستقبال والستر والطهارة وأمثال ذلك.

الثالث : ما يكون شرطا شرعيّا للجزء ، كالجهر والإخفات بناء على كونهما‌

٣٣٩

شرطين للقراءة لا للصلاة في حال القراءة.

ثمَّ إنّ الشرط الشرعي للصلاة إمّا يكون شرطا لها في حال الاشتغال بها ، وأمّا يكون شرطا لها مطلقا ولو في حال السكونات المتخلّلة ، كالستر والاستقبال والطهارة الحدثيّة.

وعلى كلّ واحد من التقديرين إمّا أن يكون له محلّ شرعي ، وإمّا أن لا يكون. فالأوّل كالطهارة الحدثيّة حيث أنّها شرط شرعي للصلاة ، ولها محلّ شرعي وهو أن يكون قبل الصلاة ، كما يدلّ عليه قوله تعالى ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) الآية (١). والثاني كالستر والاستقبال.

إذا عرفت هذه الأقسام ، فنقول :

أمّا القسم الأوّل : ـ أي ما يكون شرطا عقليّا لتحقّق عنوان المأمور به ، كقصد الظهريّة والعصريّة والمغربيّة والعشائيّة والصبحيّة لتحقّق هذه العناوين ، أعني صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح ـ فلا تجري فيها قاعدة التجاوز ؛ لأنّ تعنون الصلاة بهذه العناوين من الآثار العقليّة التكوينيّة لواقع قصدها ، فالتعبّد بوجود نيّة الظهر مثلا لا يترتّب عليه هذه الثمرة وهذا الأثر ، فيكون مثل هذا التعبّد لغوا. بل ولا تجري قاعدة الفراغ أيضا لو شكّ في قصد الظهريّة والعصريّة مثلا بعد الفراغ عن العمل ؛ لأنّ مجرى قاعدة الفراغ هو أن يشكّ في صحّة العمل وفساده بعد إحراز عنوانه.

وأمّا فيما لم يحرز عنوانه ، كما إذا شكّ في أنّ هذا الذي صدر منه هل كان صلاة أو كان لعبا؟ فقاعدة الفراغ لا تثبت أنّه كان صلاة.

هذا كلّه في الشكّ في النيّة بمعنى قصد العنوان المقوّم لعناوين الظهريّة والعصريّة وأمثالها.

__________________

(١) المائدة (٥) : ٦.

٣٤٠