القواعد الفقهيّة - ج ١

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN: 964-400-030-7
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٣٨٤

المعاملات والمعاوضات حتّى في مثل عوض طلاق الخلع ، ولكن نحن نذكر طائفة ممّا ذكروها في كتبهم تبعا لما ذكره الأساطين قدس‌سره.

فمنها : ما ذكره الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره في باب بيع الفضولي أنّ المشتري إذا لم يخبره الفضول أنّ هذا مال الغير موهما أنّه ماله ، ثمَّ بعد ذلك تبيّن للمشتري أنّه مال الغير ، والمالك الأصيل أخذ العين من يده وغرمه أيضا بأن أخذ أجرة سكنى الدار سنين مثلا وقد يتّفق في بعض الصور ذهاب العين مع الثمن الذي بذله للبائع الفضولي لهذه الدار مثلا ، وهذه الخسارة حصلت له من ناحية البائع الفضولي وتغريره إيّاه بعدم ذكره أنّ المبيع ليس له. (١)

فبناء على صحّة هذه القاعدة واعتبارها للمشتري ، الرجوع إلى البائع الفضولي الذي غرّه بمقدار خسارته في هذه المعاملة ، خصوصا إذا لم يكن للمشتري مقابل هذه الخسارة نفع أصلا ، كالنفقة التي صرفها للحيوان أو الإنسان الذي اشتراهما من الفضولي بدون أن ينتفع منهما مقابل تلك النفقة لعدم حاجته إلى ركوب ، أو حمل تلك الدابّة ، أو الانتفاع بذلك العبد أو بتلك الجارية ، وكالذي صرفه في العمارة ، وكالذي خسره في الفرس ، وكالذي أعطاه قيمة للولد المنعقد حرا ، أو كالذي يعطي لنقص صفة من صفات المبيع الذي اشتراه من الفضولي.

وقد قال شيخنا الأعظم رجوع المشتري عن الفضولي إليه في خساراته التي حصلت له في هذه الصورة ـ أي فيما إذا لم يحصل له نفع مقابل هذه الخسارات ـ إجماعي للغرور ، فإنّ البائع مغرّر للمشتري ، وموقع إيّاه في خطرات الضمان ، ومتلف عليه ما يغرمه فهو كشاهد الزور ، أي يضمن كما يضمن شاهد الزور (٢).

نعم استدل شيخنا الأعظم في هذه الصورة مضافا إلى الاستدلال بقاعدة الغرور‌

__________________

(١) « المكاسب ، ص ١٤٦.

(٢) « المكاسب » ص ١٤٦.

٢٨١

بمرسلة جميل ، عن الرجل يشتري الجارية من السوق فيولدها ثمَّ يجي‌ء مستحقّ الجارية ، قال عليه‌السلام : « يأخذ الجارية المستحقّ ، ويدفع إليه المبتاع قيمة الولد ويرجع على من باعه بثمن الجارية وقيمة الولد التي أخذت منه » (١).

وقد ذكر شيخنا الأعظم في هذه المسألة شقوقا وصورا ، وطول الكلام فيها تركناها لأنّ استيفاء شقوق هذه المسألة وبيان صورها والتحقيق والتدقيق فيها وان كان لطيفا ودقيقا لكنّه موكول إلى محلّها ، والغرض هنا لم يكن إلاّ في أنّ هذا المورد أحد موارد تطبيق هذه القاعدة ، فافهم.

ومنها : فيما إذا زوّج وليّ المرأة شرعا ، أو من هو وليّ عرفاً كالأخ والعم وإن لم يكن بوليّ شرعا ، وكان في المرأة عيب سترته ولم تخبر به الوليّ ، سواء أخبر بعدم العيب أو كان صرف السكوت وعدم الإظهار ، وسواء كان الوليّ عالما بذلك العيب أو كان جاهلا به ، وإن كان في الأخير خلاف.

وتدلّ أيضا عليه ـ أي على جواز رجوع الزوج إلى زوجته المدلّسة أو وليّها التزويج ـ أخبار كثيرة. مضافا إلى قاعدة الغرور ، وذكرنا جملة منها في الجهة الأولى.

ومنها : رجوع المحكوم عليه إلى شاهد الزور بالخسارة التي وردت عليه من جهة تغريره للحاكم على الحكم ، فلو رجع عن شهادته وكذب نفسه يرجع إليه المحكوم عليه بما خسر إن لم يكن المال المأخوذ منه قائما بعينه. وأمّا إن كان المال قائما بعينه يرد إليه ، فلا خسارة في البين كي يرجع إلى شاهد الزور. وأمّا لو تبيّن خطأ الشاهدين بعلم أو علمي من دون رجوعهما ، فكذلك يرد المال إليه إن كان قائما بعنيه ، وأمّا إن لم يكن كذلك وكان تالفا فاستقرار الضمان وإن كان على من أتلف أو وقع التلف في يده ، ولكن للمحكوم عليه الرجوع الى شاهد الزور لتغريره الحاكم.

__________________

(١) « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ٨٢ ، ح ٣٥٣ ، باب ابتياع الحيوان ، ح ٦٧ ؛ « الاستبصار » ج ٣ ، ص ٨٤ ، ح ٢٨٥ ، باب من اشترى جارية فأولدها. ، ح ١ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٤ ، ص ٥٩٢ ، أبواب نكاح العبيد والإماء ، باب ٨٨ ، ح ٥.

٢٨٢

وقد ورد في جميع ذلك أيضا مضافا إلى قاعدة الغرور أخبار خاصّة ، والمسألة بجميع شقوقها وصورها مذكورة مفصّلة في كتاب القضاء والشهادات ، والغرض في هذا المقام ليس تحقيقها واستيفاء شقوقها وصورها بل الغرض الإشارة إلى أنّ هذا أيضا أحد موارد جريان قاعدة الغرور ، فافهم.

ومنها : أنّه لو قدم الغاصب طعاما إلى شخص بعنوان ضيافته له ، فتبيّن أنّه ملك الغير وهذا الذي قدمه إليه غاصب وإن كان مشتبها لا متعديّا أى كان جاهلا بأنّه ليس له ، فمع جهل الآكل الضيف بأنّه ليس للمضيف إمّا لأنّه غاصب وإمّا لأنّه مشتبه فالمالك الأصيل إذا رجع إلى الآكل لأنّه مباشر للإتلاف وان كان له الرجوع إلى الغاصب أو المشتبه المفروض المذكور ، فللآكل الضيف الرجوع إلى المضيف لقاعدة الغرور.

وقد ذكروا أنّه لو قدم الغاصب مال المالك الأصلي إليه لكن بعنوان أنّه مال الغاصب لا بعنوان أنّه مال المالك الأصلي. وبعبارة أخرى : خدع الغاصب المالك الأصلي وأطعمه مال نفسه ولكن بعنوان أنّه ضيف ، وكان المالك الأصلي جاهلا بأنّ هذا الذي يأكله مال نفسه ، فللمالك الأصلي الرجوع إلى الغاصب مع أنّه أكل مال نفسه ؛ لقاعدة الغرور.

ومنها : لو قال للخيّاط مثلا : إن كان يكفي هذا قباء فاقطعه ، فقال : يكفي ، وقطعه فلم يكف ، فسقط عن القيمة أو قلّت قيمته ، فيرجع صاحب الثوب إلى الخيّاط بما نقص ؛ لأنّه غرّه وقال : يكفي ؛ هذا في باب الإجارة.

وكذلك لو أعاره مال الغير بعنوان أنّه مال نفسه ثمَّ تبيّن أنّه مال الغير ، ورجع ذلك الغير إلى المستعير ببذل ما انتفع من ماله ، فللمستعير الرجوع إلى المعير ؛ لأنّه غرّه.

ونتيجة كلّ ما ذكرنا من أوّل القاعدة إلى هاهنا أنّ كلّ ما يغرمه الشخص‌

٢٨٣

الجاهل بالواقع ويخسره ـ بواسطة فعل شخص آخر ، أو قوله ، أو إخفاء عيب فيما بيده الأمر ، وبعبارة أخرى : من جهة تدليسه على الجاهل بالواقع الذي خسر ـ له أن يرجع إلى الذي غرّه ، وإن كان الغارّ أيضا جاهلا مشتبها.

وخلاصة الكلام : أنّ فروع قاعدة الغرور كثيرة في أبواب الفقه ، والفقيه لا يشتبه في تطبيقها على مواردها. نعم في كثير من موارد هذه القاعدة توجد أدلّة خاصّة على رجوع المغرور إلى من غرّه بالنسبة إلى الخسارة التي وردت عليه من طرف الغار وبسبب تغريره.

والحمد لله أوّلا وآخرا ، ونسأله التوفيق لما يحبّ ويرضى.

٢٨٤

١١ ـ قاعدة

أصالة الصحّة‌

٢٨٥
٢٨٦

قاعدة أصالة الصحّة (*)

ومن جملة القواعد الفقهيّة القاعدة المعروفة « بأصالة الصحّة ».

وفيها مباحث :

[ المبحث ] الأوّل

في الدليل على اعتبارها‌

والظاهر أنّ عمدة الدليل عليه هي سيرة العقلاء كافّة ، من جميع الملل ، في جميع العصور ، من أرباب جميع الأديان من المسلمين وغيرهم ، والشارع لم يردع عن هذه الطريقة بل أمضاها ، كما هو مفاد الأخبار في أبواب متعدّدة. بل يمكن أن يقال : لو لم يكن هذا الأصل معتبرا لا يمكن أن يقوم للمسلمين سوق ، بل يوجب عدم اعتباره اختلال النظام كما ادّعاه شيخنا الأعظم الأنصاري قدس‌سره (١).

__________________

(*) « الحق المبين » ص ٦٨ ؛ « عوائد الأيّام » ص ٧٢ ؛ « عناوين الأصول » عنوان ٢٧ و ٢٨ و ٩٤ ؛ « خزائن الأحكام » العدد ٤ ؛ « مناط الأحكام » ص ٥ و ١٩ ؛ « دلائل السداد وقواعد فقه واجتهاد » ص ٢٨ ؛ « مجموعه قواعد فقه » ص ١٧٨ ؛ « القواعد » ص ١٥٣ ؛ « قواعد فقه » ص ٢٠٧ ؛ « قواعد فقهي » ص ٢٤٥ ؛ « قواعد فقهية » ص ٩١ ؛ « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج ١ ، ص ١١٥ و ٤٣ ؛ « أصل صحت وأصل لزوم عقد » احمد شهيدى ؛ « أصالة الصحة » جمال الدين جمالي ، « مجلة كانون سر دفتران » ؛ « أصل صحت » حسين فريار ، « نشرة مؤسسة حقوق تطبيقى » ، العدد ٦ ، العام ١٣٥٨ ؛ « أصل صحت در عمل غير » أبو القاسم الگرجي ، مجلّة كليّة الحقوق والعلوم السياسي ، العدد ٢٨ ؛ « دو قاعدة فقهي ( الغرور وأصالة الصحة ) » مجلة « حق » فصليّة ، العدد ١٠ ، العام ١٣٦٦ ؛ « صحت معاملات » محمد اعتضاد البروجردي ، مجلّة « كانون وكلاء » ، العدد ٤ لسنتها الأولى ، والعدد ٩ لسنتها الثانية.

(١) « فرائد الأصول » ج ٢ ، ص ٧٢٠.

٢٨٧

والإنصاف أنّ الاختلال الذي يلزم من عدم اعتبار هذه القاعدة أشدّ وأعظم من الاختلال الذي يلزم من عدم اعتبار قاعدة اليد ، فإنّ هذه القاعدة جارية في أغلب أبواب الفقه من العبادات والمعاملات ؛ ولذلك لا يبقى محلّ للاستدلال على اعتبارها بالإجماع ؛ لأنّه من المظنون أن يكون مدرك المجمعين هو الذي ذكرنا ، فليس من الإجماع المصطلح الأصولي الذي يكون اعتباره من جهة كشفه عن رأي المعصوم عليه‌السلام.

وأمّا الاستدلال عليه بالآيات والروايات فلا يخلو عن مناقشة بل منع في أكثرها.

والإنصاف أنّ اعتبار هذه القاعدة وحكومتها على الاستصحاب وأصالة الفساد من المسلّمات التي لا خلاف فيها أصلا ، فلا ينبغي تطويل المقام بذكر الآيات والأخبار التي أوردوها ، والمناقشة فيها.

[ المبحث ] الثاني‌

أنّ المراد من الصحّة في هذه القاعدة هل الصحّة الواقعيّة ، أو الصحّة باعتقاد الفاعل؟ وهناك احتمال آخر وهو أن يكون المراد منها الصحّة باعتقاد الحامل.

ولكن في تعيين أحد هذه الاحتمالات لا بدّ من ملاحظة دليل القاعدة ، وأنّ أيّ واحد من هذه الاحتمالات مفاد ذلك الدليل.

فنقول : سواء أكان الدليل هي سيرة العقلاء من كافّة الناس ، أو الإجماع ، أو اختلال النظام من عدم الاعتبار ولا شكّ في أنّ المراد هو الصحّة الواقعيّة ؛ وذلك لأنّ بناء العقلاء من المعاملات التي تقع بين الناس وحملها على الصحّة هي الصحّة الواقعيّة ، وإلاّ لو كانت الصحّة باعتقاد الفاعل لما كان للحمل على الصحّة أثر ؛ لأنّ اعتقاد الصحّة عند الفاعل مع عدم إثبات الصحّة الواقعيّة لا يوجب لسائر الناس ترتيب آثار الصحّة ، مع أنّ الناس قاطبة يرتّبون آثار الصحّة ، مثلا لو علموا أنّ رجلا‌

٢٨٨

طلق زوجته ؛ أو باع داره ، أو اشترى دارا ، أو أي فعل صدر عن شخص يحملونه على الصحّة الواقعيّة ، ويرتّبون على ذلك الفعل آثار الصحّة ، سواء أكان ذلك الفعل من العبادات أو المعاملات ، ومن العقود أو الإيقاعات.

والحاصل : أنّه كما أنّ في قاعدة الفراغ إذا شكّ في صحّة العمل الذي أتى به مفاد تلك القاعدة حمل الفعل الصادر عن نفسه على الصحّة الواقعيّة ؛ لبناء العقلاء على ذلك. كذلك الأمر في الفعل الصادر عن الغير ، بل يمكن أن يقال : أن الصحّة عند الجميع هي الصحّة الواقعيّة ، غاية الأمر أنّ الفاعل أو الحامل قد يخطئان فيعتقدون ما ليس بصحيح واقعا صحيحا واقعيا ، فبناء العقلاء على ما هو الصحيح واقعا. وكذلك الإجماع انعقد على ذلك ، بل اختلال النظام لا يرتفع إلاّ بالحمل على الصحيح الواقعي.

وما يقال : من أنّ مدرك هذه القاعدة لو كان ظهور حال المسلم في أنّه لا يأتي بالعمل إلاّ صحيحا ، فلا بدّ وأن يكون المراد هي الصحّة عند الفاعل ؛ لأنّه لا يأتي إلاّ بما يراه صحيحا ، لا ما هو صحيح عند سائر الناس.

ففيه أولا : هذا فيما إذا كان الفاعل عالما بالصحيح والفاسد ، والقاعدة أعمّ.

وثانيا : عرفت أنّ المدرك هي سيرة العقلاء ولا اختصاص لها بالمسلم ، وأنّ عدم اعتبارها يوجب اختلال النظام وتعطيل الأسواق ، فالعمدة في مدرك هذه القاعدة هذان الأمران ، أي السيرة ، ولزوم اختلال النظام من عدم اعتبارها. فلا شكّ في أنّ مفاد هذين الدليلين هي الصحّة الواقعيّة ، وعليها مدار جريان المعاملات في الأسواق وفي باب العقود والإيقاعات.

نعم فيما إذا علم الحامل أنّ الصحيح عند الفاعل مخالف مع ما هو الصحيح واقعا ، بمعنى أنّ الفاعل مخطئ في تطبيق الصحّة الواقعيّة على ما يأتي به ، ففي هذه الصورة حمل فعله على الصحّة الواقعيّة مشكل ؛ لأنّ كون ما أتى به صحيحا واقعيّا متوقّف على أحد أمرين : إمّا كونه متعمّدا بأن يأتي بما هو خلاف معتقده أنّه صحيح ، أو كونه‌

٢٨٩

غافلا عن معتقده حال العمل وأتى بالصحيح الواقعي من باب الصدقة والاتّفاق ، وكلاهما مخالف للأصل العقلائي.

[ المبحث ] الثالث‌

أنّ هذا الأصل لا يجري إلاّ بعد إحراز عنوان العمل ، مثلا لو علم بأنّه صدر منه عملا ولم يعلم العنوان وأنّه بيع ، أو إجارة ، أو هبة أو غير ذلك فلا مورد لجريان أصالة الصحّة ؛ وذلك من جهة أنّ بناء العقلاء على أنّ العمل الصادر عن الغير بعد صدوره بعنوان الغسل مثلا واحتمل فقد جزء ، أو شرط ، أو وجود مانع لا يعتنون بذلك الاحتمال ، ويبنون على الصحّة. وأمّا إذا كان الشكّ والاحتمال في أنّه هل قصد الغسل أو السباحة فليس بنائهم على صحّة هذا الغسل ؛ لأنّه في العناوين القصديّة قصد العنوان بمنزلة الموضع لهذا الأصل ، فلا معنى لإجرائه مع الشكّ في موضوعه.

ولذلك لو شكّ في صلاة الظهر أو العصر مثلا وأنّه هل قصد عنوان الظهريّة أو العصريّة ـ وكذلك في سائر الصلوات ، بل وفي كلّ فعل معنون بعنوان قصدي الذي لا يتحقّق إلاّ بذلك العنوان ـ لا يجري هذا الأصل إلاّ بعد إحراز ذلك العنوان.

نعم لو كان الفعل الذي يصدر منه من غير العناوين القصديّة كالتطهير عن الخبث ـ حيث أنّه ليس متقوّما بالقصد ـ فحمله على الصحّة عند الشكّ في إتيان بعض شرائطه يمكن ، ولو مع عدم إحراز أنّه قصد بهذا الفعل تطهير ثوبه مثلا أم لا. فلو رأى إنسانا يغتسل ثوبه ولكن لم يحرز أنّه بصدد تطهير ذلك الثوب ، ويحتمل أن يكون غسله بقصد إزالة الوسخ لا بقصد التطهير ، فلو شكّ في أنّه هل عصر ذلك الثوب الذي غسله بالماء ـ بناء على اشتراط التطهير بالعصر فيما يقبل العصر ـ فيمكن إجراء أصالة الصحّة والحكم بطهارة ذلك الثوب.

٢٩٠

[ المبحث ] الرابع

في أنّه لا يجري هذا الأصل إلاّ بعد وجود الشي‌ء‌فحينئذ إذا شكّ في أنّ ما أتي به هل صحيح ، أي تامّ من حيث الأجزاء والشرائط وعدم الموانع ويترتّب عليه الأثر المقصود منه ، أم لا؟ فبمقتضى هذا الأصل يحكم عليه بالصحّة ، ويترتّب عليه الأثر المقصود منه. وأمّا قبل وجوده فلا معنى لأن يقال : إنّ ما يريد أن يأتي به صحيح وتامّ ويترتّب عليه الأثر.

فلو شكّ في أثناء عمل شخص أنّ ما يأتي به هل هو صحيح أم لا ، لا مورد لجريان أصالة الصحّة ، وليس بناء العقلاء على الحكم بالصحّة وترتيب آثارها عليه قبل وجود الشي‌ء في وعاء وجوده.

فلو أراد رجل أن يصلّي على الميّت ، أو يغسله ، أو أراد أن يحجّ فإجراء أصالة الصحّة قبل وجود هذه المذكورات فيها لا يخلو من غرابة ، وكذلك في أثناء العمل مثلا لو دخل شخص في إحرام عمرة حج التمتع ، فالحكم بصحّة عمرته وحجّه بمحض دخوله في الإحرام من باب أصالة الصحّة لا صحّة فيه.

نعم بالنسبة إلى تلك القطعة التي أتى بها يمكن أن يقال إنّها صحيحة من باب بناء العقلاء أو التعبّد ، وأمّا بالنسبة إلى مجموع العمل الذي لم يأت به بعد ، كيف يمكن أن يقال إنّ المأتي به موافق للمأمور به؟ فالحقّ أنّ موطن جريان أصالة الصحّة هو بعد وجود العمل والفراغ عنه.

فالفرق بينها وبين قاعدة الفراغ في عمل النفس هو أنّ الدخول في الغير لا يحتاج إليه هاهنا ، ولو قلنا بالاحتياج إليه في قاعدة الفراغ.

وذلك كلّه من جهة أنّ معنى أصالة الصحّة عند العقلاء هو أنّ العمل الذي صدر عن الغير ويشكّ فيه أنّه أوجده صحيحا وتامّا لا خلل فيه أو ناقص غير تامّ وفيه الخلل ، يبنون على صحّته وتماميّته ؛ فموضوع أصالة الصحّة هو العمل الصادر عن الغير‌

٢٩١

لا الذي سيصدر ، ولا الذي صدر بعضه دون بعض.

وأمّا مسألة أحكام الميّت التي هي واجبات كفائيّة ، كغسله ، وكفنه ، ودفنه والصلاة عليه ، وعدم اعتناء من رأى أنّ شخصا يشتغل بهذه الأعمال باحتمال وقوع خلل فيها أو عدم إتمامها ، فليس من جهة جريان أصالة الصحّة في الأثناء كما توهّم ، بل إمّا من جهة الاطمئنان بأنّه يتمها ولا يتركها ـ كما هو الغالب ـ أو من جهة استصحاب البقاء على الاشتغال بذلك العمل إلى إتمامه ، وبعد الفراغ عن العمل إذا شكّ في صحّته وفساده يجرى فيه أصالة الصحّة.

[ المبحث ] الخامس‌

في أنّه من المعلوم أنّها تجري في المعاملات في أبواب العقود والإيقاعات ، وتكون مقدّمة على أصالة الفساد فيها التي هي عبارة عن أصالة عدم النقل والانتقال فيها ، سواء قلنا بأنّ مدركها سيرة العقلاء وبناؤهم على ذلك ، أو قلنا أنّ مدركها الإجماع. وعلى الثاني سواء قلنا بوجود إجماع آخر في خصوص أبواب المعاملات والعقود والإيقاعات ـ غير الإجماع على اعتبارها مطلقا ـ أم لا ، بل قلنا بتحقق إجماع واحد يدلّ على اعتبارها في جميع الموارد.

وإنّما الكلام في أنّ جريانها في مورد الشكّ في صحّتها مطلقا سواء أكان الشكّ من جهة احتمال وقوع خلل في شرائط العقد أو في شرائط المتعاقدين أو في شرائط العوضين ، أو لا يجري إلاّ في مورد الشكّ في شرائط نفس العقد دون شرائط المتعاقدين أو العوضين أو يجري فيما سوى الشروط العرفيّة للمتعاقدين أو العوضين.

فبناء على الاحتمال الأوّل تكون حاكمة على كلّ أصل يقتضي فساد العقد ، سواء أكان ذلك الأصل المقتضي للفساد جاريا في شرائط العقد ، أو في شرائط المتعاقدين ، أو في شرائط العوضين.

٢٩٢

وبناء على الاحتمال الثاني تكون حاكمة على الأصل الذي يقتضي الفساد الجاري في شرائط نفس العقد ، دون ما يقتضي الفساد الجاري في شرائط المتعاقدين أو العوضين.

وبناء على الاحتمال الثالث تكون حاكمة على كلّ أصل يقتضي الفساد ، إلاّ إذا كان ذلك الأصل الذي يقتضي الفساد جاريا في الشرائط العرفيّة للعوضين أو المتعاقدين. مثلا بناء على هذا الاحتمال لو شكّ في ماليّة العوضين ، أو في رشد المتعاقدين ، أو أحدهما فلا تجري أصالة الصحّة كي تكون حاكمة على أصالة عدم ماليّة العوضين ، أو أصالة عدم رشد المتعاقدين ، أو أحدهما.

إذا عرفت هذه الاحتمالات والوجوه ، فنقول :

تارة يقال بأنّ مدرك اعتبار أصالة الصحّة هو الإجماع وإنّ هناك إجماعان :

أحدهما قام على اعتبار أصالة الصحّة مطلقا ، سواء أكان مورد جريانها العبادات أو المعاملات. والثاني انعقاده على حجيّة أصالة الصحّة في خصوص أبواب المعاملات ، وأنّه دليل لبّى لا إطلاق لمعقده في كلا الإجماعين ، فلا بدّ من الأخذ به في المورد المتيقّن دون المورد الذي وقع فيه الخلاف.

وبناء على هذه المقالة ـ أي كون مدركها الإجماع وعدم إطلاق لمعقده ـ لا يبعد صحّة ما أفاد شيخنا الأستاذ قدس‌سره من اختصاصها بمورد احتمال الإخلال في نفس العقد ، دون شرائط المتعاقدين أو العوضين (١).

وأمّا لو قلنا بأنّ مدرك اعتبارها هي سيرة العقلاء من المسلمين وغير المسلمين ، مضافا إلى الإجماع المحقّق ـ كما اخترنا هذا الوجه في وجه حجّيتها بل قلنا أنّه لا محلّ للإجماع الاصطلاحي الكاشف عن رأي المعصوم عليه‌السلام لإمكان اتّكاء المجمعين على تلك الأمور التي ذكرناها من السيرة ، واختلال النظام والآيات ، والروايات التي تقدّم‌

__________________

(١) « فوائد الأصول » ج ٤ ، ص ٦٥٤.

٢٩٣

ذكرها ـ فلا بدّ وأن ينظر إلى مقدار قيام السيرة ، وأنّها هل قامت على اعتبارها مقابل أصالة الفساد في خصوص شرائط العقد إذا شكّ في وجودها ـ كالماضويّة وتقدّم الإيجاب على القبول والموالاة وأمثال ذلك ممّا هو مذكور في محلّه ـ أم لا ، بل قامت على اعتبارها مقابل أصالة الفساد في جميع ما شكّ في وجوده ممّا اعتبر في العقد ، أو في المتعاقدين ، أو في العوضين إذا لم يكن من الشرائط العرفيّة للمتعاقدين أو العوضين ، بمعنى أن يكون عند العرف من مقوّمات المعاملة ، بحيث لا يمكن تحقّق عنوان المعاملة عرفا إلاّ مع وجود تلك الشرائط؟

ولا شكّ في قيام السيرة على الحمل على الصحّة بالمعنى الثاني ، أي في كلّ مورد شكّ في صحّة معاملة من المعاملات ، بيعا كان ، أو إجارة ، أو هبة ، أو نكاحا ، أو غير ذلك من العناوين المذكورة في أبواب المعاملات من العقود والإيقاعات بعد تحقّق ذلك العنوان بنظر العرف وعندهم ، لاحتمال فقد شرط اعتبره الشارع أو العقلاء زائدا على ما هو المقوّم لذلك العنوان عندهم ، أو احتمال وجود مانع كذلك ، فيبنون على الصحّة ولا يعتنون إلى ذلك الاحتمال.

ولا فرق عندهم ـ أي العقلاء ـ بين أن يكون ذلك الشرط المحتمل الفقدان من شرائط العقد ، أو المتعاقدين ، أو العوضين ، وكذلك المانع المحتمل الوجود.

ففي كلّ مورد في المعاملات تحقّق موضوع أصالة الصحّة الذي هو عبارة عن وجود ذلك العنوان الذي شكّ في صحّته وفساده لاحتمال فقد شرط ، أو وجود مانع ـ في غير ما هو دخيل في تحقّق ذلك العنوان عند العرف وفي نظرهم ـ نجري أصالة الصحّة. وأمّا مع الشكّ في تحقّق موضوعها فلا تجري البتّة ، شأن كلّ حكم مع موضوعه.

وبعبارة أخرى : هذه القاعدة لها عقد وضع وعقد حمل ، كما هو الحال في جميع القواعد. وشأن كلّ قاعدة إثبات محمولها لموضوعها بعد الفراغ عن ثبوت موضوعها.

٢٩٤

وأمّا ثبوت موضوعها أو عدم ثبوته فليس من شؤون تلك القاعدة ، فكلّ قاعدة متكفّلة لعقد حملها لا لعقد وضعها ، وحيث أنّ موضوع هذه القاعدة في أبواب المعاملات تلك العناوين المذكورة في أبواب العقود والإيقاعات ، فلا بدّ من إحرازها لإجراء هذه القاعدة مع احتمال عدم صحّتها لاحتمال وقوع خلل فيها من فقد شرط أو وجود مانع. وأمّا مع عدم إحراز ذلك العنوان ـ بما هو مشكوك الصحّة والفساد ـ فلا محلّ لجريان هذه القاعدة ؛ لامتناع تحقّق الحكم بدون تحقّق الموضوع.

فتلخّص من مجموع ما ذكرنا : أنّ ما شكّ في صحّته وفساده تارة هو السبب ، أي العقد. وأخرى : هو المسبب ، أي المعاملة الكذائيّة كالبيع مثلا.

فإن كان هو العقد واحتمل عدم صحّته ، أي عدم تماميّته من حيث الأجزاء والشرائط وإعدام الموانع ، بحيث يشكّ في ترتّب الأثر المقصود منه عليه ولو انضمّ إليه سائر الشرائط المعتبرة في المتعاقدين ، فلا شكّ في جريان أصالة الصحّة في نفس العقد إذا لم يكن الشرط المحتمل الفقدان ، أو المانع المحتمل الوجود ممّا له دخل في تحقّق عنوان العقد عرفا ؛ لما ذكرنا من لزوم تحقّق ما هو موضوع أصالة الصحّة.

فبعد إحراز ما هو موضوع أصالة الصحّة يثبت به الشرط المحتمل الفقدان ، وأيضا يثبت به عدم المانع المحتمل الوجود ، فيترتّب على ذلك العقد الأثر المقصود ، أي المعاملة الفلانيّة إذا انضمّ إليه سائر ما اعتبر في المعاملة ، من شرائط المتعاقدين كبلوغهما ورضائهما بمعنى عدم كونهما مكرهين أو أحدهما مكرها وأمثال ذلك ، ومن شرائط العوضين ككونهما قابلين للنقل والانتقال ، كأن لا يكون أحدهما حرّا مثلا ، وأن يكونا مملوكين بأن لا يكونا من قبيل الخمر والخنزير ، وذلك من جهة أنّ صحّة العقد ليس معناها ترتّب أثر المعاملة الصحيحة عليه بمجرده ، بل معنى صحّته أن يترتّب الأثر المطلوب من المعاملة عليه لو انضم إليه سائر ما اعتبر في المعاملة من شرائط المتعاقدين والعوضين.

٢٩٥

وذلك من جهة أنّ الصحّة التعبّدية الثابتة بأصالة الصحّة ليست بأعظم من الصحّة المحرزة بالوجدان ، ومعلوم أنّ صحّة العقد واقعا وقطعا لا تترتّب عليها آثار صحّة المعاملة ما لم ينضمّ إليه جميع الشرائط التي للمتعاقدين ، وأيضا للعوضين.

وأمّا إن كان ما شكّ في صحّته وفساده هو المسبّب ، أي المعاملة الكذائيّة لأجل احتمال خلل ، من فقد شرط أو وجود مانع للعقد ، أو للمتعاقدين ، أو العوضين فيجري هذا الأصل فيها ويحكم بصحّتها ، سواء أكان الشرط المحتمل الفقدان ، أو المانع المحتمل الوجود من شرائط العقد أو موانعه ، أو من شرائط المتعاقدين وموانعهما ، أو العوضين ، أو نفس المسبب كذلك ما لم يكن من مقوّمات تحقّق المعاملة عرفا ؛ لما بيّنّا مفصّلا فلا نعيد.

فما هو التحقيق في المقام أن يقال بجريان هذا الأصل في جميع ما شكّ في صحّته وفساده بعد إحراز عقد وضع هذه القضيّة ، سواء أكان الشكّ في ناحية السبب أي العقد ، أو المسبب أي عناوين المعاملات المذكورة في أبواب العقود والإيقاعات. ومعلوم أنّ جميع الشكوك ـ التي محلّها إمّا العقد أو المتعاقدين أو العوضين ـ ترجع إمّا إلى السبب ، أو إلى المسبّب ، أو إلى كليهما.

ثمَّ إنّه هاهنا فروع ربما يستشكل في جريان قاعدة أصالة الصحّة فيها

منها : بيع الوقف ، من جهة عدم صحّة بيع الوقف لو خلي وطبعه ، ولا يجوز إلاّ بطروّ أحد مجوّزات بيعه ، وليس هناك ما يدلّ على طروّ المجوّز إلاّ ظهور حال المسلم في أنّه لا يرتكب ما لا يجوز.

وهذا المعنى أوّلا غير أصالة الصحّة التي بناء العقلاء على اعتبارها. وثانيا : لا دليل على اعتبار مثل هذا الظهور ؛ لأنّ كثيرا من المسلمين يفعلون ما لا يجوز وما ليس بنافذ شرعا.

٢٩٦

ولكن الإنصاف أن بيع الوقف ان كان من قبل الناظر أو الحاكم الشرعي ، فحيث أنّه يمكن أن يكون صحيحا لوقوعه مع وجود أحد المسوّغات وليس وجود المسوّغ من مقوّمات تحقّق بيع الوقف عرفا ، بل ممّا اعتبره الشارع في صحّته ، فبناء على الضابط الذي ذكرنا لجريان قاعدة أصالة الصحّة تجري وتكون حاكمة على أصالة عدم وجود المسوغ ، كما هو شأن قاعدة أصالة الصحّة في جميع المقامات ، حيث أنّها تقدّم على استصحابات العدميّة.

نعم بناء على ما اختاره شيخنا الأستاذ قدس‌سره من اختصاص جريانها بصورة الشكّ في صحّة العقد لاحتمال وجود خلل فيه ، من فقد شرط من شرائط العقد ، أو وجود مانع من موانعه. وأمّا إذا كان الشكّ من جهة عدم قابليّة المتعاقدين أو أحدها شرعا لإيقاع المعاملة ، ككونهما أو أحدهما غير بالغ ، أو كان الشكّ من جهة عدم قابليّة المال للنقل والانتقال كالوقف إلاّ مع طروّ أحد المسوغات وكان طروّه مشكوكا ، فلا يجري هذا الأصل. (١)

ولكن أنت عرفت ما في كلامه قدس‌سره وعمدة ما ذكره في وجه ما اختاره ، أنّ مدرك هذه القاعدة هو الإجماع ، والإجماع قاصر عن شموله لغير شرائط العقد. وقد عرفت أنّ المدرك هو بناء العقلاء والسيرة لا الإجماع.

ومنها : بيع الصرف لو شك في القبض في المجلس ، فالبناء على صحّة العقد لا يثبت وقوع القبض في المجلس الذي هو شرط صحّة المعاملة ووقوع النقل والانتقال شرعا.

ولكن أنت خبير أنّ بعد إحراز عنوان المعاملة وتحقّقه في نظر العرف ، فأصالة الصحّة تجري فيه ولو كان الشكّ في وقوعه شرعا من جهة احتمال عدم شرط اعتبره الشارع في صحّة المعاملة ، وترتيب الأثر عليها كالقبض في المجلس في مسألة بيع الصرف.

__________________

(١) « فوائد الأصول » ج ٤ ، ص ٦٥٤.

٢٩٧

ولا شكّ أنّ القبض في المجلس في بيع الصرف ليس من مقوّمات المعاملة عرفا كي يكون الشكّ فيه مساوقا للشكّ في تحقّق عنوان المعاملة ، فعنوان المعاملة يتحقّق عرفا حتّى مع هذا الشكّ ، فبجريان أصالة الصحّة يثبت هذا الشرط تعبّدا.

وبعبارة أخرى : نتيجة أصالة الصحّة في الشبهات الموضوعيّة نتيجة أصالة الإطلاق في الشبهات الحكميّة ، فكما أنّ بإطلاق أدلّة عناوين المعاملات لو كان إطلاق في البين مثل قوله تعالى ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) (١) أو مثل ( الصُّلْحُ خَيْرٌ ) (٢) وأمثالهما يتمسّك لرفع شرطيّة ما هو مشكوك الشرطيّة ، وعدم مانعيّة ما هو مشكوك المانعيّة بعد تحقّق هذه العناوين عرفا حتّى على القول الصحيحي ، كذلك في الشبهة الموضوعيّة التي هي مجرى أصالة الصحّة أو حصل الشكّ واحتمل عدم شرط من شرائط صحّة ذلك العنوان ، أو احتمل وجود مانع عن صحّته مع إحراز ذلك العنوان في نظر العرف ، فبأصالة الصحّة يثبت الصحّة ويترتّب على ذلك الفعل آثار وجود ذلك الشرط وعدم ذلك المانع.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ مورد جريان أصالة الصحّة ـ كما تقدّم ـ هو احتمال وقوع خلل فيما وقع وصدر بعد إحراز عنوان ذلك الشي‌ء. وأمّا لو كان موضوع الأثر مركبا من أمرين أحدهما وجد ولا خلل فيه من فقد شرطه أو وجود مانعه ، وإنّما لا يترتّب الأثر ويتوقف فيه للشكّ في وجود جزء الآخر ، فهذا غير مربوط بأصالة الصحّة ؛ لأنّ ما وقع صحيح بالوجدان ولا خلل فيه ، فإجراء أصالة الصحّة فيه من قبيل تحصيل ما هو حاصل بالوجدان بالتعبّد. والمفروض ، أي وقوع المعاملة وإنشائها في بيع الصرف مع الشكّ في تحقّق القبض في المجلس من هذا القبيل ، فإنّ إنشاء المعاملة وقع صحيحا وبلا خلل ، ولكن موضوع الأثر شرعا هو وشي‌ء آخر ، أي القبض في المجلس المشكوك وجوده وإحرازه غير مربوط بجريان أصالة الصحّة فيما وقع.

__________________

(١) البقرة (٢) : ٢٧٥.

(٢) النساء (٤) : ١٢٨.

٢٩٨

ومن هذا يظهر حال الشكّ في صدور الإجازة من المالك في عقد الفضولي ؛ لأنّ عقد الفضولي الصادر من الفضول لا خلل فيه ، وإنّما يكون الأثر مترتّبا شرعا عليه وعلى أمر آخر وهو إجازة المالك المشكوك وجودها. وأمّا مسألة بيع الوقف ليس من هذا القبيل إذا صدر من المتولّي أو الحاكم ، لأنّ ما وقع إن كان مع وجود المسوّغ فهو صحيح وإلاّ فلا ، فمع الشكّ في وجود المسوّغ يحكم إليه بالصحّة بأصالة الصحّة ، ويثبت بها وجود المسوّغ أو لزوم ترتيب آثار وجوده.

ثمَّ إنّه ظهر ممّا ذكرنا أنّ بيع الراهن ماله المرهون مع الشكّ في إذن المرتهن أيضا من هذا القبيل ، أي من قبيل بيع الفضولي مال الغير مع الشكّ في إجازة المالك ، فموضوع الأثر فيه أيضا مركّب من العقد الصادر من المالك الراهن مع سبق إذن المرتهن أو لحقوق إجازته ، وأصالة الصحّة فيه لا يثبت سبق الإذن أو لحوق الإجازة من المرتهن ، بل لا معنى لجريان أصالة الصحّة فيما صدر عن الراهن ؛ لأنّ صحّته ـ كما قلنا فيما تقدّم ـ وجداني ، بمعنى أنّه لو تعقّب بالإجازة ، أو اقترن بالإذن يترتّب عليه الأثر يقينا.

فإن شئت قلت : إنّ مجرى أصالة الصحّة هو فيما إذا دار الأمر بين صحّته الفعليّة أو بطلانه رأسا ، كما أنّه في مسألة الوقف الصادر من المتولي مع الشكّ في وجود المسوّغ بكون الأمر هكذا ، أي يدور ذلك البيع أمره بين أن يكون صحيحا فعليّا يترتّب عليه الأثر ـ أي النقل والانتقال ، وهذا فيما إذا كان المسوّغ موجودا ـ وبين أن يكون باطلا من رأس. وهذا فيما إذا لم يكن المسوّغ موجودا الذي هو الاحتمال الآخر.

وأمّا في المذكورات من بيع الراهن مع الشكّ في إذن المرتهن ، وبيع الفضول مع الشكّ في تعقّبه بالإجازة ، وبيع الصرف مع الشكّ في القبض في المجلس ، فالصحّة التأهلية ـ بمعنى أنّه لو تعقّب بالإجازة في بيع الراهن والفضولي ، وبالقبض في المجلس في بيع الصرف ـ يقينا موجودة ، وإنّما الشكّ في وجود أمر آخر تكون الصحّة الفعليّة منوطة به.

٢٩٩

وهاهنا فرع ذكره الشيخ الأعظم (١) وأستاذنا المحقّق (٢) قدس‌سره وهو أنّه لو علم بصدور البيع عن المالك الراهن ، وأيضا برجوع المرتهن عن إذنه ولكن شكّ في المتقدّم منهما ، فلو كان الرجوع متأخّرا عن البيع فالبيع صحيح ، ولو كان متقدّما عليه فالبيع باطل ، فهل تجري هاهنا أصالة الصحّة في البيع أم لا؟

مقتضى ما ذكرنا ـ من أنّ مجرى أصالة الصحّة فيما إذا كان الفعل الصادر دائرا أمره بين الصحّة الفعليّة والفساد ـ عدم الجريان ؛ لأنّ الفعل الصادر من الراهن قطعا صحيح إذا تعقّب بإجازة المرتهن ولم يرجع قبل البيع ، وعدم ترتيب الأثر لأمر آخر وهو الشكّ في بقاء إذنه إلى حال البيع ، وليس مستندا إلى احتمال فساد ما صدر عن الراهن ؛ فهذا خارج عن مجرى أصالة الصحّة.

نعم يبقى شي‌ء وهو أنّ أصالة عدم تحقّق الرجوع إلى زمان تحقّق البيع هل تكون لها معارض أم لا؟ ولا شكّ في أنّ ما هو موضوع الأثر شرعا ـ ويكون سببا للنقل والانتقال ـ هو صدور البيع عن المالك الراهن مع إذن المرتهن ، والبيع وجد وجدانا. وعدم الرجوع معناه بقاء الإذن ؛ ولذلك لا فرق بين استصحاب بقاء الإذن أو استصحاب عدم الرجوع فيتحقّق كلا جزئي الموضوع ، أحدهما بالوجدان وهو بيع المالك الراهن ، والثاني بالأصل وهو بقاء الإذن وعدم الرجوع.

لا يقال : هذا الاستصحاب معارض باستصحاب عدم وقوع البيع إلى زمان الرجوع.

وذلك من جهة أنّه مثبت ، إذ لازمه عقلا حينئذ وقوع البيع مع عدم إذن المرتهن. ولا أدري لما ذكر قدس‌سره هذا الفرع مع أنّه لا خصوصيّة فيه يكون موجبا لذكره ، وهو من الوضوح بمكان مع أنّه قدس‌سره خرّيت هذه الصناعة.

__________________

(١) « فرائد الأصول » ج ٢ ، ص ٧٢٦.

(٢) حاشية « فوائد الأصول » ج ٤ ، ص ٦٦٣.

٣٠٠